Data Loading...

هل ولدت أوربا في العصر الوسيط ؟ Flipbook PDF

هل ولدت أوربا


386 Views
262 Downloads
FLIP PDF 1.79MB

DOWNLOAD FLIP

REPORT DMCA

‫‪0‬‬

‫جاك ﻠو ﯕوف‬ ‫هل ولدت أوربا في العصر الوسيط ؟‬ ‫تعريب وتقديم‬

‫د‪ .‬محمد حناوي‬

‫د‪ .‬يوسف نكادي‬

‫‪1‬‬

‫جاك ﻠو ﯕوف‬

‫هل ولدت أوربا في العصر الوسيط ؟‬

‫تعريب وتقديم‬ ‫د‪ .‬يوسف نكادي‬

‫د‪ .‬محمد حناوي‬

‫الطبعة األولى‬ ‫‪2015‬‬

‫‪2‬‬

‫هل ولدت أوربا‬ ‫في العصر الوسيط ؟‬

‫الكتاب ‪ :‬هل ولدت أوربا في العصر الوسيط ؟‬ ‫المؤلف ‪ :‬جاك لو ݣوف‬ ‫المعربان ‪ :‬محمد حناوي ويوسف نكادي‬ ‫المطبعة ‪ :‬مطبعة مفكر زنقة السنغال رقم ‪ 8‬وجدة‬ ‫الغالف ‪ :‬أوربا من التجزئة الى الوحدة‬ ‫خريطة اليمين ‪ :‬لكيانات السياسية في أوربا القرن ‪13‬‬ ‫خريطة اليسار ‪ :‬االتحاد األوربي‬ ‫االيداع القانوني ‪2015MO1212 :‬‬ ‫ردمك ‪978-9954-35-266-3 :‬‬ ‫الطبعة األولى ‪2015‬‬

‫‪3‬‬

‫اعتراف وتقدير‬

‫حلت منذ بضعة أيام الذكرى األولى لرحيل مؤلف الكتاب المؤرخ الكبير جاك‬ ‫لو ﯕوف الذي غادرنا يوم الثالثاء فاتح أبريل ‪.2014‬‬ ‫وكان الموت ق د غيب قبل جاك لو ﯕوف عددا من أقطاب البحث التاريخي في‬ ‫فرنسا‪ ،‬أمثال فرناند بروديل (ت‪ )1985 .‬وجورج دوبي (ت‪ )1996 .‬وبيير ڤيالر‬ ‫(ت‪ )2003 .‬وبيير بوناصي (ت‪ )2005 .‬وبيرنار ﯕني (ت‪ )2010 .‬وبيير ﯕوبير‬ ‫(ت‪ )2012 .‬وروبير فوصيي (ت‪ .)2012 .‬ويحس المشتغل في حقل التاريخ بأن‬ ‫المدرسة الفرنسية تلقت صدمة قوية‪ ،‬خالل العقود الثالثة المنصرمة‪ ،‬بغياب‬ ‫مؤسسيها‪ ،‬وأبرز أعالمها‪.‬‬ ‫وال يخفى البناء الشامخ الذي شيده المؤرخ جاك لو ﯕوف بأبحاثه العديدة‪ ،‬الجادة‬ ‫والرصينة‪ ،‬في تاريخ أوربا الوسيط‪ ،‬وفي مناهج البحث التاريخي‪ .‬وقد استغرق هذا‬ ‫البنا ء ما ينيف عن ستين عاما من حياته دون كلل حتى األيام القليلة قبيل وفاته‪ .‬ونتمنى‬ ‫أن يظل المشعل محموال ومتقدا من قبل األجيال التي ستستحضر دوما ٳرث جاك لو‬ ‫ﯕوف‪ ،‬وغيره من عمالقة البحث التاريخي في فرنسا‪.‬‬ ‫وأعتبر شخصيا‪ ،‬وزميلي يوسف نﯕادي‪ ،‬بأن وضع هذه النسخة العربية من‬ ‫الكتاب بين أيدي القراء‪ ،‬يعد مساهمة متواضعة في تكريم األستاذ‪ ،‬والباحث‪ ،‬جاك لو‬ ‫ﯕوف‪ ،‬وعرفانا منا لما أسداه من جهد في خدمة البحث التاريخي والعلوم اإلنسانية‬ ‫عامة‪.‬‬ ‫الدكتور محمد حناوي‬ ‫الرباط في ‪ 05‬رجب ‪1436‬‬ ‫الموافق ‪ 24‬أبريل ‪2015‬‬

‫‪4‬‬

‫تقديم‬

‫ولد جاك لو ﯕوف (‪ )Jacques Le Goff‬في فاتح يناير من العام ‪،1924‬‬ ‫وتوفي في فاتح أبريل من عام ‪.2014‬‬ ‫ينحدر من أسرة فرنسية متواضعة كانت مستقرة زمن والدته بمدينة تولون‬ ‫(‪.)Toulon‬‬ ‫ينتمي أبوه لمدينة رين (‪ )Rennes‬الواقعة شمال غرب فرنسا‪ .‬كان أستاذا لمادة‬ ‫اللغة األنجليزية‪ ،‬ثم التحق بالجبهة عند اندالع الحرب العالمية األولى‪ ،‬فعمل جنديا ثم‬ ‫ترجمانا لحساب القوات األمريكية‪ .‬وقد عرف بكراهيته لألمريكيين وبتحفظه من‬ ‫المؤسسات الدينية‪ ،‬ومن رجال الدين‪ ،‬وميله لحرية المعتقد خالفا لزوجته التي تنتمي‬ ‫لمدينة بروڤانس (‪ ،)Provence‬والتي تلقت تعليما دينيا منذ صباها وظلت متمسكة‬ ‫بالعقيدة الكاثوليكية وممارسة للشعائر حتى وفاتها‪.‬‬ ‫تلقى جاك لو ﯕوف دروسه الثانوية بمدينة مرسيليا‪ .‬ولكنه لم يبد استعدادا‬ ‫لاللتزام بالمقررات المقترحة‪ ،‬فغادر المؤسسة الثانوية ليجتهد في تكوين نفسه بنفسه‬ ‫وانكب على المطالعة‪ .‬واستهوته كثيرا كتب التاريخ التي أقبل عليها بشغف‪ .‬ثم استطاع‬ ‫االلتحاق بجامعة السوربون بباريس‪ .‬ومنها التحق ببراغ في إطار منحة دراسية إلعداد‬ ‫بحث حول نشأة وتطور جامعتها (المعروفة بجامعة شارل)‪ .‬فطاب له المقام بها لمدة‬ ‫ثالث سنوات عاين في نهايتها انقالب فبراير ‪ 1948‬الذي استولى على إثره‬ ‫الشيوعيون على السلطة في تشكوسلوڤاكيا‪ ،‬فخلف الحدث في نفسه أثرا سيئا جعله ينفر‬ ‫من الشيوعية‪ .‬ولكنه ظل بعد ذلك يكن االحترام لليسار واليساريين‪ .‬وقد عبر في احدى‬ ‫المناسبات عن تعاطفه مع الرئيس فرانسوا هوالند ودعا لدعم سياسته‪.‬‬ ‫وال غرو في ذلك‪ ،‬فجاك لو ﯕوف‪ ،‬وغيره من رواد وأقطاب مدرسة الحوليات‪،‬‬ ‫أمثال مارك بلوك (‪ Marc Bloch‬وجورج دوبي )‪ (Georges Duby‬وفرنان‬ ‫بروديل (‪ )Fernand Braudel‬تأثروا بالفكر الماركسي‪ ،‬وأخذوا عنه الكثير‪ ،‬وإن‬ ‫كان المقام يستدعي أيضا اإلشارة إلى أن عددا من المنتمين لذات المدرسة يتحفظون‬

‫‪5‬‬

‫من الماركسية كروبير فوصيي (‪ ،)Robert Fossier‬بل منهم من يمقتها مثل ﯕي‬ ‫فوركان (‪.)Guy Fourquin‬‬ ‫وعلى كل‪ ،‬فقد تقدم جاك لو ﯕوف بعد ‪ 1948‬للحصول على شهادة التبريز التي‬ ‫أهلته لاللتحاق بالمدرسة الفرنسية بروما (‪ )l’Ecole française de Rome‬ثم‬ ‫بسلك التعليم كمدرس‪ ،‬فعاد مجددا لمتابعة تعليمه العالي بجامعة ليل التي شرع فيها في‬ ‫تحضير أطروحة في التاريخ الوسيط في موضوع "المواقف من العمل خالل الفترة‬ ‫الممتدة بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر"‪.‬‬ ‫تمثل سنة ‪ 1960‬بداية تحول في مسيرته العلمية والعملية‪ .‬فخالل هذه السنة‬ ‫التحق بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا ( ‪l’Ecole Pratique des Hautes‬‬ ‫‪ )Etudes‬كعضو‪ ،‬ثم كمدير أبحاث‪ .‬ويبدو أنه لقي بهذه المؤسسة ما كان يصبو إليه‬ ‫من حرية في التفكير وظروف مالئمة للبحث والحوار مع أقطاب البحث التاريخي في‬ ‫فرنسا آنذاك من أمثال فرنان بروديل (‪ )Fernand Braudel‬وإيمانويل لو روا‬ ‫الدوري (‪ )Emmanuel Le Roy Ladurie‬ومارك فيرو (‪.)Marc Ferro‬‬ ‫ورغم أنه لم يستطع إكمال أطروحته لنيل الدكتوراه‪ ،‬فقد أصبح سنة ‪1969‬‬ ‫عضوا مشاركا في إدارة مجلة الحوليات الشهيرة (‪ .)les Annales‬ثم عين سنة‬ ‫‪ 1972‬رئيسا للفرع السادس بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا‪ .‬فعمل بشكل دؤوب‬ ‫على تحويل هذا الفرع إلى أبرز مؤسسة فرنسية تعنى بالبحث في التاريخ األوربي‬ ‫الوسيط‪ ،.‬من خالل آفاق البحث الجديدة التي أقرها ضمن برامجها‪ ،‬وكذلك من خالل‬ ‫استقطاب أبرز المشتغلين في حقل التاريخ االقتصادي والتاريخ السياسي‪ ،‬والمهتمين‬ ‫بالبحث في مجال األنثربولوجيا التاريخية‪.‬‬ ‫وتقدم مؤلفات جاك لو ﯕوف وأبحاثه الغزيرة والمتنوعة صورة عن طبيعة‬ ‫األسرة التي نشأ في أحضانها‪ ،‬بين أب غير ملتزم دينيا وأم متشبثة بالعقيدة الكاثوليكية‪.‬‬ ‫وتعد أسرته بحق صورة مصغرة لمجتمع فرنسا خالل القرن العشرين‪ .‬كما تعكس‬ ‫مؤلفاته وأبحاثه جانبا مما كان (وال زال) يعتمل في أوساط النخبة المثقفة في فرنسا‪،‬‬ ‫ومدى تأثير الحرب والصراعات السياسية واإليديولوجية على مواقفها وتوجهاتها‪.‬‬ ‫وفضال عن كل هذا وذاك‪ ،‬فإن أبحاثه ومؤلفاته تعكس آفاقه المعرفية الواسعة‪ ،‬وعدم‬ ‫التزامه بالبحث في مجال بعينه‪ .‬فقد ألف في مجال التاريخ السياسي‪ ،‬والتاريخ‬ ‫االجتماعي‪ ،‬والتاريخ الديني‪ ،‬والتاريخ االقتصادي‪ .‬كما ألف في تاريخ الذهنيات‬ ‫ومنظومة األفكار والقيم‪ ،‬وفي حقل األنثربولوجيا التاريخية‪ .‬باإلضافة إلى مجموعة‬ ‫مؤلفات أنجزها‪ ،‬أو أشرف على انجازها‪ ،‬تتصل بمناهج واتجاهات البحث التاريخي‪.‬‬

6

‫ والمالحظ‬.‫ فقد ألف في كل مجال يتصل بالتاريخ األوربي الوسيط‬،‫وباختصار‬ ‫ وأصبح‬،‫أنه أخذ يؤلف بغزارة أكثر من ذي قبل بعد أن تجاوز السبعين من العمر‬ .‫ وهذا ما يتضح من خالل الجرد التالي ألهم مؤلفاته‬.‫يعيش وحيدا بعد وفاة رفيقة حياته‬ - Faut-il vraiment découper l’histoire en tranches ?, Paris, Seuil, 2014. - À la recherche du temps sacré, Jacques de Voragine et la Légende dorée, Paris, Perrin, 2011. - Le Moyen Âge et l'Argent. Essai d’anthropologie historique, Paris, Perrin, 2010. - Héros et merveilles du Moyen Âge, Paris, Seuil, 2005. - Un long Moyen Âge, Paris, Tallandier, 2004. - Héros du Moyen Âge, Le saint et le roi au Moyen Âge, Paris, Gallimard, 2004. - À la recherche du Moyen Âge, Paris, Louis Audibert, 2003. - Une histoire du corps au Moyen Âge (avec Nicolas Truong), Paris, Liana Lévi, 2003. - Le Dieu du Moyen Age, Paris, Bayard, 2003. - L’Europe est-elle née au Moyen Âge ?, Paris, Seuil, 2003. - Cinq personnages d’hier pour aujourd’hui : Bouddha, Abélard, saint Fran- çois, Michelet, Bloch, Paris, La Fabrique, 2001. - Le Sacre royal à l'époque de Saint-Louis, Paris, Gallimard, 2001. - Dictionnaire raisonné de l'Occident médiéval (en collaboration avec Jean-Claude Schmidt), Paris, Fayard, 1999. - Le Moyen Âge aujourd'hui, Paris, Léopard d'Or, 1998. - Pour l'amour des villes (en collaboration avec Jean Lebrun), Paris, Textuel, 1997. - Saint Louis, Paris, Gallimard, 1996. - L'Homme médiéval (dir.), Paris, Seuil, 1994. - La Vieille Europe et la nôtre, Paris, Seuil, 1994. - Le XIIIe siècle : l'apogée de la chrétienté, Bordas, 1992.

‫‪7‬‬

‫‪- Histoire de la France religieuse (dir., avec René Rémond, Paris,‬‬ ‫‪Seuil, 1988-1992, 4 volumes.‬‬ ‫‪- L'État et les Pouvoirs, (dir.), Paris, Seuil, 1989.‬‬ ‫‪- Histoire et mémoire, Paris, Gallimard, 1988.‬‬ ‫‪- La bourse et la vie : Economie et religion au Moyen Age,‬‬ ‫‪Paris, Hachette, 1986.‬‬ ‫‪- L'Imaginaire médiéval, Paris, Gallimard, 1985.‬‬ ‫‪- La Naissance du purgatoire, Paris, Gallimard, 1981.‬‬ ‫‪- La Nouvelle Histoire (en collaboration avec Jacques Revel),‬‬ ‫‪Paris, Éditions Retz, 1978.‬‬ ‫‪- Pour un autre Moyen Âge, Paris, Gallimard, 1977.‬‬ ‫‪- Faire de l'histoire (dir., avec Pierre Nora), Paris, Gallimard,‬‬ ‫‪1974, 3 volumes.‬‬ ‫‪- Les Propos de Saint Louis, Paris, Gallimard, 1974.‬‬ ‫‪- La civilisation de l'Occident médiéval, Paris, Arthaud, 1964.‬‬ ‫‪- Marchands et banquiers au Moyen Âge, Paris, Le Seuil, 1957‬‬ ‫وقد وقع اختيارنا على واحد من بين هذه المؤلفات‪ .‬إنه كتاب "هل ولدت أوربا‬ ‫في العصر الوسيط؟" الذي صدر عن دار "سوي" سنة ‪ .2003‬وأعيد طبعه في نسخة‬ ‫ثانية من قبل ذات المؤسسة سنة ‪ .2010‬وقد صدرت بموازاة طبعته األولى‪ ،‬وفي نفس‬ ‫السنة‪ ،‬طبعات أخرى باللغات األنجليزية واأللمانية وااليطالية واالسبانية‪.‬‬ ‫وارتأينا أن نقدم هذا الكتاب للباحثين والمفكرين والفاعلين وعموم القراء العرب‬ ‫لثالث اعتبارات نوضحها كما يلي ‪:‬‬ ‫يتمثل االعتبار األول في كونه يعد مجمال في تاريخ أوربا في العصر الوسيط‪.‬‬ ‫فهو يعرض لكثير من أحداث وقضايا هذه الحقبة التاريخية بتسلسل وبدقة ووضوح قل‬ ‫نظيره‪ ،‬رغم أن مؤلفه ال يتناول تلك األحداث والقضايا بالتفصيل الذي ينتظره‬ ‫البعض‪ ،‬ألن همه لم يكن وضع مؤلف في تاريخ أوربا الوسيط‪ ،‬بقدر ما كان توضيح‬ ‫السياق التاريخي الذي ولدت فيه أوربا الموحدة‪.‬‬ ‫ويهم هذا السياق التاريخي الباحثين وعموم القراء العرب ألن كثيرا من أحداثه‬ ‫وقضاياه تعني اإلسالم والمسلمين من قبيل عالقات أوربا المسيحية بالعالم اإلسالمي‪،‬‬ ‫وفصول الحرب الصليبية في المشرق اإلسالمي‪ ،‬وحرب االسترداد في األندلس‪،‬‬

‫‪8‬‬

‫ومسألة نجاح اإلقالع في أوربا وفشله في العالم اإلسالمي‪ ،‬ودور المد التركي العثماني‬ ‫في خلق هوية جماعية في أوربا‪.‬‬ ‫ورغم أن معظم أحداث هذا السياق تبدوا ظاهريا غير ذات صلة باإلسالم‬ ‫وبالمسلمين‪ ،‬فالحقيقة أن آثارها همت اإلسالم والمسلمين زمن حدوثها والزالت‬ ‫تداعياتها مؤثرة إلى اليوم في واقع المسلمين عامة‪ ،‬وفي واقع العرب المعاصرين‬ ‫بشكل خاص‪.‬‬ ‫يتمثل االعتبار الثاني في كون متن الكتاب المؤلف لوحده من ‪ 263‬صفحة (من‬ ‫القطع الصغير) هو محاولة لإلجابة على السؤال المثبت على غالف الكتاب ‪ :‬هل‬ ‫ولدت أوربا في العصر الوسيط ؟‬ ‫ويجيب المؤلف بأن أوربا الموحدة ليست وليدة السوق األوربية المشتركة أو‬ ‫التكتالت األوربية التي قامت قبله‪ ،‬بل هي وليدة العصر الوسيط‪ .‬فخالل هذه الحقبة‬ ‫الممتدة بين سنة ‪ ،476‬تاريخ انهيار اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬وسنة ‪ ،1492‬تاريخ‬ ‫اكتشاف كريستوف كولومبوس ألمريكا‪ ،‬تموضعت المقومات واألسس التي قامت‬ ‫عل يها أوربا الموحدة عبر أربعة مراحل‪ ،‬أو طبقات‪ ،‬تراكمت خاللها عناصر الوحدة‬ ‫والتكامل‪ ،‬واتضحت خاللها أيضا معالم التنوع واالختالف‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬لم يكتمل البناء‬ ‫الذي ظل يتأرجح بين الحقيقة النسبية والحلم الطموح نظرا الرتباطه بواقع تاريخي لم‬ ‫يكن دائما من السهل تجاوزه‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن رجال السياسة واالقتصاد‪ ،‬وجميع الفعاليات‬ ‫التي يهمها بناء االتحاد األوربي‪ ،‬معنية بالحصيلة التي تحققت خالل العصر الوسيط ‪.‬‬ ‫وإن إنكارها‪ ،‬أو غض الطرف عنها‪ ،‬سيجعل البناء الحالي شبيها بمولود بئيس يتيم‬ ‫األبوين‪.‬‬ ‫وإذا كانت معرفة جذور االتحاد األوربي تعني األوربيين أوال وأخيرا‪ ،‬فال شك‬ ‫أنها تعني العرب كذلك إلى حد بعيد‪ ،‬وخاصة نحن مواطني المغرب‪ ،‬نظرا لوجود‬ ‫عالقات شراكة تربطنا باالتحاد األوربي‪ ،‬وألن بلدنا يسعى لجعل اقتصاده مندمجا في‬ ‫اقتصاد أوربا‪ ،‬وألن ساسته كانوا يطمحون يوما في أن ينخرط في هذا االتحاد‪.‬‬ ‫يتمثل االعتبار الثالث في تقريب الباحثين والمفكرين وكافة الفعاليات العربية من‬ ‫كتاب يدعو صاحبه ساسة أوربا ورجال االقتصاد فيها إلى ضرورة االهتمام بحصيلة‬ ‫العصر الوسيط كما ذكرنا‪ .‬ويشعر القارئ العربي لنسخة الكتاب األصلية بالحسرة‬ ‫والمرارة حين يعلم كيف أن باحثا أوربيا يجتهد من خالل هذا الكم من الصفحات‪،‬‬ ‫وعبر إبحار في فترة تمتد حوالي ألف سنة‪ ،‬للبحث في جذور الوحدة األوربية‪،‬‬ ‫ولإلسهام في تقوية البناء الحالي‪ ،‬ونحن العرب يملك وطننا العربي الكثير من مقومات‬ ‫الوحدة وال يعمل ساستنا على تحقيق الوحدة التي ينشدها كثير من العرب‪ .‬بل عشنا في‬ ‫ظل وحدة شاملة زمن األمويين والعباسيين‪ ،‬وفي ظل وحدة جهوية زمن المرابطين‬

‫‪9‬‬

‫والموحدين‪ ،‬ورغم ذلك يسعى بعضنا الستمرار التجزئة الحالية‪ .‬وال تتردد بعض‬ ‫القوى العربية واألجنبية في تعطيل كل محاولة تكتل‪ .‬بل تسعى جاهدة الستشراء هذه‬ ‫التجزئة‪ .‬فدولة السودان تولدت عنها دويلة‪ ،‬ودولة المغرب يريدون أن يقتطعوا منها‬ ‫دويلة‪ .‬وثمة دول أخرى على المحك مثل العراق وليبيا وسوريا وغيرها‪.‬‬ ‫ونود في ختام هذا التقديم أن ننبه الباحثين وعموم القراء بأننا فكرنا بادئ األمر‬ ‫في القيام بتعريب وعرض نص الكتاب لتقريبه أكثر من عموم القراء نظرا للصعوبة‬ ‫التي قد يالقيها غير المطلعين على مؤلفات في تاريخ أوربا الوسيط في استيعاب‬ ‫القضايا التي يتناولها‪ ،‬فضال عن خلوه من هوامش توضيحية‪ ،‬ولكننا اكتفينا في األخير‬ ‫بتعريبه فقط وإثرائه بعدد ال يستهان به من الهوامش لتحقيق الغاية المرجوة‪.‬‬ ‫نأمل أن يلقى جهدنا قبوال حسنا ‪ .‬وهللا ولي التوفيق‪.‬‬ ‫الدكتور يوسف نﯕادي‬ ‫وجدة حاضرة زيري بن عطية‬ ‫في ‪ 04‬جمادى اآلخر ‪1436‬‬ ‫الموافق ‪ 25‬مارس ‪2015‬‬

‫‪10‬‬

‫مقدمة‬

‫بدأ اهتمام رجال السياسة وعلماء االقتصاد في أوربا بمسألة الوحدة األوربية في‬ ‫السنوات القليلة التي سبقت اندالع الحرب العالمية الثانية‪ .‬وازداد تحمسهم لها بعد أن‬ ‫وضعت الحرب أوزارها‪ .‬فشرعوا في وضع أسس الوحدة السياسية واالقتصادية‪.‬‬ ‫وسرعان ما انضم المثقفون لهذه الجهود إيمانا منهم بأن الوحدة‪ ،‬التي تبدو في‬ ‫ظاهرها سياسية‪-‬اقتصادية‪ ،‬هي ذات أبعاد تاريخية واجتماعية ودينية وثقافية ولغوية‬ ‫تقتضي تضافر جهود جميع الفعاليات لتتم عملية البناء بشكل سليم‪.‬‬ ‫ومن نافلة القول أن مشروعا من هذا القبيل‪ ،‬يستدعي حضورا مكثفا للمشتغلين‬ ‫بالبحث التاريخي‪ ،‬لسبب بسيط‪ ،‬وهو أن استحضار ماضي األقطار األوربية شرط‬ ‫أساسي لفهم حاضرها‪ ،‬وبالتالي إلنجاح الوحدة المنشودة‪ .‬وهذا ما حرص المؤرخ جاك‬ ‫لو ﯕوف (‪ )Jacques Le Goff‬على التذكير به في كتابه ‪" :‬هل ولدت أوربا في‬ ‫العصر الوسيط ؟"‪ ،‬حيث يرى أن انجاز هذا البناء ال يمكن أن يستكمل أشواطه إال‬ ‫بأخذ التاريخ بعين االعتبار‪ .‬بل يذهب إلى التأكيد‪ ،‬منذ مقدمة الكتاب‪ ،‬بأن "أوربا بدون‬ ‫تاريخ ستكون يتيمة وبئيسة‪ ،‬ألن اليوم يخرج من األمس‪ ،‬والغد ينبثق من الماضي"‪.‬‬ ‫وال نحتاج إلى التأكيد بأن هذا الموقف يتضمن دعوة صريحة للمؤرخين‬ ‫لإلسهام في الجهود الحثيثة التي يبذلها رجال السياسة واالقتصاد الذين ينطلقون من‬ ‫الحاضر ويقومون أحيانا باستشراف المستقبل‪ .‬ولكنهم ليسوا على دراية بالماضي؛‬ ‫الذي يعد استحضاره في عملية البناء أمرا ضروريا لتحقيق النجاح‪ .‬إن رجال السياسة‬ ‫واالقتصاد في تعاملهم مع الحاضر‪ ،‬يتعاملون مع معطيات كثيرة تشكل جزءا من‬ ‫الحاضر ولكن أصولها تنتمي للماضي‪ ،‬مثل المعطى الديني والمعطى الثقافي‬ ‫والمعطى اللغو ي‪ .‬ومن ثم‪ ،‬نفهم لماذا يعود جاك لو ﯕوف ليكرر في موضع آخر بأن‬ ‫"االنخراط الملتزم في عملية تشييد أوربا يجب أن يتم في إطار معرفة عميقة بالماضي‬ ‫ونظرة استشرافية للمستقبل"‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫ويتضح من خالل كتاب جاك لوﯕوف بأن الماضي المراد العودة إليه يتمثل في‬ ‫الحقبة التاريخية المعروفة في التقويم األوربي بالعصر الوسيط‪ .‬وهي الحقبة الممتدة‬ ‫بين القرنين الخامس والخامس عشر للميالد‪ ،‬باعتبارها الحيز الزمني الذي تنتمي إليه‬ ‫معظم معطيات الحاضر األوربي‪ .‬ومن هنا نفهم داللة عنوان الكتاب الذي جاء في‬ ‫صيغة سؤال ‪" :‬هل ولدت أوربا في العصر الوسيط ؟"‪.‬‬ ‫وال شك أن تواضع جاك لو ﯕوف العلمي‪ ،‬هو الذي جعله يحتفظ بصيغة العنوان‬ ‫على هذا النحو‪ ،‬رغم أنه يقر في مقدمة الكتاب‪ ،‬وكذلك عبر فصوله‪ ،‬بأن العصر‬ ‫الوسيط يمثل الحيز الزمني الذي انبثقت ونشأت فيه أوربا كحقيقة وكتمثل‪ .‬كما أن هذا‬ ‫العصر يمثل الفترة الحاسمة التي حدثت فيها والدة وطفولة وشباب أوربا‪ ،‬دون أن‬ ‫تخطر في أذهان أفراد مجتمعات تلك الحقبة التاريخية فكرة‪ ،‬أو رغبة‪ ،‬تشييد أوربا‬ ‫موحدة‪.‬‬ ‫والحقيقة أن جاك لو ﯕوف لم يعمل هنا سوى على التذكير بموقف سبق أن عبر‬ ‫عنه العديد من المؤرخين غداة الحرب العالمية الثانية؛ ومن بينهم البريطاني دونيس‬ ‫هاي (‪ )Denys Hay‬وااليطالي فدريكو شابود (‪ )Federico Chabod‬والفرنسيين‬ ‫مارك بلوك (‪ )Marc Bloch‬ولوسيان فيفر (‪ .)Lucien Febvre‬فقد نشر األول‬ ‫بحثا سنة ‪ 1957‬تحت عنوان ‪" :‬أوربا ‪ :‬انبثاق فكرة"‪ .‬بينما صدرت للباحث الثاني‬ ‫دراسة سنة ‪ 1961‬تحت عنوان ‪" :‬تاريخ فكرة أوربا"‪ .‬وفي كال البحثين تم التركيز‬ ‫على فكرة مفادها أن نشأة أوربا الموحدة تعود في مجملها للعصر الوسيط‪.1‬‬ ‫ويبدو في اعتقاد جاك لو ﯕوف بأن المؤرخين الفرنسيين مارك بلوك ولوسيان‬ ‫فيفر‪ ،‬كانا أبرز من عرض الفكرة بإسهاب ووضوح‪ .‬فقد كتب مارك بلوك في هذا‬ ‫الصدد ‪" :‬لقد انبثقت أوربا حين انهارت اإلمبراطورية الرومانية"‪ .‬وأعاد لوسيان فيفر‬ ‫تناول الجملة مضيفا ‪" :‬يمكن القول باألحرى‪ ،‬بأن أوربا أصبحت إمكانية متاحة حين‬ ‫انهارت اإلمبراطورية الرومانية"‪ .‬وكتب أيضا في الصفحة ‪ 44‬من نص أول درس‬ ‫من سلسلة الدروس التي ألقاها "بالكوليج دو فرانس" (‪،)Collège de France‬‬ ‫خالل الموسم ‪ ،1945-1944‬في موضوع "أوربا ‪ :‬نشأة حضارة" ما نصه ‪" :‬لقد كان‬ ‫للمسيحية دور فعال خالل العصر الوسيط (عصر يجب جعله ممتدا إلى حدود األزمنة‬ ‫الحديثة)‪ ،‬حيث إن تأثيرها كان يسمح بمرور تيارات قوية من الحضارة المسيحية غير‬ ‫‪ - 1‬نشير الى أن مؤلف البحث األول (البريطاني دونيس هاي) ولد سنة ‪ 1915‬وتوفي سنة ‪ .1994‬اهتم بالبحث في‬ ‫تاريخ العصر الوسيط وعصر النهضة‪ .‬وحاضر في جامعة إدنبرة (‪ )Edinburgh‬بإسكتلندا وجامعة فلورنسا االيطالية‪.‬‬ ‫وشكل موضوع وحدة أوربا واحدا من بين المواضيع التي اهتم بها‪ .‬أما فدريكو شابود‪ ،‬فيعد من أبرز مؤرخي أربعينيات‬ ‫وخمسينيات القرن الماضي تحمسا لفكرة الوحدة األوربية‪ .‬فقد طرحها في عدة محافل‪ ،‬وخصص لها المحاضرات التي‬ ‫ألقاها على طلبته بجامعة ميالنو خالل الموسم الجامعي ‪ .1944 -1943‬وتمثل تلك المحاضرات‪ ،‬باالضافة الى ما كتبه‬ ‫في ذات الموضوع مضمون كتاب " ‪ "Storia dell’idea d’Europa‬الذي صدر سنة بعد وفاته‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫لصيقة باألرض كانت تتجاوز الحدود الهشة للممالك الكالييدوسكوبية‪ .2‬فأسهمت بذلك‬ ‫في مد الغربيين بوعي مشترك تخطى الحدود التي كانت تفصل بينهم‪ .‬وإن هذا الوعي‬ ‫الذي كان يأخذ طابعا علمانيا شيئا فشيئا أصبح وعيا أوربيا"‪.‬‬ ‫تبدو وجهة نظر لوسيان فيفر واضحة ومنسجمة تمام االنسجام مع ما يروم إليه‬ ‫جاك لوﯕوف‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فهو يرى أن مارك بلوك كان أبرز الذين تبنوا رؤية أوربية‬ ‫للعصر الوسيط‪ .‬فمنذ سنة ‪ ،1928‬تاريخ انعقاد المؤتمر الدولي للعلوم التاريخية‬ ‫بأوسلو ألقى مداخلة بعنوان ‪" :‬من أجل تاريخ مقارن للمجتمعات األوربية" نشرت‬ ‫بمجلة التركيب التاريخي (‪ )Revue de Synthèse historique‬في شهر دجنبر من‬ ‫نفس السنة‪ .‬وعاد لتناول "مشروع تدريس التاريخ المقارن للمجتمعات األوربية" في‬ ‫الكراسة التي أعدها سنة ‪ 1934‬للترشح لولوج "الكوليج دو فرانس"‪ .‬وأهم ما جاء‬ ‫فيها ‪" :‬إن العالم األوربي ‪ ،‬بوصفه أوربيا هو من خلق العصر الوسيط الذي كاد في‬ ‫الوقت ذاته أن يضع حدا للوحدة النسبية للحضارة المتوسطية‪ .‬وألقى في بوتقة واحدة‬ ‫وبشكل عشوائي شعوبا كانت مترومنة مع شعوب لم تغزوها روما أبدا‪ .‬وبذلك نشأت‬ ‫أوربا بالمفهوم اإلنساني للكلمة (‪ )...‬وإن العالم األوربي الذي تحدد على هذا النحو‪،‬‬ ‫ظل عرضة لتيارات مشتركة كانت تخترقه باستمرار"‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فالواضح أن جاك لو ﯕوف يبدو أكثر ميال إلى اعتبار‬ ‫وجهات نظر المؤرخين الفرنسيين مارك بلوك ولوسيان فيفر األكثر تبلورا‪ ،‬رغم أنه‬ ‫ال يصرح بذلك علنا‪ .‬وكأنه بذلك يوحي للقارئ بأن موقف ساسة فرنسا (أمثال فرانسوا‬ ‫ميتران وجاك شيراك) المستميت عن وحدة أوربا‪ ،‬موقف أصيل ومتأصل مستمد من‬ ‫الماضي‪ .‬أو بعبارة أخرى‪ ،‬هو موقف يندرج ضمن تقاليد فرنسا القطر األوربي األكثر‬ ‫رغبة في تحقيق وحدة أوربا؛ وهو أيضا القطر الذي يسعى ساسته‪ ،‬وعدد من مثقفيه‪،‬‬ ‫إلى المضي بهذا البناء نحو الرقي والكمال‪.‬‬ ‫يستخلص مما تقدم‪ ،‬بأن جاك لوﯕوف حرص على تأكيد صلة الحاضر‬ ‫بالماضي‪ ،‬سواء على مستوى الفعل والقائمين بالفعل‪ ،‬أو على مستوى موضوع الفعل‪.‬‬ ‫بمعنى أن جهود الساسة والمفكرين حاليا هي استمرار لجهود الرواد منذ أن بدأ التفكير‬

‫‪ -2‬نسبة إلى الكلييدوسكوب (‪ )le kaléidoscope‬أي المشكال‪ .‬وهو عبارة عن أنبوب جنباته من زجاج‪ .‬يحتوي على‬ ‫قطع من زجاج مختلفة األلوان‪ .‬تعكس ألوانها جنباته بفعل الضوء المسلط عليها‪ ،‬فتبدو ألوان قطع الزجاج على هيأة‬ ‫أشكال متوازية ومختلفة األلوان‪ .‬ومعنى الكلمة في النص‪ ،‬هو أن الممالك الجرمانية التي قامت في غرب أوربا‪ ،‬عقب‬ ‫سقوط اإل مبراطورية الرومانية‪ ،‬كانت تبدو على شاكلة قطع الزجاج داخل المشكال (الكلييدوسكوب)‪.‬‬

‫‪13‬‬

‫في مشروع الوحدة‪ .‬أما الوحدة األوربية في وضعها الراهن‪ ،‬فهي ذات صلة وثيقة‬ ‫بالماضي‪.‬‬ ‫فهل ولدت أوربا حقا خالل العصر الوسيط ؟ ذلك هو السؤال المحوري الذي‬ ‫حاول جاك لو ﯖوف اإلجابة عنه في حوالي ‪ 350‬صفحة موزعة على توطئة‪ ،‬في‬ ‫شكل فصل‪ ،‬وستة فصول‪ ،‬مسبوقة بمقدمة ومذيلة بخالصة عامة‪ ،‬باإلضافة إلى‬ ‫خريطتين وعرض كرونولوجي ألبرز األحداث التي أثارها المؤلف وببليوغرافية‬ ‫موضوعاتية وفهرسين‪ ،‬أحدهما خاص باألعالم واآلخر خاص باألماكن التي ورد‬ ‫ذكرها في مختلف الفصول‪.‬‬ ‫وقد وردت التوطئة والفصول الستة متسلسلة على النحو اآلتي ‪:‬‬ ‫توطئة ‪ :‬ما قبل العصر الوسيط‬ ‫الفصل األول ‪ :‬تصور أوربا (بين القرنين الرابع والثامن)‬ ‫الفصل الثاني ‪ :‬أوربا مجهضة ‪ :‬العالم الكارولنجي (بين القرنين الثامن والعاشر)‬ ‫الفصل الثالث ‪ :‬أوربا المحلوم بها وأوربا الممكنة في سنة ألف‬ ‫الفصل الرابع ‪ :‬أوربا الفيودالية (بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر)‬ ‫الفصل الخامس ‪ :‬أوربا الجميلة ‪ :‬أوربا المدن والجامعات خالل القرن الثالث عشر‬ ‫الفصل السادس ‪ :‬خريف العصر الوسيط أم ربيع األزمنة الجديدة؟‬

‫‪14‬‬

‫المقدمات الممهدات‬ ‫(ما قبل العصر الوسيط)‬

‫قبل الحديث عن جذور الوحدة األوربية خالل العصر الوسيط‪ ،‬يجب التنبيه الى‬ ‫مسألة منهجية أساسية‪ ،‬وهي أن تاريخ أوربا يقتضي من المؤرخ‪ ،‬ومن قراء ما‬ ‫يصدره من مؤلفات‪ ،‬التموضع في اطار ما يعرف باألمد الطويل ( ‪la longue‬‬ ‫‪ .1)durée‬وبناء عليه‪ ،‬فإن الباحث في أصول الوحدة األوربية‪ ،‬خالل األلف سنة التي‬ ‫استغرقها العصر الوسيط وفق التحقيب التقليدي‪ ،‬يجب أن يضع نصب عينيه التركة‬ ‫التي ورثها هذا العصر عن العصور السابقة‪.‬‬ ‫تمثل العناصر المكونة لتلك التركة ارهاصات أوربا‪ .‬وقد استثمرها العصر‬ ‫الوسيط في وعي جماعي بإمكانيات قارية‪ .‬ويبدو أن جانبا من أثر العصر الوسيط في‬ ‫البناء األوربي يتمثل في تمرير كثير من مظاهر العصور السابقة‪ .‬ولكن العصر‬ ‫الوسيط لم يكتف بالقيام بعملية تمرير بسيطة لتلك المظاهر‪ ،‬وإنما قام بعملية فرز لها‬ ‫لتغذية المستقبل الذي كان يقوم بتهيئته‪ .‬ومثل هذا المؤشر يعد لوحده كافيا للداللة على‬ ‫أن العصر الوسيط قام بدور ال جدال فيه في تمرير كثير من مظاهر حضارة العصر‬ ‫القديم‪.‬‬ ‫و ال بأس من التذكير‪ ،‬في ذات السياق‪ ،‬بأن البحث في حقبة ما قبل التاريخ قطع‬ ‫أشواطا مهمة‪ ،‬ورغم ذلك‪ ،‬من الصعب تحديد نوعية االرث الذي أخذه العصر الوسيط‬ ‫عن هذه الحقبة‪ .‬ومن المؤكد أنه مرر بعض عناصرها‪ .‬وأعتقد أن مؤهالتي‪ ،‬وسياق‬ ‫البحث‪ ،‬ال يسمحان لي بتخصيص حيز لتناول هذه المسألة‪ ،‬ولكن هذا ال يمنع من‬ ‫‪ -1‬مفهوم استحدثه المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل (‪ ،)Fernand Braudel‬واستعمله ألول مرة في أطروحته حول‬ ‫"البحر المتوسط والعالم المتوسطي في عصر فليب الثاني" (باريس ‪ .)1949‬ويختزل هذا المفهوم مقاربة جديدة في‬ ‫معالجة القضايا التاريخية‪ ،‬تهمل لحظة حدوث الحدث (السياسي والعسكري)‪ ،‬باعتبارها لحظة سريعة‪ ،‬ألن الحدث‬ ‫يستغرق زمنا قصيرا‪ ،‬وتركز على معالجة الظواهر في سياق زمن بطيئ‪.‬‬

‫‪15‬‬

‫القول بأن بعض األحداث الكبرى التي شهدتها حقبة ما قبل التاريخ ورثها العصر‬ ‫الوسيط‪ .‬وأعني هنا النشاط الزراعي الذي استلمه من حضارة بالد الرافدين القديمة‪،‬‬ ‫والذي ظل يكتسي أهمية قصوى‪ .‬وأعني أيضا النشاط الرعوي وتربية المواشي اللتان‬ ‫اختص بهما المجال المتوسطي‪ .‬كما ورث العصر الوسيط عن حقبة ما قبل التاريخ‬ ‫تقنية استعمال المعادن في صنع األدوات واألسلحة‪ ،‬وهي التقنية التي اكتسبتها القبائل‬ ‫الجرمانية ونقلتها إلى أقاليم أوربا في سياق الغارات وموجات الغزو التي قامت بها‬ ‫قبيل سقوط اإلمبراطورية الرومانية‪ .‬وقد حققت هذه التقنية تطورا ملحوظا خالل‬ ‫العصر الوسيط‪.‬‬ ‫‪ )1‬إرث حقبة ما قبل التاريخ ‪ :‬الجغرافيا قبل كل شيئ‬ ‫شكل المجال الجغرافي إطارا لهذه األنشطة‪ ،‬كما شكل الميدان الذي تفاعلت فيه‬ ‫مختلف األحداث‪ .‬ومن ثم‪ ،‬يعد أهم مكونات تركة حقبة ما قبل التاريخ‪.‬‬ ‫تعد "الجغرافيا"‪ ،‬أي المجال‪ ،‬أول العناصر التي ورثها العصرالوسيط‪ .‬وقد‬ ‫فرضت المعطيات المتصلة بها نفسها على رجال ونساء هذه الحقبة التاريخية‪ .‬وتندرج‬ ‫تحت هذا المسمى (أي الجغرافيا) الوحدات الطبيعية والمناخ والشبكة الهيدروغرافية‪.‬‬ ‫فكلها كانت سابقة في وجودها على وجود أفراد مجتمع العصر الوسيط‪ .‬وقد جمعت‬ ‫بين خاصتي التنوع والوحدة على امتداد القارة األوربية‪.‬‬ ‫وال شك أن خاصية الوحدة أفادت في تسهيل عملية االندماج‪ .‬فامتداد السهول‬ ‫على نطاق واسع‪ ،‬ساعد على انتشار زراعة الحبوب التي حققت طفرة خالل العصر‬ ‫الوسيط بصفة عامة‪ ،‬وخالل القرون الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر بوجه‬ ‫خاص‪ .‬وال زالت إلى اليوم تعتبر نشاطا متميزا في االقتصاد األوربي‪ .‬أما الغطاء‬ ‫الغابوي‪ ،‬ف كان بدوره وفيرا وممتدا في مختلف أقاليم أوربا‪ ،‬وإن تميز بازدواجية‬ ‫الدور‪ .‬وقد جعل القارة األوربية تبدو نطاقا موحشا (‪ ،)sauvage‬ولكنه شكل من جهة‬ ‫أخرى موردا حيويا‪ ،‬حيث أمد أفراد مجتمع العصر الوسيط باألخشاب الضرورية‬ ‫للتدفئة والبناء وصناعة المراكب البحرية‪ .‬كما وفر لهم ثروة حيوانية أفادتهم بألبانها‬ ‫ولحومها وجلودها وفروها‪ .‬وعلى غرار الغطاء الغابوي‪ ،‬ساهمت الشبكة‬ ‫الهيدروغرافية بدورها في تحقيق االندماج‪ .‬فبعد مرحلة خوف وتردد‪ ،‬اقتحم أفراد‬ ‫المجتمع غمار األنهار الكبرى والبحار‪ .‬فأفضى ذلك إلى تطوير وسائل وتقنيات‬ ‫المالحة وإذكاء وتيرة التواصل‪ .‬ولم يكن دور المناخ أقل تأثيرا في تسهيل االندماج‪.‬‬ ‫فقد تميز في معظم أقاليم أوربا باالعتدال‪ ،‬فساهم بذلك في توحيد طبائع الناس‬ ‫وأحاسيسهم‪.‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ )2‬إرث العصر القديم‬ ‫تتجلى عند الحديث عن العناصر الموروثة عن العصر القديم‪ ،‬إحدى أهم سمات‬ ‫العصر الوسيط المتمثلة في كونه قام بدور الممرر بامتياز إلرث اإلغريقيين‬ ‫والرومان‪ .‬ويتضح أن أول شيء مرره للعصور الموالية هو التسمية التي ال زالت‬ ‫تطلق إلى اليوم على القارة وعلى سكانها‪ .‬وقد تم نقل هذه التسمية عن اإلغريقيين‬ ‫الذين كانوا يطلقون اسم "األوربيين" على سكان أقاليم أقصى غرب القارة األسيوية‪.‬‬ ‫والى جانب التسمية‪ ،‬نقل العصر الوسيط عن العصر القديم بعض مالمح‬ ‫الصورة التي كونها اإلغريقيون عن "األوربيين" (أي سكان األقاليم األسيوية المشار‬ ‫إليها)‪ .‬فقد كانوا ينظرون إليهم كمجموعة بشرية مشاكسة؛ موسومة بالشجاعة وحب‬ ‫الحرية والميل إلى تحبيذ "الديمقراطية"‪ .‬في حين كانوا يعتبرون األسيويين جنسا‬ ‫مثقفا‪ ،‬مياال إلى الحكمة‪ ،‬محبا للسلم واالستقرار إلى درجة القبول بوضعية "القنانة" أو‬ ‫التبعية مقابل العيش في رغد واستقرار‪.‬‬ ‫وقد ظلت هذه التمثالت والتصورات سارية المفعول خالل العصر الوسيط‪ ،‬إلى‬ ‫أن ورثتها األزمنة الحديثة‪ .‬بحيث أن أوربيي القرن الثامن عشر ظلوا يتبنونها‪ .‬وتجلى‬ ‫هذا التبني في أوساط المثقفين الذين صاغوا نظرية "االستبداد المستنير" في ضوء تلك‬ ‫التمثالت والتصورات‪ .‬وأطلقوها على نظام سياسي ارتأوا أنه ينسحب على مجتمعات‬ ‫آسيا‪ .‬وإن هذه التمثالت ذاتها هي التي انطلق منها أيضا كارل ماركس وأتباعه في‬ ‫صياغة نظرية "نمط اإلنتاج األسيوي"‪ ،‬الذي قالوا بأنه النظام السوسيو‪-‬اقتصادي‬ ‫األكثر مالئمة لمجتمعات آسيا ومجتمعات الشرق عموما‪.‬‬ ‫ويمكن القول انطالقا مما تقدم‪ ،‬بأن العصر الوسيط ورث عن اإلغريقيين‪ ،‬وعن‬ ‫الحضارة اإلغريقية‪ ،‬هذا التقابل بين الغرب والشرق‪ ،‬بين أوربا وآسيا‪ .‬كما ورث‬ ‫النمط الديمقراطي‪ ،‬واحتفظ بهذا اإلرث إلى أن استلمته منه األزمنة الحديثة‬ ‫والمعاصرة‪.‬‬ ‫ومن المفيد التذكير بأن العصر الوسيط عمل على تفعيل مقولة التقابل بين الشرق‬ ‫والغرب‪ .‬وذهب المجتمع في موضوعها إلى أبعد حدود؛ حيث قسم الشرق إلى‬ ‫مشارق‪ .‬فهناك شرق أدنى قريب ينطبق على األقاليم البيزنطية‪ ،‬التي كانت تجمعه‬ ‫بسكانها وشائج‪ .‬وهناك شرق "أوسط"‪ ،‬يتمثل في األقاليم اإلسالمية التي دخل معها في‬ ‫سلسلة حروب طويلة‪ .‬وهناك شرق أقصى ينسحب على أقاليم أقاصي آسيا‪ ،‬التي‬ ‫اعتبرها موطن مختلف أصناف اآلفات والكوارث التي لم يسلم منها‪.‬‬ ‫وإذا كان العصر الوسيط قد عمل على تفعيل مثل هذه المقولة‪ ،‬فقد أهمل مقولة‬ ‫الديمقراطية التي تخلى عنها كلية‪ .‬ولم تعد ألخذ مجراها إال بعد الثورة الفرنسية‪.‬‬

‫‪17‬‬

‫وعموما‪ ،‬فال يمكن إنكار حضور بعض مظاهر حضارة العصر القديم خالل‬ ‫الفترة الممتدة بين القرنين الخامس والخامس عشر‪ .‬وندعو القارئ بالمناسبة للتمييز في‬ ‫هذا الحضور بين أربع محطات رئيسة ‪:‬‬ ‫أ) تتمثل المحطة األولى في الحضارة اإلغريقية التي تواصل حضور بعض‬ ‫عناصرها خالل العصر الوسيط‪ .‬وأهم تلك العناصر عنصر التسمية الذي تم التوقف‬ ‫عنده‪ ،‬وعنصر البطل وظاهرة اإلنسية‪ ،‬اللذين لبسا لبوسا دينيا بحكم سيادة الفكر الديني‬ ‫الكنسي خالل هذه الحقبة التاريخية‪ ،‬وعنصر المؤسسة الدينية التي تحولت من معبد‬ ‫كما هو معلوم‪ ،‬إلى كنيسة أو كاتدرائية‪ ،‬وعنصر الخمر الذي تحول إلى سائل مقدس‬ ‫يرمز إلى دم المسيح‪ ،‬وكذلك إلى مشروب أرستقراطي بامتياز‪ ،‬وعنصر المدينة‬ ‫(‪ )polis‬التي تحولت إلى مركز حضري‪.‬‬ ‫ب) تتمثل المحطة الثانية في الحضارة الرومانية التي استمر وجود كثير من‬ ‫مظاهرها خالل العصر الوسيط بفعل عامل الزمن طبعا‪ .‬ألن العصر الوسيط انبثق‬ ‫مباشرة بعد انهيار اإلمبراطورية الرومانية‪ .‬ولعل أهم‪ ،‬وأبرز عنصر جسد ذلك‪ ،‬تمثل‬ ‫في اللغة الالتينية بتعبيريها الكتابي والشفوي‪ .‬وظل حضورها متواصال إلى ما بعد‬ ‫القرن العاشر للميالد‪ ،‬حيث بدأت اللغات الفرنسية وااليطالية واالسبانية والبرتغالية في‬ ‫الظهور والتطور؛ وهي لغات ذات أصول التينية كما هو معروف‪.‬‬ ‫وتجسدت استمرارية مظاهر الحضارة الرومانية أيضا في المجال العسكري‬ ‫سواء على مستوى فنون الحرب والقتال أو على مستوى التقنيات العسكرية‪ .‬وتجلت‬ ‫االستمرارية كذلك في مجال البناء والهندسة المعمارية والزخرفة وفي نمط الحياة‪.‬‬ ‫فبعد أن ظل الطابع الريفي يطغى على حياة الناس بين القرنين الخامس والحادي‬ ‫عشر‪ ،‬عادت ظاهرة االزدواجية كما كانت خالل العصر الروماني‪ .‬فتوزع المجتمع‬ ‫بين أفراد يعيشون في األرياف وأفراد يعيشون في الحواضر‪ .‬وتجسدت االستمرارية‬ ‫أيضا في مجال التشريعات والقوانين التي ظلت ذات طابع روماني خالل العصر‬ ‫الوسيط‪ .‬وال تقل الثقافة أهمية عن التشريعات‪ ،‬فقد تواصل‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬حضور‬ ‫كثير من مكوناتها خالل هذه الحقبة رغم سيادة الفكر الالهوتي‪.‬‬ ‫وأستطيع التأكيد في هذا المقام‪ ،‬أن معجم الكلمات المستعملة في التعبير الكتابي‪،‬‬ ‫وكذلك منظومة األفكار والقيم والتمثالت التي ورث العصر الوسيط نصيبا كبيرا منها‪،‬‬ ‫تمثل رصيدا بالغ األهمية ال مناص من استحضاره عند الحديث عن إرهاصات الوحدة‬ ‫ألنها تشكل قاعدة لإلحساس "باالنتماء ألوربا" أكثر قيمة من تلك التي يشكلها اإلرث‬ ‫المادي‪ .‬وللداللة على ذلك‪ ،‬يمكن ذكر كلمة "قيصر"‪ ،‬التي كانت تطلق على رأس هرم‬ ‫السلطة السياسية في اإلمبراطورية الرومانية‪ .‬وقد اشتق األوربيون من هذه الكلمة‪،‬‬

‫‪18‬‬

‫فيما بعد وبلغاتهم المحلية‪ ،‬مختلف الكلمات الدالة على المعنى نفسه من قبيل كلمة‬ ‫"كيزر (‪ )Kaiser‬عند الجرمان وكلمة "تسار" (‪ )Tsar‬عند الصربيين والبلغار‪.‬‬ ‫ج) تتمثل المحطة الثالثة فيما يعرف بإيديولوجية التراتبات الثالث التي أعاد‬ ‫‪3‬‬ ‫إليها الحياة سنة ‪ 1027‬الراهب أدلبرون أسقف الوون (‪. )Adalbéron de Laon‬‬ ‫وهي إيديولوجية ذات أصول هندو‪-‬أوربية تقوم على فكرة مفادها أن المجتمع مكون‬ ‫من ثالث "فئات" في تراتبية منسقة ومتكاملة ‪ :‬يتألف التراتب األول من رجال الدين‬ ‫ويتألف الثاني من المحاربين و يتكون الثالث من الفالحين‪.‬‬ ‫اجتهد رجال الدين في الترويج لهذه اإليديولوجية وفي إقناع خاصة المجتمع‬ ‫وعامته‪ ،‬المؤلفة أساسا من فالحين‪ ،‬بأن التفاوت بين التراتبات أمر طبيعي‪ ،‬وأن‬ ‫التكامل بينها هو األساس‪ .‬فأفراد التراتب األول يقومون بمهام ترشيد اآلخرين‪ ،‬ونشر‬ ‫الوعي الديني والحفاظ على المسيحية‪ .‬ويقوم المنتمون للتراتب الثاني بإقرار األمن‬ ‫والدفاع عن جميع أفراد المجتمع ورد أي هجوم أجنبي‪ .‬بينما يبذل أفراد التراتب الثالث‬ ‫قصارى جهدهم لتوفير ما تحتاج له جميع الفئات من أطعمة وأشربة‪.‬‬ ‫يمكن القول‪ ،‬بأن الترويج إليديولوجية التراتبات الثالث‪ ،4‬ساهم في خلق انسجام‬ ‫مجتمعي على الصعيد األوربي‪ ،‬ولكن ما يمكن االقرار به عالنية‪ ،‬هو أن إدراج‬ ‫الفالحين إلى جانب الفئات االجتماعية األخرى في منظومة فكرية منسجمة‪ ،‬دليل على‬ ‫قناعة النخبة المثقفة من رجال الدين بأهمية العمل ودوره في تنمية الفرد والمجتمع‪.‬‬ ‫وهذا ما سيتأكد خالل العقود والقرون التي تلت تاريخ انتعاش تلك اإليديولوجية‪.‬‬ ‫د) تتمثل المحطة الرابعة واألخيرة في العقيدة التي يجسدها الكتاب المقدس الذي‬ ‫‪ - 3‬رجل دين وسياسة‪ .‬يضع الذين ترجموا له والدته بين سنتي ‪ 947‬و‪ .950‬ينحدر من أسرة نبيلة ثرية‪ .‬كان غريب‬ ‫األطوار‪ ،‬ولم تكن له حظوة بين رجال الدين‪ ،‬ولكنه اشتهر بفصاحته‪ ،‬وربما هذا ما ساعده على أن يصبح مستشارا‬ ‫لروبير التقي الذي حكم غالة بين سنتي ‪ 996‬و‪.1031‬‬ ‫شغل أدلبيرون منصب أسقف كنيسة الوون (‪( )Laon‬بمنطقة بيكارديا) منذ سنة ‪ 977‬حتى وفاته سنة ‪ .1030‬كما‬ ‫ألف بعض النصوص النثرية والشعرية‪ ،‬التي لم تلق رواجا بين "مثقفي" عصره‪ .‬ولكن نجمه سطع كمفكر‪ ،‬سنوات قليلة‬ ‫قبل وفاته حين نظم نصا شعريا مطوال قدمه للملك روبير‪ ،‬تحدث فيه عن شخص الملك وعن دوره‪ ،‬وعن رجال الدين‪.‬‬ ‫وخصص قسما منه لعرض تصوره لما يجب أن يكون عليه المجتمع‪ ،‬على غرار ما قام به القديس أوغسطين في ←‬ ‫كتاب "مدينة هللا"‪ .‬واقترح أن ينظر الى المجتمع بكونه مؤلفا من ثالث تراتبات يكمل بعضها البعض هي ‪ :‬رجال الدين‬ ‫والمحاربون والفالحون‪.‬‬ ‫قام بتحقيق النص ونشره عدد من الباحثين‪ ،‬من بينهم كلود كاروزي (‪ )Claude Carozzi‬الذي نشره بباريس سنة‬ ‫‪ 1979‬ضمن منشورات اآلداب الجميلة (‪.)Les Belles Lettres‬‬ ‫‪ - 4‬لمزيد من التفاصيل بخصوص هذه اإليديولوجية ‪ ،‬نحيل القارئ على مقال كلود كاروزي ‪:‬‬ ‫‪"les fondements de la tripartition sociale chez Adalbéron de Laon" ,Annales E.S.C,1978,No‬‬ ‫‪4, pp.683-702‬‬ ‫وكتاب جورج دوبي (‪: )Georges Duby‬‬ ‫‪Les trois ordres ou l’imaginaire du féodalisme, Paris, Gallimard, 1978.‬‬

‫‪19‬‬

‫ورثه العصر الوسيط‪ .‬وقد سهرت المؤسسات الدينية خالل هذه الحقبة التاريخية على‬ ‫صيانته ونشر مضامينه‪ .‬فأصبح يمثل بحق موسوعة تتضمن كل أشكال وضروب‬ ‫المعرفة التي وضعها هللا بين يدي اإلنسان‪ .‬وعد في الوقت ذاته مرجعا للتدبر في‬ ‫ملكوت الكون وفي صيرورة الحياة‪ .‬وقد أخذ هذا الجانب بعدا مهما على الصعيدين‬ ‫الرسمي والشعبي منذ بداية حكم األسرة الكارولنجية‪ .‬فأضحى الكتاب المقدس مصدرا‬ ‫للذاكرة الجماعية األوربية‪.‬‬ ‫‪ )3‬سيناريو النشأة القروسطوية ألوربا‬ ‫سأقوم في الفقرات الموالية باستعراض اسهامات العصر الوسيط في بناء أوربا‪.‬‬ ‫وقد تمت تلك االسهامات على شكل طبقات تراكمت الواحدة تلو األخرى على امتداد‬ ‫األلف سنة التي استغرقها هذا العصر‪.‬‬ ‫تموضعت‪ ،‬أو ترسبت‪ ،‬العناصر المؤلفة للطبقة األولى خالل فترة غزوات‪ ،‬ثم‬ ‫استقرار‪ ،‬القبائل الجرمانية باألقاليم التي كانت تابعة لإلمبراطورية الرومانية‪ .‬وامتدت‬ ‫بين القرنين الرابع والثامن‪ .‬ويمكن تسميتها بفترة "تصور ألوربا" ( ‪la conception‬‬ ‫‪.)de l’Europe‬‬ ‫ترسبت عناصر الطبقة الثانية خالل القرنين الثامن والتاسع‪ .‬وتزامنت مع‬ ‫المرحلة الكارولنجية التي حدثت فيها أولى المحاوالت الجادة لتحقيق وحدة القارة‪ .‬وقد‬ ‫آلت هذه المحاولة إلى الفشل‪ .‬فهي مرحلة "أوربا مجهضة" التي تركت أثرا‪.‬‬ ‫تمثل سنة ألف (والسنوات الموالية لها عموما) طبقة؛ هي الطبقة الثالثة التي‬ ‫انبثقت خاللها "أوربا محلومة" أو "محلوم بها"‪ .‬ألن مشروع الوحدة لم يستطع تجاوز‬ ‫عتبة الحلم‪ ،‬ولكن هذا الحلم كان يستند إلى مقومات حقيقية‪.‬‬ ‫تلت هذه "الرعشة"‪ ،‬التي تأرجحت بين الحلم والحقيقة‪ ،‬الطبقة الرابعة‪ ،‬وهي‬ ‫أوربا الفيودالية التي استغرقت القرنين الحادي عشر والثاني عشر‪.‬‬ ‫يمثل القرن الثالث عشر فترة ترسب عناصر طبقة أوربا المشعة التي استمدت‬ ‫إشعاعها من عالم المدن والجامعات والكاتدرائيات والفن القوطي‪.‬‬ ‫وتموضعت في النهاية آخر طبقة قروسطوية‪ .‬وتزامنت مع القرنين الرابع عشر‬ ‫والخامس عشر‪ ،‬الذين شهدت أقاليم أوربا خاللهما مصاعب اقتصادية واجتماعية‬ ‫وديموغرافية كادت أن تعصف بمكاسب القرون السالفة‪ .‬ولكن بنيات "ما قبل أوربا‬ ‫الموحدة" أبدت ثباتا أمام هذا اإلعصار‪ .‬فقدر بذلك لمسيرة الوحدة واالندماج أن تستمر‬ ‫خالل القرون الموالية‪.‬‬ ‫وفي ضوء ما تقدم‪ ،‬يتضح بأن وحدة أوربا تمت على شكل طبقات متعاقبة عبر‬ ‫مراحل وفق التطور التاريخي‪ .‬وهذا ما يبرر اللجوء إلى تبني طريقة العرض‬

‫‪20‬‬

‫الكرونولوجي‪ ،‬الذي أتمنى أال يشعر القارئ بنوع من الملل‪ ،‬ألنه سيجعله يلج الى قلب‬ ‫الصور الجديدة‪ ،‬وحاالت "الشك" الجديدة‪ ،‬التي ميزت المجال األوربي‪.‬‬

‫‪21‬‬

‫الفصل األول‬ ‫تصور أوربا‬ ‫(بين القرنين الرابع والثامن)‬

‫تبدو مقولة االنتقال من العصر القديم الى العصرالوسيط التي يتبناها المشتغلون‬ ‫في حقل البحث التاريخي‪ ،‬مقولة وجيهة وال مناص من تبنيها عند البحث في تطور‬ ‫التاريخ األوربي‪ .‬وتقضي وجاهتها التخلي عن وجهة النظر التي ظل يتبناها مؤرخو‬ ‫أوربا‪ ،‬منذ مطلع القرن الثامن عشر وحتى أواسط القرن العشرين‪ ،‬والتي تلخصها‬ ‫فكرة مفادها أن اإلمبراطورية الرومانية لم تمت ميتة طبيعية‪ ،‬وإنما تم اغتيالها‪ .‬بمعنى‬ ‫أن االنتقال بين العصرين القديم والوسيط حدث بشكل كارثي‪ .‬وخالفا لهذا التصور‪،‬‬ ‫فإن عددا من الباحثين المعاصرين يعتقدون اليوم‪ ،‬بأن هذا االنتقال حدث نتيجة تطور‬ ‫موضوعي طويل المدى‪ ،‬تخللته فترات حادة ومثيرة‪ .‬ولتجسيد هذا االعتقاد‪ ،‬فإنهم‬ ‫يستعملون عند الحديث عن الفترة الممتدة بين القرنين الرابع والثامن عبارة "العصر‬ ‫القديم المتأخر"‪.‬‬ ‫وال أخفي قناعتي بصالحية هذه التسمية ألنها‪ ،‬األكثر تطابقا مع طبيعة‬ ‫التطورات التي شهدتها مناطق أوربا خالل الفترة المذكورة‪ .‬وفي ضوء هذه القناعة‬ ‫أرى بأن أوربا بدأت في الظهور خالل هذه الفترة‪ .‬وقد حدث ذلك الظهور في خضم‬ ‫تحول ذي وجهين ‪ :‬يتمثل وجهه األول في انتشار الديانة المسيحية في ربوع أوربا بين‬ ‫سنة ‪ 313‬ميالدية‪ ،‬تاريخ اعتراف اإلمبراطور قسطنطين بهذه الديانة‪ ،‬وسنة ‪390‬‬ ‫ميالدية‪ ،‬تاريخ إقرارها كديانة رسمية (كدين دولة) من قبل اإلمبراطور ثيودوس‬ ‫األول‪ .‬ويتمثل وجهه الثاني في قيام اإلمبراطور ذاته بتقسيم اإلمبراطورية بين ابنيه‬ ‫إلى قسمين‪ :‬واحد شرقي وآخر غربي‪ .‬ومنذ هذا التقسيم اتبع كل جناح من‬ ‫اإلمبراطورية مسارا مختلفا عن مسار اآلخر‪ .‬وٳن القسم الغربي هو الذي قدر له أن‬ ‫يكون مهد نشأة أوربا الموحدة‪.‬‬

‫‪22‬‬

‫‪ )1‬القديس أوغسطين وعمﻠية التمسيح‬ ‫أعتقد أن عملية انبثاق أوربا‪ ،‬التي أسعى إلى تتبع مسارها‪ ،‬تمت عبر ظاهرتين‬ ‫رئيستين شكل القرنان الرابع والخامس حيزهما الزمني‪ .‬وإن إحدى هاتين الظاهرتين‬ ‫التي يجدر التوقف عندها تتمثل في عملية صياغة العقيدة المسيحية‪ .‬وقد تمت هذه‬ ‫الصياغة في نفس خط صياغة التوراة والعهد الجديد وورثها العصر الوسيط‪ .‬وتحمل‬ ‫عناء القيام بهذه المهمة عدد من رجال الكنيسة ورواد الديانة المسيحية‪ ،‬وأبرزهم‬ ‫القديس جيروم (‪ 347( )Saint Jérôme‬م‪ 420 – .‬م‪ ).‬والقديس أوغسطين ( ‪Saint‬‬ ‫‪ 345( )Augustin‬م‪ 430 – .‬م‪ ).‬اللذين يستدعي األمر تخصيص فقرة للحديث‬ ‫عنهما بالنظر إلى قيمة إسهاماتهما في تشكل الثقافة األوربية‪.‬‬ ‫يعتبراألول رجل دين مخضرم‪ .‬وقعت مجريات حياته في نقطة تقاطع بين‬ ‫الشرق والغرب‪ ،‬ألنه ولد في منطقة محاذية لكرواتيا الحالية (‪ ،)la Croatie‬وتابع‬ ‫دراسته بروما‪،‬وقضى فترة طويلة من حياته كناسك في إحدى مناطق الشرق‪ ،‬وتوفي‬ ‫ببيت لحم‪ .‬ورغم أن هذه المعطيات تطرح صعوبة إيجاد صلة بين الحديث عنه‬ ‫والحديث عن مستقبل أوربا‪ ،‬فال مانع‪ ،‬من ذكره ألنه أنجز عمال جبارا‪ ،‬يتمثل في‬ ‫قيامه بترجمة التوراة إلى الالتينية انطالقا من نسخة عبرية حلت محل النسخة‬ ‫اإلغريقية الرديئة‪ .‬وقد أصبح النص الذي أنجزه األكثر تداوال واعتمادا على امتداد‬ ‫العصر الوسيط رغم خضوعه لعدة مراجعات‪.‬‬ ‫أما رجل الدين الثاني فيعتبر‪ ،‬بعد القديس بولس (‪ ،)Saint Paul‬أبرز رجال‬ ‫الدين الذين عملوا على نشر وإرساء تعاليم المسيحية‪ .‬كما يعتبر أشهر أعالم ومفكري‬ ‫العصر الوسيط من خالل مؤلفاته؛ وأهمها مذكراته التي استعرض فيها مجريات‬ ‫ومالبسات اعتناقه للمسيحية‪ .‬وتمثل هذه المذكرات‪ ،‬التي تم نشرها تحت عنوان‬ ‫"اعترافات"‪ ،‬أول أنموذج ضمن سلسلة المؤلفات التي تهم السير الذاتية‪ ،‬والتي‬ ‫ستنتشر فيما بعد بمختلف أنحاء أوربا‪ .‬وال يقل أهمية عن هذا الكتاب مؤلفه الثاني‬ ‫المعروف "بمدينة هللا" الذي وضعه بعد سنة ‪ 410‬للميالد على اثر عمليات النهب‬ ‫والتخريب التي تعرضت لها مدينة روما على يد قبائل القوط بزعامة ألريك‬ ‫(‪ .)Alaric‬وكان من تداعياتها انتشار فكرة "قرب قيام الساعة" في أوساط عدد من‬ ‫رجال الدين وفئات عريضة من عامة مسيحيي أوربا‪ ،‬مما دفع القديس أوغسطين إلى‬ ‫بذل جهود مضنية لتبديد هذا التصور وتخفيف حدة الهلع الذي استبد بالقلوب‪،‬‬ ‫والترويج لفكرة مؤداها أن القيامة ستحدث في مستقبل غير منظور على المدى‬ ‫القريب‪ ،‬وال يعلم ساعة حدوثها إال هللا تعالى‪ .‬وإذ نجح القديس أوغسطين في إقرار‬ ‫وجهة نظره‪ ،‬فقد وضح أيضا في مؤلفه قواعد العالقة التي يجب أن تقوم بين "مدينة‬

‫‪23‬‬

‫هللا" و"مدينة اإلنسان"‪ .‬وكأنه بذلك سعى إلى وضع حدود بين قدرة هللا وقدرة‬ ‫اإلنسان‪ ،‬أي بين السلطتين الدينية والدنيوية‪.‬‬ ‫‪ )2‬رواد ثقافة العصر الوسيط‬ ‫شكل التراث الفكري المنتمي إلى مرحلة نهاية العصر القديم وبدايات انتشار‬ ‫المسيحية لبنة مهمة ستقوم على أساسها انجازات أعالم القرون السادس والسابع‬ ‫والثامن؛ الذين نجحوا في المزج بين الثقافة الرومانية التي سادت خالل العصر القديم‪،‬‬ ‫ومتطلبات المجتمعات الجديدة التي انضافت إليها العناصر الوافدة إلى أقاليم غرب‬ ‫أوربا في سياق عمليات الغزو واالجتياح التي قامت بها القبائل الجرمانية‪.‬‬ ‫ومن بين األعالم الذين قدموا إسهامات قيمة خالل هذه القرون بوويس‬ ‫(‪( )Boèce‬المتوفى سنة ‪ 520‬م‪ ).‬الذي أهلته ثقافته وانتماؤه ألسرة أرستقراطية‬ ‫رومانية عريقة لالنخراط في حاشية ثيودوريك (‪ )Théodoric‬زعيم القوط الشرقيين‪.‬‬ ‫غير أن موقفه المساند إلمبراطور بيزنطة في صراعه مع القوط الشرقيين حكام‬ ‫ايطاليا أدى به إلى السجن الذي قضى به ما تبقى من حياته‪.‬‬ ‫وضع عدة مؤلفات في الفلسفة‪ ،‬قبل فترة سجنه‪ ،‬تضمنت نقوالت كثيرة من‬ ‫مؤلفات أرسطو‪ .‬كما ألف مصنفا آخر وهو في السجن لقي رواجا كبيرا‪.‬‬ ‫وعموما‪ ،‬فإلى بوويس يرجع الفضل في تعرف أوربيي بدايات العصر الوسيط‬ ‫على منطق أرسطو‪ ،‬وعلى كثير من مبادئ فلسفته‪ .‬كما يرجع له الفضل في كونه‬ ‫يعتبر واضع أسس "الحركة اإلنسية" التي شهد العصر الوسيط بعض تجلياتها‪.‬‬ ‫وعلى غرار بوويس‪ ،‬يعد المفكر كاسيودور (‪( )Cassiodore‬المتوفى سنة‬ ‫‪ 580‬م‪).‬علما بارزا‪ .‬ينحدر هو اآلخر من أسرة ايطالية رومانية عريقة‪ .‬وضع معارفه‬ ‫وثقافته رهن إشارة القوط الشرقيين حكام ايطاليا‪ .‬وقام بدور بارز في التقريب بين‬ ‫وجهات نظر حكام ايطاليا واألباطرة البيزنطيين‪ .‬غير أن جهوده لم تحقق النجاح‬ ‫المنشود‪ ،‬حيث قام اإلمبراطور جستنيان (‪ )Justinien‬بغزو ايطاليا سنة ‪ 539‬م‪ .‬فحز‬ ‫ذلك في نفس كاسيودور‪ ،‬الذي قرر هجر السياسة واالبتعاد عن دواليب السلطة‪.‬‬ ‫وقضى ما تبقى من حياته معتكفا‪ ،‬في إحدى المؤسسات الدينية‪ ،‬على ترجمة المؤلفات‬ ‫اإلغريقية‪ ،‬واستنساخ المؤلفات الالتينية‪.‬‬ ‫ومن هذا المنطلق‪ ،‬يعتبر أول من عرف األوربيين بقيمة الكتب وعلمهم كيفية‬ ‫إقامة المكتبات‪ .‬وهو أول من أقترح على األساقفة ميدانا جديدا للعمل يتمثل في التثقف‬ ‫واالجتهاد الفكري كأداة لصقل مؤهالتهم والتمكن من التأثير‪ .‬ووضع رهن إشارتهم‬ ‫في بعض مؤلفاته‪ ،‬وأهمها كتاب "المؤسسات اإللهية واألدب العلماني" )‪Insti-‬‬

‫‪24‬‬

‫(‪ ،tutiones divinarum et saecularium litterarum‬موسوعة علوم "دنيوية"‬ ‫يمكن العودة إليها لتحقيق هذا المسعى‪.‬‬ ‫وبعد وفاته‪ ،‬اشتد االقبال على الموسوعات من قبل األساقفة‪ ،‬وعموم المتعلمين‪،‬‬ ‫إذ وجدوا فيها نمطا من التآليف يوفر لهم عصارة عطاء المفكرين القدامى‪ ،‬ويمكنهم‬ ‫من االنطالق نحو فضاء أرحب‪ .‬وعلى هامش هذا المعطى‪ ،‬ال بأس من تذكير القارئ‬ ‫بأن النمط الموسوعي في التأليف يمثل إرثا إغريقيا ورثه العصر الوسيط ‪ .‬وأصبح منذ‬ ‫القرن الثامن عشر وإلى يومنا هذا أداة أساسية في التعليم والتثقيف‪.‬‬ ‫وعلى كل‪ ،‬يمكن أن ندرج اضافة الى القطبين السالفي الذكر‪ ،‬إيزيدور اإلشبيلي‬ ‫‪( )Isidore de) Séville‬المتوفى سنة ‪ 636‬م‪ ).‬الذي يعد من بين كبار األعالم‬ ‫والموسوعيين‪ .‬ينحدر بدوره من أسرة أرستقراطية عريقة ذات أصول إسبانو‪-‬‬ ‫رومانية‪ .‬أصبح مطرانا لكنيسة اشبيلية حوالي سنة ‪ 600‬م‪ ،.‬في وقت تخلى فيه القوط‬ ‫الغربيون‪ ،‬حكام اسبانيا‪ ،‬عن المذهب اآلري العتناق الكاثوليكية األرثوذوكسية‪.‬‬ ‫اشتهر بكتاب "علم أصول الكالم" (‪ )Etymologiae‬الذي يتألف من ‪ 20‬كتابا‬ ‫و‪ 448‬فصال‪ ،‬تعالج معارف شتى‪ .‬وقد ظل هذا الكتاب يشكل أحد مصادر المعرفة‬ ‫خالل العصر الوسيط‪ .‬فعد بحق واحدا من أبرز الموسوعات التي وضعت خالل هذه‬ ‫الحقبة التاريخية‪.‬‬ ‫ويمكن أيضا أن ندرج ضمن سلسلة الرواد علما أنجلو سكسونيا هو المفكر بيد‬ ‫(‪( )Bède‬المتوفى سنة ‪ 736‬م‪ .).‬ويعتبر سليل األساقفة األوائل الذين كان لهم الفضل‬ ‫في نشر الديانة المسيحية بالجزر البريطانية‪ ،‬وفي نقل جانب من التراث الفكري‬ ‫الروماني إلى هذه الربوع‪ .‬كان هو اآلخر موسوعي الثقافة‪ .‬ألف في ضروب مختلفة‬ ‫من العلوم‪ .‬بل ربما تميز عن الرواد اآلخرين في كونه كان متفقها في علوم الدين وفي‬ ‫علوم الطبيعة‪ .‬واليه يعزى الفضل في جعل ثقافة العصر الوسيط تتحلل شيئا فشيئا من‬ ‫طابع التقليد الذي ميزها خالل القرون األولى من العصر الوسيط لتسلك مسلكا آخر‬ ‫ذي صبغة أوربية هذه المرة‪.‬‬ ‫‪ )3‬ﯕريﯕوار األكبر‬ ‫ينتمي القديس ﯕريﯕواراألكبر(‪ )Saint Grégoire le Grand‬إلى ثلة رواد‬ ‫ثقافة العصر الوسيط‪ ،‬كما أن انجازاته العلمية ال تختلف عن انجازات بوويس أو‬ ‫كاسيودور أو غيرهما من األعالم الذين ورد ذكرهم سابقا‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬لم يدرج‬ ‫الباحثون المحدثون والمعاصرون إسمه ضمن الئحة آباء العصر الوسيط كالقيس بينوا‬ ‫واالمبراطور شارلمان رغم أنه يستحق هذا اللقب بكل جدارة‪.‬‬ ‫ولد القديس ﯕريﯕوار األكبر حوالي سنة ‪ 540‬وتوفي سنة ‪ .604‬ينحدرمن أسرة‬

‫‪25‬‬

‫نبيلة كانت تقيم‪ ،‬زمن والدته بروما‪ .‬أبان عن مقدرة في تموين هذه المدينة التي كان‬ ‫عمدتها سنة ‪ .573‬كما استثمر العقارات التي كانت في حوزته في تشييد ستة‬ ‫موناستيرات بجزيرة صقلية‪ .‬وشيد موناستيرا سابعا بمدينة روما أراد االعتكاف به‪.‬‬ ‫فعينه البابا بالجيوس الثاني (‪ ،)Pélage II‬الذي اعتلى عرش البابوية بين سنتي ‪579‬‬ ‫و‪ ،590‬سفيرا مقيما بالقسطنطينية‪ .‬ثم استطاع الرجل بعد ذلك اعتالء كرسي البابوية‬ ‫سنة ‪.590‬‬ ‫وقد اشتهر بانجازات جبارة على المستويين العلمي والعملي‪ :‬فعلى المستوى‬ ‫العلمي‪ ،‬وضع رهن إشارة عموم المسيحيين عدة مؤلفات تحض على الورع والتقوى‪.‬‬ ‫وألف مجموعة كتب تعليمية موجهة لرجال اإلكلروس‪ .‬وأدخل بعض التعديالت على‬ ‫الترتيل الذي يردده مرتادو الكنائس‪ .‬فأصبح يعرف منذئذ "بالترتيل الﯕريﯕوري"‪ .‬أما‬ ‫على المستوى العملي‪ ،‬فاشتهر بنشاطه الدءوب في عدة واجهات‪ .‬فالى جانب‬ ‫المؤسسات الدينية التي شيدها‪ ،‬نجح في التقريب بين البابوية واإلمبراطورية‬ ‫البيزنطية‪ .‬واجتهد في إعطاء نفس جديد للديانة المسيحية في انجلترا من خالل‬ ‫المبشرين الذين بعثهم لهذه الغاية‪ .‬وأبان عن حنكة ودراية في الحد من مخلفات‬ ‫الفيضانات المهولة التي شهدها نهر التيبر)‪ )Tibre‬سنة ‪589‬؛ والتي تلتها في السنة‬ ‫الموالية موجة طاعون‪ ،‬كان من الممكن أن يكون لها تأثير على عقلية المسيحيين‬ ‫وذهنياتهم‪.‬‬ ‫تواصلت‪ ،‬بموازاة األنشطة الفكرية والدينية‪ ،‬وغيرها من االنجازات‪ ،‬التي ورد‬ ‫ذكرها بمناسبة الحديث عن رواد ثقافة العصر الوسيط‪ ،‬عملية االنصهار بين ثقافة‬ ‫سكان أوربا األصليين وبين ثقافة العناصر الوافدة إليها بمناسبة الغارات وعمليات‬ ‫الغزو التي شهدتها أقاليم غرب أوربا‪ .‬وقد كانت عملية االنصهار تتم بشكل خاص في‬ ‫الكنائس‪ ،‬وفي المؤسسات التعليمية‪ ،‬رغم أن أعداد الوافدين على هذه المؤسسات‬ ‫الدينية‪-‬التربوية كان قليال‪ .‬وقد مثلت المسيحية األداة األولى بامتياز في تحقيق تلك‬ ‫العملية‪.‬‬ ‫والحقيقة أن عملية التثاقف بين "المتبربرين" والرومان‪ ،‬تعود إلى زمن سابق‬ ‫على سقوط روما‪ ،‬ألن الحدود الفاصلة بين مجال استقرار المجموعتين لم تكن تحول‬ ‫دون انتقال التأثيرات بينهما‪ .‬كما أن عمليات المقايضة والمبادالت‪ ،‬ومختلف أشكال‬ ‫التواصل‪ ،‬هيأت األرضية لحدوث االنصهار بين الطرفين‪ ،‬رغم العداء الذي ميز‬ ‫العالقات القائمة بينهما‪ ،‬والذي تجلت مظاهره بشكل أوضح في عمليات الغزو‪.‬‬ ‫وفي خضم هذا االختالط أو االنصهار‪ ،‬الذي حدث لحظة نشوء أوربا‪ ،‬أخذت‬ ‫تتجسد‪ ،‬ومنذ البداية‪ ،‬جدلية الوحدة والتنوع التي الزالت تعد إلى اليوم واحدة من أبرز‬ ‫خصائص أوربا‪.‬‬

‫‪26‬‬

‫‪ )4‬الغزوات والتثاقف‬ ‫حدثت أولى موجات الغزو في نهاية القرن الثالث للميالد‪ .‬غير أن الغزو العام‬ ‫الذي قام به الجرمان لكل من ايطاليا واسبانيا وغالة بين سنتي ‪ 406‬و‪ ،407‬وسقوط‬ ‫روما في حوزة الزعيم ألريك (‪ )Alaric‬سنة ‪ ،410‬يمثل بداية عملية استقرار‬ ‫الجرمان في أقاليم اإلمبراطورية الرومانية‪ .‬وكان من تبعات هذا الحدث اختفاء خطوط‬ ‫الحدود العسكرية الرومانية في أقاليم أوربا الغربية‪.‬‬ ‫ومن المعروف أن المد الجرماني تواصل خالل القرنين الخامس والسادس‪ .‬فبعد‬ ‫تدفق القوط الشرقيين والغربيين وقبائل الوندال وقبائل األالن‪ ،‬الذين عبروا نهر الراين‬ ‫عند مطلع القرن الخامس‪ ،‬شرع البورغنديون والفرنجة واأللمان (‪)les Alamans‬‬ ‫بدورهم في اقتحام أقاليم جنوب أوربا؛ بينما عبرت قبائل الجوت )‪)les Jutes‬‬ ‫واألنجل )‪ )les Angles‬والسكسون بحر الشمال في اتجاه الجزر البريطانية‪.‬‬ ‫واكتملت عمليات التدفق خالل هذه المرحلة باكتساح اللومبارديين ألجزاء من ايطاليا‬ ‫في النصف الثاني من القرن السادس‪.‬‬ ‫وأخذت خارطة أوربا السياسية تتشكل من جديد في ضوء هذه التحركات‬ ‫البشرية‪ .‬فقد تمكن الفرنجة من السيطرة على مجموع أقاليم غالة التي أسسوا بها مملكة‬ ‫تحت إمرة كلوڤيس (‪ .)Clovis‬بينما أسس القوط الشرقيون مملكة لهم بأقاليم شمال‬ ‫شرق ايطاليا تحت قيادة ثيودوريك (‪ .)Théodoric‬أما القوط الغربيون‪ ،‬الذين‬ ‫اضطروا إلى الجالء عن غالة‪ ،‬فقد نزحوا إلى شبه جزيرة أيبيريا التي أسسوا بها‬ ‫مملكة جرمانية‪.‬‬ ‫وكان من الممكن أن يفضي هذا التدفق البشري‪ ،‬الذي واكبته أحداث دامية‪ ،‬إلى‬ ‫حدوث شرخ عميق بين الوافدين والسكان األصليين ويؤثر سلبا على نشأة أوربا‪ ،‬ألن‬ ‫الوافدين كانوا يعتنقون المذهب اآلري‪ ،‬بينما كان السكان األصليون يعتنقون‬ ‫الكاثوليكية‪ ،‬ويرون المذهب اآلري بدعة وخروجا عن الدين‪ .‬غير أن تحول الغزاة إلى‬ ‫الكاثوليكية األرثوذكسية‪ ،‬حال دون حدوث هذا الشرخ‪ .‬ولتأكيد هذه الحقيقة‪ ،‬ال بأس‬ ‫من التذكير بأجواء التهدئة التي شهدتها أقاليم غالة بعد اعتناق كلوڤيس (‪)Clovis‬‬ ‫زعيم الفرنجة للمسيحية الكاثوليكية‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فالراجح أن شبكة العالقات اخذت تتشكل في خضم هذه‬ ‫األحداث‪ ،‬كما أنها بدأت تأخذ شيئا فشيئا بعدا أوربيا‪ .‬وعليه‪ ،‬فعندما كان يقع حدث ما‬ ‫في إقليم من األقاليم كانت أصداؤه تصل إلى مختلف أنحاء أوربا‪ .‬وللداللة على صدق‬ ‫ذلك‪ ،‬يكفي أن نسوق حادث وفاة القديسة جرثرود (‪ )Gertrude‬سنة ‪ .658‬فقد توفيت‬ ‫بضواحي بروكسيل‪ ،‬وبلغ نبأ وفاتها إلى مسامع الرهبان‪ ،‬وعموم رجال الدين‪،‬‬

‫‪27‬‬

‫بمختلف األنحاء‪ .‬وإذا كان هذا الحدث يفيد من جهة بأن رجال الدين كانوا يشتركون‬ ‫في اإلحساس باالنتماء إلى مجال جغرافي واحد هو أوربا‪ ،‬فإنه يحيل من جهة أخرى‬ ‫إلى مسألة أساسية اليزال لها حضور قوي في أوربا‪ ،‬وهي أن مركز الجاذبية السياسي‬ ‫والفكري في غرب أوربا بدأ ينتقل رويدا رويدا‪ ،‬ومنذ هذا الوقت المبكر‪ ،‬من األقاليم‬ ‫الرومانية المتوسطية إلى األقاليم الواقعة شمال جبال األلب‪ .‬تجسد االنتقال السياسي‪،‬‬ ‫على سبيل المثال‪ ،‬في كون فرنجة غالة اتخذوا من باريس‪ ،‬الواقعة في الشمال‪ ،‬قاعدة‬ ‫لمملكتهم‪ .‬وتجسد االنتقال الفكري في كون عدد من الموناستيرات االيرلندية أصبحت‬ ‫مراكز شهيرة مختصة في تأهيل المبشرين الذين كانوا يجوبون مختلف مناطق أوربا‬ ‫لنشر المسيحية‪ ،‬وتشييد الموناستيرات واألديرة‪.‬‬ ‫ويمكن ربط هذا التحول يحدثين بارزين‪ ،‬غدا لهما تأثير في مجرى التاريخ‬ ‫األوربي‪ :‬حدث أول داخلي يتصل بمدينة روما‪ .‬فقد تراجعت أسقفيتها‪ ،‬وفقدت الكثير‬ ‫من بريقها‪ .‬كما أنها أصبحت عرضة لتهديد "المتبربرين" من قوطيين ولومبارديين‪.‬‬ ‫ومن ثم‪ ،‬لم يعد حكام بيزنطة يعترفون بريادتها الدينية‪ .‬وفضال عن كل هذا وذاك‪ ،‬فإن‬ ‫هذه المدينة‪ ،‬التي كانت قاعدة اإلمبراطورية الرومانية لم تعد‪ ،‬من وجهة نظر سياسية‬ ‫وجغرافية‪ ،‬مركز العالم األوربي‪ .‬أما الحدث الثاني‪ ،‬فهو حدث خارجي‪ ،‬يتمثل في المد‬ ‫اإلسالمي الذي تجاوز مداه‪ ،‬في وقت من األوقات حدود شمال إفريقيا ليشمل مناطق‬ ‫عدة من أوربا كشبه جزيرة أيبيريا وجزيرتي صقلية وسردينيا‪ .‬فوقع تبعا لذلك تشكل‬ ‫جغرافي جديد كان من نتائجه حدوث تقابل بين أوربا الشمال وأوربا الجنوب‪ ،‬وصعود‬ ‫مراكز طرفدارية في أوربا الجديدة المسيحية‪ .‬تمثلت في المركز السلتي والمركز‬ ‫األنﯕلوسكسوني‪ ،‬اللذين سينضاف إليهما مستقبال المركز النورماندي‪ ،‬والمركز‬ ‫اإلسكندناﭭي‪ ،‬والمركزالسالﭭي‪ .‬بينما تحولت أقاليم البحر المتوسط إلى جبهة نشيطة‬ ‫لحركة االسترداد المسيحي‪ ،‬وفضاء للعالقات مع المسلمين الذين نجحوا حتى مطلع‬ ‫القرن الحادي عشر في السيطرة على هذا المجرى المائي‪ ،‬وفي فصل إفريقيا عن‬ ‫المسيحية وعن العالم المسيحي‪.‬‬ ‫ونستغل هذا المعطى األخير لإلشارة إلى أن انفصال إفريقيا عن أوربا‪ ،‬كان‬ ‫بدوره حدثا بارزا ذا داللتين‪ .‬فقد مثل‪ ،‬من جهة‪ ،‬خسارة بالنسبة للمسيحية التي فقدت‬ ‫مناطق في شمال إفريقيا كانت موطنا مهما للمسيحية خارج أوربا‪ .‬ساهمت‪ ،‬تلك‬ ‫المناطق‪ ،‬بدور بارز في إثراء الفكر الديني وفي التصدي للمناوئين للمسيحية من‬ ‫دوناتيين وغيرهم‪ .‬ولكن هذا الحدث شكل‪ ،‬من جهة أخرى مكسبا بالنسبة ألوربا في‬ ‫مسيرتها نحو الوحدة‪.‬‬

‫‪28‬‬

‫‪ )5‬حكومة األساقفة والرهبان‬ ‫شكلت الديانة المسيحية البوتقة التي انصهرت فيها مختلف فئات المجتمع‬ ‫األوربي خالل القرون األولى من العصر الوسيط‪ ،‬كما أعطت في نفس الوقت لجميع‬ ‫األقاليم نوعا من الوحدة والتجانس‪ .‬ومن هنا نفهم الدور المتميز الذي قام به األساقفة‬ ‫في إدارة الشأن العام و ملء الفراغ السياسي خاصة في الحواضر القليلة التي ظلت‬ ‫تقاوم األحداث والتطورات في أقاليم غرب أوربا‪ .‬وكان هؤالء األساقفة يمارسون‬ ‫سلطتهم في نطاق دوائر ترابية تتطابق عموما مع الدوائر التي كانت معروفة زمن‬ ‫سيادة روما‪.‬‬ ‫ألف األساقفة جانبا من هيئة رجال الدين التي أصبحت تضم‪ ،‬بالموازاة مع‬ ‫انتشار الديانة المسيحية‪ ،‬فئات كثيرة ‪ ،‬من بينها فئة الكهنة وفئة الرهبان‪.‬‬ ‫كان المنضوون في فئة الرهبان من النساك في األغلب األعم‪ ،‬ولكن لم يكن كل‬ ‫واحد منهم يعيش منفردا في عزلة كما تفيد بذلك التسمية التي يحملونها‪ ،‬بل كانوا‬ ‫يعيشون في طوائف‪ .‬وقد كان معظمهم يقيم في موناستيرات تقع خارج المدن‪ ،‬أو‬ ‫بمحاذاة النطاقات الغابوية‪ ،‬بينما آثر عدد منهم حياة الترحال والتنقل الدائم‪ .‬وعموما قام‬ ‫الرهبان المستقرون بدور بارز بين القرنين الرابع والثامن تجسد في نشر المسيحية في‬ ‫أوساط فالحي القرى‪ ،‬بينما ساهم الرهبان "الرحل" في نشر المسيحية في مناطق‬ ‫أخرى‪ .‬وقد اشتهر في هذا المضمار الرهبان اإليرلنديون الذين قاموا بدور متميز في‬ ‫نشر المسيحية في المناطق الممتدة بين شرق غالة وشمال ايطاليا‪.‬‬ ‫والجدير بالذكر في هذا المقام أن النشاط الديني لم يكن حكرا على الذكور‬ ‫وحدهم‪ .‬فقد آثر عدد من اإلناث حياة العذرية والعفة وانخرطن بدورهن في هيئات‪،‬‬ ‫وأقمن في موناستيرات‪ ،‬واشتهرن بنشاط ملحوظ في نشر المسيحية وفي رعاية ذوي‬ ‫الحاجة‪.‬‬ ‫‪ )6‬أبطال جدد ‪ :‬القديسون‬ ‫أفضت األوضاع الجديدة في أوربا إلى ظهور صنف جديد من األبطال احتلوا‬ ‫المكانة التي كان يحظى بها أبطال العصر القديم الذي سادته الوثنية‪.‬‬ ‫هؤالء األبطال الجدد هم القديسون الذين تميز الجيل األول منهم بكونهم قاموا‬ ‫ببطوالت خارقة‪ ،‬حيث لم يتردد الواحد منهم في وهب نفسه قربانا هلل تعالى‪ :‬إنهم‬ ‫"الشهداء"‪.‬‬ ‫ويبدو أن التدرج في فهم واستيعاب الديانة المسيحية بصورة أفضل‪ ،‬أفضى إلى‬ ‫تراجع عدد هؤالء الشهداء‪ ،‬مما فتح المجال لظهور فئة جديدة من رجال الدين هم‬

‫‪29‬‬

‫القديسون الذين خصتهم الكنيسة بحظوة‪ ،‬ووعدوا بأن يكونوا من أهل الجنة‪ ،‬فأصبحوا‬ ‫مجال تبجيل بين عموم الناس‪ ،‬بل تحول هذا التبجيل في كثير من الحاالت إلى تقديس‪.‬‬ ‫ومن المعلوم أن التقديس ال يكون إال هلل ‪ ،‬وهو وحده القادر على القيام بفعل‬ ‫خارق‪ ،‬ولكن فئات عريضة من عامة المجتمع ارتبطت القدسية في أذهانها بعدد من‬ ‫القديسين الذين اقترنت بأسمائهم بعض الخوارق و"الكرامات"‪ .‬فقد كانت عيادة أحد‬ ‫األحياء منهم‪ ،‬أو زيارة ضريح من توفي منهم‪ ،‬تشفي من المرض‪.‬‬ ‫وكان من نتائج هذا الوضع المتميز الذي حظي به القديسون‪ ،‬أن انضموا هم‬ ‫أيضا إلى التشكيلة المؤلفة من الرهبان والقساوسة وكبار رجال الدين الذين قدر لهم‬ ‫ممارسة السلطة خالل هذه المرحلة األولى من مراحل نشأة أوربا‪.‬‬ ‫‪ )7‬قياس جديد لﻠزمن‬ ‫كان لحركات الرهبنة تأثير واضح في طبائع أفراد المجتمع األوربي وفي نمط‬ ‫عيشهم وطرق تفكيرهم وسلوكهم اليومي‪ .‬فالرهبان‪ ،‬المنضوين في تلك الحركات‪،‬‬ ‫يؤدون‪ ،‬كما هو معروف‪ ،‬عددا من الصلوات في كل يوم‪ .‬ويوزعون تلك الصلوات‬ ‫بشكل منتظم على الليل والنهار‪ .‬كما أنهم يصومون خالل فترات معينة‪ ،‬ليس‬ ‫العتبارات دينية فقط‪ ،‬وإنما العتبارات صحية أيضا‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإلى هؤالء الرهبان‬ ‫يعزى الفضل في تعليم الناس كيفية تدبير شؤونهم اليومية‪ ،‬وكيفية تنظيم أوقات العمل‬ ‫وأوقات الراحة بشكل يفضي إلى إحداث نوع من االنسجام والتناوب في آن واحد بين‬ ‫أوقات العمل وأوقات الراحة‪.‬‬ ‫ومن هذا المنطلق‪ ،‬أعتقد بأن تأثير المسيحية كان جليا فيما يتعلق بمسالة قياس‬ ‫الزمن‪ ،‬رغم أن العمل بالتقويم الروماني ظل ساريا خالل العصر الوسيط‪ .‬ولكن هذا‬ ‫السريان ال يمنع من القول بأن ثمة مستجدات ظهرت في هذا الشأن ال يمكن إغفالها‪،‬‬ ‫ومن بينها اإليقاع والتدرج الذي أعطي أليام األسبوع‪ .‬فقد تم اتخاذ مسألة خلق الكون‬ ‫كمرجعية لتبني تدرج وتوالي السبعة أيام التي تمت فيها هذه النشأة‪ .‬وعلى هذا‬ ‫المنوال‪ ،‬أصبح األسبوع يتكون من ستة أيام باإلضافة إلى يوم سابع للراحة‪.‬‬ ‫والمالحظ أن يوم الراحة احتل موقعا متميزا في رزنامة هيئة رجال الدين‪ ،‬على‬ ‫مختلف مشاربهم‪ ،‬وأصبح جميع المسيحيين‪ ،‬على مختلف انتماءاتهم السوسيو– مهنية‬ ‫ملزمين به حتى أن شارلمان اضطر إلى تقديم ملتمس للكنيسة الستثناء الفالحين‬ ‫وإسقاط هذا االلتزام عنهم ألن طبيعة نشاطهم االقتصادي تقتضي العمل الدؤوب طوال‬ ‫أيام األسبوع‪ ،‬وخاصة خالل مواسم الحصاد وجني المحاصيل‪.‬‬ ‫ومما الشك فيه أن تأثير المسيحية كان جليا في عملية التقويم التي شهدت بعض‬ ‫مظاهر التجديد فيما يتعلق بنقطة االنطالقة أو المبتدى‪ .‬فقد اقترح الراهب ديونيسيوس‬

‫‪30‬‬

‫(‪ ( )Dionysius‬دوني الصغير (‪ )Denys le Petit‬منذ سنة ‪ 532‬أن يتخذ‬ ‫المسيحيون من مولد المسيح منطلقا لتاريخهم‪ .‬ولكن األمر لم يكن بهذا اليسر‪ ،‬ولذلك‬ ‫ظلت الكنيسة تتردد لفترة من الزمن في تحديد يوم معين تبتدأ فيه السنة في مجموع‬ ‫األقاليم التي كانت تسود فيها المسيحية‪ .‬وقد تم في األخير اختيار ثالثة تواريخ لتكون‬ ‫منطلقا هي‪ 25 :‬دجنبر(الذي يحيل إلى مسألة التجسد) و‪ 25‬مارس ( الذي يحيل إلى‬ ‫يوم البشرى) والفصح (الذي يبقى يوما متحركا يقتضي من القائمين على الشأن الديني‬ ‫القيام بعمليات حسابية معقدة كل سنة ومراقبة حركة القمر لتحديده)‪.‬‬ ‫وبناء عليه‪ ،‬فإن التقويم المسيحي هو في مجمله تقويم شمسي‪ ،‬أصبح جميع‬ ‫األوربيين‪ ،‬باستثناء أوربيي األقاليم الشرقية األرثوذوكسية‪ ،‬يخلدون بمقتضاه كل سنة‬ ‫حفلين جديدين كبيرين‪ ،‬هما حفل ميالد المسيح‪ ،‬الذي تم االتفاق منذ القرن الرابع على‬ ‫إحيائه عند حلول يوم ‪ 25‬دجنبر من كل سنة‪ ،‬وحفل تخليد انبعاث السيد المسيح‪ ،‬أو‬ ‫عيد الفصح‪ ،‬الذي لم يتم تحديد يوم معين إلحيائه‪ ،‬إذ ترك يوما متحركا كما سبق‬ ‫القول‪.‬‬ ‫ويبدو أن جهود رجال الدين الهادفة إلى صياغة منظومة جديدة لقياس الزمن‪،‬‬ ‫لم تتوقف فقط عند الجوانب النظرية المتصلة بهذا القياس‪ ،‬بل تجاوزت هذا المستوى‬ ‫النظري ألجرأة بعض مظاهر قياس الزمن على أرض الواقع‪ .‬وتجلت هذه األجرأة في‬ ‫اللجوء إلى استعمال األجراس (أو النواقيس)‪ .‬فتم لهذا الغرض تشييد أبراج ثبت بقمة‬ ‫كل واحد منها جرس كبير أو مجموعة أجراس كانت تقرع معلنة بداية الساعة‪ .‬وقد بدأ‬ ‫العمل بهذه التقنية منذ القرن السابع‪ .‬ورغم أن عملية ضبط التوقيت ظل يتحكم فيها‬ ‫الرهبان‪ ،‬فإن اإلشعار الصوتي بحلول الساعة أصبح يصل إلى مسامع الناس في‬ ‫الحواضر‪ ،‬كما في البوادي‪ .‬فمثل هذا الحدث بحق سابقة في تاريخ أوربا كان لها أبلغ‬ ‫األثر‪.‬‬ ‫‪ )8‬إعادة تشكيل المجال‬ ‫لم ينحصر حضور الديانة المسيحية في مسألة إعادة صياغة الزمن‪ ،‬بل‬ ‫تجاوزها ليسجل حضورا ملفتا أيضا في عملية إعادة تشكيل المجال‪ ،‬التي ال تقل هي‬ ‫األخرى أهمية‪.‬‬ ‫وقد تجلت هذه العملية في تقسيم التراب األوربي إلى "ديوسيزات" )‪des‬‬ ‫)‪ . diocèses‬وهي عبارة عن مجموعة دوائر ترابية كانت منتظمة في شبكات تمتد‬ ‫كل واحدة منها طوال وعرضا بين عدة نقاط أو مراكز‪.‬‬ ‫وبما أن هذا التقسيم الترابي تم تحت تأثير المسيحية‪ ،‬فقد كان من الطبيعي أن‬ ‫ترتقي إلى الواجهة مراكز دينية أو مواضع تحتضن مدافن بعض الرهبان أو القديسين‪.‬‬

‫‪31‬‬

‫فأصبحت هذه المراكز والمواضع بدورها نقاط ربط في تلك الشبكات‪ ،‬كما هو الشأن‬ ‫بالنسبة لمدفن القديس بطرس في مدينة تور‪ ،‬أو مدفن القديس بولس في روما‪ .‬وقد‬ ‫أفضت عملية تقديس القديسين األحياء واألموات إلى ارتفاع وتيرة الزيارات التي كان‬ ‫يقوم بها عموم المسيحيين لمواطن‪ ،‬ومراقد هؤالء القديسين‪ .‬فتحولت تلك الزيارات‬ ‫إلى حركة حجيج وطدت الصالت بين مسيحيي مختلف مناطق أوربا‪ .‬واألهم من ذلك‪،‬‬ ‫هو أن حركة الحجيج تلك أصبحت منتظمة ذهابا وإيابا عبر محطات‪ ،‬غدت هي‬ ‫األخرى مراكز في الشبكات التي سبق الحديث عنها‪ .‬وأستحضر في هذا السياق مثال‬ ‫موناستير فلوري (‪ )Fleury-sur-Loire‬الذي أصبح منذ القرن السابع أحد أكبر‬ ‫المراكز التي يؤمها الحجاج بعد أن نقلت إليه بقايا رفات القديس بينوا "النورسي"‬ ‫(‪ )Saint Benoît de Nursie‬الذي كان مدفونا في موضع مهجور بجبل كاسان‬ ‫"مونتي كاسينو" (‪ )mont Cassin‬جنوب ايطاليا منذ وفاته خالل أحداث الغزو‬ ‫اللومباردي‪.‬‬ ‫‪ )9‬قطبان طاردان ‪ :‬بيزنطة واإلسالم واالختيار بين الصور‬ ‫يتضح أن ثمة حدثان بارزان "سلبيان" كان لهما دور حاسم في نشأة أوربا بين‬ ‫القرنين السابع والرابع عشر ألنهما أفضيا إلى انبثاق هوية دينية أو "وطنية" في‬ ‫مجموع مناطق أوربا‪ .‬يتمثل هذان الحدثان في تنامي قوة كل من بيزنطة واإلسالم‬ ‫اللذان شكال قطبين طاردين‪.‬‬ ‫كانت بيزنطة تاريخيا أول قطب طارد من خالل سعي القائمين عليها إلى بسط‬ ‫سيادتهم على كامل مناطق العالم المسيحي الرومانية واإلغريقية أيضا‪ ،‬وامتناعهم عن‬ ‫االعتراف بأسقفية روما‪ ،‬ورفضهم اإلقرار باختالف لغة العبادة والشعائر الدينية التي‬ ‫كانت تتم بالالتينية في مناطق‪ ،‬وباإلغريقية في مناطق أخرى‪.‬‬ ‫والراجح أن الخالفات "الفقهية" أي الالهوتية بين مسيحيي بيزنطة والمسيحيين‬ ‫الالتينيين‪ ،‬ساهمت بدورها في خلق هوة بين الطرفين‪ .‬وسرعان ما ازدادت هذه الهوة‬ ‫اتساعا بفعل موقفهما المتباين من مسألة الصور أو األيقونات‪ .‬ويجدر التذكير في هذا‬ ‫الشأن بأن المسلمين واليهود رفضوا بصفة قطعية الصور‪ ،‬وما له صلة بالتصوير‪ ،‬أما‬ ‫في بيزنطة‪ ،‬فقد خلق الموقف منها أزمة حادة‪ ،‬بينما تبنت الكنيسة المسيحية في غرب‬ ‫أوربا موقفا مرنا؛ على اعتبار أنها أجازت عملية تجسيد وتصوير السيدة العذراء‬ ‫وسائر القديسين‪ ،‬ولم تسمح بأن تصبح هذه المجسمات أو الصور موضوع تقديس أو‬ ‫تاليه‪ .‬وقد كان هذا الموقف‪ ،‬يمثل مقدمة في اتجاه إرساء أسس الحركة اإلنسية التي‬ ‫شهدتها أوربا فيما بعد‪ ،‬ألن الفن الذي كان أحد تجليات تلك الحركة‪ ،‬لم يجد أمامه‬ ‫عوائق تحول دون تطوره‪.‬‬

‫‪32‬‬

‫ومهما بلغ مستوى االختالف بين مسيحيي بيزنطة والمسيحيين الالتينيين‪،‬‬ ‫فيبدو‪ ،‬أنه كان أقل حدة من االختالف بين مسيحيي غرب أوربا والمسلمين‪ .‬فقد ناصب‬ ‫كل واحد منهما العداء لآلخر منذ القرن السابع‪ .‬وكثيرا ما اكتسى هذا العداء طابع‬ ‫الصراع المسلح‪.‬‬ ‫فبعد أن تمكن المسلمون من فتح مناطق شمال إفريقيا‪ ،‬عبروا البحر المتوسط‪،‬‬ ‫كما هو معروف‪ ،‬ونجحوا في بسط سيطرتهم على معظم مناطق شبه جزيرة أيبيريا‬ ‫في ظرف وجيز بين سنتي ‪ 711‬و‪ .719‬ولم تعد بحوزة مسيحييها سوى مناطق‬ ‫محدودة في الشمال الغربي‪ .‬بل إن المسلمين تجاوزا شبه جزيرة أيبيريا ونجحوا في‬ ‫عبور جبال البرانس دون أن يعرف أحد‪ ،‬على وجه التحديد‪ ،‬هل كان عبورهم من أجل‬ ‫الحصول على غنائم أم من أجل مواصلة نشر اإلسالم‪.‬‬ ‫وعلى كل‪ ،‬فقد تم وضع حد لمسيرتهم في وقعة بواتيي سنة ‪ .732‬فكانت آخر‬ ‫عملياتهم في أقاليم ما وراء جبال البرانس‪ ،‬رغم أنهم قاموا بعمليات أخرى خالل القرن‬ ‫التاسع في بعض جزر البحر المتوسط وفي ايطاليا وفي إقليم بروڤونس‪.‬‬ ‫والجدير بالذكر أن وقعة بواتيي أسالت كثيرا من المداد في أوربا وفرقت‬ ‫المؤرخين إلى فريقين‪ :‬فريق يقول بأنها كانت مجرد مناوشات عسكرية غير ذات‬ ‫معنى‪ ،‬و فريق يقول بأنها كانت حدثا حاسما في الواقع وفي المخيال أيضا‪.‬‬ ‫وأعتقد من جانبي أن الحقيقة تكمن من دون شك بين الموقفين‪ .‬واألهم بالنسبة‬ ‫للقضية المركزية التي نروم توضيحها في الكتاب هو أن وقعة بواتيي تم اإلحساس بها‬ ‫من قبل بعض اإلخباريين المسيحيين كحدث أوربي‪ .‬وخير مثال يمكن أن نسوقه في‬ ‫هذا الصدد يتمثل في مؤرخ مجهول‪ ،‬وضع إخبارية تذيل إخبارية ايزيدور االشبيلي‪،‬‬ ‫يعتبر فيها االنتصار في وقعة بواتيي بأنه انتصار لجميع األوربيين‪.‬‬ ‫‪ )10‬أريفة أوربا‬ ‫شهدت القرون األولى من العصر الوسيط ثالثة تحوالت ساهمت في إضفاء‬ ‫طابع الوحدة على أوربا‪ ،‬وخاصة على مناطقها الغربية‪.‬‬ ‫هم التحول األول الحياة االقتصادية‪ .‬وتجلى في اتجاه عالم بأكمله نحو األريفة‬ ‫بعد أن كان يطغى عليه الطابع المديني خالل العهد الروماني‪ .‬فقد تدهورت الشبكة‬ ‫الطرقية والورشات والمستودعات‪ .‬كما تراجعت كل المنشآت المبنية من مواد صلبة‪،‬‬ ‫على رأسها الحجارة‪ ،‬وبذلك تراجعت التقنية المتصلة بكل ما له صلة بالحجارة لفائدة‬ ‫تقنية األخشاب التي سجلت عودة قوية‪ .‬وتبعا لذلك غدت األرياف مجال مختلف‬ ‫األنشطة االقتصادية واالجتماعية‪ .‬وغدا "المنصوص" (‪،)le manse( )mansus‬‬ ‫وهو عبارة عن قطعة أرض صغيرة المساحة ال تكفي مواردها إال إلعالة أسرة‬

‫‪33‬‬

‫واحدة‪ ،‬وحدة استيطان ووحدة إنتاج‪ .‬كما تراجع االقتصاد القائم على النقد لفائدة‬ ‫مبادالت تقوم على المقايضة‪ .‬واختفت المبادالت التجارية البعيدة المدى‪ ،‬باستثناء‬ ‫بعض المواد الضرورية كمادة الملح‪.5‬‬ ‫وأميل انطالقا من هذه المعطيات‪ ،‬إلى تبني وجهة النظر القائلة بالتدهور الشامل‬ ‫للمدن ولمظاهر الحضارة التي كانت تحتضنها‪ .‬وال أشاطر القائلين بأن التدهور كان‬ ‫محدودا‪ .‬ويكفي أن نذكر في هذا المقام بأن مدنا قليلة فقط هي التي ظلت تقاوم إلى حد‬ ‫ما االتجاه العام نحو األريفة‪ ،‬ومن بينها مدينة تور ومدينة ريمس ومدينة ليون ومدينة‬ ‫تولوز ومدينة ميالنو‪.‬‬ ‫‪ )11‬الممالك والقوانين البربرية‬ ‫هم التحوالن الثاني والثالث الحياة السياسية ومنظومة القوانين‪ .‬فقد تمت اعادة‬ ‫تشكيل الخارطة السياسية في أوربا بعد انهيار اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬وذلك بظهور‬ ‫كيانات سياسية على رأسها ملوك كانوا في األغلب األعم‪ ،‬قبل اعتالئهم لسدة الحكم‪،‬‬ ‫زعماء قبائل‪ .‬وقد عملوا على توسيع دائرة نفوذهم واجتهدوا في تنظيم ممالكهم‪ ،‬فذاع‬ ‫صيتهم كما هو الشأن بالنسبة لثيودوريك ملك القوط الشرقيين‪ ،‬وكلوڤيس ملك الفرنجة‪،‬‬ ‫اللذي ن اشتهرا أيضا بإصدارهما لمنظومات قوانين لتنظيم العالقات والمعامالت بين‬ ‫سكان مملكتيهما‪.‬‬ ‫كانت تلك المنظومات القانونية في البدء عبارة عن أعراف‪ .‬فقام أهل النظر بعد‬ ‫ذلك بإثرائها بمجموعة من القوانين الرومانية وتدوينها‪ ،‬ولذلك ظل يغلب عليها الطابع‬ ‫البربري (الجرماني)‪ .‬وهي في مجملها عبارة عن بنود ومواد تهم األسعار والذعائر‬ ‫وقيمة التعويضات النقدية وصيغ اإلكراهات البدنية الواجبة في حق المذنبين‪ ،‬كل‬ ‫حسب انتمائه اإلثني واالجتماعي‪.‬‬ ‫وأتفق مع معظم الباحثين في القول بأن تلك المنظومات لم ترق إلى مستوى‬ ‫التطور الذي بلغته ترسانة القوانين في العهد الروماني‪ ،‬وبالرغم من ذلك‪ ،‬ساهمت في‬ ‫ضمان نوع من االستمرارية القانونية خالل القرون األولى من العصر الوسيط‪ ،‬لتظل‬ ‫أوربا بذلك مجاال جغرافيا تتحكم مجموعة قوانين في تنظيم العالقات والمعامالت بين‬ ‫األفراد المستقرين في مختلف أنحائه كما كان الشأن قبل انهيار اإلمبراطورية‬ ‫الرومانية‪.‬‬

‫‪ - 5‬للوقوف على طبيعة هذه التحوالت يمكن االطالع على كتاب الباحثة روني دوهير (‪: )Renée Doehaerd‬‬ ‫‪Le Haut Moyen Age occidental. Economies et sociétés, Paris, P.U.F., 1971.‬‬

‫‪34‬‬

‫الفصل الثاني‬ ‫أوربا مجهضة‬ ‫العالم الكارولنجي‬ ‫(بين القرنين الثامن والعاشر)‬

‫تمثل الفترة الكارولنجية الحقبة التي شهدت أهم محاولة لبناء أوربا الموحدة‪.‬‬ ‫وقد ارتبطت هذه المحاولة بشخص شارلمان الذي أقام إمبراطورية‪ ،‬تعد بحق مقدمة‬ ‫في مسلسل بناء أوربا الموحدة‪.‬‬ ‫ويجب التنبيه‪ ،‬قبل المضي قدما في تفصيل الموضوع‪ ،‬من أي تأويل خاطئ‬ ‫لهذه المسألة ألن نظرة شارلمان كان يغلب عليها في البدء طابع "وطني"‪ ،‬أو نوع من‬ ‫الشعور القوي باالنتماء إلى الفرنجة‪ .‬ويتجلى هذا األمر في كون اإلمبراطورية التي‬ ‫أقامها كانت إمبراطورية إفرنجية في المقام األول؛ كما يتجلى أيضا في كون هذا‬ ‫الملك‪-‬اإلمبراطور فكر مرة في إعطاء أسماء إفرنجية لألشهر التي تتألف منها السنة‬ ‫الميالدية‪ .‬ومثل هذه المعطيات أساسية‪ ،‬وقليال ما نبه إليها الباحثون‪ ،‬ولذلك ال مناص‬ ‫من استحضارها عند الحديث عن المصير الذي آل إليه مشروع شارلمان‪ ،‬ألن فشله‪،‬‬ ‫يمثل أول فشل لجميع المحاوالت التي رامت بناء كيان أوربي موحد‪ ،‬يهيمن عليه‬ ‫شعب أو إمبراطورية‪ .‬وبناء على ما تقدم‪ ،‬فإن المحاوالت التالية التي قام بها كل من‬ ‫شارل الخامس أو نابليون بونابارت أو أدولف هتلر‪ ،‬كانت في عمقها محاوالت‬ ‫مناهضة لمشروع الكيان الموحد (‪ )des tentatives anti-Europe‬ولدلك انتهت‬ ‫إلى الفشل‪ .‬وتتضمن محاولة شارلمان بدورها شيئا قليال من هذا المصير‪.‬‬ ‫‪ )1‬صعود الكارولنجيين‬ ‫تحقق صعود الكارولنجيين كقوى فاعلة في غالة عبر مرحلتين ‪ :‬كانت األولى‬

‫‪35‬‬

‫بين نهاية القرن الخامس ونهاية القرن الموالي‪ ،‬زمن حكم كلوڤيس وأبنائه‪ .‬وكانت‬ ‫الثانية خالل القرن الثامن‪.‬‬ ‫فقد كان يحكم مملكة غالة منذ قيامها سنة ‪ 511‬ملوك ينحدرون من األسرة‬ ‫الميروڤنجية‪ .‬وحدث أن أصبح يحكمها منذ مطلع القرن السابع ملوك مجردين من أي‬ ‫سلطة فعلية‪ ،‬عرفوا في العصر الوسيط بالملوك "الغير مجديين" أو "الملوك اللذين ال‬ ‫لزوم لهم"‪ .‬وعرفهم المؤرخون المحدثون "بالملوك الكسالى"‪ .‬ترك كل واحد منهم أمر‬ ‫تدبير شؤون المملكة بين يدي قطب‪ ،‬يقوم بتدبير دواليب السلطة‪ ،‬يعرف بمحافظ‬ ‫القصر (‪ .)le maire du palais‬كان يتم اختيار هذا األخير من بين أفراد األسرة‬ ‫البيبينية (‪ )les Pippinides‬المنحدرة من منطقة لييج (‪ ،)Liège‬ومع مرور الزمن‬ ‫أصبحت هذه وظيفة محافظ القصر متوارثة أبا عن جد‪.‬‬ ‫ويعتبر شارل‪ ،‬المعروف "بشارل المطرقة" (‪ )Martel Charles‬أبرز هؤالء‬ ‫المحافظين‪ .‬تحمل مهام "المحافظة" سنة ‪ 714‬بعد أبيه بيبن هرسطال ( ‪Pépin‬‬ ‫‪ .)d’Héristal‬وقد طبقت شهرته اآلفاق‪ ،‬وعد الملك الفعلي بعد االنتصارات التي‬ ‫حققها في مختلف الوقائع التي خاضها‪ ،‬وأشهرها وقعة بواتيي ضد المسلمين‪.‬‬ ‫واعتلى بعد وفاته سدة الحكم ابنه بيبن (‪ )Pépin‬الذي نجح في استثمار شهرة‬ ‫ونفوذ أبيه‪ ،‬فانفرد بالحكم وأزاح آخر الملوك الميروڤنجيين‪ .‬ووضع التاج الملكي على‬ ‫رأسه سنة ‪ 751‬في مجمع ضخم انعقد ببلدة سواسون (‪ )Soissons‬حضره كبار‬ ‫األعيان من الخاصة الالئكيين وكبار رجال الدين‪.‬‬ ‫واألهم من كل هذا وذاك‪ ،‬هو أن عملية "تنصيب" بيبن‪ ،‬تمت للمرة الثانية سنة‬ ‫‪ 754‬ببلدة سان‪ -‬دوني (‪ )Saint-Denis‬تحت إشراف البابا‪ .‬وكان بمعية بيبن ساعة‬ ‫حدوثها ابناه كارلمان (‪ )Carloman‬وشارل (‪ .)Charles‬كانت العملية غنية‬ ‫بالرموز وذات دالالت قوية‪ ،‬وتفيد بعودة أحد الطقوس الدينية المهمة المواكبة لعملية‬ ‫تنصيب شخص كملك وكقائد مسيحي في ذات الوقت‪ .‬ومثل هذه الطقوس ترسخ هيبة‬ ‫المملكة على امتداد سنوات وقرون‪ ،‬ولذلك نرى أن امتداداتها ما زالت قوية الحضور‬ ‫في أوربا إلى يومنا هذا‪.‬‬ ‫وأرى أنه من المفيد التذكير في هذا الصدد بأن ملوك القوط الغربيين حاولوا‪،‬‬ ‫زمن حكمهم لشبه جزيرة أيبيريا‪ ،‬أجرأة الطقوس الدينية المواكبة لعملية التنصيب‪،‬‬ ‫غير أن محاوالتهم باءت بالفشل‪ .‬ولم يسع الملوك الذين حكموا خالل فترة حرب‬ ‫االسترداد أو بعدها إلى إحياء هذه الطقوس‪ .‬وإن أنجلترا وحدها هي التي ظل فيها‬ ‫الملوك‪ ،‬منذ القرن الثامن‪ ،‬متشبثين بعملية وضع تاج الملك على رؤوسهم في خضم‬ ‫احتفاالت وطقوس دينية‪ ،‬ولذلك ظلت هناك منافسة خفية بين ملوك فرنسا وملوك‬ ‫أنجلترا طيلة العصر الوسيط‪ .‬وكان ملوك فرنسا يتشبثون بأحقية ممالكهم وأسبقيتها في‬

‫‪36‬‬

‫أن تكون ممالك مقدسة‪ ،‬ألنهم ظلوا يعتقدون بأنهم (هم وممالكهم) ورثوا هذه القدسية‬ ‫منذ فترة تعميد كلوڤيس بعد اعتناقه للمسيحية‪ .‬وكان من الطبيعي أن تحظى مسألة‬ ‫قدسية الملك والمملكة بمثل هذه األهمية ألن لقب اإلمبراطور لم يعد متداوال منذ سقوط‬ ‫اإلمبراطورية الرومانية‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن بيبن (‪ )Pépin‬الملك "المقدس" توفي سنة ‪،768‬‬ ‫وترك الحكم بين يدي ابنيه كارلمان وشارل جريا على عادة الملوك الفرنجة‪ .‬فاقتسم‬ ‫األخوان المملكة‪ ،‬غير أن كارلمان لم ينعم بطعم الحكم والسلطة لفترة طويلة‪ ،‬إذ وافته‬ ‫المنية ثالث سنوات بعد وفاة أبيه‪ ،‬فانفرد شارل بالحكم ووطد سلطة األسرة‬ ‫الكارولنجية في مملكة غالة‪.‬‬ ‫‪ )2‬شارلمان األوربي األول؟‬ ‫يعتبر شارلمان‪ ،‬من وجهة نظر التقاليد اإلفرنجية والبربرية (الجرمانية) محاربا‬ ‫مقداما قبل كل شيء‪ .‬وقد خاض بالفعل سلسلة حروب طويلة واكبتها عمليات نشر‬ ‫للديانة المسيحية‪ .‬وجرت وقائع تلك الحروب‪ ،‬كما هو معروف‪ ،‬في مجال جغرافي‬ ‫واسع امتد بين شرق غالة وجنوبيها الشرقي والغربي‪.‬‬ ‫ففي الجبهة الشرقية‪ ،‬تركزت الوقائع التي خاضها في جنوب وشمال جرمانيا‪.‬‬ ‫وتأرجحت بين االنتصار الكاسح واالنتصار المحدود‪ .‬فقد تمكن محاربوه من هزم‬ ‫اآلڤاريين (‪ )les Avars‬وضم منطقة بڤاريا لحظيرة مملكة غالة سنة ‪ .788‬غير أنهم‬ ‫لم يالقوا نفس النجاح ضد السكسونيين‪ ،‬رغم سلسلة الحمالت العنيفة التي قاموا بها‬ ‫ضدهم بين سنتي ‪ 772‬و‪.803‬‬ ‫أما في الجبهة الجنوبية‪ ،‬فتركزت حروبه في ايطاليا وفي شبه جزيرة أيبيريا‪.‬‬ ‫وتأرجحت حصيلتها هي األخرى بين النجاح الباهر واالنتصار المحدود‪ .‬فقد كان‬ ‫االنتصار كاسحا ضد اللومباردين الذين أزاحهم عن معظم مناطق ايطاليا الوسطى‪،‬‬ ‫وحمل تاج ملكهم على رأسه‪ ،‬مستغال في حمالته ضدهم دعوة البابا الستئصال شأفتهم‬ ‫بعد أن اقتطعوا أجزاء من ممتلكات البابوية‪ ،‬وتجرؤوا غير ما مرة على اقتحام مدينة‬ ‫روما‪ .‬وعلى العكس من ذلك‪ ،‬لم يحالفه الحظ ضد مسلمي شبه جزيرة أيبيريا‪ .‬فقد عاد‬ ‫محاربوه منها بخفي حنين بعد وقعة الرونسڤال الشهيرة‪ .6‬ولم يعد لهم من موطئ قدم‬ ‫‪ - 6‬تدعى أيضا وقعة الروسنسﭭال في الدراسات األوربية‪ ،‬ووقعة باب الشزري في الدراسات العربية‪ .‬والواقع أنها لم‬ ‫تكن معركة بالمعنى المتعارف عليه‪ ،‬بقدر ما كانت عبارة عن هجوم مباغت قام به فيلق من المحاربين البشكنس على‬ ‫المحاربين الذين كانوا يشكلون مؤخرة الجيش الفرنجي عند عبورهم لممر الرونسﭭال (‪ )Col de Roncevaux‬الواقع‬ ‫غرب جبال البرانس‪ .‬وتذكر بعض الروايات أن البشكنس قاموا بذلك الهجوم (الذي حدث يوم ‪ 15‬غشت ‪ )778‬انتقاما من‬ ‫الفرنجة الذين شنوا حملة على مدينة بنبلونة (‪ ،)Pamplona‬قصد التزود بالمؤونة فيما يبدو‪ ،‬وهم عائدين الى غالة بعد‬ ‫"حركة" قاموا بها في األندلس للسيطرة على مدينة سرقسطة وضمها الى بعض مدائن وقرى شبه جزيرة أيبيريا ←‬

‫‪37‬‬

‫بها سوى الثغر الذي سيشكل فيما بعد قمطية قطلونيا باإلضافة إلى بعض األراضي‬ ‫الواقعة في منطقة الالنﯕدوك‪.‬‬ ‫‪ )3‬التحالف بين الفرنجة والبابوية‬ ‫شارلمان إمبراطورا‬ ‫تكللت استجابة شارلمان لنداء البابا بانتصارات بينة ردت االعتبار للبابوية‪.‬‬ ‫فشكلت بذلك فرصة لتمتين الروابط بين الفرنجة وهذه المؤسسة الدينية العتيدة‪.‬‬ ‫ويبدو‪ ،‬أن البابوية وجدت في األسرة الكارولنجية مناصرا قويا يمكن أن تعتمد‬ ‫عليه في تحقيق مشروع ذي صبغة "أوربية"‪ ،‬كانت بصدد التفكير في انجازه‪ ،‬وهو‬ ‫إعادة إرساء دعائم الغرب األوربي كإمبراطورية تحت سلطة الكارولنجيين‪ .‬وهذا ما‬ ‫تحقق بالفعل في خضم احتفاالت البابوية بحلول سنة ‪ 800‬التي شرفها شارلمان‬ ‫بحضوره‪ .‬فوضع البابا ليون الثالث (‪ )Léon III‬التاج اإلمبراطوري على رأسه‪.‬‬ ‫ويمكن الجزم بأن هذا الحدث كان يخدم المسيحية الالتينية الغربية في توجهها‬ ‫الحديث النشأة نحو االستقالل عن اإلمبراطورية البيزنطية اإلغريقية األرثوذوكسية‪.‬‬ ‫وكان للحدث‪ ،‬بطبيعة الحال تداعيات وامتدادات تحكم الواقع التاريخي في مجراها‪،‬‬ ‫فجعل من شارلمان أبا ألوربا‪.‬‬ ‫وال يمكن اإلنكار بأن نصوصا كثيرة تعود للقرن التاسع للميالد تنعت شارلمان‬ ‫بلقب "رأس أوربا" (‪ .)tête de l’Europe‬والواقع أن اللقب كان مجرد تشريف‪،‬‬ ‫ومجرد تعبير خيالي‪ ،‬أكثر من كونه صورة حقيقية للواقع التاريخي‪ ،‬على اعتبار أن‬ ‫أوربا "الشارلمانية" كانت أوربا محدودة من الوجهة الترابية‪ ،‬ألن رقعتها الجغرافية لم‬ ‫تكن تشمل الجزر البريطانية التي كانت مستقلة يحكمها األنجلوسكسونيون‬ ‫وااليرلنديون‪ .‬كما لم تكن تشمل شبه جزيرة أيبيريا التي كان يحكم معظم مناطقها‬ ‫المسلمون‪ .‬وباإلضافة إلى ذلك لم تكن تشمل مناطق ايطاليا الجنوبية وجزيرة صقلية‪،‬‬ ‫فضال عن مناطق العالم اإلسكندناڤي التي ظلت مجاال وثنيا ينطلق منه الڤيڪينﯕ‬ ‫النورمانيون للسلب‪ ،‬أو لفرض مبادالت تجارية تكون لصالحهم‪.‬‬ ‫وخالصة القول هي أن المناطق التي كانت تدخل فعال ضمن دائرة نفوذ‬ ‫الكارولنجيين‪ ،‬كانت تقع شرق نهر الراين‪ .‬بل إن معظم مناطق جرمانيا كانت خارج‬ ‫نفوذهم‪ ،‬وخاصة منها مواطن السالڤيين التي ظلت وثنية‪ ،‬وتمتنع عن السقوط في‬ ‫سبق أن بسطوا عليها سيادتهم‪ .‬ويستفاد من إحدى الدراسات الحديثة‪ ،‬التي تناولت موضوع الوقعة‪ ،‬أن مؤخرة الجيش‬ ‫الفرنجي‪ ،‬الذي كان مؤلفا من حوالي ‪ 15000‬محارب‪ ،‬ابيدت عن آخرها‪ .‬أنظر كتاب الباحث الباسكي‪ -‬الفرنسي بيير‬ ‫ناربيتز ‪:‬‬ ‫‪Pierre Narbaitz, Orria, ou la bataille de Rncevaux (15 aout 778), Bayonne, Les Editions,‬‬ ‫‪Zabal, 1978.‬‬

‫‪38‬‬

‫قبضة الكارولنجيين‪.‬‬ ‫ولعل أهم حقيقة يمكن استخالصها في هذا المجال‪ ،‬هي أن عملية التتويج التي‬ ‫وضعت البابوية خطتها وشارك شارلمان في تنفيذها بكل طواعية وتلقائية‪ ،‬كانت في‬ ‫جوهرها عبارة عن عودة إلى الماضي‪ .‬كما كانت عبارة عن سعي حثيث إلحياء‬ ‫اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬أكثر من كونها مشروع مستقبل‪ ،‬يتم توجيه مصير أوربا‬ ‫على هداه‪.‬‬ ‫والشك أن شارلمان حين قرر إنشاء أيكس الشابيل (‪)Aix-la-Chapelle‬‬ ‫كحاضرة جديدة لمملكته في الموطن القديم الذي ينتمي إليه الفرنجة كان يفكر أن يجعل‬ ‫منها "روما القادمة"‪ .‬ويمثل هذا اإلجراء تحديا لروما الجديدة‪ ،‬أي القسطنطينية‪.‬‬ ‫واألهم من ذلك‪ ،‬هو أن هذا اإلجراء كان عبارة عن رؤية إلى الخلف نحو روما التي‬ ‫لم تكن قاعدة إلمبراطورية كارولنجية أوربية‪ ،‬وإنما عاصمة لبابا ال يمتلك من القوة‬ ‫والنفوذ سوى النزر اليسير‪.‬‬ ‫وشاءت األقدار أن تتراجع مكانة أيكس الشابيل بعد وفاة شارلمان‪ .‬ولم تعد‬ ‫عاصمة للغرب‪ ،‬رغم ما نسج حولها في مؤلفات العصر الوسيط‪ .‬والواقع أن مجموعة‬ ‫منشآت فقط‪ ،‬هي التي ظلت قائمة بها تشهد على حلم شارلمان‪ .‬وإن بعض التظاهرات‬ ‫ذات الطابع األوربي التي تحتضنها هذه المدينة بين فينة وأخرى‪ ،‬ليست سوى مجرد‬ ‫تعابير عن الحنين إلى الماضي‪.‬‬ ‫وفي ضوء ما تقدم من معطيات‪ ،‬يمكن الحكم على التجربة الكارولنجية بكونها‬ ‫كانت تجربة فاشلة‪ ،‬إذا ما وضعت في المدى الطويل‪ ،‬ونظر إليها طبعا كتجربة‬ ‫وحدوية‪.‬‬ ‫ولتزكية هذا الحكم‪ ،‬ال بأس من إحالة القارئ على فقرة من بحث سبق أن عبر‬ ‫فيها المؤرخ االيطالي‪-‬األمريكي روبيرتو سباتينو لوبيز ( ‪Roberto Sabatino‬‬ ‫‪ )Lopez‬عن وجهة نظره في الموضوع‪ .‬وقد ورد في تلك الفقرة ما يلي ‪ " :‬ال يمكن‬ ‫بأي وجه أن ننعت أمرا بكونه يمثل تمهيدا ألوربا الموحدة‪ ،‬في وقت يجب أن ننعت‬ ‫فيه ذلك األمر بكونه منطلق خاطئ‪ .‬إن من يتحدث اليوم عن أوربا ال يفكر في ديانة‬ ‫موحدة‪ ،‬أو في دولة جامعة‪ ،‬ولكن يفكر في مجموعة مؤسسات سياسية وفي معارف‬ ‫دنيوية وفي تقاليد فنية وأدبية وفي مصالح اقتصادية واجتماعية تساعد على تجانس‬ ‫فسيفساء من اآلراء ومن الشعوب المستقلة‪ .‬ومن هذا المنطلق‪ ،‬فإن اإلمبراطورية‬ ‫الكارولنجية تبدو لنا كمجهود محمود‪ ،‬ولكنه مجهود غير صائب في نهاية المطاف"‪.7‬‬ ‫‪ - 7‬لالطالع على الفقرة التي أوردها المؤلف عن لوبيز‪ ،‬وللوقوف على وجهة نظرهذا األخير بخصوص مشروع‬ ‫شارلمان‪ ،‬يمكن العودة لكتابه ‪:‬‬ ‫‪Naissance de l’Europe, Paris, A. Colin, 1962. page 90 et suivantes.‬‬

‫‪39‬‬

‫‪ )4‬اإلرث األوربي لشارلمان‬ ‫رغم غلبة الطابع الميثولوجي على المشروع الكارولنجي‪ ،‬فقد تواصل مفعول‬ ‫بعض العناصر التي قام عليها‪ ،‬والتي تمثل قاعدة أوربا المستقبلية‪ .‬ويتعلق العنصر‬ ‫األول بمنظومة القوانين‪ ،‬ويتصل العنصر الثاني بالعملة ‪ ،‬بينما يهم العنصر الثالث‬ ‫المؤسسات الدينية‪.‬‬ ‫فقد اصدر شارلمان‪ ،‬كما هو معروف‪ ،‬مجموعة مراسيم وقوانين سرى مفعولها‬ ‫في مجموع أقاليم اإلمبراطورية‪ .‬خضعت لها جميع فئات المجتمع‪ ،‬وهمت اإلدارة‬ ‫الترابية ومختلف األنشطة االقتصادية والمجاالت السياسية والقانونية وغيرها‪.‬‬ ‫وتجدر االشارة في هذا الصدد الى أن الملوك الكارولنجيين ورثوا ترسانة‬ ‫القوانين التي كان معموال بها في العهد الميروڤنجي‪ .‬كانت تلك الترسانة في األصل‬ ‫عبارة عن مجموعة أعراف تم تدوينها لتصبح منظومة قانونية كما سبقت اإلشارة إلى‬ ‫ذلك فيما مضى‪.‬‬ ‫كانت تلك المنظومة القانونية تقوم على أساس "حق الفرد"‪ .‬وبمقتضاها‪ ،‬فإن‬ ‫الشخص ا إلفرنجي كان يحتكم لقانون‪ ،‬والشخص البورغندي يحتكم لقانون‪ ،‬والقوطي‬ ‫يخضخ هو اآلخر لقانون‪ ،‬وهكذا دواليك‪ .‬وقد حاول شارلمان إلغاء هذه القوانين‬ ‫الفردية والعرقية وإقرار قوانين عامة "وضعية" يحتكم إليها جميع الرجال والنساء‬ ‫المستقرين في كل دائرة ترابية يشملها نفوذ اإلمبراطورية‪ ،‬بغض النظر عن انتماءاتهم‬ ‫االجتماعية أو العرقية‪ .‬وقد شرع فعال في مباشرة هذا اإلصالح الذي لم يكتمل مع‬ ‫األسف‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن المحاولة كانت ذات صبغة ثورية بكل المقاييس‪ .‬ويمكن‬ ‫اعتبارها لبنة في اتجاه إقرار وحدة قانونية أوربية‪.‬‬ ‫وبالمثل‪ ،‬سعى شارلمان أيضا إلى توحيد العملة المتداولة‪ ،‬وذلك بإقرار نظام‬ ‫نقدي تمثل العملة الفضية قاعدته‪ ،‬والدنير (‪ )le denier‬وحدته النقدية‪ .‬ولم يحقق هذا‬ ‫النظام النقدي‪ ،‬مع األسف‪ ،‬التطور المنشود ألن عوائق حالت وقتئذ دون تطوره‪ .‬وأهم‬ ‫هذه العوائق محدودية المبادالت البعيدة المدى‪ ،‬خاصة مع العالم اإلسالمي‪.‬‬ ‫وإذا كانت نجاحات شارلمان محدودة نسبيا في المجالين السالفي الذكر‪ ،‬فقد حقق‬ ‫وخلفائه من بعده نجاحا حاسما فيما يتعلق بوحدة األديرة‪ .‬وال يمكن بأي حال التقليل‬ ‫من أهمية هذا النجاح‪ ،‬ألن األديرة كانت كثيرة‪ ،‬وألنها اضطلعت بأدوار كبرى في‬ ‫حياة األفراد والمجتمع‪ ،‬وألن الرهبان المنخرطين فيها كانت لهم حظوة في أوساط‬ ‫العامة‪.‬‬ ‫ولتفصيل األمر أكثر‪ ،‬نذكر بأن عدد المؤسسات الديرية كان في تزايد مطرد‬ ‫منذ مطلع العصر الوسيط‪ .‬وكانت تتبع أنظمة مختلفة‪ ،‬فارتأى األسقف سان بينوا‬

‫‪40‬‬

‫األنياني (‪ ،8)Saint Benoît d’Aniane‬أحد أقطاب هذه المؤسسات الدينية‪ ،‬العمل‬ ‫على توحيد أنظمتها فلقي مشروعه كل الدعم من قبل شارلمان‪ .‬وانعقدت عدة مجامع‬ ‫دينية قصد بلورة تصور واضح للمشروع‪ .‬وإذ لم يكتب لشارلمان أن يعاين وحدة هذه‬ ‫المؤسسات وهو حي يرزق‪ ،‬فقد قدر لها أن تتحقق في عهد خلفه لويس التقي ( ‪Louis‬‬ ‫‪ .)le Pieux‬إذ أصبحت الطريقة البندكتية‪ 9‬منذ العام ‪ 816‬الطريقة الملزمة لجميع‬ ‫أديرة اإلمبراطورية‪.‬‬ ‫وال تخفى على أحد قيمة ودالالت هذا االنجازاذا ما استحضرنا أهمية األدوار‬ ‫االجتماعية والفكرية والدينية التي اضطلعت بها المؤسسات الديرية في مجموع مناطق‬ ‫العالم المسيحي‪.‬‬ ‫‪ )5‬أوربا المحاربين‪...‬‬ ‫حدث تحت تأثير سلطة رجال الدين‪ ،‬من أساقفة وقساوسة ورهبان‪ ،‬أن تحققت‬ ‫وحدة أوربية ذات وجهين‪ .‬يمكن نعت وجهها األول "بأوربا المحاربين" وتسمية‬ ‫وجهها الثاني "بأوربا الفالحين"‪.‬‬ ‫تتضح قسمات الوجه األول بالعودة إلى ماضي الفرنجة‪ .‬فقد كانت حياتهم تقوم‬ ‫‪ - 8‬ولد حوالي سنة ‪ 750‬في أحضا ن أسرة نبيلة‪ ،‬وترعرع في قصر ملوك غالة منذ عهد بيبن القصير‪ .‬وكان من الممكن‬ ‫أن ينخرط خالل ما تبقى من حياته في سلك حملة السيف ألنه شارك سنة ‪ 773‬في حملة ضد لومبارديي ايطاليا‪ .‬غير أن‬ ‫حدث وفاة أحد إخوته غرقا في السنة الموالية للحملة‪ ،‬وفشله في انقاذه غير مجرى حياته‪ ،‬فتحول الى راهب من مريدي‬ ‫أحد أديرة ضواحي ديجون (‪ .)Dijon‬ثم غادر هذا الدير سنة ‪ ،780‬وعادالى مسقط رأسه حيث أنشا ديرا أصبح يعرف‬ ‫فيما بعد بدير أنيان‪ ،‬وأشتهر مريدوه باتباع طريقة بينوا األنياني‪.‬‬ ‫ويجمع المؤرخون القدامى والمحدثون بأنه استلهم معظم مبادئ طريقته من طريقة القديس بينوا النورسي‪ ،‬ولذلك‬ ‫اعتبروه تلميذا مخلصا "لشيخه"‪ ،‬ومتمما لمشروعه‪ ،‬واليه يعزى الفضل في انتشار الطريقة البندكتية (نسبة الى القديس‬ ‫بينوا النورسي) في غالة‪ ،‬وفي سائر أنحاء الغرب المسيحي‪.‬‬ ‫‪ - 9‬تنسب هذه الطريقة‪ ،‬كما ذكرنا في الهامش السالف‪ ،‬للقديس بينوا النورسي (‪ )Benedictus de Nurcia‬الذي‬ ‫يحتمل أن يكون قد ولد بين سنتي ‪ 480‬و‪ 490‬في أحضان أسرة ايطالية نبيلة متمسكة بالمسيحية‪ ،‬ولذلك اختارت أن‬ ‫تسمي مولودها "بندكتوس" (بمعنى المنعم أو المكرم)‪ ،‬وكأنها كانت ترسم له معالم الطريق التي سيسلكها في حياته‪.‬‬ ‫فبعد أن ترعرع اصبح فعال راهبا في موناستير مونتيس كاسينو(‪ .)Mont Cassin‬وسرعان ما ترأس مريدي هذا‬ ‫الدير وأنشأ منهم طائفة يرتدي أعضاؤها زيا موحدا ويعتبرون أنفسهم إخوة وهو بمثابة أب لجميعهم (‪← Abbé‬‬ ‫‪ .)Abba‬وشرع لهم مجموعة مبادئ ارتأى أن تقوم عليها أنشطتهم اليومية‪ .‬استقى تلك المبادئ من الكتاب المقدس‪ ،‬ومن‬ ‫مؤلفات رجال الدين المسيحيين األوائل وسيرهم‪ .‬وصاغها في مؤلف من ‪ 73‬فصال مسبوقة بديباجة‪ ،‬عرفت منذ ذلك‬ ‫الوقت بالطريقة البندكتية‪ .‬وتقضي بأن يوزع أعضاء الطائفة يومهم بين الصلوات الفردية والجماعية وتالوة وتدارس‬ ‫الكتاب المقدس والعمل اليدوي‪ ،‬لتحقيق مقصد سامي وهو التقرب الى هللا‪.‬‬ ‫توفي القديس بينوا سنة ‪ . 547‬ووري جثمانه الثرى في نفس الموناستير الى أن تم نقل بقايا رفاته‪ ،‬قرنين بعد ذلك‪ ،‬الى‬ ‫دير فلوري (‪.)Fleuy-Sur-Loire‬‬ ‫ولتكوين فكرة ضافية عن التنظيم البندكتي يمكن االطالع على كتاب الراهب البندكتي األلماني دوم ستيفانوس ‪:‬‬ ‫‪Dom Stiphanus Hilpish, Histoire du monachisme bénédictin, traduit de l’allemand, Paris,‬‬ ‫‪Tequi, 1989.‬‬

‫‪41‬‬

‫على الحرب الدائمة‪ .‬جميع الرجال من الفرنجة كانوا محاربين يخضعون لسلطة‬ ‫زعيمهم‪ .‬وبعد استقرارهم بغالة‪ ،‬عقب غزوات القرن الخامس‪ ،‬ظلوا يتبنون هذا‬ ‫النظام‪ .‬وكان جميع سكان المملكة يخضعون بمقتضاه لسلطة الملك‪ .‬وظل األمر كذلك‬ ‫خالل العهد اإلمبراطوري‪ .‬كما اعتبر جميع الرجال من هذه الوجهة محاربين‪ ،‬كل‬ ‫واحد منهم كان ملزما بتقديم الخدمة العسكرية؛ أو بصيغة أكثر دقة‪ ،‬فإن كل رجل حر‪،‬‬ ‫كان يعد محاربا ويتوجب عليه المشاركة في الحمالت العسكرية التي يقودها‬ ‫اإلمبراطور‪ .‬ويمكن أن تكون مشاركته مباشرة أو من خالل انتمائه إلى فيلق يعمل‬ ‫تحت إمرة سنيور‪.‬‬ ‫ومن المفيد التذكير في هذا الشأن بأن الستة واألربعين سنة التي قضاها‬ ‫شارلمان على رأس المملكة‪-‬اإلمبراطورية الكارولنجية مرت كلها في حمالت متتالية‬ ‫كل سنة باستثناء سنتي ‪ 790‬و‪ .807‬وتمثل العنصر الضارب في الجيوش التي قامت‬ ‫بهذه الحمالت في الفرسان المرتدين للدروع (‪.)la cavalerie cuirassée‬‬ ‫كان جميع الرجال األحرار يستنفرون للمشاركة في تلك الحمالت‪ .‬وكل واحد‬ ‫منهم كان ملزما شخصيا‪ ،‬أو من خالل السنيور الذي يقوده للحملة‪ ،‬بتقديم فرس وقطعة‬ ‫سالح‪ .‬وتقوم الحرب‪ ،‬وتنتهي وقائعها بالحصول على غنائم‪.‬‬ ‫كانت الحرب تعد نشاطا أساسيا في اإلمبراطورية‪ .‬بل يمكن القول‪ ،‬بأن هذه‬ ‫األخيرة قامت واستمرت على الحرب وعلى الغنائم‪ ،‬شانها في ذلك شأن جميع‬ ‫اإلمبراطوريات التي قامت في التاريخ منذ عهد اإلسكندر المقدوني حتى عهد الرسول‬ ‫محمد‪.‬‬ ‫يمكن تقدير عدد المحاربين الذين كانوا يستنفرون من قبل اإلمبراطور لخوض‬ ‫الحمالت السابق ذكرها بحوالي ‪ 50 000‬رجل‪ ،‬من بينهم حوالي ‪ 2000‬أو ‪3000‬‬ ‫كانوا يخوضون الحروب على ظهور الخيول‪ .‬وأستغل هذا المقام للتذكير بأن‬ ‫المعطيات الرقمية لم تحتل موقعا متميزا في ثقافة مجتمع العصر الوسيط‪ ،‬لذلك فإن‬ ‫الباحث يالقي صعوبات جمة عند الرغبة في تبني مقاربة كمية لمعالجة أي نشاط من‬ ‫أنشطة هذا المجتمع‪ ،‬بما في ذلك الحرب التي كانت أبرز نشاطاته‪.10‬‬ ‫وأهم ما يمكن قوله بخصوص المحاربين‪ ،‬هو أن قادة الجند كانوا أثرياء بما‬ ‫كانوا يحصلون عليه من غنائم‪ ،‬ولكن أيضا بما كانت تدره عليهم "الدومينات" )‪les‬‬ ‫‪ )domaines‬الكبرى التي كانت في حوزة كل واحد منهم‪ ،‬وربما كان مردودها أكبر‪.‬‬ ‫وغني عن البيان‪ ،‬أن السلطة اقترنت دائما بالثروة‪ .‬ومن هذا المنطلق‪ ،‬فقد غدت‬ ‫‪ - 10‬أنظر ما يورده جون فلوري (‪ )Jean Flori‬عن قيمة األرقام عند إخباريي العصر الوسيط في كتابه ‪:‬‬ ‫‪Croisade et chevalerie XIe-XIIIe siècle, Paris-Bruxelles, De Boeck Université, 1998.‬‬

‫‪42‬‬

‫األرض خالل العصر الوسيط مصدر الثروة والسلطة‪ .‬ولذلك صدق الباحثون‪ ،‬حين‬ ‫ذهبوا إلى التأكيد بأن تحوال جبائيا تزامن مع ميالد العصر الوسيط‪ .‬ألن الضرائب‬ ‫أصبحت عينية يدفعها األفراد لكبار المالكين العقاريين الذين سيصبحون "سنايرة"‬ ‫(‪ )des seigneurs‬في المستقبل‪ .‬و لم يكن األفراد المشار إليهم سوى عموم الفالحين‬ ‫الذين كانوا يشكلون الغالبية الساحقة في مجتمع العصر الوسيط‪.‬‬ ‫‪ ... )6‬والفالحين‬ ‫شكل الفالحون فعال قرابة ‪ 90٪‬من المجتمع‪ .‬وكانت وضعياتهم (من وجهة‬ ‫نظر قانونية‪-‬اجتماعية) متباينة‪ .‬فمنهم من كان يحيا وضعية العبد المملوك لسيده‬ ‫يتصرف فيه كيفما شاء بالبيع أو الشراء أو االستبدال‪.‬‬ ‫والحقيقة أن عدد العبيد ظل في تراجع مستمر منذ بداية العصر الوسيط‪ ،‬ولكن‬ ‫ظاهرة العبودية ظلت مستمرة‪ ،‬إذ لم تعمل المسيحية على انتفائها‪ ،‬رغم مرور قرون‬ ‫على ظهور هذه الديانة وانتشارها وتحولها إلى ديانة رسمية‪ .‬والمالحظ أن بعض‬ ‫أشكال االرتباط بين أشخاص أحرار وضيعين وآخرين يملكون الثروة أخذت تلوح في‬ ‫األفق‪ .‬وهكذا‪ ،‬أصبحت تنسج روابط بين عدد من الفالحين ومالكي "الدومينات"‬ ‫الكبرى‪ .‬وبمقتضى هذه الروابط‪ ،‬أخذ عدد من الفالحين يتحولون إلى أقنان‪ .‬كانوا‬ ‫يقومون باستثمار جزء من " دومين" المالك العقاري خالل عدد من أيام األسبوع في‬ ‫إطار ما يعرف بنظام السخرة (‪.)la corvée‬‬ ‫ال بأس من استغالل مسألة الحديث عن الجزء المستثمر من الدومين‪ ،‬لالفادة‬ ‫بأن كل وحدة من هذه االستغالليات الكبرى كان يتم تقسيمها‪ ،‬في األغلب األعم‪ ،‬إلى‬ ‫قسمين ‪ :‬قسم يدعى "المستبقية" (‪ )la réserve‬يستثمره مالكه عن طريق تسخير عدد‬ ‫من الفالحين األقنان المشار إليهم منذ حين‪ ،‬وقسم آخر يوزعه عليهم‪ ،‬يستثمرونه لسد‬ ‫حاجياتهم (وحاجيات أسرهم) المعاشية‪.‬‬ ‫كانت أعداد هؤالء األقنان في تزايد مطرد‪ ،‬ورغم ذلك فقد استمر وجود فئة من‬ ‫الفالحين األحرار‪ ،‬الذين كانوا يملكون استغالليات أسرية خاصة يستثمرها كل واحد‬ ‫منهم بمعية أفراد أسرته‪.‬‬ ‫يمكن اختتام الحديث عن الفالحين باإلشارة إلى أن ظاهرة السخرة أصبحت‬ ‫تتراجع‪ ،‬منذ عهد شارلمان‪ ،‬ولو بإيقاع بطيء‪ .‬ثم أخذت تتراجع بسرعة بعد ذلك‪ ،‬في‬ ‫سياق تنامي حركة "انعتاق" فئة األقنان ) ‪le mouvement d’affranchi-‬‬ ‫‪ .)ssement‬فاضطر معظم مالكي الدومينات الكبرى‪ ،‬تبعا لذلك‪ ،‬إلى تقليص مساحة‬ ‫الجزء من الدومين الذي كانوا يستثمرونه في إطار نظام السخرة‪ ،‬فيما حاول مالكون‬ ‫آخرون إرساء شكل جديد من أشكال القنانة‪ .‬وقد ترسخ هذا الشكل في مناطق شرق‬

‫‪43‬‬

‫أوربا بصفة خاصة‪ .‬فكان سببا من بين األسباب التي جعلت هذه المناطق تسلك في‬ ‫تطورها مسلكا مختلفا عن مسلك مناطق الغرب‪.‬‬ ‫وأهم ما يمكن استخالصه من وراء الحديث عن قسمات وجه "أوربا الفالحين"‬ ‫هو أن عالم األرياف احتل موقعا متميزا في تاريخ أوربا قديما وحديثا‪ ،‬وأن النشاط‬ ‫الزراعي حظي باهتمام المجتمع الريفي كما باهتمام القائمين على األمر‪ .‬ولعل‬ ‫المراسيم التي أصدرها شارلمان لتنظيم النشاط الزراعي لخير دليل على ذلك‪ ،‬رغم‬ ‫ذهاب البعض إلى القول بأنها كانت تهدف باألساس إلى تنظيم "الدومينات" التي كانت‬ ‫في حوزة األسرة الحاكمة‪.‬‬ ‫‪ )7‬الحضارة الكارولنجية شريحة أوربية‬ ‫لعل أبرز نجاح حققته أوربا الكارولنجية تجلى في مجال الحضارة‪ .‬ومن‬ ‫عجيب الصدف أن الشخص الذي حقق هذا النجاح‪ ،‬أي شارلمان‪ ،‬كان ذا مستوى ثقافي‬ ‫متواضع‪ ،‬بحيث لم يكن يميز بين األحرف‪ ،‬كما لم يكن يستطيع الكتابة‪ .‬ورغم هذه‬ ‫المعيقات‪ ،‬كان حكمه يقوم على مبدأ مفاده أن المعرفة أداة أساسية لممارسة السلطة‪.‬‬ ‫ومن ثم‪ ،‬فمن واجب القائم باألمر العمل على الحفاظ على المعرفة وتطويرها‪ .‬وتبعا‬ ‫لذلك اقتنع بضرورة االعتماد على األساقفة لتحقيق هذا المسعى والبدء أوال‪ ،‬وقبل كل‬ ‫شيء‪ ،‬بتكوين أبناء األعيان الالئكيين الذين كانوا يساعدونه في تدبير شؤون‬ ‫اإلمبراطورية‪.‬‬ ‫ومما الشك فيه‪ ،‬أن هذا المشروع الطموح كان يتجاوز إمكانيات الفرنجة الذين‬ ‫ينتمي إليهم‪ ،‬ولذلك فكر في االستعانة بجميع الكفاءات‪ ،‬حتى وإن كانت ال تنتمي‬ ‫لإلمبراطورية‪ .‬واستجابة لرغبته‪ ،‬قدم عدد من األعالم من مناطق بعيدة عن‬ ‫اإلمبراطورية‪ ،‬وانضموا لفرق عمله‪ .‬فكان من بينهم على سبيل المثال بولس دياكر‬ ‫(‪ )Paul le Diacre‬اللومباردي‪ ،‬وثيودولف القوطي‪ -‬األورلياني ( ‪Théodulf‬‬ ‫‪ )d’Orléans‬وألكوين (‪ )Alcuin‬األنجلوسكسوني‪ ،‬الذي أصبح أحد أبرز مستشاري‬ ‫شارلمان‪ .‬فقامت على عاتق هؤالء النهضة الفكرية التي شهدتها اإلمبراطورية‬ ‫الكارولنجية‪.‬‬ ‫غير أن إشعاع هذه النهضة لم يتجاوز كثيرا حدود القصر في عهد شارلمان‪،‬‬ ‫ألن األعالم السالف ذكرهم أنشأوا به ما يشبه الصالون األدبي‪ .‬فظلوا لوحدهم‬ ‫المنتجين والمستهلكين للمعرفة‪ .‬وتغير الوضع نسبيا في عهد خلفاء شارلمان‪ ،‬حيث‬ ‫انضم عدد من األديرة لهذه النهضة‪ ،‬فغدت هي األخرى فضاءات للمعرفة‪ .‬ويكفي أن‬ ‫نذكر في هذا السياق أن اجنهارد (‪ )Eginhard‬اإلخباري الشهير تلقى العلم في دير‬ ‫فولدا (‪ )Fulda‬بجرمانيا‪.‬‬

‫‪44‬‬

‫وبغض النظر عما يمكن أن يقال عن جوانب القصور في هذه النهضة الفكرية‪،‬‬ ‫من قبيل نعتها بكونها كانت ذات منحى أرستقراطي‪ ،‬فهي تمثل شريحة أو طبقة من‬ ‫بين الطبقات التي تتألف منها الثقافة األوربية‪.‬‬ ‫وال يمكن البتة إنكار ما أفضت إليه من نتائج ايجابية من بينها‪ ،‬على سبيل‬ ‫المثال‪ ،‬تحسين جودة الخط وضبط عملية الوقف‪ .‬فقد غدا الخط منذ هذه الفترة بسيطا‬ ‫أكثر وأنيقا أكثر وسهل القراءة والكتابة معا‪ .‬فعد في نظر بعض الباحثين أصل الخط‬ ‫الذي تبناه األوربيون فيما بعد‪ .‬كما تم ضبط الوقف‪ ،‬بتصحيح مواقع وضع الفواصل‬ ‫والنقط‪ .‬وتجلى هذا األمر بوضوح في نسخ الكتاب المقدس التي تم وضعها منذ هذه‬ ‫الفترة‪.‬‬ ‫‪ )8‬فرنسا وألمانيا وايطاليا قﻠب أوربا النابض‬ ‫تسمح قراءة مؤلفات القرن التاسع بالقول بأن كل ما كتب عن اإلمبراطورية‬ ‫الكارولنجية كتب تحت يافطة أوربا‪ ،‬وكأن ثمة تطابقا بين كلمتي أوربا‬ ‫واإلمبراطورية‪ .‬وتتحدث نماذج من تلك المؤلفات عن شارلمان بوصفه "رأس‬ ‫أوربا"‪ ،‬أو "أب أوربا"‪ ،‬كما سبقت اإلشارة إلى ذلك في مبحث سابق‪.‬‬ ‫والحقيقة أن وحدة أوربا السياسية تحققت إلى حد ما في عهد اإلمبراطورية‬ ‫الكارولنجية‪ .‬ولكنها لم تستمر بعد وفاة شارلمان سنة ‪ .814‬بل إن مقدمات انفراط‬ ‫الوحدة بدأت قبل هذا التاريخ‪ .‬فقد سبق لشارلمان أن عهد بحكم منطقة أكيتانيا البنه‬ ‫لويس منذ سنة ‪ .781‬ثم أصبح هذا األخير حاكما لمجموع مناطق اإلمبراطورية بعد‬ ‫سنة ‪ .814‬ولكنه لم يتمكن من الصمود أمام ضغط ابنيه لوثير(‪ )Lothaire‬ولويس‬ ‫الجرماني (‪ )Louis le Germanique‬الراغبين في الحكم‪ ،‬فاضطر إلى تقسيم‬ ‫اإلمبراطورية بينهما على عادة ملوك غالة األوائل‪ .‬وتأكد هذا التقسيم بين األخوين‬ ‫بمقتضى معاهدة أبرمت بينهما في مدينة ستراسبورغ سنة ‪ .842‬والمالحظ أن نص‬ ‫هذه المعاهدة عد أول نص رسمي كتب بلغة دارجة "فرنسية" (‪)francien‬‬ ‫"جرمانية" (‪.)germanique‬‬ ‫واألهم من ذلك‪ ،‬هو أن عملية التقسيم تأكدت بعد ذلك وأصبحت قدرا محتوما‬ ‫عقب توقيع معاهدة ڤردان (‪ )Verdun‬الشهيرة سنة ‪ .834‬وبمقتضاها أصبحت‬ ‫مناطق غرب أوربا تتألف من قسمين هما فرنسيا (‪ )la Francie‬الغربية وفرنسيا‬ ‫الشرقية‪ .‬تقطنهما مجموعتان كبيرتان من السكان ستعرفان مستقبال بالفرنسيين‬ ‫واأللمانيين‪ .‬وكانت تقع بين المنطقتين منطقة تميل إلى الطول وتمتد بين مدينتي أيكس‬ ‫الشابيل وروما‪.‬‬

‫‪45‬‬

‫وبعد تجاذبات وأحداث سياسية وعسكرية‪ ،‬ستتبلور خارطة هذا المجال‬ ‫الجغرافي أك ثر فأكثر‪ ،‬فأصبح يتشكل من ثالث دول كبرى هي فرنسا وألمانيا‬ ‫وايطاليا‪ .‬وسرعان ما برزت إلى جانب هذه الدول الثالث دول أخرى متفاوتة القوة‪.‬‬ ‫ومما الشك فيه أن استحضار هذه الوقائع التاريخية أمر ضروري لفهم حيثيات‬ ‫انبثاق أوربا الموحدة‪ ،‬ولفهم كنه الدور الذي يرغب أن يضطلع به حاليا ساسة كل من‬ ‫فرنسا وألمانيا؛ اللتين تبدوان كزوج حريص على استقرار االتحاد األوربي‪ .‬ولكن هذا‬ ‫الزوج تربط بين طرفيه وشائج تميل إلى التنافس أحيانا وتميل إلى الغيرة في أحايين‬ ‫أخرى‪.‬‬

‫‪46‬‬

‫الفصل الثالث‬ ‫أوربا المحﻠوم بها‬ ‫وأوربا الممكنة في سنة ألف‬

‫‪ )1‬أوربا اإلمبراطورية األتونية‬ ‫شاءت الظروف أن تجد وحدة أوربا في كنف اإلمبراطورية من يسعى مجددا‬ ‫لتحقيقها‪ .‬لقد كان ذلك الساعي هو ملك جرمانيا أتون األول (‪ )Otton Ier‬ابن الملك‬ ‫هنري األول والقديسة ماتيلد (‪ )Sainte Mathilde‬الذي اعتلى العرش سنة ‪.936‬‬ ‫وقد خاض‪ ،‬على غرار الملوك السابقين‪ ،‬سلسلة حروب تمكن على إثرها من‬ ‫ضم بعض المناطق إلى حظيرة مملكته‪ ،‬كما نجح في استئصال شأفة الهنغاريين‬ ‫المتربصين بها‪ .‬فكان أن تمت مكافئته بأن وضع البابا يوحنا الثاني عشر (‪)Jean XII‬‬ ‫التاج اإلمبراطوري على رأسه سنة ‪ 962‬في حفل مهيب أقيم بروما‪.‬‬ ‫وبما أن حدثا من هذا القبيل كان من المنتظر أن يثير حفيظة إمبراطور بيزنطة‪،‬‬ ‫فقد بادر أتون األول إلى طلب وده من خالل طلب يد ابنة اإلمبراطور البنه‪ .‬والتفت‬ ‫أيضا في اتجاه الممالك السالڤية التي أبرم معها عالقات ودية‪.‬‬ ‫ودون المضي قدما في استعراض انجازات أتون األول‪ ،‬يمكن القول بأن‬ ‫سياسته كانت ذات أبعاد أوربية أكثر من سياسة شارلمان‪ .‬ومما ال شك فيه‪ ،‬أن التسمية‬ ‫التي حملتها إمبراطوريته‪" :‬اإلمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة"‪ ،‬تسمية ذات‬ ‫دالالت كبيرة‪ ،‬تحيل إلى الطابع المقدس الذي أعطي لها‪ ،‬والى تبوأ الجرمان موقع‬ ‫القيادة فيها‪.‬‬ ‫كانت هذه اإلمبراطورية شاسعة المساحة؛ بحيث شملت جرمانيا وايطاليا‬ ‫وأجزاء من غالة‪ .‬وقد شكلت المناطق الممتدة من الشمال إلى الجنوب بين بحر الشمال‬ ‫والبحر المتوسط عمودها الفقري‪ .‬ويبدو أن سلسلة جبال األلب‪ ،‬التي لم تكن أبدا‬ ‫حاجزا بين ايطاليا وأوربا الشمالية‪ ،‬أصبحت منطقة عبور بين شمال وجنوب أوربا‬

‫‪47‬‬

‫المسيحية‪ .‬وعلى اثر ذلك غدا انتقال األباطرة إلى ايطاليا نوعا من الطقوس السياسية‪،‬‬ ‫فاقتضى األمر إعادة تهيئة المنافذ الجبلية وإقامة القناطر وتشييد مراكز إليواء الحجاج‪.‬‬ ‫فأفضى كل ذلك إلى إذكاء حركة المبادالت التجارية وتنشيط التواصل البشري‪ .‬وكان‬ ‫من نتائج هذه التحوالت أن تزايدت أهمية جبال األلب في حركة العبور‪ ،‬فسعى حكام‬ ‫المقاطعات الثالث المحاذية لها‪ :‬شويز (‪ )Schwyz‬وآنتر ڤالدن (‪)Unterwalden‬‬ ‫ويورل (‪ )Url‬إلى إحداث نوع من التقارب فيما بينهم‪ .‬فاجتمعوا فعال سنة ‪1291‬‬ ‫لتشكيل ما سيعرف بالكنفدرالية الهلفتيكية (‪ )helvétique‬التي تعد بحق نواة غير‬ ‫منتظرة للديمقراطية األوربية‪.‬‬ ‫‪" )2‬أوربا الجديدة" في سنة ألف‬ ‫توفي أتون األول سنة ‪ 973‬فخلفه على كرسي اإلمبراطورية أتون الثاني الذي‬ ‫استكمل ما قام به أبوه‪ .‬ثم توفي هو اآلخر سنة ‪ . 983‬ونودي بابنه أتون الثالث‪ ،‬ذي‬ ‫الثالث سنوات‪ ،‬ملكا على الجرمان بالوصاية ثم إمبراطورا فيما بعد‪.‬‬ ‫وقد اشتهر بكثرة عطاءاته للمؤسسات الدينية‪ ،‬فأصبحت له حظوة في روما‬ ‫وتقرب منه عدد من كبار رجال الدين أمثال أدالبير (‪ )Adalbert‬أسقف كنيسة براغ‬ ‫وجربير األورياكي (‪ )Gerbert d’Aurillac‬أسقف كنيسة ريمس‪ ،‬الذي كان أكبر‬ ‫مساندي اإلمبراطور‪ ،‬الذي سيدعمه بدوره ليعتلي كرسي البابوية سنة ‪ 999‬باسم‬ ‫سلڤستر الثاني‪ .‬وقد تظافرت جهود اإلمبراطور والبابا سلڤستر الثاني لتوحيد الغرب‬ ‫المسيحي الذي اتسعت آفاقه وتجددت دماؤه بانضمام شعوب جديدة إليه أبرزها‬ ‫الهنغاريون والسالڤيون‪.‬‬ ‫تناول عدد من اإلخباريين وكتاب الحوليات بإسهاب هذه األحداث الجسيمة‪ ،‬كما‬ ‫انضم إليهم واضعو الرسوم والجداريات‪ ،‬الذين عبروا عنها بلغة فنية بليغة من بينها‬ ‫مثال جدارية تجسد اإلمبراطور في جاللة‪ ،‬تحيط به مدينة روما وغالة وجرمانيا‬ ‫وسالڤينيا (بالد السالڤ)‪ .‬ولعل أهم ما يفيد به هذا الرسم هو عملية توسع أوربا في‬ ‫اتجاه الشرق‪ .‬وقد كان هذا التوسع مطمح اإلمبراطور ورجال الدين معا‪.‬‬ ‫وتأسيسا على ما تقدم‪ ،‬يمكن القول بأن التطورات التاريخية‪ ،‬سارت بدورها في‬ ‫اتجاه تأكيد انضمام هذه المناطق الشرقية إلى الكيان األوربي‪ ،‬وكأن التاريخ أراد‬ ‫بدوره تحقيق رغبة اإلمبراطور ورجال الدين‪ .‬فعد هذا الحدث ( القروسطوي) بحق‬ ‫حدثا حاسما في عملية بناء أوربا الموحدة‪.‬‬ ‫يبدو أن األحداث السياسية والعسكرية والدينية والجغرافية المشار إليها بإيجاز‪،‬‬ ‫لم تكن وحدها تعكس تجليات أوربا الجديدة مع حلول سنة ألف‪ ،‬بل واكبتها أيضا‬ ‫أحداث بالغة األهمية ذات صبغة اقتصادية تجسدت في نمو اقتصادي مطرد‪.‬‬

‫‪48‬‬

‫ورغم أن المختصين الزالوا حتى اليوم بصدد مناقشة العوامل الكامنة وراء هذا‬ ‫النمو االقتصادي‪ ،‬فهم يجمعون بأن وتيرته ارتفعت بين سنتي ‪ 950‬و‪ .1050‬والشك‬ ‫أن هذا النمو االقتصادي‪ ،‬الذي عم العالم المسيحي برمته‪ ،‬يمثل خلفية‪ ،‬أو سندا‪،‬‬ ‫"لألحالم" التي راودت رجال السياسة ورجال الدين فسعوا جاهدين لبلورتها على‬ ‫أرض الواقع‪ .‬وقد عبر رجل الدين راوول ﯕالبير(‪ )Raoul Glabert‬عن ذلك بدقة‬ ‫بقوله ‪" :‬عند اقتراب حلول العام الثالث بعد بزوغ فجر سنة ألف كنا نرى في جميع‬ ‫أنحاء األرض‪ ،‬وخاصة في ايطاليا وفي غالة‪ ،‬عمليات إعادة بناء الكنائس‪ ،‬رغم أن‬ ‫معظمها كان مشيدا من ذي قبل‪ .‬فبدا وكأن رغبة جامحة كانت تدفع كل مجموعة‬ ‫مسيحية إلى إقامة كنيسة أفضل من تلك التي تتوفر عليها المجموعة المجاورة‪ .‬فكان‬ ‫يقال بأن العالم نفسه سينتفض ليتخلى عن بذلته القديمة ويرتدي معطف كنائس أبيض‬ ‫اللون‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن جميع الكنائس تقريبا‪ ،‬وكذا جميع األسقفيات والموناستيرات‬ ‫المخصصة لجميع فئات رجال الدين‪ ،‬بما في ذلك المصليات الصغرى الموجودة في‬ ‫القرى أعاد المريدون بناءها في صورة أجمل"‪.11‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فقد أفضى هذا النمو إلى انتعاش جميع األنشطة المتصلة‬ ‫بالعمارة والعمران‪ ،‬من مواد أولية‪ ،‬وحركة نقل‪ ،‬وأدوات ضرورية‪ .‬كما أفضى إلى‬ ‫تشغيل اليد العاملة‪ ،‬واستثمار رؤوس األموال‪ .‬وكان ذلك االنتعاش إيذانا ببداية تكاثر‬ ‫أوراش البناء التي تعكس ديناميكية العالم المسيحي‪ .‬وسترث أوربا هذه الديناميكية التي‬ ‫ستتوالى على شكل موجات متعاقبة‪ .‬وقد صدق المثل القائل ‪" :‬عندما يكون العمران‬ ‫بخير يكون كل شيء على ما يرام"‪ .‬وقد تأكدت صحة المثل في أوربا‪.‬‬ ‫واألكيد‪ ،‬أن هذا النشاط المادي (مبادالت تجارية‪ ،‬حركة عمرانية‪ ،‬استثمار‬ ‫للمال‪ )...‬واكبته حركات "غليان" جماعي‪ ،‬ديني ونفسي‪ .‬وقد وفق المؤرخ جورج‬ ‫دوبي (‪ )Georges Duby‬كثيرا في عرض كثير من الظواهر التي برزت مع بزوغ‬ ‫األلفية بدءا بالعالمات التي الحت في السماء‪ ،‬وتنامي حركتي التكفير والتطهير‪،‬‬ ‫واتساع نطاق عمليات تقديس رفات القديسين وكل األشياء التي كانت بحوزتهم‪،‬‬ ‫وتزايد اإليمان بالكرامات‪ .‬كانت تلك الظواهر خليطا من اآلمال ومن الهواجس‬

‫‪ - 11‬النص الذي أثبته جاك لو ﯖوف‪ ،‬أورده الراهب راوول ﯕالبير في مصنف وضعه سنة ‪ .1047‬ويتناول األحداث‬ ‫التي شهدتها أوربا بين سنتي ‪ 900‬و‪ .1047‬وقد نقل هذا المصنف إلى الفرنسية فرانسوا ﯕيزو (‪)François Guizot‬‬ ‫سنة ‪ 1824‬تحت عنوان "إخبارية راوول ﯖالبير" (‪ ،)Chronique de Raoul Glaber‬ثم نشر نصه األصلي‬ ‫(الالتيني) موريس برو (‪ )Maurice Prou‬سنة ‪.1886‬‬ ‫وقد ولد صاحب المصنف ‪ ،Rodolfus Glaber‬أي راوول األصلع سنة ‪ ،985‬وتوفي بعد سنة ‪ .1047‬ويعد واحدا‬ ‫من أبرز إخباريي العصر الوسيط‪ .‬كما يعتبر كتابه من بين المصادر األكثر تداوال بين المهتمين بتاريخ وحضارة فرنسا‬ ‫في العصر الوسيط عامة‪ ،‬والمهتمين بالفترة المعروفة بسنة الف (‪ )l’An Mil‬بوجه خاص‪.‬‬

‫‪49‬‬

‫واألحالم‪.12‬‬ ‫وعلى كل‪ ،‬فحين كان قلب أوربا يخفق‪ ،‬فقد كان يخفق بقوة أكثر أو أقل في‬ ‫جميع المجال الجغرافي‪ ،‬من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب‪ .‬وبكلمة‬ ‫واحدة‪ ،‬فإن أوربا الوجدان قد تم فك العزلة عنها‪.‬‬ ‫‪")3‬الوافدون الجدد" األسكندناﭬيون والهنغاريون والسالﭬيون‬ ‫قبل الحديث عن الوافدين الجدد‪ ،‬وعن صلتهم بعملية انبثاق أوربا‪ ،‬من المفيد‬ ‫التذكير بما قيل عن أتون الثالث‪ ،‬وعن انضمام شعوب جديدة إلى أوربا في سياق‬ ‫الموجة الثانية من موجات الغزو التي تعرضت لها‪.‬‬ ‫لقد أفضت تلك الموجة إلى تحول أوربا إلى مجال جغرافي مختلط األجناس‪.‬‬ ‫وكانت عملية االختالط قد بدأت منذ أن اندمج السالڤيون في العالم المسيحي‪ ،‬ثم تالهم‬ ‫الكرواتيون خالل القرنين السابع والثامن‪.‬‬ ‫استوطن الكرواتيون المناطق الواقعة بين البحر األدرياتيكي ونهر الدانوب‪ ،‬أي‬ ‫بين روما وبيزنطة‪ .‬وأصبحوا خاضعين‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬لسلطة الفرنجة بمقتضى معاهدة‬ ‫أيكس الشابيل التي تم توقيعها بين الطرفين (أي الفرنجة والكرواتيين) سنة ‪.812‬‬ ‫ورغم ذلك‪ ،‬ظلوا محتفظين بهويتهم بين الالتينيين والبيزنطيين؛ وإن بدوا أكثر انجذابا‬ ‫نحو الالتينيين‪ .‬وكان من تبعات هذا االنجذاب أن أصبح المدعو طوميسالڤ‬ ‫(‪ )Tomislav‬ملكا على رأس الكرواتيين بمباركة من البابا يوحنا العاشر‪ ،‬الذي وضع‬ ‫هذه المملكة الفتية تحت الحماية "القانونية" لحظيرة الڤاتيكان وفقا للتوصيات التي‬ ‫انتهت إليها مجامع سبليت (‪ )Split‬المنعقدة بين سنتي ‪ 925‬و‪.928‬‬ ‫يفهم إذا من هذا التذكير‪ ،‬بأن مقدم "الوافدين الجدد" إلى أوربا يندرج في سياق‬ ‫عمليات الزحف‪ ،‬وموجات الغزو التي شهدتها القارة‪ .‬ويمكن التمييز في هؤالء‬ ‫الوافدين بين ثالث مجموعات تمثلت في األسكندناڤيين والهنغاريين والسالڤيين‪.‬‬ ‫ظهر األسكندناڤيون على مسرح األحداث في أوربا بين نهاية القرن الثامن‬ ‫وأواسط القرن العاشر‪ .‬وكان مسيحيو الغرب ينظرون إليهم كغزاة قدموا إلى قلب‬ ‫أوربا من أجل السلب والنهب‪ .‬وإذ قام هؤالء األقوام فعال بعمليات تستحق هذا‬ ‫التوصيف‪ ،‬فقد كانوا أيضا يمارسون نشاطا تجاريا سلميا‪.‬‬ ‫برز منهم على الواجهة الدانيون‪ ،‬الذين أسسوا خالل القرن العاشر مملكة ذات‬ ‫نفوذ واسع شمل النرويج وبحر الشمال وما وراءه‪ .‬وفي ايسالندا امتلكت زمام األمور‬ ‫بضع أسر شكلت أوليجارشية تحت قيادة جمعية شعبية‪.‬‬ ‫‪ - 12‬استعرض جورج دوبي الظواهر التي يشير إليها جاك لو ﯖوف في مؤلفه ‪:‬‬ ‫‪L’An Mil, Paris, Gallimard, 1974.‬‬

‫‪50‬‬

‫ومن المفيد التكير بأن اإلسالنديين تحولوا إلى المسيحية في نهاية القرن العاشر‪.‬‬ ‫وصادقوا في نفس الوقت على وثيقة‪ ،‬بمثابة دستور‪ ،‬لتنظيم حياتهم‪ ،‬وظلوا مستقلين‬ ‫عن الدانيين‪ .‬واشتهروا بكونهم كانوا وراء ظهور جنس أدبي شبيه بالمالحم ذاع صيته‬ ‫في الغرب قاطبة (‪.)les sagas‬‬ ‫وهكذا نشأ في أقصى شمال غرب المجال األوربي مجتمع يعيش أفراده بما يدره‬ ‫عليهم البحر‪ .‬تبنى حضارة ساهمت في إثراء العالم المسيحي بشكل الفت‪ .‬وخالفا‬ ‫لإلسالنديين‪ ،‬حبذ الدانيون‪ ،‬في هذا الوقت بالذات‪ ،‬التحرك الجماعي‪ .‬فقاموا بغزو‬ ‫بريطانيا العظمى التي ضموها إلى باقي ممتلكاتهم‪ .‬وبعد مرور فترة قصيرة على‬ ‫بدايات الغزو اعتلى عرش مملكة الدانيين كنوت (‪ ،)Knut‬أو قنوت‪ ،‬الذي نودي به‬ ‫ملكا على بريطانيا العظمى وعلى الدانمارك أيضا (التي حكمها عقب وفاة أخيه‬ ‫هارولد الثاني الذي لم يكن له وريث)‪.‬‬ ‫اشتهر كنوت‪ ،‬الذي حمل لقب كنوت العظيم‪ ،‬بكونه اعتنق المسيحية وسعى‬ ‫خالل فترة حكمه بين سنتي ‪ 1018‬و‪ 1035‬إلى تشجيع عملية إنشاء الموناستيرات‬ ‫ونشر المسيحية بربوع الدانمارك‪.‬‬ ‫وعلى غرار كنوت‪ ،‬بذل األسقف أوالف (‪ ،)Saint Olaf‬الذي كان يحكم‬ ‫النرويج خالل نفس الفترة‪ ،‬جهودا مضنية لترسيخ المسيحية في المناطق التي كان‬ ‫سكانها يعتنقون هذه الديانة منذ زمن‪ .‬كما عمل على استئصال شأفة الوثنيين وبناء‬ ‫الكنائس في مناطق أخرى‪ .‬فحاز نظير ذلك لقب "األسقف"‪.‬‬ ‫ومن الواضح‪ ،‬أن مكافئة البابوية للملك أوالف كانت بمثابة اعتراف صريح‬ ‫بهؤالء الملوك وتثمين للجهود التي بذلوها من أجل نشر المسيحية‪ .‬فال غرو إذا‬ ‫وجدناها تساند بعض هؤالء الملوك وتبارك الحمالت العسكرية التي كانوا يقومون بها‬ ‫هنا وهناك‪.‬‬ ‫ومن المؤكد‪ ،‬أن حصيلة تلك الجهود‪ ،‬في شقيها العسكري والديني‪ ،‬كانت ذات‬ ‫قيمة بالغة‪ .‬وتجلت تلك القيمة أساسا في تحول جماعي لسكان شمال أوربا نحو‬ ‫المسيحية‪ ،‬وانضمامهم تبعا لذلك إلى أوربا المستقبلية‪.‬‬ ‫ويبدو أن اعتناق المسيحية لم يكن حكرا على سكان مناطق شمال أوربا‪ ،‬فقد‬ ‫اعتنقت المسيحية‪ ،‬وانضمت أيضا إلى أوربا‪ ،‬شعوب من وسط القارة‪ ،‬أبرزها‬ ‫الهنغاريون الذين يتميزون عن غيرهم من الشعوب بكونهم كانوا يتحدثون لغة خاصة‬ ‫بهم‪ .‬لم تكن تلك اللغة رومانية‪ ،‬وال لغة جرمانية‪ ،‬وال لغة سالڤية‪ .‬وال زال هذا التميز‬ ‫يمثل أحد خاصيات لغة الهنغاريين المعاصرين‪ ،‬مما ينهض دليال بأن التنوع اللغوي ال‬ ‫يمثل أبدا عائقا عند الرغبة في إنشاء وحدة ثقافية أو سياسية‪ .‬وتعد سويسرا خيرمثال‬ ‫يجسد ذلك‪.‬‬

‫‪51‬‬

‫وعلى كل‪ ،‬فقد قدم الهنغاريون من آسيا في سياق زحف جماعي استغرق وقتا‬ ‫طويال‪ .‬واستطاعوا‪ ،‬عند نهاية القرن التاسع‪ ،‬تأسيس كيان سياسي بمنطقة الكاربات‬ ‫(‪ )les Carpates‬تحت زعامة الدوق آرباد (‪ .)Arpad‬وتميز هذا الكيان بكون سكانه‬ ‫جمعوا بين خاصيات الترحال واالستقرار‪ ،‬ألن الهنغاريين لم يبدوا رغبتهم في‬ ‫االستقرار النهائي‪ .‬وما إن أسسوا هذا الكيان حتى بادروا إلى القيام بغارات عنيفة ضد‬ ‫بعض مناطق أوربا الوسطى‪ .‬ولم يوقفوا تلك الغارات إال على اثر الهزيمة لتي تلقوها‬ ‫على يد محاربي أتون األول في وقعة سنة ‪ .955‬فاضطروا إلى الكف عن الغزو‬ ‫وفتحوا حواضرهم وقراهم أمام المبشرين المسيحيين الذين تقاطروا عليهم من الشرق‬ ‫ومن الغرب‪.‬‬ ‫ويبدو أن تأثير مبشري الغرب المسيحي الكاثوليكي كان أوضح‪ .‬فقد أفضت‬ ‫جهودهم إلى تأسيس كنيسة التينية ببراغ‪ .‬عززت دورها في نشر تعاليم المسيحية‬ ‫الكاثوليكية عدة أديرة تتبع الطريقة البندكتية‪.‬‬ ‫شملت عملية التحول الجماعي نحو المسيحية الكاثوليكية السالڤيين الغربيين‬ ‫بدورهم في شخص الكرواتيين الذين سبق الحديث عنهم‪ .‬وال بأس من التذكير في هذا‬ ‫الشأن‪ ،‬بأن المبشرين البيزنطيين حاولوا تحويل التشيكيين والموراڤيين إلى المسيحية‬ ‫األرثوذكسية اإلغريقية‪ ،‬غير أن محاوالتهم باءت بالفشل كما حدث مع الهنغاريين‪ .‬ولم‬ ‫يألوا جهدا كذلك مع السالڤيين‪ .‬فقد انبثوا في أوساطهم وربطوا عالقات وطيدة مع‬ ‫بعض األعيان وذوي النفوذ أقنعوهم بإقرار خط خاص بالسالڤيين‪ .‬وشرعوا فعال في‬ ‫تلقين مبادئ هذا الخط للموراڤيين خالل فترة طويلة من الزمن‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فشلوا في‬ ‫حملهم على اعتناق المسيحية األرثوذوكسية‪.‬‬ ‫وانطالقا مما تقدم‪ ،‬يتضح بأن معظم شعوب أوربا الوسطى تحولت إلى‬ ‫المسيحية ال كاثوليكية‪ .‬وكان من الممكن أن تنتشر الكاثوليكية في أوساطها بإيقاع سريع‬ ‫جدا لوال ظهور بعض المستجدات‪ ،‬وأهمها الصراع السياسي الذي اندلع بين حكام‬ ‫بوهيميا وحكام بولونيا حول مملكة موراڤيا‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن الخالصة التي يمكن التوقف عندها هي أن عملية بناء‬ ‫العالم المسيحي (الكاثوليكي)‪ ،‬بانضمام مناطق أوربا الوسطى إلى هذا العالم‪ ،‬سارت‬ ‫وفق خطين متوازيين ديني وسياسي‪ .‬فقد كانت المسيحية تنتشر بين شعوب هذه‬ ‫المناطق‪ ،‬كما كانت تقام الكنائس والمؤسسات الدينية من أجل ترسيخها وتلقين مبادئها‪،‬‬ ‫وفي الوقت ذاته كان يتم تأسيس الممالك وبناء المؤسسات‪ .‬والمالحظ في هذا الشأن‬ ‫بالذات‪ ،‬أن عملية بناء أوربا ساهمت في ارتقاء القائمين على األمر في أوربا الوسطى‬ ‫إلى مصاف الملوك‪ ،‬كما ساهمت في تبلور مؤسسات ملكية بهذه المناطق‪.‬‬

‫‪52‬‬

‫وبقدر ما كانت عملية البناء دينية وسياسية‪ ،‬فقد كانت "أماكنية" كذلك‪ ،‬على‬ ‫اعتبار أن عمليات تحويل الوثنيين إلى المسيحية واكبتها كذلك عمليات "تمسيح"‬ ‫للمواقع واألماكن‪ ،‬التي أصبحت تحمل بالتدريج أسماء مسيحية‪ .‬وبالمثل أصبح كثير‬ ‫من األفراد (األعالم) يحملون بدورهم أسماء مسيحية‪ .‬ويبدو في هذا الصدد أن إسم‬ ‫"مارتان" (‪ )Martin‬كان أكثر األسماء شيوعا‪ ،‬ولذلك نجده منتشرا كثيرا في العالم‬ ‫المسيحي من بولونيا حتى اسبانيا‪.‬‬ ‫‪ )4‬حركة "سﻠم" ذات بعد أوربي‬ ‫ال مجال لالنكار بأن العنف والشنآن كانا يطغيان على العالقات بين األفراد في‬ ‫"العالم" حوالي سنة ألف‪ .‬وأقصد "بالعالم" أوربا بطبيعة الحال‪ .‬ففي الوقت الذي‬ ‫أخذت تخف فيه حدة الصراع بين المسيحيين والوثنيين‪ ،‬ظهر صراع جديد بين‬ ‫المسيحيين أنفسهم‪ .‬كان يتأجج على الصعيد المحلي أحيانا‪ ،‬وعلى الصعيد الجهوي في‬ ‫أحايين أخرى‪ .‬ولذلك أخذت تتنامى يوما بعد يوم حركة قوية تدعو إلى إقرار السلم‬ ‫وتجدر االشارة في هذا المقام‪ ،‬الى أن المسيحية جعلت من السلم أحد أهم القيم‪،‬‬ ‫وأن المسيح نفسه نوه بالساهرين على إقرار السلم حتى إنه جعل منه أحد المبادئ‬ ‫األساسية‪.‬‬ ‫ظهرت حركة السلم في بادئ األمر بمناطق جنوب غالة عند نهاية القرن‬ ‫العاشر‪ ،‬ثم انتشرت في باقي مناطق أوربا الغربية خالل القرن الموالي‪ .‬ويربط معظم‬ ‫الباحثين بين نشأتها ونشأة ما يسمى بالفيودالية انطالقا من مسألة أساسية وهي أن‬ ‫نجاح "السنايير " في بسط ساطتهم‪ ،‬كما سيتم توضيح ذلك الحقا‪ ،‬تم بطرق مختلفة‪،‬‬ ‫من بينها العنف‪ ،‬الذي يعد أبرز الطرق التي استعملت لتحقيق هذه الغاية‪.‬‬ ‫ولتوضيح هذا األمر‪ ،‬يجدر التذكير بأن تدهور السلطة المركزية‪ ،‬وما ترتب‬ ‫عنه من فراغ سياسي في عهد آخر الملوك الكارولنجيين‪ ،‬فسح المجال أمام أفراد‬ ‫األرستقراطية؛ الذين شرعوا في بسط سلطتهم على العامة بواسطة العنف الذي أخذ‬ ‫يستشري يوما بعد يوم‪ .‬فترتب عن ذلك ظهور حركة السلم التي اتخذت في بادئ األمر‬ ‫لبوسا دينيا بالنظر إلى كون السلم ارتبط بالمسيحية وبالمسيح كما سبق القول‪.‬‬ ‫ومن هذا المنطلق‪ ،‬كان من الطبيعي أن تتصدر الكنيسة والفالحون تلك الحركة‪.‬‬ ‫ولذلك يذهب بعض الباحثين إلى اعتبارها شكال من أشكال االحتجاج االجتماعي‬ ‫تصدرها الفالحون‪ ،‬وقامت الكنيسة باحتوائها‪ .‬فعقدت لتحقيق هذا المسعى سلسلة‬ ‫مجامع دينية كان يشارك في أشغالها عدد من الالئكيين‪ .‬انتهت تلك المجامع بالخروج‬ ‫بعدة توصيات وإجراءات تهدف إلى حماية عموم المستضعفين من فالحين وتجار و‬ ‫نساء ومرتادي المواقع المقدسة‪.‬‬

‫‪53‬‬

‫وعموما‪ ،‬فقد أدت تلك التوصيات واإلجراءات إلى بروز ما يشبه "تكتال"‬ ‫أوربيا مؤلفا من أفراد عزل من السالح في مواجهة "تكتل" أوربي مؤلف من‬ ‫المحاربين؛ ولكن "السنايير"‪ ،‬وكل األعيان الالئكيين ذوي النفوذ‪ ،‬ما لبثوا أن قاموا هم‬ ‫اآلخرين باحتواء حركة السلم‪ ،‬ألن التوصيات التي انتهت إليها المجامع الدينية السابقة‬ ‫الذكر‪ ،‬لم تكن تنص صراحة على نبذ العنف‪ ،‬بقدر ما كانت تنص على إيجاد قنوات‬ ‫لتصريفه (‪ )la canalisation de la violence‬أو لتقنينه‪ .‬ومن ثم‪ ،‬انبثقت حركة‬ ‫"هدنة هللا" (‪ )la trêve de Dieu‬التي أصبحت تقضي بالتزام الهدنة في أوقات‬ ‫معينة‪.‬‬ ‫وتوضح الحقائق بأن أفراد األرستقراطية‪ ،‬الذين كان باستطاعتهم جعل نفر من‬ ‫المحاربين يأتمرون بأمرهم‪ ،‬هم وحدهم الذين كانوا قادرين على ضمان السلم‪ .‬وبناء‬ ‫على ذلك تحولوا إلى ما يشبه الشرطة يعملون على إقرار األمن ويمارسون السلطة‬ ‫أيضا‪ ،‬رغم أن بعض الملوك حاولوا استدراك الموقف قبل فوات األوان‪ .‬ولتحقيق هذا‬ ‫المبتغى ترأس كل من ملك الفرنجة روبير الثاني‪ ،‬المعروف بروبير التقي ( ‪Robert‬‬ ‫‪ )le Pieux‬وهنري الثاني (‪ )Henri II‬إمبراطور اإلمبراطورية الرومانية‪-‬الجرمانية‬ ‫اجتماعا بموقع على ضفاف نهر الموز (‪ )la Meuse‬سنة ‪ 1024‬انتهى بالمطالبة‬ ‫بضرورة إقرار "سلم عالمي"‪ .‬ولكن بدا من الصعب أجرأة هذا النداء؛ بل األدهى من‬ ‫ذلك أن كل شخص يمتلك النفوذ والقوة أصبح يفرض السلم باسم الملك‪ .‬فتحولت‬ ‫الحركة وفق ذلك من حركة سلم هللا إلى حركة سلم ملوك‪ ،‬أو حركة سلم دوقات ( ‪des‬‬ ‫‪.13)ducs‬‬ ‫وكان من نتائج هذه التطورات أن غدت حركة السلم وسيلة‪ ،‬أو أداة‪ ،‬في حوزة‬ ‫الالئكيين األقوياء يستعملونها لممارسة السلطة وبسط السيادة‪ .‬وبذلك تم تجريدها من‬ ‫الطابع القدسي الذي كان يميزها في البدء‪ ،‬رغم أنها ظلت مطمحا ذا بعد ديني‪.‬‬ ‫وصارت فيما بعد مطمحا له بعد "وطني"‪ ،‬ثم مطمحا ذا بعد "أوربي" حتى يومنا هذا‪.‬‬ ‫فال غرو إذا وجدنا ساسة أوربا وشعوبها يتخذون من تحقيق السلم مطلبا جماعيا‪.‬‬

‫‪ - 13‬لالطالع على مجريات حركتي السلم وهدنة هللا‪ ،‬وعلى وجهات نظر الباحثين المعاصرين بخصوصها يمكن العودة‬ ‫الى المؤلف الجماعي الذي أنجز تحت إشراف طوماس هيد (‪ )Thomas Head‬وريتشارد الندس ( ‪Richard‬‬ ‫‪: )Landes‬‬ ‫‪The peace of God, Ithaka, New York, Cornell University Press, 1992.‬‬ ‫والى كتاب دومينيك بارثيليمي (‪: )Dominique Barthélémy‬‬ ‫‪L’an mil et la paix de Dieu : la France chrétienne et féodale (980-1060), Paris, Fayard,‬‬ ‫‪1993.‬‬

‫‪54‬‬

‫‪ )5‬مزار أوربي جديد في اسبانيا ‪ :‬شانت يقوب‬ ‫حمل بزوغ فجر سنة ألف معه كثيرا من األحداث الجسيمة ذات البعد األوربي‪.‬‬ ‫فقد شهدت القارة انضمام شعوب جديدة إليها‪ ،‬ثم نشأت بها حركة السلم السالف ذكرها‪.‬‬ ‫وشهدت أيضا إبان نفس الحيز الزمني بداية عملية امتداد نحو الجنوب من خالل حركة‬ ‫استرداد شبه جزيرة أيبيريا من المسلمين‪.‬‬ ‫وقبل أن تنطلق فصول تلك الحركة وقع حادث مهم عند بداية القرن التاسع‪،‬‬ ‫تمثل في اكتشاف ضريح األسقف الشهيد جاك (‪ )Saint Jacques‬في موقع كان مدفنا‬ ‫زمن سيادة القوط الغربيين السبانيا يقع بمنطقة كومبوستيال (‪)Compostelle‬‬ ‫بغاليسيا‪ .‬ومنذئذ تحول الموقع إلى مزار أصبح يفد إليه المسيحيون‪ ،‬الذين أخذت‬ ‫أعدادهم في تزايد مطرد حتى غدا عند مطلع القرن الثاني عشر ثالث مزار‪ ،‬من حيث‬ ‫األهمية‪ ،‬يؤمه الحجاج بعد القدس وروما‪.‬‬ ‫ومما ال شك فيه‪ ،‬أن المزار استمد هذه المكانة المتميزة من موقعه في منطقة‬ ‫كانت حلبة صراع بين المسيحيين والمسلمين‪ .‬فاتخذ المسيحيون سان جاك رمزا لهم‬ ‫وأحاطوه بقدسية كبيرة‪ .‬بل بوأوه مكانة القائد في الحروب التي خاضوها ضد‬ ‫المسلمين‪ ،‬وإليه نسبوا الخسائر البشرية التي تكبدها هؤالء‪ .‬فلقبوه تبعا لذلك "بقاتل‬ ‫المسلمين" (‪.)Matamore‬‬ ‫وانطالقا من مضامين الفقرات التي خصصناها للحديث عن شانت يقوب (سان‬ ‫جاك)‪ ،‬يمكن استخالص عنصرين‪ :‬األول هو أن موقع كومبوستيال أصبح يستقطب‬ ‫الزوار من مختلف مناطق العالم المسيحي‪ ،‬واتخذ موسم الحج إليه تبعا لذلك طابعا‬ ‫أوربيا‪ .‬والثاني هو أن الحظوة والقيمة الدينية والرمزية التي أصبح يتمتع بها المزار‬ ‫تؤكد قيمة وأهمية المناطق الطرفدارية (‪ )les périphéries‬في بناء الوحدة األوربية‪.‬‬ ‫‪ )6‬أوربا تتأكد‬ ‫بقدر ما كانت التطورات التي حدثت في شمال القارة األوربية وفي وسطها وفي‬ ‫جنوبها ايجابية بالنسبة ألوربيي الغرب‪ ،‬فإن التطورات التي حصلت في الجبهة‬ ‫الشرقية كانت عكس ذلك‪ ،‬ألن عالقات أوربيي الغرب مع البيزنطيين أخذت تسير في‬ ‫اتجاه القطيعة رغم أن القائمين على األمر في ممالك الغرب‪ ،‬وعلى رأسهم األباطرة‬ ‫األتونيون‪ ،‬حاولوا جهد اإلمكان تفادي هذا المآل‪.‬‬ ‫وتستدعي هذه المسألة التذكير بما سبق قوله عن أتون األول‪ ،‬الذي حاول‪ ،‬بعد‬ ‫أن نودي به إمبراطورا‪ ،‬طلب ود إمبراطور بيزنطة‪ .‬فزوج ابنه من األميرة اإلغريقية‬ ‫تيوفانو (‪ )Théophano‬التي شاءت الظروف أن تصبح وصية على العرش حين‬ ‫اعتلى سدة الحكم أتون الثالث ذو الثالث سنوات‪.‬‬

‫‪55‬‬

‫وأهم ما ترتب عن هذا الحدث‪ ،‬هو أن نفوذ البيزنطيين وحضورهم تقوى في‬ ‫البالط األوتوني زمن حكم أتون الثالث‪ .‬ويعد هذا األمر مؤشرا آخر على أن القطيعة‬ ‫كانت الزالت لم تصبح بعد قدرا محتوما‪.‬‬ ‫وتؤكد المصنفات التاريخية بدورها هذه الحقيقة‪ .‬فقد كانت مؤلفات القرنين‬ ‫التاسع والعاشر تستعمل لفظة "أوربا" للتعبير عن نوع من اإلحساس بوجود‬ ‫"كومينوطة" (‪ ،)une communauté‬أو مجتمع سابق على وجود المسيحية‪ .‬ولم‬ ‫تكن تلك المصنفات تستعمل اللفظة في داللتها الجغرافية كما يذهب إلى ذلك بعض‬ ‫الباحثين‪ ،‬ألن لفظة "أوربا" بالمعنى الجغرافي ال معنى لها‪.‬‬ ‫وقد ظل لفظ أوربا ذي البعد "اإلحساسي"‪ ،‬الذي يمثل شكال من أشكال الهوية‬ ‫الجماعية‪ ،‬حاضرا حتى مطلع القرن الحادي عشر‪ ،‬حيث ظهر بموازاته لفظ جديد هو‬ ‫"‪ "la chrétienté‬الذي يشدد على مسألة االنتماء إلى المسيحية‪ .‬ولعل أحسن شاهد‬ ‫يجسد هذا المعنى الجديد‪ ،‬هو المعطف الذي ارتداه اإلمبراطور هنري الثاني عند‬ ‫اعتالئه العرش سنة ‪ .1002‬فقد تم تطريزه بمجموعة أشكال تجسد المسيح والعذراء‬ ‫والمالئكة والقديسين‪ .‬وكتبت في حواشيه عبارات التينية تمجد اإلمبراطور‪.‬‬

‫‪56‬‬

‫الفصل الرابع‬ ‫أوربا الفيودالية‬ ‫(بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر)‬

‫إن الحقبة الزمنية التي تأكد فيها العالم المسيحي ( ‪l’affirmation de la‬‬ ‫‪ )Chrétienté‬هي أيضا الحقبة التي انطلق فيها االزدهار الكبير‪ ،‬لما سيعرف في‬ ‫النهاية بأوربا‪ .‬ولكن حدث أن اعترضت عوائق سبيل هذا االزدهار في وقت مبكر‪،‬‬ ‫وتبعا لذلك لم يأخذ االتجاه الذي كان سيأخذه نحو وحدة أوربا المستقبلية‪.‬‬ ‫وبناء على هذا المعطى‪ ،‬أرتئي التوقف عند الخاصيات المشتركة التي تركتها‬ ‫هذه الحقبة كإرث ألوربا‪ .‬ويمكن نعت هذه الحقبة بالطبقة الفيودالية التي تعد واحدة من‬ ‫بين الطبقات التي تعاقبت إلى أن انبثقت أوربا الموحدة‪.‬‬ ‫‪ )1‬تطورات في مجال الزراعة‬ ‫يجب دوما االنطالق من الحقيقة‪ .‬وتفيد هذه األخيرة بأن أوربا الفيودالية كانت‬ ‫زراعية بامتياز‪ ،‬وأن األرض كانت تمثل فيها حجر الزاوية‪ .‬ويكتسي هذا األمر أهمية‬ ‫قصوى إذا علمنا بأن النشاط الزراعي ال يزال الى يومنا هذا يحظى بأهمية بالغة في‬ ‫أوربا‪ ،‬وأن المشاكل المتصلة به ما زالت تؤرق ساسة االتحاد األوربي‪ ،‬رغم أن عدد‬ ‫الفالحين تراجع كثيرا‪ ،‬كما تراجع ثقلهم‪.‬‬ ‫وعموما‪ ،‬فإن النشاط الزراعي السائد اليوم في األرياف ورثه االتحاد األوربي‬ ‫عن العصر الوسيط‪ .‬وبما أن زراعة الحبوب احتلت موقعا متميزا في زراعة العصر‬ ‫الوسيط‪ ،‬فقد ظل الخبز والى اليوم يمثل مادة أساسية في وجبات األوربيين‪ .‬ويرافق‬ ‫الخبز في هذه الوجبات مشروبان هما النبيذ (الخمر) والجعة (‪.)la cervoise‬‬ ‫ومن المعروف أن الخمور كانت تستهلك في أوربا قبل سيادة الرومان‪ .‬ثم اتسع‬ ‫نطاق استهالكها بعد ظهور وانتشار المسيحية ألنها أصبحت تشرب وتستعمل أيضا‬ ‫في الطقوس والشعائر الدينية‪ .‬فأدى ذلك إلى تجاوز شجيرات الكروم لحدود النطاقات‬

‫‪57‬‬

‫المناخية التي كانت تنمو فيها فيما قبل‪ ،‬حيث انتشرت غراستها في شمال غالة وفي‬ ‫جنوب أنجلترا‪ .‬فأفضى ذلك إلى ظهور مشروب جديد هو الجعة المصنوعة من‬ ‫الشعير والتي تعد أصل الجعة المعروفة اليوم‪ .‬فنتج عن ذلك أن قسم هذان المشروبان‬ ‫أوربا إلى قسمين‪ :‬أوربا النبيذ في الجنوب وأوربا الجعة (‪ )la cervoise‬المستخلصة‬ ‫من الشعير في الشمال‪ .‬ويمكن لمتصفح بعض مصنفات رجال الدين التي تعود للقرن‬ ‫الثالث عشر أن يلمس أصداء هذا التمييز‪ .‬وبموازاة هذين القسمين‪ ،‬ظهرت أوربا " ‪le‬‬ ‫‪ "cidre‬التي تتشكل م ن المناطق الغربية التي كان فيها اإلقبال أكثر على هذا النوع‬ ‫من السائل المستخلص من التفاح البري أو البستاني‪.‬‬ ‫ويجب التنبيه‪ ،‬بأن ما ذكر ال يجب أن يوحي بأن النشاط الزراعي كان متنوعا‬ ‫كثيرا في أوربا ما بعد سنة ألف‪ ،‬لدرجة حدوث اختالف بين المناطق‪ .‬بل على العكس‬ ‫من ذلك‪ ،‬كانت تجمع بين المناطق خاصيات كثيرة مشتركة جعلتها أكثر ميال للتجانس‬ ‫والوحدة‪ .‬تتمثل هذه الخاصيات المشتركة في التطورات التقنية الهائلة التي كانت عامة‬ ‫وشاملة‪ .‬وتعد مؤشرا على فعالية العمل الذي كان يقوم به الفالحون والمزارعون فيما‬ ‫يتعلق بتهيئة األرض وقلب تربتها بصفة خاصة‪ .‬فقد كان هؤالء الفالحون‬ ‫والمزارعون يستعملون المحراث البسيط "األراتروم" (‪.)l’araire( )l’aratrum‬‬ ‫فحل محله المحراث (‪ )la charrue‬الذي اتسع نطاق استعماله في المناطق الشمالية‬ ‫بوجه خاص‪ .‬وكان هذا المحراث أداة أكثر تطورا نسبيا من "األراتروم" ألنه يتوفر‬ ‫على مقلب مائل وسكة حديدية‪ ،‬فضال عن كون عملية جره أصبحت موكلة في هذه‬ ‫المناطق الشمالية لزوج من الخيول بدل زوج من األبقار بينما ظل فالحو ومزارعو‬ ‫المناطق الجنوبية أوفياء للحمير أو البغال‪.‬‬ ‫ورغم أن عددا من الباحثين أعطوا للتطور الذي حصل فيما يتعلق بأداة قلب‬ ‫التربة‪ ،‬وعملية الجر (‪ ،)la traction‬أهمية بالغة‪ ،‬حتى أنهم ذهبوا إلى الحديث عن‬ ‫"ثورة" في هذا المجال‪ ،‬فإن هذا التطور ينم عن رغبة أكيدة في تحسين طرائق‬ ‫وتقنيات العمل الزراعي‪.14‬‬ ‫‪ - 14‬للوقوف على تجليات التطورات التقنية‪ ،‬وعلى وجهات نظر الباحثين بشأنها يمكن العودة الى المؤلفات اآلتية‪ ،‬على‬ ‫سبيل المثال ال الحصر ‪:‬‬ ‫‪- Georges Duby, Guerriers et paysans, VIIe-XIIe siècle. Premier essor de l’économie euro‬‬‫‪péenne, Paris, Gallimard, 1973.‬‬ ‫‪- Charles Parain, Outils ethnies et développement historique, Paris, Les Editions Sociales,‬‬ ‫‪1979.‬‬ ‫‪- Pierre Bonnassie, Les sociétés de l’an mil : Un monde entre deux ages, Bruxelles, De‬‬ ‫‪Boeck Université, 2001.‬‬ ‫‪- L’outillage agricole médiéval et moderne et son histoire, Actes de la 23 ème rencontre de‬‬ ‫‪l’Abbaye de Flaran, Presses Universitaires du Mirail, 2003.‬‬

‫‪58‬‬

‫ويبدو أن حظ المناطق الشمالية ظل دائما أوفر‪ .‬فقد انتشر بها المحراث‬ ‫المتطور‪ ،‬والى جانبه تم تبني طريقة جديدة للرفع من المردود‪ ،‬ولتنويع المنتوجات‪،‬‬ ‫تمثلت في استبدال نظام الدورتين الذي كان معموال به من قبل بنظام الدورات الثالث‬ ‫الذي دخلت بموجبه الخضراوات والبقول إلى النظام الزراعي‪ .‬فأتاح ذلك إمكانية‬ ‫الحصول على محصولين خالل الموسم الواحد‪.‬‬ ‫وبما أن العمل الزراعي واإلنتاج كانا دوما خاضعين لتأثير التغيرات المناخية‪،‬‬ ‫فقد حدث تحسن على هذا الصعيد بعد بزوغ فجر سنة ألف‪ ،‬فبدا وكأنه "دفعة آتية من‬ ‫السماء"‪ ،‬على حد تعبير الباحث مارك بومبير (‪ .15)Marc Bompaire‬وتمثل هذا‬ ‫التحسن في ار تفاع نسبي لدرجة الحرارة‪ ،‬بدرجة أو درجتين‪ ،‬وكذلك في انخفاض‬ ‫نسبي لمستوى الرطوبة في معظم مناطق أوربا بين سنتي ‪ 900‬و‪.1300‬‬ ‫‪ )2‬انتظام األفراد في خاليا‬ ‫شكلت سنة ألف والسنوات التي تلتها حقبة حاسمة فيما يتعلق بإعادة تنظيم‬ ‫المجال على الصعيدين االجتماعي والسياسي‪ .‬وقد تركت إعادة التنظيم هاته بصمات‬ ‫واضحة و آثارا عميقة على التنظيم الترابي في أوربا نظرا لألهمية التي أصبح يكتسيها‬ ‫الحصن الفيودالي (‪ )le château‬في التنظيم الجديد‪.‬‬ ‫وقد تبنى المؤرخون منذ سبعينيات القرن الماضي المصطلح االيطالي‬ ‫"األنكستلمنطو" (‪ ،16)l’incastellamento‬الذي كان للمؤرخ الفرنسي بيير توبير‬ ‫(‪ )Pierre Toubert‬شرف استعماله ألول مرة في أطروحته حول الالسيوم ( ‪le‬‬ ‫‪ ) Latium‬عند الحديث عن عملية إعادة التنظيم المشار إليها‪ .‬وقام بعض زمالئه في‬ ‫فرنسا باشتقاق ما يطابق هذا المصطلح في اللغة الفرنسية‪ ،‬فأوجدوا كلمة‬ ‫"‪ "l’enchâtellement‬المشتقة من كلمة حصن (‪ .)château‬بينما اقترح المؤرخ‬ ‫روبير فوصيي (‪ )Robert Fossier‬استعمال مصطلح " ‪،17"l’encellulement‬‬ ‫‪ - 15‬لمزيد من التفاصيل تتعلق بالمعطى الذي يشير إليه المؤلف‪ ،‬يمكن العودة إلى المؤلف الجماعي الذي وضعه كل من‬ ‫فليب كونتامين (‪ )Philippe Contamine‬ومارك بومبير (‪ )Marc Bompaire‬وستيفان لوبيك ( ‪Stéphane‬‬ ‫‪ )Lebecq‬وجون‪-‬لوك سرازان (‪: )Jean-Luc Sarrasin‬‬ ‫‪L'économie médiévale, Paris, A. Colin, 1993.‬‬ ‫‪ - 16‬يعني هذا المصطلح عملية تحصين القرى (الواقعة في مواقع معلقة) من خالل إحاطتها بأسوار‪ ،‬وإقامة حصن‬ ‫لحمايتها‪ .‬وقد استعمل بيير توبير المصطلح للحديث عن هذا النوع من القرى التي كانت منتشرة في إقليم الالسيوم بين‬ ‫القرنين العاشر والثاني عشر‪ .‬أنظر مادة "أنكستلمنطو" في المعجم الموسوعي الخاص بالعصر الوسيط‬ ‫‪Dictionnaire encyclopédique du Moyen Age, Paris, Cerf, 1997, Tome I, p.770.‬‬ ‫‪ - 17‬ينطبق المصطلح الوارد ذكره في الهامش السابق على التجمعات القروية التي كانت تقع عموما في مناطق‬ ‫متضرسة‪ ،‬فتبدو وكأنها تجمعات معلقة‪ ،‬أما مصطلح "‪ ،"encellulement‬فاستعمله روبير فوصيي للحديث عن‬ ‫التجمعات المماثلة‬

‫‪59‬‬

‫أي "التجمع في هيئة خاليا" نظرا لصيغته الفرنسية‪ ،‬وكذلك إلمكانية استعماله عند‬ ‫الحديث عن عملية إعادة التنظيم (المشار إليها) في مجموع المجال األوربي‪.‬‬ ‫وفي ضوء هذا التوضيح‪ ،‬يمكن القول بأن أربع خاليا أساسية هي التي شكلت‬ ‫قاعدة التنظيم‪ .‬وتمثلت في الحصن‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬والسنيورية (‪)la seigneurie‬‬ ‫والقرية‪ ،‬واألبرشية (‪.)la paroisse‬‬ ‫ونعني بالسنيورية رقعة أو دائرة ترابية يشرف عليها حصن‪ ،‬وتتضمن أراضي‬ ‫وعددا من الفالحين خاضعين لسلطة السنيور‪ .‬فالسنيورية هي إذن بمثابة وحدة‪،‬‬ ‫نستحضر عند ذكرها األراضي الزراعية والفالحين والمردود‪ ،‬الناتج عن عملية‬ ‫استثمار األرض وكذلك الناتج عن الرسوم واإلتاوات التي يدفعها الفالحون‪ ،‬باإلضافة‬ ‫إلى مجموعة رسوم يستخلصها السنيور بمقتضى ممارسته لحق القيادة الذي يسمى‬ ‫بحق اإللزام (‪.)le droit de ban‬‬ ‫كان التنظيم في إطار السنيورية شائعا في مختلف مناطق العالم المسيحي‪ .‬ولذلك‬ ‫اقترح بعض المؤرخين استعمال عبارة النظام السنيوري ( ‪le système‬‬ ‫‪ ،)seigneurial‬بدل عبارة النظام الفيودالي (‪ ،)le système féodal‬طالما أن‬ ‫مفهوم الفيودالية له صبغة قانونية صرفة‪ ،‬ألنه يستعمل عند الحديث عن تنظيم ضيق‬ ‫إلى حد ما يكون فيه السنيور على رأس فيْف (‪ 18)un fief‬قدم له كعطاء من قبل‬ ‫سنيور أقوى منه‪ .‬فيكون السنيور المستفيد من الفيْف فضال (أي تابعا) للسنيورالذي‬ ‫منحه إياه‪.‬‬ ‫‪ )3‬القرية والمقبرة‬ ‫لها التي انتشرت في جميع أنحاء أوربا‪ ،‬وخاصة منها المناطق المنخفضة‪ .‬أنظر مادة '‪ "encellulement‬في المعجم‬ ‫السالف الذكر‪ ،‬نفس الجزء‪ ،‬ص‪.525.‬‬ ‫‪ - 18‬يتفق الباحثون في تاريخ أوربا الوسيط بأن كلمة "‪ "fief‬غامضة األصول‪ ،‬ولكنهم يجمعون بأنها مشتقة من كلمة‬ ‫"‪ "feo‬المنتمية لقاموس اللغة الهندو‪-‬أوربية‪ .‬وقد استعمل الجرمان القدامى كلمة "‪ "fehu‬المرادفة لها‪ ،‬بينما استعمل‬ ‫الالتانيون كلمة "‪ ."pecus‬وتعني كلتا الكلمتين "الدابة"‪ ،‬أو "البهيمة"‪ .‬واستعملت كلمة "‪ ،"fief‬في بعد تقني ألول مرة‬ ‫سنة ‪ . 899‬ومنذ هذا التاريخ‪ ،‬أصبحت تعني قطعة أرض تمنحها السلطة الحاكمة ألحد خدامها نظير ما يسديه من خدمات‬ ‫ذات طابع عمومي (تدبير الشأن العام)‪ .‬وبعد انهيار اإلمبراطورية الكارولنجية‪ ،‬أضحت قطع األرض من هذا النوع‬ ‫محور العالقة بين أفراد األرستقراطية (بعد أن كانت محور عالقة بين السلطة المركزية وخدامها)‪ .‬فكان شخص ينتمي‬ ‫لتلك الطبقة يمنح "فيفا" لشخص آخرمن ذات الطبقة‪ .‬وتنشا بمقتضى عمليتي المنح واالستفادة‪ ،‬عالقة تبعية بين‬ ‫الشخصين‪ .‬فكان المانح يلتزم بحماية المستفيد‪ ،‬بينما كان هذا األخير يلتزم بتقديم الخدمات للمانح‪ .‬وغالبا ما كانت تلك‬ ‫الخدمات ذات طابع عسكري‪.‬‬ ‫لمزيد من التفاصيل‪ ،‬يمكن العودة لمادة "فيف" (‪ )fief‬في كتاب بيير بوناصي (‪: )Pierre Bonnassie‬‬ ‫‪Les 50 mots clefs de l’histoire médiévale, Toulouse, Editions Privat, 1981.‬‬

‫‪60‬‬

‫احتضنت السنيورية‪ ،‬كما سبق القول‪ ،‬عددا من الفالحين كانوا مستقرين في‬ ‫مجموعة من المجمعات السكنية تسمى كل واحدة منها قرية‪ .‬انتشرت القرى في العالم‬ ‫المسيحي برمته بعد مطلع القرن الحادي عشر‪ ،‬وأصبح فيها السكن متجمعا بعد أن كان‬ ‫متفرقا خالل العصر القديم والعصر الوسيط األعلى‪ .‬وال زالت كثير من قرى أوربا‬ ‫الراهنة تحتفظ بالهيئة التي كانت عليها خالل العصر الوسيط‪.‬‬ ‫نشأت القرية بفعل تجمع المنازل والحقول حول عنصرين أساسين هما‬ ‫الكنيسة والمقبرة‪ .‬ويمكن في هذا الصدد تأييد ما ذهب إليه المؤرخ روبير فوصيي حين‬ ‫أقر في أحد المؤلفات بأن المقبرة تعد عنصرا مهما في التجمع السكني أكثر من‬ ‫األهمية التي تحظى بها الكنيسة‪ ،‬وربما يعتبر وجودها سابقا على وجود هذه المؤسسة‬ ‫الدينية‪ .‬إن األمر هنا يتعلق بصلة بين األحياء واألموات‪ ،‬وهي صلة بالغة األهمية‬ ‫شكلت إحدى خاصيات مجتمع العصر الوسيط‪ .‬وقد ورثتها أوربا المعاصرة عن‬ ‫العصر الوسيط‪.‬‬ ‫وتكمن إحدى أهم التحوالت التي شهدها تاريخ أوربا في كون األحياء قاموا منذ‬ ‫العصرين القديم والوسيط بوضع األموات في الحواضر‪ ،‬ثم بعد ذلك في القرى‪.‬‬ ‫والمالحظ‪ ،‬أن مجتمع العصر القديم كان يأنف من جثث الموتى‪ .‬فلم يكن أحد من‬ ‫الموتى يحظى بنوع من "القدسية" أو التبجيل إال بشكل حميمي في وسط األسرة التي‬ ‫ينتمي إليها‪ ،‬أو خارج المجال المأهول على طول المسالك والطرقات‪ ،‬حيث كانت‬ ‫توجد مقابر أو أضرحة كان يتوقف عندها المسافرون لحظات‪ .‬وال يمكن البتة إنكار‬ ‫التحول الجذري الذي حدث بعد ظهور وانتشار المسيحية‪ ،‬حيث تم إدماج األضرحة‬ ‫في الوسط الحضري‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فقد عمل العصر الوسيط على تمتين الروابط بين‬ ‫األحياء واألموات‪ .‬فاستحدث تبعا لذلك "فضاء التطهير" (‪ )le purgatoire‬الذي يعد‬ ‫ثالث فضاء إلى جانب الجنة وجهنم‪ .‬وقامت البابوية بدورها‪ ،‬منذ مطلع القرن الحادي‬ ‫عشر‪ ،‬بإحياء حفل تأبين لألموات كان بتم تخليده في اليوم الثاني من شهر نونبر من‬ ‫كل عام غداة اليوم الذي كان يخصص لتأبين كل الرهبان واألساقفة‪ .‬وهكذا كان يتيح‬ ‫هذا التأبين الجماعي لألموات المنتمين للعامة شرف االلتقاء بأولئك األموات‬ ‫"الممتازين"‪ ،‬وهم األساقفة والرهبان‪ .‬أما األموات المنتمين لطبقة الخاصة‪ ،‬فقد كانوا‬ ‫يحظ ون بالتبجيل من قبل أفراد األسر األرستقراطية التي ينتمون إليها‪ .‬فكان ذلك‬ ‫التبجيل عبارة عن رابط اجتماعي يضمن استمرارية العالقة بين كل أرستقراطي حي‬ ‫وآبائه وأجداده من األموات‪ .‬وفي ذات الوقت كان يسمح بتمتين العالقات بين األسر‬ ‫األرستقراطية التي تربط بين أفرادها عالقات قرابة‪.‬‬ ‫‪ )4‬األبرشية‬

‫‪61‬‬

‫قام األحياء خالل العصر الوسيط بوضع األموات داخل القرى كما ورد سابقا‪،‬‬ ‫والى جانب المقبرة احتلت الكنيسة‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬موقعا متميزا داخل القرية‪ .‬وقد‬ ‫كانت في األغلب األعم مركزا ألبرشية (‪.)une paroisse‬‬ ‫ورغم أهمية األبرشيات في تاريخ العصر الوسيط‪ ،‬فالواقع أن وضعها ظل غير‬ ‫واضح المعالم حتى مطلع القرن الثالث عشر‪ ،‬ألن بعض هذه المؤسسات الدينية قام في‬ ‫المراكز الحضرية‪ ،‬بينما قام بعضها اآلخر في األرياف‪.‬‬ ‫ففي قرى األرياف‪ ،‬التي مثلت مراكز استيطان لغالبية أفراد المجتمع‪ ،‬كانت‬ ‫الكنيسة تقوم مقام األبرشية‪ .‬وكان يؤمها بانتظام عدد من المريدين المنتظمين تحت‬ ‫إشراف رجل دين يعرف بالكاهن (‪ .)le curé‬وكانت تترتب عن العالقة بين الطرفين‬ ‫حقوق وواجبات‪ .‬فكل مريد كان من حقه تلقي "األسرار" (‪ ،)les sacrements‬التي‬ ‫تعد أحد الطقوس الدينية المقدسة التي تتيح للمسيحي إمكانية الحصول على العفو‬ ‫اإلالهي عن طريق الكاهن‪ .‬ومقابل ذلك كان ملزما بتقديم رسوم (‪)des redevances‬‬ ‫للكاهن‪ .‬وبما أن العالقة بين الكاهن والمريدين كانت عالقة دائمة ومسترسلة‪ ،‬فقد‬ ‫عدت األبرشيات إحدى عناصر التنظيم االجتماعي‪.‬‬ ‫‪ )5‬شريحة عﻠيا ‪ :‬األرستقراطية‬ ‫بدأ يتأكد بعد سنة ألف نوع من التمايز بين األسر األرستقراطية‪ ،‬حيث برزت‬ ‫على ا لواجهة شريحة عليا "تقوم على الدم" تمثلت في النبالء‪ .‬كانت تربط بين األفراد‬ ‫الذين ينتمون لهذه الشريحة عالقات قرابة‪ .‬كما ارتبط أفرادها بالسلطة والثروة والجاه‬ ‫وحرصوا دوما على أن يظلوا متميزين يحظون بنوع من الهالة‪ .‬ولتحقيق هذا المسعى‬ ‫تبنوا سلوكا اجتماعيا خاصا‪ .‬فقد كانوا يقيمون كثيرا من المآدب ويغدقون بسخاء على‬ ‫رجال الدين وعلى المؤسسات الدينية‪ ،‬في المقام األول‪ ،‬ثم على فئات العامة في المقام‬ ‫الثاني‪.‬‬ ‫ما هو أصل النبالء؟‬ ‫جوابا على هذا السؤال يذهب نفر من الباحثين إلى االعتقاد بأنهم ينحدرون من‬ ‫األسر الن بيلة الرومانية‪ ،‬بينما يعتقد آخرون بأنهم شريحة اجتماعية من إنتاج العصر‬ ‫الوسيط‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فقد تأكد خالل العصر الوسيط حضور شريحة عليا في‬ ‫مختلف مناطق أوربا‪ .‬ويورد ليوبولد جنيكو (‪ )Léopold Génicot‬في هذا الشأن‬ ‫بأن "هذه الشريحة كانت فخورة بقدمها وقوية بثرواتها‪ ،‬وبتحالفاتها‪ ،‬وبالدور الذي‬

‫‪62‬‬

‫كانت تقوم به في الحياة العامة بشكل مستقل عن الملوك أو بتعاون معهم"‪ .19‬وتبعا‬ ‫لذلك كانت تتمتع بامتيازات سياسية وقانونية وبحظوة اجتماعية كبيرة‪ .‬ويمكن التأكيد‬ ‫مرة أخرى بأن هيبة األسر النبيلة كانت تقوم أساسا على الدم‪ .‬وتتجلى أهمية هذا‬ ‫المعطى إذا علمنا بأنه حدث خالل فترات متأخرة من العصر الوسيط أن لجأ بعض‬ ‫الملوك وبعض األمراء إلى القيام بإجراء يتمثل في إضفاء طابع النبالة على بعض‬ ‫األشخاص‪ ،‬ورغم أن هذا اإلجراء تم في نطاق محدود‪ ،‬فإن "نبالة" المستفيدين منه لم‬ ‫ترق أبدا إلى مستوى النبالة التي تترتب عن الوالدة‪ ،‬أي عن االنتماء ألسرة نبيلة أبا‬ ‫عن جد‪.‬‬ ‫ورغم أن األسر النبيلة تكاد تكون قد انقرضت اليوم في أوربا‪ ،‬ولم تتبق منها‬ ‫سوى فلول قليلة هنا وهناك‪ ،‬فإن لفظتي نبيل ونبالة ال يزاالن يحظيان بقيمة كبرى في‬ ‫أوساط العموم كما في أوساط المثقفين‪ ،‬ألن شكال من أشكال النبالة ظهر خالل الفترات‬ ‫المتأخرة من العصر الوسيط يتمثل في "نبالة الخصال" أو "نبالة السلوك واألخالق"‪،‬‬ ‫وأصبح موضوع نقاش بين فئة من المثقفين قابلوا بين هذه النبالة المكتسبة والنبالة‬ ‫الموروثة (التي يتعذر أحيانا على بعض األشخاص الموسومين بها إثباتها)‪ .‬وعلى كل‪،‬‬ ‫فإ ن جوهر هذا النقاش يتمحور حول طرائق ومعايير تقييم األشخاص ذكورا كانوا أم‬ ‫إناثا‪.‬‬ ‫‪ )6‬الفرسان والمجامﻠة‬ ‫شهدت مناطق أوربا حوالي سنة ألف ميالد نموذج جديد من الفئات االجتماعية‬ ‫يتمثل في الفرسان الذين كانوا متميزين عن المليشيات المعروفة عند الرومان وعند‬ ‫القبائل الجرمانية (البرابرة)‪ ،‬ألن كل عنصر من تلك المليشيات‪ ،‬أي "المليش" ( ‪le‬‬ ‫‪ ،)miles‬كان مجرد جندي أو محارب‪ .‬وقد ظل عدد هؤالء الفرسان في تزايد مطرد‬ ‫وأصبحوا يشكلون شريحة سفلى في الطبقة األرستقراطية‪ .‬ارتبطت كل مجموعة منهم‬ ‫بحصن وبسنيور‪ .‬وشكلت نخبة من المقاتلين المتخصصين‪ ،‬الذين يخوضون الحروب‬ ‫على ظهور الخيول تحت إمرة السنيور‪ .‬ويقومون فضال عن ذلك‪ ،‬وفي حضرة‬ ‫‪ - 19‬يعد ليوبولد جنيكو‪ ،‬الذي ينقل عنه لو ﯕوف هذه القولة‪ ،‬أحد أبرز المختصين في تاريخ أرستقراطية أوربا بما أنجزه‬ ‫من أبحاث مستفيضة تخص نبالء أرياف نامور (‪ )Namur‬ونبالء غرب أوربا عموما‪ .‬ومن بين تلك األبحاث الجزء‬ ‫الثاني من كتابه ‪:‬‬ ‫‪- L’économie rurale namuroise au bas Moyen Age, Louvain, Publications de l’Université‬‬ ‫→ ‪de Louvain, 1960.‬‬ ‫← وكتاب ‪:‬‬ ‫‪- La noblesse dans l’Occident médiéval, Londres, Variorum Reprints, 1982.‬‬

‫‪63‬‬

‫السنيور‪ ،‬بأنشطة "ترفيهية" مختلفة‪ ،‬أبرزها "دوريات المبارزة" (‪)les tournois‬‬ ‫التي كثيرا ما شجبتها الكنيسة‪ ،‬نظرا لما كان يلفها من عنف مفرط‪.‬‬ ‫والجديربالتذكير أن هؤالء الفرسان جبلوا فعال على القوة‪ ،‬ولم يكونوا يترددون‬ ‫في القيام بتجاوزات‪ ،‬ربما هي التي كانت وراء اندالع االحتجاجات التي ترتب عنها‬ ‫ظهور حركة السلم التي سبق الحديث عنها‪ .‬ومع مرور الوقت نجحت الكنيسة‪ ،‬فيما‬ ‫يشبه عملية "ترويض" لهؤالء الفرسان حيث شرعت في تهذيبهم من خالل توجيه‬ ‫طاقاتهم وعنفهم نحو حماية المؤسسات الدينية‪ ،‬وحماية النساء‪ ،‬واألشخاص العزل‪،‬‬ ‫وبعد فترة قصيرة نجحت في تأليبهم لخوض حروب خارج أوربا ضد مجتمعات غير‬ ‫مسيحية‪.‬‬ ‫وواصلت الكنيسة عملية "تهذيبها" للفرسان‪ ،‬واستطاعت تحقيق نجاح آخر حين‬ ‫تمكنت‪ ،‬خالل القرن الثاني عشر‪ ،‬من إقرار حفل خاص كان يتسلم فيه الشاب السالح‬ ‫استعدادا لالنخراط في سلك الفروسية (‪ .)la cérémonie d’adoubement‬وكان‬ ‫هذا الحفل يشبه "اختبار التخرج"‪ ،‬وال يمكن ألي مراهق تمرن على حمل السالح أن‬ ‫يصبح فارسا إال بعد اجتيازه‪ .‬ويعد هذا الحفل في حقيقة األمر من الطقوس ذات‬ ‫األصول الجرمانية‪ .‬أدخلت عليه الكنيسة بعض التعديالت والترتيبات لتعطيه نكهة‬ ‫دينية مسيحية‪ .‬فكان يقضي بأن يغتسل "المرشح" بماء طهور لدخول عالم الفروسية‪،‬‬ ‫ثم تقوم الكنيسة بمباركة سالحه‪ .‬وينتهي الحفل بأن يقضي "المرشح"‪ ،‬الذي أوشك بعد‬ ‫االغتسال ومباركة السالح من أن يصبح فارسا‪ ،‬الليل "قائما" (فيما يشبه عملية تدبر)‬ ‫وهو يتأبط سالحه‪ .‬فيغدو بعد تلك الليلة فارسا‪.‬‬ ‫وحدث منذ ذلك الوقت أن أخذت تحيط بعالم الفروسية هالة كبرى استمرت‬ ‫تداعياتها إلى ما بعد العصر الوسيط‪ .‬وزادت من ترسيخها تلك الكتابات األدبية التي‬ ‫اتخذ مؤلفوها من الفرسان ومن الفروسية موضوعا لهم‪ .‬فتحدثوا عن بطوالتهم‪،‬‬ ‫وشجاعتهم‪ ،‬وإقدامهم‪ ،‬وعن ولههم‪ ،‬ومغامراتهم العاطفية‪ ،‬وما إلى ذلك‪.‬‬ ‫ومن المفيد االشارة في هذا المقام الى أن ثمة عالقة وطيدة قامت بين الفروسية‬ ‫والمجاملة أو اللباقة‪ .‬وتعتبر هذه األخيرة نوعا من السلوك‪ ،‬ومن أدب المعاملة‪ ،‬ساد‬ ‫في بالطات ملوك وأمراء ما بعد مطلع القرن الحادي عشر‪ .‬ونقل كثيرا من صوره‬ ‫اإلخباريون ورجال الدين‪ .‬وقد اعتمد على مؤلفاتهم عدد من السوسيولوجيين‬ ‫والمؤرخين المحدثين والمعاصرين للبحث في تجليات ذلك السلوك‪.‬‬ ‫فوضح بعضهم كيف أن مقتضيات السلوك‪ ،‬وآداب المعاملة في البالطات‪ ،‬علمت‬ ‫األوربيين كثيرا من األشياء‪ ،‬من بينها على سبيل المثال‪ ،‬غسل اليدين قبل وبعد األكل‪،‬‬ ‫وتناول كل فرد للطعام في صحن خاص به‪ ،‬بدل األكل الجماعي في صحن واحد‪،‬‬ ‫واالمتناع عن البصق‪.‬‬

‫‪64‬‬

‫وعموما‪ ،‬ورثت أوربا الحديثة عن العصر الوسيط كثيرا من آداب المعاملة التي‬ ‫سادت في بالطات الملوك واألمراء‪ .‬وقد كان جون كلود شميت ( ‪Jean-Claude‬‬ ‫‪ )Schmitt‬محقا حين أقر بأن بالطات العصر الوسيط شكلت أهم المراكز التي انبثقت‬ ‫منها حضارة السلوك والطبائع‪ .‬ويكفي للداللة على ذلك القول بأن األعيان الرومان‬ ‫كانوا يتناولون الوجبات وهم ممتدين على األسرة‪ ،‬بينما استعمل ملوك وأعيان العصر‬ ‫الوسيط الطاولة التي ما زالت مستعملة إلى اليوم‪.20‬‬ ‫‪ )7‬تطور الزواج‬ ‫شهدت العالقة بين الرجل والمرأة تطورات كبرى في سياق تحوالت السلوك‬ ‫والطبائع وآداب المعاملة التي سبق الحديث عنها‪ .‬ومن المفيد التوقف عند الزواج الذي‬ ‫يمثل أهم تجليات تلك العالقة‪ .‬فقد كان في البدء عبارة عن قران ذي صبغة مدنية‬ ‫فشرعت الكنيسة منذ ظهور وانتشار المسيحية‪ ،‬في تنظيمه وفق قوانين ما زال معموال‬ ‫بها في أوربا إلى اليوم‪.‬‬ ‫فقد قضت الكنيسة بأن يقوم الزواج على قران غير قابل للفسخ‪ .‬وال يحق للرجل‬ ‫الزواج بأكثر من امرأة‪ ،‬رغم أن الرجال المنتمين للطبقة األرستقراطية كانوا يعقدون‬ ‫القران في الواقع على أكثر من واحدة‪ .‬كما صعبت الكنيسة من "مسطرة" الطالق‬ ‫الذي لم يعد يتم إال بإذن منها‪ ،‬وال تأذن به بسهولة إال في حالة ما إذا وقع قران بين‬ ‫رجل وامرأة تربط بينهما عالقة تقوم على الدم‪ .‬وقد كانت تنظيمات الكنيسة تقضي‬ ‫بعدم جواز قران قائم على الدم‪ .‬وبموازاة ذلك سهرت الكنيسة على التصدي بصرامة‬ ‫للخيانة الزوجية ولمختلف أشكال الزنا بشكل عام‪ ،‬وإن لم تمنع تلك اإلجراءات‬ ‫الزجرية من تفشي الظاهرة‪.‬‬ ‫وعموما‪ ،‬فإن آثار تدخل الكنيسة في عملية الزواج كانت واضحة المعالم‪.‬‬ ‫وتأكدت تلك اآلثار أكثر فأكثر منذ القرن الثاني عشر‪ ،‬حيث لم يعد بإمكان ذكر وأنثى‬ ‫القيام بعقد قران إال بحضور أحد الكهنة‪ .‬وظل حفل الزواج يتم في طقوس خاصة قبالة‬ ‫بناية الكنيسة‪ ،‬حتى مطلع القرن السادس عشر‪ ،‬حيث ستفتح الكنائس أبوابها أمام‬ ‫المتزوجين ليتم الحفل داخل أبهاءها‪.‬‬

‫‪ - 20‬ال بأس من االشارة‪ ،‬على هامش ما نقله لوﯕوف عن جون‪-‬كلود شميث‪ ،‬بأن هذا األخير حاضر في تاريخ أوربا‬ ‫الوسيط بعدة جامعات فرنسية وأنجليزية وأمريكية‪ .‬يهتم كثيرا بقضايا الفكر والطقوس والعادات‪ ،‬التي يتناولها باعتماد‬ ‫التحليل األنثروبواوجي‪ .‬ومن بين تلك القضايا سلوك أفراد مجتمع العصر الوسيط‪ ،‬وأطعمتهم وأشربتهم‪ ،‬وآدابهم في‬ ‫األكل‪ ،‬وما الى ذلك‪ .‬و يشغل حاليا‪ ،‬الى جانب مسؤولياته الكثيرة‪ ،‬منصب مدير الدراسات واألبحاث في مؤسسة‬ ‫"‪ "Campus Condorcet‬الواقعة بضواحي باريس‪ ،‬التي خصصت برنامجاها خالل سنة (‪ )2013-2014‬لتناول‬ ‫موضوع "األكل وآداب الجلوس الى المائدة كظاهرة اجتماعية"‪.‬‬

‫‪65‬‬

‫‪ )8‬الحب الرقيق (أو الحب العذري)‬ ‫انبثقت عن العالقة بين الذكور واإلناث أشكال جديدة من الحب‪ ،‬لعل أبرزها‬ ‫ذلك الشكل الذي عرف باسم "حب اللباقة" (‪ ،)l’amour courtois‬أو "الحب‬ ‫الرقيق" (‪ )fin’amor‬الذي كان يعكس شعورا بالهيام والوله الشديدين من قبل رجل‬ ‫تجاه امرأة من وسط راق‪ ،‬حتى أن "الولهان" كان يتدلل للمرأة ويبدي خضوعا تاما‬ ‫لها كالخضوع الذي يبديه فصل (‪ )un vassal‬تجاه سيده السنيور‪.‬‬ ‫وتجدر االشارة الى أن الباحثين اختلفوا حول نشأة هذا النوع من الحب وحول‬ ‫مغزاه الحقيقي رغم إجماعهم بأن "تروبادوريو" (‪ )les troubadours‬منطقة‬ ‫أوكسيطانيا (‪ )l’Occitanie‬بجنوب غالة كانوا أول من أشاعه‪ ،‬بما يفيد تأثرهم بنوع‬ ‫مماثل لهذا الحب شاع بين العرب‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فالراجح أن يكون "الحب الرقيق" (العذري) قد نشا وتطور‬ ‫خارج مؤسسة الزواج‪ .‬ويمكن أن نقدم كمثال على ذلك وله الفارس اإلفرنجي ترستان‬ ‫(‪ )Tristan‬بالشقراء اإلرلندية إيزوت (‪ )Iseut‬زوجة مارك ملك كورنوواي‬ ‫(‪ .)Cornouailles‬ومثل هذا الحب كان يتنافى تماما مع مبادئ الحب والزواج التي‬ ‫كانت الكنيسة تروم ترسيخها‪ .‬وفي كثير من الحاالت اتخذ هذا النوع من الحب طابعا‬ ‫"هرطقيا" (‪ ،)hérétique‬مما يدفع إلى طرح أكثر من عالمة استفهام‪ .‬هل كان هذا‬ ‫الحب أفالطونيا؟ هل كان حبا حقيقيا واقعيا؟‪ ،‬أم كان مجرد حب من صنع الخيال؟ هل‬ ‫عاش أفراد حقيقيون تجربته؟‪ ،‬أم كان مجرد حكايات نسجها ثلة من األدباء؟‬ ‫ودون القيام بعرض أجوبة مفصلة لهذه األسئلة‪ ،‬يمكن االقرار بأن الحب الرقيق‬ ‫(العذري) كانت له انعكاسات على الحب المعاش في الواقع وعلى الحب كإحساس‬ ‫عموما‪ .‬كما أن هذا الحب كان نوعا من الطوباوية التي لم يكن لها حضور في الواقع‬ ‫كممارسة وكإحساس بين أشخاص حقيقيين‪ .‬وكان حبا خاصا بالطبقة األرستقراطية‪،‬‬ ‫ولم ينتشر قط بين أفراد طبقة العامة‪.‬‬ ‫ويمكن التساؤل على هامش هذه الخاللصة‪ ،‬عما إذا كان الحب الرقيق يفيد‬ ‫بتحسن في وضعية المرأة؟ وجوابا على هذا السؤال أستحضر وجهتي نظر كل من‬ ‫جون‪ -‬شارل هوشي (‪ )Jean-Charles Huchet‬وجورج دوبي (‪ ،)Duby‬حيث‬ ‫يذهب األول إلى القول بأن هذا الحب عيش في حقيقته كفن (‪ )un art‬يرمي إلى‬ ‫استبعاد المرأة (‪ )la mise à distance‬بواسطة الكلمات‪ .21‬بينما يرى الثاني بأنه كان‬

‫‪ - 21‬وجهة نظر جون‪-‬شارل هوشي التي اختزلها جاك لو ﯕوف في هذا المقام عبر عنها في كتاب نشره تحت عنوان ‪:‬‬ ‫‪L’amour discourtois. La "fin’amors’" chez les premiers troubadours,Toulouse, Les Editions‬‬ ‫‪Privat, 1987.‬‬

‫‪66‬‬

‫بمثابة لعبة (‪ )un jeu‬ظل يتحكم فيها الرجال‪ ،‬ألن الحب الرقيق العذري لم يقدم‬ ‫للنساء المنتميات للطبقة األرستقراطية سوى "والء" (‪ )un hommage‬خياليا ال سند‬ ‫له في الواقع المعاش‪.22‬‬ ‫وعلى كل‪ ،‬فإن الحب الرقيق العذري وجد من يخصه بمؤلف‪ ،‬هو بمثابة دليل‪،‬‬ ‫كان له تأثير كبير على مدى قرون من الزمن‪ .‬إنه "كتاب الحب" ( ‪Tractatus de‬‬ ‫‪ )Traité sur l’amour( )amor‬الذي وضعه أندري لو شابالن ( ‪André le‬‬ ‫‪ )Chapelain‬سنة ‪ .231184‬ويمكن إدراج هذا المؤلف ضمن الجهود ذات الطابع‬ ‫الحضاري التي كانت تروم تهذيب سلوك األفراد‪ ،‬كما سبق الحديث عن ذلك‪ .‬ومن هنا‬ ‫نفهم لماذا ذهب بعض الباحثين إلى اعتبار الحب الرقيق مدخال نحو الحب العصري‪،‬‬ ‫بينما ظل أبطاله‪ ،‬من أمثال ترستان وإيزوت‪ ،‬قدوة للمحبين والعشاق‪.‬‬ ‫‪ )09‬ابيالر وهيﻠواز ‪ :‬المثقفون وصيغ الحب العصري‬ ‫كان للحب الرقيق العذري أبطال معظمهم من نسج الخيال‪ ،‬وقليل منهم أمكن‬ ‫إثبات وجودهم‪ .‬ومن بين هذه الفئة القليلة‪ ،‬ثنائي أعطى لهذا النوع من الحب نكهة‬ ‫خاصة‪ ،‬ويتعلق األمر ببيير أبيالر(‪ )Pierre Abélard‬وهلواز(‪.)Héloïse‬‬ ‫فقد اشتهر أبيالر في تاريخ أوربا الوسيط بكونه كان فيلسوفا وعالم الهوت يلقن‬ ‫المعرفة في إحدى المدارس‪ .‬فحدث‪ ،‬وهو كهل في سن الخامسة والثالثين أن وقع‪ ،‬منذ‬ ‫سنة ‪ 1117‬في حب تلميذة له تنتمي لوسط أرستقراطي‪ .‬ونتج عن ذلك الحب ميالد‬ ‫طفل‪ .‬وكانت نتيجة هذه العالقة وخيمة جدا‪ ،‬تمثلت في قيام أفراد مقربين من الفتاة‬ ‫بإخصاء أبيالر انتقاما لشرف األسرة‪ .‬ثم تال هذا الحدث الدرامي انعزال العشيقين‪،‬‬ ‫كل واحد في موناستير‪ .‬أبيالر في سان‪ -‬دوني وبعد ذلك في سان جيلداس بمنطقة‬ ‫بروطانيا‪ ،‬وهيلواز في دير بمنطقة شامبانيا‪ .‬ورغم ذلك تواصل الحب بين العشيقين‬ ‫حتى وفاتهما كما تفصح عن ذلك الرسائل المتبادلة بينهما‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن قصة أبيالر وهيلواز تقدم أجوبة عن عدد من األسئلة‬ ‫المتصلة بالحب رغم صعوبة تعميم تلك األجوبة على جميع حاالت الحب‪ ،‬من قبيل‬ ‫‪ -22‬وردت وجهة نظر جورج دوبي في كتابين هما ‪:‬‬ ‫‪- Mâle Moyen Age, de l’amour et autres essais, Paris, Flammarion ; 1988.‬‬ ‫‪- Dames du XIIe siècle, Paris, Gallimard, 1995, 2 tomes.‬‬ ‫‪ - 23‬واضع الكتاب أندرياس كبيالنوس (‪ ،)Andreas Capellanus‬مفكر فرنسي عاش في بالط الملك لويس السابع‬ ‫(أو لويس الشاب) بين سنتي ‪ 1160‬و‪ .1180‬وكان مقربا من ماريا (‪ )Marie de France‬ابنة الملك التي طلبت منه‬ ‫وضع مؤلف في الحب‪ .‬فأنجز كتاب "‪ "De Amor‬الذي يذكر كثيرا بكتاب "طوق الحمامة في اللفة واالالف" البن حزم‬ ‫األندلسي‪ .‬استعرض كبيالنوس في كتبه المبادئ التي يقوم عليها الحب العفيف‪ .‬وبين تجلياته وخصائصه‪ ،‬ومواصفات‬ ‫المحبين‪ .‬فعد دليال في الحب‪ .‬وقد تمت ترجمته إلى اللغتين األنجليزية والفرنسية‪ ،‬منذ مطلع أربعينيات القرن الماضي‪،‬‬ ‫تحت عنوان ‪" :‬مبادئ الحب"‪ ،‬أو "فن الحب"‪.‬‬

‫‪67‬‬

‫القول بأن الحب العصري هو حب جسدي من دون شك‪ ،‬وأن االتجاه الغالب عليه هو‬ ‫كونه شعور ينمو ويتطور خارج مؤسسة الزواج‪ .‬ويبدو واضحا أن أبيالر كان يسعى‬ ‫إلى إضفاء طابع الشرعية على عالقته بهلواز‪ ،‬ولكن الصيغة التي أراد بها تحقيق ذلك‬ ‫تثير االستغراب ألنها تبدو "حداثية" بالمقارنة مع زمانها‪ .‬ويستشف من بعض رسائل‬ ‫هلواز بأنه كان من الصعب على مثقف مثل أبيالر أن يوفق بين العمل الفكري‬ ‫والزواج‪ .‬وتكتسي هذه المسألة أهمية بالغة ألنها تفيد بميالد نخبة مثقفة "حداثية"‪ ،‬في‬ ‫وقت جد مبكر‪ ،‬كما تشير إلى موقع الحب العذري في أوساط هذه النخبة‪.‬‬ ‫‪ )10‬القبﻠة عﻠى الفم‬ ‫يشترك الحب العذري مع الفصالة (أو التبعية) في كونهما عالقتان تنشآن بين‬ ‫فردين يجمع بينهما شعور حميمي وتعابير جسدية‪ .‬وقد قدر لكل من الحب العذري‬ ‫والفصالة أن ينشآ في أوربا‪ ،‬ويعمرا فترات طويلة وتترتب عنهما امتدادات اليزال لها‬ ‫حضور‪.‬‬ ‫فمن المعروف أن عملية تحول شخص إلى فصل تابع لسيد‪ ،‬أي سنيور‪ ،‬كانت‬ ‫تتم في حفل عام وتحيط بها طقوس خاصة‪ .‬وفي هذا الحفل "يقف" الشخص الذي‬ ‫سيصبح فصال على ركبتيه (‪ ،)il s’agenouille‬ثم يضع يده على الكتاب المقدس‬ ‫ويؤدي يمين الوالء بأن يظل مخلصا لسيده ويقبل يد السنيور‪ ،‬وفي بعض المناطق كان‬ ‫الفصل يقبل السنيور من الفم‪.‬‬ ‫وعلى غرار عملية الدخول في الفصالة‪ ،‬كان المحب المتيم يقدم الوالء للمرأة‬ ‫التي تعلق قلبه بها‪ ،‬ويقدم لها الوالء ويتعهد بأن يظل مخلصا لها طوال حياته‪ .‬وبغض‬ ‫النظر عن الطابع القانوني وعن الطقوس المحيطة بالعمليتين‪ ،‬وخاصة عملية الدخول‬ ‫في الفصالة‪ ،‬فإن الخطوات المتبعة فيهما انتشرت في األوساط االجتماعية فترة طويلة‪.‬‬ ‫ثم أصبحت العالقة بين شخصين تقوم على أساس اإلخالص المتبادل‪ .‬واقترنت بهذا‬ ‫اإلخالص تعابير جسدية من قبيل القبلة على الفم التي ورثها األوربيون عن العصر‬ ‫الوسيط‪ .‬وقد كانت تلك القبلة تتم بين رجلين (الفصل والسنيور)‪ ،‬وظل معموال بها‪،‬‬ ‫كتعبير عن السالم‪ ،‬بين رجال السياسة في أقطار أوربا الشرقية زمن سيادة الشيوعية‪.‬‬ ‫ثم غدت بعد ذلك تعبيرا عن الحب والوله بين رجل وامرأة‪ .‬وهذا التعبير بالذات‪ ،‬هو‬ ‫الذي قدر أن يكون له مستقبل زاهر في أوربا‪.‬‬ ‫‪ )11‬الطوائف العسكرية وروح "النضال"‬ ‫شهدت أوربا الفيودالية خالل القرنين الحادي عشر والثاني عشر ميالد طوائف‬ ‫جديدة منبثقة عن األديرة‪ .‬وقد تمت هذه النشأة بالموازاة مع اندالع الحروب الصليبية‪.‬‬

‫‪68‬‬

‫كانت هذه الطوائف ذات صبغة دينية‪ ،‬وأبرزها طائفة المعبد‪ ،‬وطائفة‬ ‫المضيفين التابعة للقديس يوحنا المقدسي (‪ ،)Saint-Jean de Jérusalem‬وطائفة‬ ‫القديسة ماريا التوتونية األلمانية‪ ،‬وغيرها من الطوائف في انجلترا وفي شبه جزيرة‬ ‫أيبيريا‪.‬‬ ‫رفعت هذه الطوائف شعار"السيف" و"الصالة" و"التنصير"‪ .‬ودخلت في مواجهة‬ ‫مفتوحة مع أعدائها من الوثنيين والمسلمين‪ .‬وتعتبر توجهاتها بمثابة تمرد على المبدأ‬ ‫القائل بأن رجال الدين ال يجب أن يعملوا على إراقة الدماء‪ ،‬رغم أن األسقف بيرنار‬ ‫(‪ )Saint Bernard‬أحد اقطاب النظام السيستيرسي (‪ 24)l’ordre cistercien‬نوه‬ ‫بانخراط الفرسان‪ ،‬المنتمين لما سماه بالمليشيا الجديدة (‪ ،)la nova militia‬في‬ ‫الحروب الصليبية‪.‬‬ ‫وأعتقد بأن نشأة هذه الطوائف‪ ،‬التي أخذت منحى عسكريا‪ ،‬يجب وضعها في‬ ‫سياق مناخ عام تميز بتغليب الطابع المسيحي على المواقف العسكرية‪ .‬ورغم أن‬ ‫المسيحية ليست ديانة عسكرية‪ ،‬فقد أضحت "مناضلة" أكثر فأكثر‪ .‬وفي ضوء هذا‬ ‫التطور نشأت صيغة "النضال" (‪ )le militantisme‬التي أصبح لها فيما بعد شأو‬ ‫كبير‪.‬‬ ‫‪ )12‬اإلصالح الﯕريﯕوري ‪ :‬التمييز بين رجال الدين والالئكيين‬ ‫يمكن افتتاح هذا "المبحث" بتذكير القارئ بما سبق قوله عن حركة التغيير التي‬ ‫‪ - 24‬يعد أحد التنظيمات الدينية‪ .‬أنشأه الراهب روبير الموليمي (‪ )Robert de Molesme‬سنة ‪ 1098‬بعد أن كان من‬ ‫مريدي أحد الموناستيرات التابعة لتنظيم كلوني‪ .‬غادر هذا التنظيم ‪ ،‬الذي لم تعد ترقه توجهاته‪ ،‬وأنشأ ديرا جديدا بقرية‬ ‫موليم (الواقعة بمنطقة بورﯕونيا) حمل إسم دير شيتو (‪ )Abbaye de Cîteau‬الذي يمثل نواة التنظيم الذي سيعرف فيما‬ ‫بعد بالتنظيم السيستيرسي‪.‬‬ ‫حاول روبير الموليمي العودة بهذا التنظيم الى أصول المسيحية‪ ،‬وحظ مريديه على تبني حياة البساطة والتبتل وفقا‬ ‫للمبادئ التي وضعها القديس بينوا النورسي‪ .‬وقد ساهم هذا التنظيم في نشر الديانة والحضارة المسيحيتين‪ ،‬وفي عمارة‬ ‫المناطق المجاورة له بواسطة مريديه الذين كانوا يجمعون‪ ،‬على غرار مريدي األديرة التابعة للتنظيم البيندكتي‪ ،‬بين‬ ‫الصلوات الفردية والجماعية والعمل اليدوي‪.‬‬ ‫شهد التنظيم تطورا ملحوظا منذ سنة ‪ 1130‬تحت تأثير الراهب بيرنار دو كليرڤو (‪)Bernard de Clairvaux‬‬ ‫الذي التحق بدير شيتو سنة ‪ .1112‬وانظم سنة ‪" 1119‬للجنة" سهرت على اعادة النظر في "القانون" المنظم للدير‪ .‬فقام‬ ‫بدور مهم في صياغة ما يعرف "بميثاق الصدقة" (‪ )Carta Caritatis‬الذي أعطى دفعة قوية للدير األم‪ ،‬وحدد عالقاته‬ ‫بالفروع التي تزايدت أعدادها في مختلف مناطق غرب أوربا‪ .‬كما ساهم الراهب المذكور في استقطاب كثير من‬ ‫المريدين‪ ،‬حتى أن عددا من الباحثين ذهبوا الى ربط نشأة التنظيم السيستيرسي بشخص بيرنار دو كليرڤو‪ .‬وال يزال هذا‬ ‫الدير قائما في فرنسا المعاصرة‪ .‬وقد أصدر أحد مريديه الراهب ميشال نيوسات (‪ )Michel Niaussat‬كتابا يعرض‬ ‫لتاريخ الدير تحت عنوان ‪:‬‬ ‫‪L’Ordre cistércien, Paris, Les Editions Ouest France, 2001.‬‬ ‫ويمكن أيضا االطالع على كتاب ‪:‬‬ ‫‪André Vauchez, La spiritualité du Moyen Age occidentale, VIIIe-XIIIe siècle, Paris, P.U.F.‬‬ ‫‪1975.‬‬

‫‪69‬‬

‫شهدتها الكنيسة‪ ،‬عقب اعتالء ﯕريﯕوار السابع كرسي البابوية بين سنتي ‪1073‬‬ ‫و‪.1085‬‬ ‫لقد تمثلت تلك الحركة في جملة إصالحات سعى البابا المذكور من ورائها إلى‬ ‫تحصين البابوية من تدخالت األعيان الالئكيين في شؤونها‪ .‬وإن كان مراده من وراء‬ ‫ذلك‪ ،‬التصدي لرغبة اإلمبراطور الجرماني في احتواء البابوية‪.‬‬ ‫وعموما‪ ،‬فقد أفضت إصالحات ﯕريﯕوار إلى إحداث فصل بين رجال الدين‬ ‫والالئكيين‪ ،‬أي بين هللا والقيصر‪ ،‬وبين البابا واإلمبراطور خالفا تماما لما كان عليه‬ ‫الوضع في اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬حيث كان القيصر والبابا يمثالن وجهان لعملة‬ ‫واحدة‪ ،‬ألن القائم على األمر بها‪ ،‬كان إمبراطورا وبابا إلى حد ما على غرار النظام‬ ‫المتبع في دار اإلسالم‪ ،‬والذي ال تمييز فيه بين ما هو ديني وما هو سياسي‪ ،‬ألن هللا‬ ‫قادر مقتدر والخليفة ظله على األرض‪.‬‬ ‫ويبدو أن المؤسسة الدينية أصبحت مستقلة نسبيا بعد إصالحات ﯕريﯕوار‪ ،‬كما‬ ‫تم تحديد المسؤوليات ذات الصلة بما يسمى "بالالئكة" (‪ .)le laïcat‬ولم يتطور األمر‬ ‫إلى درجة حدوث انفصال تام بين الجانبين‪ ،‬ألن اإلصالحات المذكورة تمت في إطار‬ ‫ديني‪ ،‬ولذلك ظلت وضعية "الالئكة" المشار إليها جزء من الكنيسة‪ .‬ولكن هذا االنتماء‬ ‫ظل ساري المفعول لحين فقط‪ ،‬ألن إصالحات ﯕريﯕوار‪ ،‬واإلصالحات التي تلتها‬ ‫خالل القرون الموالية‪ ،‬وخاصة تلك التي بوشرت في نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬مهدت‬ ‫الطريق لظهور الالئكية (‪ )la laïcité‬التي تتجاوز "الالئكة" (‪.)le laïcat‬‬ ‫ولتبرير المنحى الذي سلكه هذا التطور يمكن إثبات نص مطول ألحد أقطاب‬ ‫اإلصالح الﯕريﯕوري يذكر فيه "أنه تم الفصل بين رجال الدين والالئكيين داخل‬ ‫المصليات‪ ،‬حيث خصصت لكل فئة مقاعد خاصة‪ ،‬وكذلك مرافق خاصة‪ ،‬فيتوجب إذا‬ ‫أن يتم التمييز بينهم في الخارج أيضا‪ ،‬وفقا للمهام التي تقوم بها كل فئة‪ .‬وعليه‪ ،‬فيجب‬ ‫أن يلتزم الالئكيون بالمهام المنوطة بهم‪ ،‬أي مهام العصر (المهام الدنيوية)‪ ،‬وكذلك‬ ‫يجب على رجال الدين االلتزام بالمهام الموكلة إليهم‪ ،‬أي المهام المتصلة بالكنيسة‪ .‬وقد‬ ‫اطلع هؤالء وأولئك على القوانين التنظيمية ذات الصلة"‪ .‬كما أقرت إصالحات‬ ‫ﯕريﯕوار‪ ،‬إلى جانب المبادئ التي تحدد هذا التمييز بين رجال الدين والالئكيين‪ ،‬صيغا‬ ‫وأشكاال جديدة لتأطيرالمجتمع‪ .‬وتتضح معالم هذه الصيغ واألشكال‪ ،‬من خالل بعض‬ ‫الكلمات والعبارات من قبيل كلمة "األبرشية"‪ ،‬التي تطلق على مؤسسة سبق الحديث‬ ‫عنها‪ ،‬وكلمة "تعميد األطفال"‪ ،‬و"األسرة"‪ ،‬و"الزواج المسيحي"‪ ،‬و"تهذيب سلوك‬ ‫األفراد"‪ ،‬عن طريق الزجر أحيانا وعن طريق التذكير بعقاب جهنم أحيانا أخرى‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فقد وجدت إصالحات ﯕريﯕوار من ينتصر لها بعد وفاته‪.‬‬ ‫ومما ال شك فيه أنها تركت آثارا عميقة استمر مفعولها على المدى البعيد في معظم‬ ‫مناطق العالم المسيحي‪.‬‬ ‫‪ )13‬صراع الفضائل والرذائل‬ ‫الشيطان يستشيط‬ ‫كان القرنان الحادي عشر والثاني عشر فترة تحوالت كبرى بامتياز‪ .‬وقد شملت‬ ‫تلك التحوالت العقائد والممارسات الدينية أيضا‪ .‬وتركت آثارا عميقة وبعيدة المدى في‬ ‫أوربا‪.‬‬ ‫وقد تم الحديث في فقرة سابقة عن تنامي وانتشار ما يمكن تسميته بروح‬ ‫النضال‪ ،‬والرغبة في الصراع اللتان ارتبطتا بتنامي الفروسية والفرسان‪ .‬ويبدو أن تلك‬ ‫الرغبة في الصراع اجتاحت بصورة رمزية عالم الروح‪ .‬فأصبح خالص الرجال‬ ‫والنساء مرتبطا في نهاية المطاف بحصيلة صراع مرير‪ ،‬هو صراع بين الفضائل‬ ‫والرذائل‪ .‬فكان يرمز إلى الفضائل بفرسان مدججين بالسالح‪ ،‬بينما كان يرمز إلى‬ ‫الرذائل بمحاربين وثنيين ال يسود بينهم نظام‪ .‬وعليه‪ ،‬فقد انتشر في جميع األوساط‬ ‫اعتقاد مفاده أن عالم الخطيئة هو تحت رحمة الشيطان الذي ال ينفك عن الغارة عليه‪.‬‬ ‫ومن غريب الصدف‪ ،‬أن غارات الشيطان‪ ،‬عدو اإلنسان‪ ،‬تكاثفت خالل هذه‬ ‫الحقبة التاريخية بالذات‪ ،‬في وقت لم يكن قد اكتمل فيه "المسرح" الذي شرعت في‬ ‫تشييده الكنيسة منذ العصر الوسيط األعلى‪ ،‬ليقدم على منصته الشيطان "رقصاته"‪.‬‬ ‫وهكذا أصبح الشيطان ال يبارح اإلنسان في صباحه وفي مسائه‪ ،‬حتى أنه تملك بعض‬ ‫األشخاص‪ .‬وتمثل أعراض هذا التملك مقدمات لتلك األمراض النفسية والعصبية التي‬ ‫انكب على معالجتها‪ ،‬عند نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬ثلة من األطباء وعلماء النفس‬ ‫أمثال جون‪-‬مارتان شاركو(‪ )Jean-Martin Charcot‬وسيغموند فرويد(‪Sigmund‬‬ ‫)‪.Freud‬‬ ‫كان الشيطان يتملك بعض األشخاص بقوة لدرجة السيطرة على عقولهم‪،‬‬ ‫فيصا بون بالهلوسة والتهيؤات‪ .‬وفي أحسن األحوال كانوا يقعون فريسة إغراءات‬ ‫تقودهم للوقوع في الرذيلة‪ .‬ولحسن الحظ أن الكنيسة شرعت في تنظيم الصراع ضد‬ ‫الشيطان وضد الرذيلة‪ .‬وتجلى هذا التنظيم في إجراءات طرد األرواح الشريرة‬ ‫(‪ ،)l’exorcisme‬وفي إقامة الصلوات‪ ،‬وتنظيم جلسات االعتراف بالخطيئة للتكفير‬ ‫عن الذنب‪ .‬ولكن جميع هذه اآلليات كانت محدودة الفعالية‪ ،‬ألن الشيطان كان ينشط في‬ ‫فترة تاريخية اتخذت فيها السلطة و"القدرة" أشكاال "أمبريالية"‪ .‬وأستحضر لتأكيد ما‬

‫‪71‬‬

‫أذهب اليه قولة لدانتي أليﯕييري (‪ (Dante Alighieri‬في الموضوع يذكر فيها "أن‬ ‫الشيطان كان يعمل آنذاك ليتحول إلى إمبراطور لمملكة اآلالم"‪.25‬‬ ‫‪ )14‬الثقافة الشعبية‬ ‫أوربا التي استشاط فيها الشيطان كانت في ذات الوقت مجاال مسيحيا ظهرت فيه‪،‬‬ ‫أو عادت للظهور‪ ،‬ثقافة ذات صبغة شعبية‪ .‬إذ رغم الجهود التي بذلت لنشر المسيحية‪،‬‬ ‫فإن هذه األخيرة لم تتغلغل في أوساط عدد من الذين اعتنقوها حديثا‪ ،‬ومعظمهم من‬ ‫الفالحين‪.‬‬ ‫وال مجال لالنكار بأن الكنيسة خاضت صراعا محموما ضد بعض المعتقدات‬ ‫وبعض السلوكيات الموروثة عن العهد الروماني أو عن الماضي الجرماني (البربري)‬ ‫والتي نعتتها جميعها بكونها وثنية دون تمييز‪ .‬ولكنها اضطرت بعد مطلع القرن‬ ‫الحادي عشر إلى تحويل صراعها ضد المجموعات الهرطقية وضد الفكر الجديد الذي‬ ‫أخذ ينبثق في أوربا‪ ،‬والذي شرعت في احتضانه مؤسسات جديدة‪ .‬فقد سمح النمو‬ ‫الديموغرافي والتوسع االقتصادي للفئات االجتماعية من غير رجال الدين"المحترفين"‬ ‫بأن يصبحوا قوة اجتماعية‪ .‬فغدت قصور"السنايير" فضاءات ثقافية أخذت تتبلور فيها‬ ‫هوية "السنايير" والفالحين‪ ،‬وهي هوية مختلفة طبعا عن هوية رجال الدين‪ .‬فنشأت‬ ‫عن ذلك‪ ،‬أو نهضت مجددا‪ ،‬ثقافة شعبية‪.‬‬ ‫وأعتقد أن معرفة األوربيين بهذه الثقافة تكاد تكون اليوم مكتملة من خالل عدد‬ ‫من مؤلفات رجال الدين الذين تصدوا لها‪ ،‬من قبيل بورشار (‪ )Burchard‬أسقف‬ ‫كنيسة وورمس (‪)Worms‬الذي وضع حوالي سنة ‪ 1012‬مؤلفا يستعرض في جزء‬ ‫منه كثيرا من الممارسات المنحرفة للفالحين في مجال الجنس‪ ،‬وكذا الشعائر التي‬ ‫كانوا يقومون بها الستجداء التساقطات المطرية‪ ،‬وبعض عاداتهم في تنشئة األطفال‪،‬‬ ‫ومواقفهم من الموت‪ .26‬ويمكن استعراض نموذج من بين تلك الممارسات‪ ،‬يبين كيف‬ ‫كان التداخل قائما بينها وبين الممارسات المسيحية‪ .‬ويتمثل هذا النموذج فيما كانت‬ ‫تقوم به األسرة عند وفاة أحد أطفالها‪ .‬فإذا ما حدث أن توفي طفل‪ ،‬لم يكن قد تم‬ ‫تعميده‪ ،‬يضع بعض النسوة جثمانه في زاوية من البيت‪ ،‬ويقمن بثقب موضع من جسده‬ ‫بوتد اعتقادا بأنهن إن لم يقمن بذلك سيحيي الطفل مجددا ويقوم ببعض التصرفات‬ ‫المؤذية لذويه ولعموم الناس في محيطه‪ .‬وأذكر استنادا إلى ما أورده جون‪ -‬كلود‬ ‫‪ -25‬تحدث دانتي‪ ،‬الشاعر ورجل السياسة الفلورنسي‪ ،‬عن الشيطان في القسم الذي خصصه للجحيم في ملحمة "الكوميديا‬ ‫االلهية"‪ .‬أنظر النسخة العربية لهذا القسم في كتاب حسن عثمان‪ ،‬الكوميديا االلهية‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬الجحيم‪ ،‬دار المعارف‪،‬‬ ‫القاهرة‪.1988 ،‬‬ ‫‪ - 26‬نشير إلى أن بورشار جمع بين الثقافتين الدينية والقانونية‪ .‬وقد تضمن مؤلفه كثيرا من المبادئ التي تشكل ما يمكن‬ ‫تسميته "بمدونة قانون األسرة المسيحية"‪.‬‬

‫‪72‬‬

‫شميت في أحد أبحاثه في الموضوع بأن الخوف من عودة األموات‪ ،‬أوعودة األرواح‪،‬‬ ‫كان مجال كثير من المعتقدات والطقوس التي اشترك فيها الوثنيون والمسيحيون‪.‬‬ ‫وعموما‪ ،‬فإن مكونات الثقافة الشعبية كانت راسخة ومتجذرة في األوساط‬ ‫االجتماعية‪ ،‬وربما هنا يكمن سبب إخفاق الكنيسة في اجتثاثها‪ ،‬وخاصة حين عجزت‬ ‫هذه المؤسسة الدينية عن اقتراح منتوج ثقافي بديل مقبول ومقنع‪ .‬وعلى سبيل المثال‪،‬‬ ‫حاولت الكنيسة إقصاء الرقص والمواكب التي يكون المشاركون فيها مقنعين ( ‪les‬‬ ‫‪ ،)processions masquées‬ولكن دون جدوى‪ .‬ونفس الشيء ينطبق على الحكايات‬ ‫الشعبية‪ ،‬التي لم تستطع الكنيسة سوى إعادة صياغتها وإضفاء الطابع الديني المسيحي‬ ‫عليها لتغدو جزءا من الثقافة العالمة‪ .‬وهذا ما تفصح عنه على سبيل المثال الخالصات‬ ‫التي توصل إليها ثلة من الباحثين في تاريخ الفولكلور في فلندا (‪ )la Finlande‬منذ‬ ‫مطلع القرن التاسع عشر‪ .‬فقد قاموا بتجميع كل التعابير واألشكال الفلكلورية‪ ،‬واكتشفوا‬ ‫بعد تحليلها والبحث في سياقها التاريخي‪ ،‬بأن أصولها تعود للعصر الوسيط‪ .‬وينطبق‬ ‫نفس األمر على الكرنڤال الذي أخذت تحتضنه روما منذ القرن الثالث عشر‪ ،‬والذي‬ ‫كان في األصل عبارة عن طواف حول المدينة‪.‬‬ ‫وقدر لهذه الثقافة الشعبية أن تزداد ثراء وتصبح ذات طابع احتفالي أكثر خالل‬ ‫القرنين الخامس عشر والسادس عشر‪ .‬وتجلى هذا الطابع على سبيل المثال في‬ ‫الكرنڤال الذي كان يتم تنظيمه قبيل عيد الفصح‪.‬‬ ‫واستنادا إلى دراسات وأبحاث المختصين في تاريخ الفلكلور‪ ،‬يمكن القول بأن‬ ‫الثقافة الشعبية التي سادت في عصر الفيودالية هي ثقافة أوربية انضافت إليها عناصر‬ ‫كثيرة ومتنوعة تنتمي إلى ثقافات حقبة ما قبل ظهور وانتشار المسيحية‪ .‬وقد خففت‬ ‫تلك الثقافة الشعبية من حدة التنوع وساعدت على تحقيق بعض مظاهرالوحدة‪ .‬وفيها‬ ‫وجدت ثقافات كثيرة سلتية وجرمانية وسالڤية ومتوسطية تعبيرات خاصة بها‪.‬‬ ‫‪ )15‬العمالت والوثائق العقدية‬ ‫استعمل األوربيون العملة على نطاق محدود قبل القرن التاسع‪ .‬وكان من‬ ‫الممكن أن يتسع نطاق تداولها منذ عهد شارلمان‪ ،‬الذي حاول حمل "المتعاملين" في‬ ‫سائر ربوع اإلمبراطورية على استعمال عملة موحدة‪ ،‬أو على األقل عدد معين من‬ ‫القطع النقدية‪ ،‬غير أنه لم يفلح في ذلك‪ .‬ويفيد هذا الفشل بعدم قدرته على إقامة فضاء‬ ‫اقتصادي "قروسطوي" موحد‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬فإن تنوع العملة المتداولة يفيد بأهمية‬ ‫استعمال النقود من قبل فئات اجتماعية لم تكن تقوم بذلك قبل اعتناقها للمسيحية‬ ‫وانضمامها للعالم المسيحي‪.‬‬

‫‪73‬‬

‫ومن المفيد التذكير بأن عمليات سك العملة بدأت في مناطق شرق نهر الراين‬ ‫بعد سنة ‪ 900‬بقليل‪ .‬وبعد مضي فترة شرع دوقات بوهيميا بدورهم في القيام بالمثل‪.‬‬ ‫ومنذ سنة ‪ 980‬أخذ األمراء البولنديون هم اآلخرين في ضرب العملة‪ ،‬ثم تالهم‬ ‫الهنغاريون حولي سنة ‪.1000‬‬ ‫ومن هذا المنطلق‪ ،‬حق ألحد الباحثين أن يقول بأن سنة ألف شهدت شيوع‬ ‫عمالت جديدة انتشرت من ضفاف نهر الدانوب حتى سواحل بحر البلطيق وبحر‬ ‫الشمال‪ .‬والى جانب العملة‪ ،‬انتشرت في سائر أنحاء العالم المسيحي أداة أخرى من‬ ‫أدوات التواصل وممارسة السلطة تمثلت في الوثائق‪ .‬ومما ال شك فيه أن استعمال‬ ‫تقنيات التعبير الكتابي سهل انتشار هذه الوثائق‪ ،‬وشكل أحد دعائم الوحدة‪ .‬وسيتم‬ ‫الحديث عن هذا الجانب في مبحث الحق سيخصص للحديث عن للكتاب في أوربا‪.‬‬ ‫وأود‪ ،‬استنادا لما أورده الباحث روبير بارتليت (‪ )Robert Bartlett‬في‬ ‫الموضوع‪ ،‬التركيز على نوع معين من الوثائق ذات الصبغة القانونية تعرف باسم‬ ‫"‪( "les chartes‬المواثيق أو العقود)‪ .‬وتشكل متون هذه النصوص قاعدة حقوقية‬ ‫للمعامالت التي تكون موضوعها أراضي وعقارات وغيرها من الممتلكات والثروات‬ ‫العينية‪.27‬‬ ‫استعملت هذه العقود بين المتعاملين في سائر أنحاء العالم المسيحي‪ .‬وكان يقوم‬ ‫بتحريرها‪ ،‬في بادئ األمر‪ ،‬نفر من الرهبان‪ .‬ثم أفضى التطور الحضري‪ ،‬وخاصة في‬ ‫مناطق جنوب أوربا‪ ،‬إلى ظهور موثقين أوكلت إليهم مهمة تحريرها‪ .‬وسرعان ما‬ ‫انبثقت عن تطور عمليات التوثيق مؤسسات مختصة في صياغة العقود تسمى " ‪les‬‬ ‫‪ "chancelleries‬يشتغل بها مجموعة من الموظفين ينعتون "كانسيالريوسات" ( ‪des‬‬ ‫‪ .)cancellarius‬يبدو أنهم كانوا مختصين في تحرير الوثائق التي تهم معامالت‬ ‫المؤسسة الملكية بصفة خاصة بدليل أن ملك فرنسا فليب أوغست ( ‪Philippe‬‬ ‫‪ )Auguste‬استشاط غضبا حين تمكن ملك أنجلترا‪ ،‬على اثر وقعة فريتفال‬ ‫(‪ )Fréteval‬سنة ‪ ،1194‬من غنيمة ما كانت تحتوي عليه الخزينة الملكية من عقود‬ ‫تخص المملكة الفرنسية‪ .‬ونظرا لقيمة مثل هذه العقود قرر الملك سان لويس ( ‪Saint‬‬ ‫‪ )Loius‬بعد ذلك تخصيص مقر "مقدس" لحفظها‪.‬‬ ‫ويبدو أن التطورات المتتالية في أوربا‪ ،‬أدت إلى تعميم استعمال النقود وشيوع‬

‫‪ - 27‬تحدث روبير بارتليت‪ ،‬أستاذ التاريخ األوربي الوسيط بجامعة سان أندروز (‪ )St. Andrews‬األنجليزية‪ ،‬عن هذه‬ ‫الوثائق في كتابه ‪:‬‬ ‫‪The making of Europe : Conquest, Colonization and Cultural Change, 950-1350, London,‬‬ ‫‪Penguin Books, 1993.‬‬

‫‪74‬‬

‫استعمال العقود في المعامالت‪ ،‬فانتقلت هذه األدوات من مرحلة كانت تحظى فيها‬ ‫بنوع من القدسية إلى مرحلة االستعمال التطبيقي "الدنيوي"‪ ،‬ألنها أضحت تستعمل من‬ ‫قبل عموم الناس‪.‬‬ ‫‪ )16‬الحج‬ ‫ال بأس من التوضيح في مستهل هذا المبحث‪ ،‬بأن حديثي عن الحج (‪les pèle-‬‬ ‫(‪ rinages‬يزكي توجه المؤرخين المعاصرين الذين يجمعون بأن أفراد مجتمع العصر‬ ‫الوسيط لم يكونوا قابعين في بيوتهم كما روج لذلك طويال المؤرخون القدامى‪.‬‬ ‫فقد جبل أكثرهم على حب السفر والترحال اللذان لم يكونا حكرا على رجال‬ ‫الدين‪ .‬واحتلت رحلة الحج المقام األول قبل الرحلة من أجل التجارة‪ ،‬رغم أن بعض‬ ‫األفراد كانوا يجمعون بين الحج والتجارة في رحلة واحدة‬ ‫ومن نافلة القول أن الحج كان ينطوي على جهد بدني كبير يقوم به الحاج نظير‬ ‫تحقيق نوع من الطهارة الروحية والتكفير عن الذنوب واستجداء الشفاء من إحدى‬ ‫العلل‪ .‬وال يختلف اثنان في القول بأن الحج كان في العصر الوسيط بمثابة كفارة‪ .‬وهذا‬ ‫ما تجلى خالل القرنين الثاني عشر والثالث عشر‪ ،‬حيث غمرت هذه الرغبة في الكفارة‬ ‫جحافل من الحجاج انطلقوا في مواكب في اتجاه الشرق والجنوب‪ .‬وترتب عن‬ ‫تحركاتهم تشكل شبكة من المزارات المتفاوتة األهمية استقطبت هؤالء الحجاج‪.‬‬ ‫احتلت مدينة القدس المركز األول في هذه الشبكة رغم أن الحج إليها لم يكن في‬ ‫متناول الجميع نظرا لعدة اعتبارات من بينها طول المسافة الفاصلة بينها وبين‬ ‫الحواضر والقرى األوربية‪ ،‬وطول المدة التي يستغرقها السفر إليها‪ ،‬وارتفاع تكاليفه‪،‬‬ ‫فضال عن االضطرابات التي كانت فلسطين مسرحا لها‪ ،‬لكونها كانت دائما موضوع‬ ‫صراع بين مختلف قوى العصر الوسيط‪.‬‬ ‫و احتلت مدينة روما المرتبة الثانية في تلك الشبكة ألنها تحتضن رفات أبرز بناة‬ ‫الكنيسة الكاثوليكية ‪ :‬القديس بطرس والقديس بولس‪ ،‬باإلضافة إلى أضرحة عدد آخر‬ ‫من القديسين والرهبان سبق أن قام الباباوات بنقل رفاتهم إلى هذه المدينة المقدسة قبل‬ ‫القرن التاسع‪ .‬وفضال عن هذا‪ ،‬كانت تأوي أضرحة عدد من الرهبان تعرضت‬ ‫للتخريب من قبل الغزاة‪ ،‬فتحولت إلى مزارات كان الحجاج يؤمونها للتبرك بها‪ .‬وبما‬ ‫‪28‬‬

‫‪ - 28‬من المفيد اإلشارة إلى أن جاك لو ﯕوف أورد عنوانه في صيغة الجمع (‪ ،)les pèlerinages‬ألن المسيحيين‪،‬‬ ‫خالفا للمسلمين‪ ،‬كانوا يحجون خالل العصر الوسيط إلى أكثر من بقعة واحدة مقدسة‪ .‬ولذلك وجب التذكير بهذا المعطى‬ ‫حفاظا على داللة العنوان‪.‬‬

‫‪75‬‬

‫أن عدد الوافدين على المدينة ظل في تزايد مطرد‪ ،‬فقد حرص الباباوات على إقامة‬ ‫عدد من المرافق وبنيات االستقبال التي يقتضيها األمر‪.‬‬ ‫والمالحظ أن معظم حجاج روما كانوا يفدون في بادئ األمر من ايرلندا ومن‬ ‫الجزر البريطانية‪ ،‬وبعد سنة ‪ ،1300‬تاريخ إقامة أول تظاهرة دينية كبرى في العالم‬ ‫المسيحي (‪ )un jubilé‬من قبل البابا بونيفاص الثامن (‪ ،)Boniface VIII‬أخذ‬ ‫الحجاج يتوافدون بأعداد غفيرة على روما من سائر أنحاء العالم المسيحي سعيا للتكفير‬ ‫عن ذنوبهم‪ .‬فكانت هذه المناسبات الدينية تمثل فترات تصل فيها حركة الحجيج الذروة‬ ‫وشكلت في ذات الوقت بذورا لالنتقادات التي ستنشأ فيما بعد؛ والتي ستتحول منذ‬ ‫مطلع القرن السادس عشر إلى حركات مناوئة للبابوية ومطالبة باإلصالح‪.‬‬ ‫عدت كنيسة القديس شانت يقوب‪ ،‬التي سبق الحديث عنها‪ ،‬ثالث مزار كان يحج‬ ‫إليه المسيحيون بعد روما وبيت المقدس‪ .‬واعتبر هذا المزار من بين أهم المزارات‬ ‫المسيحية رغم أن الوفادة إليه لم تبدأ إال بعد مطلع القرن العاشر للميالد‪.‬وإذا كانت‬ ‫البابوية قد قامت بدور مهم في إذكاء وتيرة الحجيج إلى روما‪ ،‬فالي دير كلوني‬ ‫(‪ )Cluny‬الشهير يعزى الفضل في تبوؤ كنيسة شانت يقوب تلك المكانة المرموقة‬ ‫التي حظيت بها بين المسيحيين‪.‬‬ ‫ورغم أن بيت المقدس وروما وشانت يقوب هي التي استقطبت أكبر قدر من‬ ‫الحجاج المسيحيين‪ ،‬فإن ذلك لم يمنع من وجود مراكز دينية أخرى كانت مقصد‬ ‫الحجاج‪ ،‬من بينها مدينة تور التي كانت تأوي ضريح القديس مارتان ( ‪Saint‬‬ ‫‪ )Martin‬المتوفى سنة ‪ .397‬ويبدو أن هذا القديس كانت له حظوة كبرى في أوساط‬ ‫طبقة الخاصة‪ ،‬كما في أوساط عامة الناس‪ .‬فقد حج إلى ضريحه الملوك أمثال‬ ‫شارلمان وريتشارد قلب األسد‪ ،‬كما توافدت عليه جماهير غفيرة من عامة المسيحيين‬ ‫من رجال دين ومن الئكيين‪.‬‬ ‫وحظي ضريح القديس ميشال (‪ ،)Saint Michel‬دفين نورمانديا ( ‪la‬‬ ‫‪ ،)Normandie‬بمكانة خاصة هو اآلخر‪ .‬فقد كان يحج إليه عدد من مسيحيي غالة‪.‬‬ ‫وحدث أن اندلعت حرب المائة سنة بين فرنسا وأنجلترا سنة ‪ .1337‬فقامت قطع‬ ‫البحرية األنجليزية بأكثر من هجوم على المدينة التي امتنعت عليهم‪ .‬وظل المرابطون‬ ‫بها صامدين لفترة طويلة من الزمن‪ ،‬وكأنهم تزودوا ببركة هذا القديس‪ .‬وبعد أن‬ ‫وضعت الحرب أوزارها أصبح ضريح القديس ميشال مزارا "وطنيا" يحج إليه‬ ‫مسيحيو غالة من مختلف المناطق‪ .‬كما كانت تفد إليه مواكب من األطفال في سياق ما‬ ‫يعرف بحج األطفال (‪.)les pèlerinages d’enfants‬‬ ‫وفي سياق ذي صلة بحج األطفال‪ ،‬يجدر الذكر أن مريم العذراء أخذت تحظى‬ ‫هي األخرى بحظوة خاصة ابتداء من مطلع القرن الحادي عشر‪ .‬فنشأ عن ذلك نوع‬

‫‪76‬‬

‫من الحج هو الحج المريمي (‪ .)le pèlerinage marial‬وتمثل في وفادة المسيحيين‬ ‫على كثير من المواقع التي كانت توجد بها أضرحة قديسات تحمل كل واحدة منهن‬ ‫اسما مركبا يبدأ "بسيدتنا" وينتهي باسم البلدة أو المقاطعة التي يوجد بها ضريحها‪،‬من‬ ‫قبيل (‪ )Notre-Dame de Boulogne‬بفرنسا‪ ،‬و(‪)Notre-Dame de Hal‬‬ ‫ببلجيكا الحالية‪ .‬وكانت هذه األضرحة منتشرة في أنحاء كثيرة من العالم المسيحي‪،‬‬ ‫وخاصة في كل من غالة وإسبانيا وبلجيكا‪ ،‬وأنجلترا‪ ،‬وألمانيا‪ ،‬والنمسا‪.‬‬ ‫واشتهر ضريح "سيدتنا روكامادور" (‪)Notre-Dame de Rocamadour‬‬ ‫دفينة مقاطعة (‪ )Rocamadour‬الواقعة بضواحي مدينة كاهور (‪ )Cahors‬جنوب‬ ‫غرب غالة‪ ،‬بك ونه كان أهم األضرحة التي شد إليها الحجاج الرحلة من سائر أنحاء‬ ‫العالم المسيحي‪ .‬ومن بين الذين حجوا إليه ملك انجلترا هنري الثاني الذي حج إليه سنة‬ ‫‪ 1159‬وسنة ‪ .1170‬والغريب في األمر أن هذا الضريح كان يستقطب كل سنة أعدادا‬ ‫غفيرة من المسيحيين‪ ،‬مع أنهم كانوا يكابدون المشاق في الوقوف على أبوابه ألنه يقع‬ ‫في قمة مرتفع يجب صعود ما ينيف عن ‪ 197‬وحدة (‪ )des marches‬من درج‬ ‫طويل يوصل إليه‪.‬‬ ‫‪ )17‬التجزئة الفيودالية والتمركز المﻠكي‬ ‫تميز المشهد السياسي في العالم المسيحي خالل القرنين الحادي عشر والثاني‬ ‫عشر بتناقض صارخ‪ .‬فمن جهة هناك نظام فيودالي شرعت قواعده في أخذ مكانها‪.‬‬ ‫وتجسد ذلك في تدهور السلطة المركزية ونهاية دور المؤسسات العمومية واستفحال‬ ‫التجزئة السياسية‪ .‬وهناك من جهة أخرى اتجاه نحو التشبث بالسلطة المركزية في‬ ‫بعض المناطق التي ظل سكانها ملتفين حول الملوك‪ ،‬الذين سعوا جاهدين إلى الحفاظ‬ ‫على ما يمكن الحفاظ عليه من مركزية أمام التيار الجارف نحو التجزئة‪.‬‬ ‫ويجدر التذكير في هذا المقام بأن النظرية السائدة في أوساط الباحثين‪ ،‬تفيد بأنه‬ ‫من الصعب الحديث عن وجود تطابق بين السلطة المركزية والنظام الفيودالي‪ .‬ودون‬ ‫تخصيص حيز لمناقشة هذه النظرية‪ ،‬أميل إلى االعتقاد بأن استقراء الواقع التاريخي‬ ‫يستدعي تبني موقف لين نسبيا يقتضي الحديث عن نوع من التساكن بين التجزئة‬ ‫والمركزية‪ ،‬ألن االتجاه نحو التجزئة السياسية لم يحل دون استمرار وجود بعض‬ ‫الملكيات التي ظلت قائمة هنا وهناك‪ ،‬باإلضافة إلى وجود سلطة على رأسها البابا‪.‬‬ ‫والمالحظ أن سلطة البابوية ازدادت قوة وتماسكا خالل هذه الحقبة التاريخية‬ ‫بالذات‪ .‬بل أرى بأنه ال مبالغة في القول بأنها كانت أقوى الكيانات على اإلطالق‪،‬‬ ‫وخاصة في عهد انوسونت الثالث (‪ )Innocent III‬الذي اعتلى كرسي البابوية بين‬ ‫سنتي ‪ 1198‬و‪ .1216‬فخالل عهده أصبح نفوذ البابوية يشمل معظم مناطق العالم‬

‫‪77‬‬

‫المسيحي بفضل حنكته‪ ،‬وبفضل توفر البابوية على مؤسسات كانت تساعد في تدبير‬ ‫الشؤون‪ ،‬فضال عن توفرها على مداخيل مهمة وقارة كانت تسمح لها بتنفيذ مشاريع‬ ‫مختلفة‪ .‬وكان من الممكن أن تمارس البابوية السيادة الفعلية على الممالك األخرى‬ ‫المعاصرة لها لوال أن اإلصالحات الﯕريﯕورية‪ ،‬التي سبق الحديث عنها‪ ،‬كانت تقضي‬ ‫بوجود فصل بين السلطتين الدينية والدنيوية‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬كان للبابوية نوع من التأثير‬ ‫في سياسة بعض الملوك‪.‬‬ ‫‪ )18‬هيبة وضعف اإلمبراطور‬ ‫أعتقد أن وجود بابا على رأس كيان قوي يمنع من الحديث عن تجزئة مطلقة‪،‬‬ ‫كما أن استمرار وجود حاكم يحمل اسم اإلمبراطور يمنع ذلك أيضا‪ ،‬ألن‬ ‫اإلمبراطورية الرومانية المقدسة استمرت في الوجود خالل مرحلة استفحال التجزئة‬ ‫السياسية‪.‬‬ ‫والحقيقة أن سلطة أباطرة ما بعد القرن الثاني عشر أضحت ضعيفة مقارنة بما‬ ‫كان عليه األمر زمن حكم األتونيين األوائل‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬ظل بعض ملوك الممالك‬ ‫الفيودالية الناشئة (‪ )les monarchies féodales‬يدينون بالوالء‪ ،‬ولو نظريا‪،‬‬ ‫لشخص اإلمبراطور‪ ،‬بينما لم يتردد آخرون في اعتبار أنفسهم أباطرة في الممالك التي‬ ‫كانوا يحكمونها دون أن يتجرأوا على حمل لقب إمبراطور‪.‬‬ ‫‪ )19‬المﻠك خالل العصر الوسيط‬ ‫يكتسي الحديث عن خاصيات شخص الملك خالل العصر الوسيط أهمية‬ ‫قصوى‪ ،‬ليس لفهم هذا العصر‪ ،‬ولكن ألن كثيرا من تلك الخاصيات انتقلت فيما بعد إلى‬ ‫الحكام الجمهوريين أو الديمقراطيين‪ .‬وظلت مستمرة دوما إما كوظائف أو كصور‬ ‫رمزية وإيحاءات‪.‬‬ ‫من بين أهم خاصيات ملك العصر الوسيط‪ ،‬أنه كان يعتبر ظل هللا في األرض‪.‬‬ ‫والواقع أن هذه الخاصية اختفت منذ مطلع القرن التاسع عشر‪ ،‬ولكن القائمين على‬ ‫األمر في الحكومات والممالك الحديثة والمعاصرة ال زالوا يحتفظون‪ ،‬في األغلب‬ ‫األعم‪ ،‬ببعض االمتيازات التي تفيد باستمرار هذه الخاصية كحق منح العفو‪ ،‬أو الحق‬ ‫في عدم المسائلة القانونية‪.‬‬ ‫ومن المعروف أن ملوك العصر الوسيط كانوا يزاولون ثالث وظائف ذات‬ ‫أصول هندو‪ -‬أوربية‪ ،‬أولها الوظيفة الدينية التي تتمثل أهم تجلياتها في إقامة العدل بين‬ ‫الناس رغم أن الملك لم يكن بمثابة رجل دين‪ .‬ثاني هذه الوظائف قيادة الجند لخوض‬ ‫الحروب‪ ،‬على اعتبار أن الملك ينحدر من فئة النبالء‪ ،‬فهو اذن محارب قبل كل شيء‪.‬‬

‫‪78‬‬

‫وال زالت هذه الوظيفة اليوم من اختصاص رئيس الجمهورية بوصفه القائد األعلى‬ ‫للقوات المسلحة‪ .‬وثالث هذه الوظائف تحقيق الرفاه االقتصادي لسكان مملكته‪ .‬ومن‬ ‫تجليات هذه الوظيفة أن ملوك العصر الوسيط كانوا يكثرون من تقديم الصدقات‬ ‫واألعطيات للفئات الفقيرة من سكان ممالكهم‪.‬‬ ‫وكان ملك العصر الوسيط يسعى جاهدا‪ ،‬الى جانب قيامه بهذه الوظائف الثالث‪،‬‬ ‫ألن يكون له حظ من المعرفة‪ ،‬كما سبق توضيح ذلك عند الحديث عن جهود شارلمان‬ ‫الكتساب نصيب من المعرفة‪ ،‬ألنها كانت أداة ضرورية في ممارسة السلطة‪ .‬وعموما‪،‬‬ ‫فإ ن كل ملك من ملوك العصر الوسيط كان يجتهد في طلب العلم حتى ال ينطبق عليه‬ ‫المثل القائل ‪" :‬ليس الملك األمي إال مجرد حمار يحمل على رأسه تاجا"‪.‬‬ ‫تميز شخص الملك خالل الحقبة الفيودالية بخاصيات أخرى‪ ،‬إلى جانب‬ ‫الخاصيات السابق ذكرها‪ .‬ومن بين هذه الخاصيات الحق في السيادة وممارسة‬ ‫السلطة‪ ،‬وهما خاصيتان ورثهما ملوك الحقبة المذكورة عن العصر الروماني‪ .‬ثم‬ ‫أضافت المسيحية للملوك منذ مطلع العصر الوسيط خاصية الجاللة التي انبثق عنها‬ ‫حق الملك‪ ،‬وحده دون غيره‪ ،‬في إصدار العفو على الجناة‪ .‬كما أتاحت خاصية الجاللة‬ ‫للملك الحق في أال يقدح أحد في شخصه‪.‬‬ ‫وانطالقا من هذه الخاصيات‪ ،‬يمكن القول بأن ملك العصر الوسيط لم يكن حاكما‬ ‫مطلقا‪ .‬وإذا كان كذلك‪ ،‬فهل كان حكمه ذا صبغة دستورية؟ جوابا على هذا السؤال‪،‬‬ ‫أقر بأن النظام الملكي لم يكن قائما خالل هذه الحقبة على دستور‪ .‬ألن الباحثين لم‬ ‫يعثروا على أي نص يحمل مواصفات الدستور باستثناء الماجنا كارتا ( ‪Magna‬‬ ‫‪ ،)Carta ou grande charte‬وهي وثيقة ذات صبغة خاصة‪ ،‬تتضمن عدة بنود تقر‬ ‫في معظمها مبدأ الحريات الفردية‪ ،‬فرض نبالء أنجلترا على الملك هنري الثالث‬ ‫توقيعها سنة ‪ .1215‬وتعد هذه الوثيقة واحدة من اللبنات التي قامت عليها األنظمة‬ ‫الدستورية في أوربا‪.‬‬ ‫وأهم ما يمكن التشديد عليه في هذا المقام‪ ،‬هو أن نظام الملك في العصر الوسيط‬ ‫كان نظاما تعاقديا‪ .‬وكان الملك طرفا في هذا العقد‪ ،‬ألنه كان يتعهد‪ ،‬خالل المراسيم‬ ‫التي تنظم عند المناداة به ملكا وحمله للتاج‪ ،‬بأن يلتزم أمام هللا وأمام الكنيسة وأمام‬ ‫الشعب‪ .‬وما من شك في أن هذا التعهد هيأ الطريق لتبلور نظام رقابة السلطة من قبل‬ ‫الشعب أو من قبل هيئات تمثله‪ .‬وقبل أن يتحقق هذا التطور الحاسم‪ ،‬فإن الشعب‬ ‫المعني بااللتزام الملكي لم يكن هو عامة الشعب‪ ،‬بل الطبقة األرستقراطية وحدها هي‬ ‫التي كانت معنية بهذا االلتزام‪ ،‬ألن الملك كان األرستقراطي األول ونبيل النبالء بحكم‬ ‫انتمائه ألسرة نبيلة أبا عن جد‪.‬‬

‫‪79‬‬

‫وكان الملك يتعهد‪ ،‬بمقتضى العقد الوارد ذكره‪ ،‬بإقامة العدالة كما سبق الحديث‬ ‫عنها كوظيفة‪ .‬ويتعهد بإقرار النظام وإشاعة األمن في ربوع المملكة‪ .‬وما من شك‪ ،‬في‬ ‫أن سعي ملوك الممالك الفيودالية إلى إقرار النظام وإشاعة األمن يمثل مدخال نحو قيام‬ ‫ما يعرف اليوم بدولة الحق والقانون‪.‬‬ ‫والراجح أن دور الشعب في الرقابة كان ال زال بعيد المنال خالل هذه الحقبة‪،‬‬ ‫ألن المسافة بينه وبين السلطة كانت ما زالت بعيدة‪ .‬ولذلك اختزل الشعب في حقيقة‬ ‫األمر في الطبقة األرستقراطية‪ .‬والى نفس هذه الطبقة كانت تنتمي األسر المالكة هنا‬ ‫وهناك‪ .‬ومما ال شك فيه‪ ،‬أن هذا األمر ساهم في استقرار الممالك‪ ،‬وفي إطالة أمد‬ ‫حكمها‪ .‬وربما هذه الرغبة في االستقرار‪ ،‬هي التي كانت وراء إقصاء المرأة من‬ ‫مزاولة الحكم في فرنسا‪ .‬فمنذ تأسيس أول كيان سياسي بها اقتصر الحكم على الذكور‪.‬‬ ‫‪ )20‬الممالك الفيودالية‬ ‫يجب التنبيه الى أن الممالك الفيودالية لم تكن كلها قوية متماسكة يسودها‬ ‫االستقرار‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬لم تكن كلها على قدم المساواة‪ .‬تتوفر في كل واحدة منها‬ ‫المقومات التي ستخول لها االنتقال إلى مرحلة الدولة الحديثة بما يحمله مفهوم‬ ‫"الدولة" من دالالت‪ .‬ومن هذا المنطلق‪ ،‬ال يمكن المقارنة بين أنجلترا وفرنسا ومملكة‬ ‫قشتالة التي كانت متماسكة موحدة‪ ،‬وبين ألمانيا وايطاليا اللتان كانتا مجزئتين إلى عدة‬ ‫كيانات سياسية‪.‬‬ ‫أ) أنجﻠترا‬ ‫شهدت أنجلترا أحداثا جسيمة خالل القرنين الحادي عشر والثاني عشر‪ ،‬كان‬ ‫يمكن أن تخرج منها ضعيفة‪ .‬ولكن حدث أن تجاوزتها بسالم بفضل صالبة مؤسساتها‬ ‫التي أرسى دعائمها الملك ألفريد العظيم منذ القرن التاسع‪ .‬ثم زاد من تقويتها الملك‬ ‫ايدوارد الذي حكم بين سنتي ‪ 1042‬و‪ .1066‬وتأكدت قوة أنجلترا حين تمكنت من‬ ‫الخر وج بخسائر محدودة على اثر الغزو الذي تعرضت له من قبل دوق نورمانديا‬ ‫غليوم‪.‬‬ ‫ويمكن القول‪ ،‬استنادا إلى كتاب يوم الحساب‪ ،‬المعروف "بكتاب الدوميسديي"‬ ‫(‪ ،)le Domesday Book‬بأن سر قوة أنجلترا‪ ،‬يكمن فيما كانت تتوفر عليه من‬ ‫ثروات بوأتها المقام األول اقتصاديا من بين ممالك أوربا‪ .‬فضال عن توفرها على‬ ‫سلطة مركزية على رأسها ملوك أقوياء‪ ،‬وعلى إدارة منظمة فاعلة قل نظيرها‪.‬‬ ‫وحدث عقب وفاة الملك هنري األول سنة ‪ 1135‬أن شهدت المملكة بعض‬ ‫االضطرابات‪ ،‬ينطبق عليها‪ ،‬بالنظر إلى ما آلت إليه من نتائج‪ ،‬المثل القائل‪" :‬رب‬ ‫نقمة في طيها نعمة"‪ .‬فقد انتهت تلك االضطرابات فعال بزواج المدعو جوفروا‬

‫‪80‬‬

‫بالنتجوني )‪ )Geoffroi Plantagenêt‬قمط أنجو)‪ )Anjou‬بماتيلدا ابنة الملك‬ ‫المتوفى‪ .‬وبما أنها كانت وريثة العرش الوحيدة‪ ،‬فقد أضحى جوفروا ملكا على‬ ‫أنجلترا‪ .‬ورغم ما استتبع ذلك من اعتراضات وقالقل‪ ،‬فقد رزق جوفروا بمولود ذكر‪.‬‬ ‫فحسم األمر بأن عين هذا الولد ملكا بالوصاية‪ ،‬ثم ملكا فعليا ابتداء من سنة ‪1154‬‬ ‫باسم هنري الثاني‪.‬‬ ‫وأهم ما في األمر‪ ،‬هو أن هنري الثاني أصبح يحكم أكبر مملكة في غرب أوربا‬ ‫شمل نفوذها أنجلترا وأجزاء كبيرة من التراب الفرنسي‪ .‬فغدت "أول مملكة حديثة في‬ ‫العالم المسيحي"‪.‬‬ ‫ب) فرنسا‬ ‫تعتبرغالة‪ ،‬أو فرنسا كما تسمى حاليا‪ ،‬ثاني مملكة في غرب أوربا‪ ،‬بعد أنجلترا‪،‬‬ ‫حافظت على استقرارها لفترة طويلة بفضل استمرارية الحكم فيها بيد أسرة واحدة منذ‬ ‫سنة ‪ .987‬وقد تمثلت هذه األسرة فيما يعرف عند اإلخباريين بآل كابت ( ‪les‬‬ ‫‪ )Capétiens‬التي تعاقب فيها الذكور على الحكم‪ .‬وشاءت األقدار أال يرزق هؤالء‬ ‫الملوك الذكور إال بالذكور مما حقق استمرارية الحكم في أوساطهم بدون انقطاع‪ .‬ولم‬ ‫يكن لهم من معارض سوى نفر من كبار أفراد األرستقراطية الذين استطاعوا‬ ‫احتوائهم‪ ،‬وفي نفس الوقت‪ ،‬ألبوا ضدهم ثلة من رجال الدين‪ ،‬اتخذوهم كمستشارين‬ ‫لهم‪ .‬كما ألبوا ضدهم أفراد الشريحتين الوسطى والسفلى من الطبقة األرستقراطية‪.‬‬ ‫ويبدو أن طابع االستمرارية كان أبرز سمات نظام الحكم في غالة‪ .‬وقد تجلت‬ ‫هذه االستمرارية في أربعة مظاهر‪ .‬أولها‪ ،‬هو أن الحكم في غالة ظل بيد أسرة واحدة‪.‬‬ ‫وثانيها‪ ،‬هو أن باريس اتخذت عاصمة للمملكة بصفة نهائية‪ .‬فكان ذلك إيذانا ببداية ما‬ ‫سيعرف بأوربا العواصم‪ .‬ويبدو أن االختيار كان صائبا‪ ،‬ألن باريس تعد موطن دير‬ ‫سان دوني (‪ )Saint Denis‬الواسع النفوذ‪ ،‬والذي كان رجاالته من أقوى المساندين‬ ‫آلل كابت على الدوام‪.‬‬ ‫وتمثل ثالث المظاهر الدالة على االستمرارية في عملية تتويج الملوك‪ ،‬من آل‬ ‫كابت‪ ،‬حيث كانت تتم دوما بمدينة ريمس (‪ )Reims‬التي احتضنت مراسيم تتويج أول‬ ‫ملك في تاريخ غالة وهو كلوڤيس‪.‬‬ ‫وتجلى رابع المظاهر في اتخاذ الملوك‪ ،‬من آل كابت‪ ،‬لزهرة الزنبق ( ‪la‬‬ ‫‪ ،)fleure de lys‬التي ترمز لمريم العذراء‪ ،‬شعارا لهم‪ .‬واتخاذهم األزرق لونا كان‬ ‫يصبغ به معطف الملوك‪ .‬كما كانت ترسم بذات اللون زهرة زئبق على الخاتم الملكي‪.‬‬ ‫ج) قشتالة‬ ‫ظهرت مملكة قشتالة للوجود في سياق حرب االسترداد التي خاضها مسيحيو‬ ‫شبه جزيرة ايبيريا ضد المسلمين‪ .‬ومن المفيد التذكير في هذا اإلطار بأن عدة ممالك‬

‫‪81‬‬

‫مسيحية ظهرت خالل نفس الفترة الزمنية بشبه جزيرة أيبيريا‪ .‬وكانت رقعتها‬ ‫الجغرافية تتسع‪ ،‬ونظمها السياسية تتبلور بالموازاة مع تطور حرب االسترداد وتراجع‬ ‫المسلمين نح و الجنوب‪ .‬وقد قدر لمملكة قشتالة أن تكسب رهان التوسع والتبلور‪،‬‬ ‫وخاصة بعد اتحادها مع مملكة ناڤار‪ .‬وقد أمد هذا االتحاد ملوك قشتالة بقوة استثمروها‬ ‫في السيطرة على مملكة ليون ابتداء من سنة ‪ .1017‬فأصبحت المملكة مؤلفة من‬ ‫قسمين‪ .‬لتغدو بعد سنة ‪ 1230‬مملكة واحدة هي مملكة قشتالة وليون‪.‬‬ ‫وقد تميز نظام الحكم في هذه المملكة باعتماد ملوكها سياسة تقوم على نوع من‬ ‫التوازن بين القوى المؤثرة في عالم األرياف والقوى الفاعلة في المراكز الحضرية‪.‬‬ ‫فكسبوا ود األرستقراطية العقارية وود األوليغارشية الحضرية‪ .‬إذ سمحوا للفئة األولى‬ ‫بحيازة كثير من األراضي المسترجعة‪ ،‬بينما منحوا للفئة الثانية‪ ،‬ولسكان الحواضر‬ ‫عموما‪ ،‬مزيدا من الحريات وسمحوا لهم بإقامة الجمعيات (‪.)les cortes‬‬ ‫د) النورمان‬ ‫كان من الممكن االكتفاء بالحديث عن هذه الكيانات الثالث التي تطورت فيها‬ ‫المؤسسات السياسية‪ ،‬وأضحت تجسد أوربا الممالك‪ ،‬ولكن يمكن أن تدرج إلى جانبها‬ ‫مملكة رابعة "بلغت مستوى من النضج بصورة مفاجئة لم تخطر على بال أحد"‪ .‬إنها‬ ‫مملكة النورمان التي أنشأها "الشتات" المؤلف من الوافدين من العالم اإلسكندنافي‪.‬‬ ‫والواقع أن هؤالء الوافدين أسسوا عدة ممالك لم يكتب لها أن تعمر طويال‪ .‬فقد‬ ‫أنشأوا مملكة في اسكندنافيا وأخرى في منطقة نورمانديا الفرنسية‪ .‬واستطاعت جموع‬ ‫غفيرة من هذا "الشتات" تأسيس مملكة في جنوب ايطاليا شمل نفوذها منطقة كالبريا‪،‬‬ ‫التي انتزعوها من البيزنطيين‪ ،‬باإلضافة إلى مدينة نابولي وجزيرة صقلية‪.‬‬ ‫وبعد فترة صراع مع البابوية‪ ،‬زمن حكم روجر األول (‪ ،)Roger I‬الذي نعت‬ ‫"بالملك المستبد" على غرار بعض ملوك العصر القديم‪ ،‬دخلت هذه المملكة في‬ ‫عالقات ودية مع البابوية‪ .‬وغدت‪ ،‬منذ حوالي سنة ‪ ،1100‬إحدى أقوى الممالك‬ ‫المسيحية في حوض البحر المتوسط‪ .‬وتعاقب على حكمها عدد من الملوك حافظوا‬ ‫على استقرارها وعلى توجهها نحو العالم المسيحي‪ .‬وكان من بين هؤالء الملوك‬ ‫فردريك الثاني (‪ )Frédéric II‬الذي واصل االصالحات التي باشرها اسالفه‪،‬‬ ‫فأضحت المملكة في عهده إحدى الكيانات الفيودالية المتطورة‪ .‬وغدت عاصمتها‬ ‫باليرمو أكثر عواصم أوربا قدرة على منافسة مدن العالمين البيزنطي واإلسالمي في‬ ‫ميادين الثقافة والفن‪ .‬كما تحولت إلى مركز عالمي للترجمة‪ ،‬حيث استقر بها عدد من‬ ‫المفكرين والمهتمين بالترجمة من يهود ومسيحيين ومسلمين‪.‬‬ ‫ولكن التطورات الالحقة لم تتح لهذه المملكة إمكانية االستمرار في هذا االتجاه‪.‬‬ ‫فقد تعرضت للغزو من قبل الغاليين‪ ،‬الذين لم يتمكنوا من السيطرة عليها سوى لفترة‬

‫‪82‬‬

‫قصيرة ليتركوا مصيرها بين أيدي األراغونيين الذين غزوها بدورهم حوالي سنة‬ ‫‪.1282‬‬ ‫ويمكن أن نتصور أي اتجاه كان يمكن أن تسلكه هذه المملكة األصيلة‪ ،‬التي‬ ‫نشأت في المجال المسيحي المتوسطي‪ ،‬لو لم ينته مصيرها على النحو الذي ذكر‪ .‬فقد‬ ‫كان من الممكن أن تصبح كيانا مستقال أو لكانت قد اندمجت في العالمين البيزنطي أو‬ ‫اإلسالمي‪ .‬وأرى من هذه الزاوية بالذات بأن أوربا "ككيان موحد" لم تكن "مسجلة"‬ ‫على الدوام في ديوان الجغرافيا أو في ديوان التاريخ‪.‬‬ ‫‪ )21‬حضارة أوربا خالل القرن الثاني عشر‬ ‫بلغت التحوالت الكبرى التي شهدتها أوربا خالل القرن الحادي عشر مستوى‬ ‫رفيعا من النضج خالل القرن الموالي اصطلح المؤرخون على نعته بالنهضة‪.‬‬ ‫ولكن تلك التحوالت لم تكن مجرد عملية إحياء لثقافة العصر القديم‪ ،‬كما يوحي‬ ‫بذلك مفهوم النهضة‪ ،‬وإنما كانت تتضمن عطاءات جديدة في عدة مجاالت‪ .‬وإن‬ ‫األفراد الذين كانوا وراء تلك العطاءات توخوا حجبها بغطاء لتبدو دوما في ثوب قديم‪.‬‬ ‫وبما أنه من الصعب التوقف عند جميع العطاءات في مختلف المجاالت‪،‬‬ ‫سأكتفي بتناول جوانب معينة من الثقافة ومن المواقف الذهنية التي أعدها من بين‬ ‫المجاالت التي شهدت عطاءات جديدة‪ .‬يتمثل الجانب األول في اتجاه المسيحية نحو‬ ‫التأنيث وتغليب فكرة األلم؛ وهو اتجاه تجسد في صحوة غير مسبوقة لظاهرة تقديس‬ ‫مريم العذراء‪ .‬كما تجسد أيضا في تحول شاب ظاهرة تقديس المسيح‪ ،‬حيث تحول‬ ‫"بطلها" من مسيح منتصر على الموت إلى مسيح يتأوه من شدة األلم‪ .‬ويتمثل الجانب‬ ‫الثاني في نشأة حركة إنسية مسيحية جديدة ذات صبغة ايجابية‪ .‬شهدت هذه الحركة‬ ‫تطورا بعد النشأة وأصبحت تشكل طبقة من بين طبقات الحركة اإلنسية األوربية التي‬ ‫نشأت واستغرقت وقتا طويال لتتبلور أكثر فأكثر‪ .‬وفي ضوء هذه الحركة اإلنسية‬ ‫الناشئة أصبحت ذات اإلنسان تتأكد بصورة أفضل‪ .‬ولم يعد ذلك المخطأ الذي يرزح‬ ‫تحت وطأة الشعور بالخطيئة‪ .‬كما حدث تغير ملحوظ فيما يتصل بمسألة اإليمان لدى‬ ‫فئات المجتمع‪ ،‬ولكن دون أن يمس هذا التغير جوهر اإليمان الذي ظل قويا وحيويا‪.‬‬ ‫وبموازاة ذلك أعيد النظر في دالالت مفهومين أساسيين يؤطران الفكر األوربي برمته‬ ‫وهما ‪ :‬مفهوم الطبيعة ومفهوم العقل‪.‬‬

‫‪83‬‬

‫وسأحاول في األخير إثراء هذا الملف بتخصيص حيز منه لمناقشة وجهة نظر‬ ‫الباحث األنجليزي روبير أيان مور (‪ 29)Robert Ian Moore‬الذي يرى بأن‬ ‫تحوالت القرن الثاني عشر تمثل "ثورة أوربية أولى"‪ ،‬تجسدت إيجابا في ازدهار‬ ‫اقتصادي واجتماعي ومعرفي‪ ،‬تم في إطار عودة استتباب النظام الذي جعل أوربا تبدو‬ ‫في صورة القارة التي تضطهد والتي تقصي كما سيتم توضيح ذلك‪.‬‬ ‫‪ )22‬ازدهار ظاهرة تقديس مريم العذراء‬ ‫شهدت الديانة المسيحية تحوال جذريا بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر‬ ‫على اثر الصحوة الكبرى التي همت ظاهرة تقديس مريم العذراء‪.‬‬ ‫والحقيقة أن ظاهرة تقديس مريم العذراء‪ ،‬بوصفها "أما إلاله"‪ ،‬نشأت وتطورت‬ ‫منذ وقت مبكر في أوساط معتنقي المسيحية اإلغريقية األرثوذكسية ثم أخذت تتسرب‬ ‫شيئا فشيئا إلى الغرب المسيحي‪ .‬غير أن هذا ال يعني البتة بأن الظاهرة لم يكن لها‬ ‫وجود قبل الفترة الكارولنجية‪ .‬ولكن حدث ابتداء من مطلع القرن الحادي عشر أن‬ ‫أخذت تحتل موقعا متميزا بين معتقدات مسيحيي الغرب وضمن طقوسهم وشعائرهم‪.‬‬ ‫واستتبع ذلك أن أضحى هذا التقديس موضوع إصالحات قامت بها البابوية بين‬ ‫أواسط القرنين الحادي عشر والثاني عشر‪ .‬وقد ارتبط هذا التقديس بتطور التفاني في‬ ‫حب المسيح وتنامي العبادة القرابينية‪ .‬وبما أن العذراء عنصر مهم في مسألة التجسد‪،‬‬ ‫وتضطلع بدور مهم في العالقة بين الناس والمسيح‪ ،‬فقد غدت بمثابة محام فوض الناس‬ ‫له وحده حق تمثيلهم أمام ابنها اإللهي‪ .‬وفي الوقت الذي اختص فيه معظم القديسين‬ ‫والقديسات في معالجة المصابين باألمراض والعلل‪ ،‬فإن العذراء أضحت "مختصة"‬ ‫في الكرامات التي تفيد جميع الناس‪ .‬فهي وحدها المؤهلة لحل مشاكل الرجال والنساء‪.‬‬ ‫ومن ثم‪ ،‬غدا لها دور قوي ومركزي في خالص الناس من الخطيئة‪ ،‬بمن فيهم‬ ‫المجرمون والمذنبون‪ ،‬الذين تلتمس لهم الثواب والمغفرة من لدن المسيح‪.‬‬ ‫وأعتقد بأن العذراء ارتقت‪ ،‬في ظل هذا الوضع‪ ،‬الى مرتبة رفيعة فغدت بمثابة‬ ‫الشخصية الرابعة في الثالوث المقدس (األب‪ ،‬االبن‪ ،‬الروح القدس)‪ .‬وتجسدت هذه‬ ‫‪ - 29‬استعرض روبير أيان مور وجهة نظره‪ ،‬التي سيتوقف جاك لو ﯕوف عند بعض جوانبها في الفقرات الالحقة‪ ،‬في‬ ‫كتابين هما ‪:‬‬ ‫‪- The First European Revolution, c. 970–1215, 2000, trad. fr. La première révolution euro‬‬‫‪péenne, Paris, Seuil, 2001.‬‬ ‫–‪- The Formation of a Persecuting Society: Power and Deviance in Western Europe, 950‬‬ ‫‪1250, Blackwell, 1987, trad. Fr. La persécution. Sa formation en Europe, 950-1250, Paris,‬‬ ‫‪Les Belles Lettres, 1991 ; seconde édition augmentée, The Formation of a Persecuting‬‬ ‫‪Society: Authority and Deviance in Western Europe, 950–1250, Blackwell, 2007.‬‬

‫‪84‬‬

‫المرتبة في كون مسيحيي غرب أوربا كانوا يخصونها بثالثة أعياد ذات قيمة كبرى في‬ ‫المسيحية هي ‪ :‬عيد التطهير‪ ،‬وعيد البشارة‪ ،‬وعيد الصعود (أو االرتقاء)‪.‬‬ ‫جرت عادة المسيحيين بتخليد عيد التطهير في اليوم الثاني من شهر فبراير‪ .‬وقد‬ ‫حل هذا العيد محل عيد وثني كان يحتفى به من قبل‪ .‬ويحيل عيد التطهير إلى مسألة‬ ‫وجود المسيح الطفل في معبد القدس‪ .‬ولكن المقصود من وراء إحيائه هو ابتغاء‬ ‫التطهير‪ .‬رغم أن هذا المبتغى شكل موضوع جدال في أوساط رجال الدين‪ ،‬وبين‬ ‫عموم المسيحيين‪ ،‬فترة طويلة من الزمن تمحور حول عالقة مريم بالخطيئة‪ .‬وتمت‬ ‫صياغته على النحو اآلتي ‪ :‬بما أن مريم أنثى حملت ووضعت مولودا‪ ،‬أال يمكن أن‬ ‫تكون قد وقعت في الخطيئة الكبرى؟ ولم تنتصر الفكرة التي مفادها أن مريم كانت‬ ‫عذراء عندما وضعت مولودا إال منذ مطلع القرن التاسع عشر‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬ظل‬ ‫مسيحيو الغرب األوربي الوسيط يكنون التقدير لمريم العذراء ويبوئونها مكانة راقية‬ ‫تكاد تضاهي مكانة ابنها اإلله‪.‬‬ ‫أما عيد البشرى‪ ،‬فكان يتم تخليده يوم ‪ 25‬مارس من كل سنة‪ .‬وفي هذا اليوم‬ ‫بشرت مريم‪ ،‬ومن خاللها اإلنسانية كلها‪ ،‬بمسألة تجسيد االبن اإلله‪ .‬وتحيل هذه‬ ‫المناسبة إلى حدث الحوار الرسولي بين العذراء والمالك جبريل الذي يعد من بين‬ ‫أعظم األحداث التي شهدها تاريخ اإلنسانية‪ .‬وقد شكل هذا الحدث موضوع أبحاث‬ ‫كثيرة ومصدر الهام للعديد من الرسامين الذين جسدوه في لوحاتهم منذ سنة ‪.1344‬‬ ‫وقد كانت تلك اللوحات بداية عهد الرسومات المنظورة المتعددة األبعاد‪.‬‬ ‫يمثل عيد ارتقاء مريم إلى السماء ثالث األعياد التي يخلدها المسيحيون على‬ ‫شرف مريم العذراء‪ .‬وكان يحتفى به يوم ‪ 15‬غشت‪ .‬ويعتقد المسيحيون وهم يخلدونه‬ ‫بأن مريم العذراء‪ ،‬حين توفيت ككائن بشري‪ ،‬لم ترتق فقط إلى السماء‪ ،‬أو إلى الجنة‪،‬‬ ‫وإنما ارتقت إلى جوار هللا تعالى والى جوار ابنها الذي قام بتتويجها‪.‬‬ ‫وعموما‪ ،‬فقد كان عامة المسيحيين يشتركون في إحياء هذه األعياد‪ .‬واشترك‬ ‫معهم رجال الدين بطبيعة الحال كمسيحيين عاديين‪ ،‬ولكن أيضا كمؤطرين وكرجال‬ ‫علم‪ .‬ومن هذا المنطلق خص عدد منهم مريم العذراء بعدة مصنفات تكريما لها‪ ،‬منها‬ ‫ما يعرض لجوانب من ظاهرة التقديس‪ ،‬ومنها ما يعرض لنماذج من الكرامات‬ ‫المتصلة بها‪ ،‬ويتضمن أيضا بعض المقاطع التي كان المسيحيون يرتلونها بمناسبة‬ ‫األعياد السالف ذكرها‪.‬‬ ‫وباإلضافة إلى المؤلفات الكثيرة‪ ،‬تم تكريم مريم العذراء بكثير من األعمال‬ ‫الفنية‪ ،‬تمثلت في رسومات وجداريات وأشكال منحوتة وغيرها تعبر عن مشاهد كثيرة‬ ‫من حياة مريم في عالقتها بالمسيح‪ ،‬بين مشاهد تجسدها أما جالسة تحمل المسيح غضا‬

‫‪85‬‬

‫صغيرا على ركبتيها كما تفعل سائر األمهات‪ ،‬ومشاهد تمثلها جالسة تحمل جثمانه‬ ‫على ركبتيها‪.‬‬ ‫وقد ظلت ظاهرة تقديس مريم العذراء تشغل عقول وقلوب المسيحيين كثيرا‬ ‫رغم اإلصالحات الدينية التي قامت بها البابوية بهدف التقليل من هذه الظاهرة التي‬ ‫تجاوزت الحدود أحيانا‪ .‬ويمكن استغالل التأكيد على هذا المعطى للتساؤل عما إذا‬ ‫كانت ظاهرة تقديس مريم تعكس تحسنا في وضعية المرأة على أرض الواقع؟ ويبدو‬ ‫من الصعب تقديم جواب مقنع عن هذا السؤال‪ ،‬نظرا الختالف المؤرخين‪ .‬ويعود هذا‬ ‫االختالف إلى تناقض صورتي المرأة في أذهان هؤالء المؤرخين بين صورة تمثلها‬ ‫مريم العذراء وصورة تمثلها حواء‪ .‬ولكن هذا األمر ال يمنع من القول بأن ظاهرة‬ ‫تقديس مريم العذراء دفعت إلى التحسيس بوضعية المرأة‪ .‬كما أن الحب العذري‪ ،‬الذي‬ ‫سبق الحديث عنه‪ ،‬دفع هو اآلخر في هذا االتجاه ألن "سيدتنا" التي يتواجد ضريحها‬ ‫في جميع أنحاء العالم المسيحي تمثل أعلى مستويات الرقي التي وصلت إليها المرأة‪.‬‬ ‫وتمثل أيضا المرأة التي تعلق بها الفارس‪ .‬وتمثل في نهاية المطاف المرأة التي أغرم‬ ‫بها رجال العصر الوسيط بشكل عام‪.‬‬ ‫وبغض النظر عما يمكن أن يقال في الموضوع‪ ،‬فإن ثمة حقيقة ال يمكن‬ ‫إنكارها‪ ،‬وهي أن ظاهرة تقديس مريم واكبها تغير فيما يتعلق بالزواج الذي أصبح‬ ‫ينظر إليه كرباط مقدس‪ ،‬كما واكبها تغير فيما يتعلق بوضعية الطفل ووضعية األسرة‬ ‫النواتية اللذين أضحيا يحظيان باالعتبار‪.‬‬ ‫‪ )23‬تغﻠيب األلم في التفاني في حب المسيح‬ ‫واكب ظاهرة تقديس مريم العذراء‪ ،‬التي تفيد بانجذاب التقوى لدى المسيحيين‬ ‫إلى نوع من التأنيث‪ ،‬اتجاه هذا التقوى نحو تغليب الشعور باأللم (‪.)la dolorisation‬‬ ‫فقد جرت العادة‪ ،‬منذ العصر الروماني‪ ،‬بأن ينظرالمسيحيون إلى المسيح كنظرتهم‬ ‫لألبطال‪ .‬وبذلك كانوا يتصورونه بطال تغلب على الموت وخرج منتصرا‪ .‬ولكن حدث‬ ‫أن اختفت هذه الصورة وحلت بدلها صورة تقدمه متألما‪.‬‬ ‫يبدو من الصعب تحديد أسباب هذا التحول ومعرفة حيثيات نشأته‪ .‬وأقترح لحل‬ ‫هذا اإلشكال بعض الفرضيات منها ‪:‬‬ ‫ أوال‪ .‬لم تعد البطولة مطلبا ملحا‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬تراجعت صورة المسيح البطل‪.‬‬‫ ثانيا‪ .‬حدث تغير في أدوار العناصر التي يتألف منها الثالوث المقدس (األب‪،‬‬‫االبن‪ ،‬الروح القدس) باإلضافة إلى مريم كعنصر رابع‪ .‬وفي ضوء هذا التغير‪ ،‬فإن‬ ‫"هللا األب" هو الذي أصبح يحظى بالجاللة في المقام األول‪ .‬وقد حدث ذلك في سياق‬

‫‪86‬‬

‫التحوالت السياسية في أوربا‪ ،‬والتي بموجبها أصبح على رأس السلطة ملوك دنيويون‬ ‫ال يحبذون أن تعلو أية سلطة فوق سلطتهم‪.‬‬ ‫ ثالثا‪ .‬انتشرت طوائف الفقراء في العالم المسيحي‪ .‬فانبرى كثير من المسيحيين‬‫للقيام بأعمال البر واإلحسان وتقديم األعطيات والصدفات‪ ،‬مما أثر على توجهات‬ ‫الكنيسة التي اضطرت للتفاعل مع هذه الحركة‪ .‬فأخذت ترعى الفقراء والمعوزين‬ ‫والمرضى وتروج في أوساط المسيحيين شعار "اقتف عاريا أثر المسيح العاري"‪.‬‬ ‫وتجسد هذا الشعار في صورة أضحت منذئذ شائعة في أوربا‪ ،‬وهي صورة المسيح‬ ‫المصلوب التي يجسدها ذلك الصليب المكون من قطعة عمودية طويلة أكثر قليال من‬ ‫قامة اإلنسان تقطع جزءها العلوي قطعة أخرى قصيرة أفقية‪ .‬وإن هذا الصليب الذي‬ ‫يحمل إسم "كروسيفيكسوس" (‪ )crucifixus‬أو (‪ ،)crucifux‬هو الذي أصبح‬ ‫معروفا منذ القرن الحادي عشر بدل الصليب ذي هيأة عالمة زائد (‪.)la croix‬‬ ‫وبناء على ما تقدم‪ ،‬اختفت صورة المسيح البطل وحلت مكانها صورة تمزج‬ ‫بين البعدين الرمزي والحقيقي‪ ،‬هي صورة المسيح الذي يتأوه من شدة األلم‪ .‬واستتبع‬ ‫ذلك أن فتحت هذه الصورة الباب أمام شيوع ظاهرة التدبر في المعاناة‪ ،‬وفي كل ما له‬ ‫صلة بجثة الميت وبالموت‪ ،‬وهي صورة شاءت األقدار أن تنتشر في أوربا منذ مطلع‬ ‫القرن الرابع عشر‪ .‬وانبثقت‪ ،‬تبعا لذلك‪ ،‬في سائر أنحاء العالم المسيحي أوربا الجثة‪ ،‬ثم‬ ‫الرأس فيما بعد‪.‬‬ ‫‪)24‬اإلنسان في صورة اله‬ ‫اإلنسية المسيحية‬ ‫سمح تطور الديانة المسيحية ابتداء من مطلع القرن الثاني عشر بإمكانية إعادة‬ ‫تشكيل صورة اإلنسان في عالقته باهلل‪ .‬فاإلنسان لم يكن له وجود يذكر خالل العصر‬ ‫الوسيط األعلى‪ .‬وفي أحسن األحوال كان يرمز له بأيوب الخانع المذلول الذي تحدث‬ ‫عنه ﯕريﯕوار األكبر في القرنين السادس والسابع‪ .‬وبعد سنة ‪ 1033‬أصدر الراهب‬ ‫وعالم الالهوت أنسلم الكنتربيري (‪ )Anselme de Cantorbéry‬كتابه "لماذا جعل‬ ‫هللا من نفسه إنسانا؟" (‪ ،30)Cur deus homo‬فأخذت تتشكل صورة جديدة لإلنسان‬ ‫‪ - 30‬أنسلم الكنتربيري راهب ايطالي ينتمي لطائفة البندكتيين‪ .‬ولد سنة ‪ 1033‬وتوفي سنة ‪ .1109‬ينحدر من أسرة نبيلة‬ ‫ثرية‪ .‬انتقل بين ايطاليا وغالة وأنجلترا‪ .‬التحق سنة ‪ 1079‬بأحد األديرة البندكتية كراهب ثم ترقى‪ ،‬فغدا سنة ‪ 1093‬على‬ ‫رأس أسقفية كنتربري‪ .‬كما شغل منصب مستشار ملك انجلترا‪.‬‬ ‫لم تصرفه انشغاالته الدينية والدنيوية عن البحث والتاليف في حقلي الفلسفة والالهوت‪ ،‬حيث انخرط‪ ،‬بتلك األبحاث‬ ‫والمؤلفات‪ ،‬في الجدل الدائر بين مفكري عصره حول دالئل اثبات وجود هللا‪ ،‬وحول العالقة بين االيمان والعقل‪ .‬ويندرج‬ ‫المؤلف الوارد ذكره في المتن في هذا السياق‪ .‬وقد صاغه على شكل حوار بينه وبين أحد تالمذته‪ .‬فوضح فيه تجانس‬ ‫العناصر التي تتألف منها العقيدة المسيحية‪ .‬وخصص فصوال منه النتقاد القائلين بأن تلك العقيدة تتناقض والعقل‪.‬‬ ‫اه تم بهذا الكتاب‪ ،‬وبغيره من مؤلفات أنسلم‪ ،‬الباحثون القدامى والمحدثون‪ ،‬كما تم نقله الى مختلف اللغات األوربية‪.‬‬

‫‪87‬‬

‫تمخضت عن إعادة قراءة الكتاب المقدس‪ ،‬والنصوص المتعلقة بالخلق‪ .‬فأخذ أنسلم‬ ‫وغيره‪ ،‬من القائمين بتلك القراءة الجديدة‪ ،‬يروجون لفكرة مفادها أن هللا خلق اإلنسان‬ ‫في صورته وجعله مشابها له‪ .‬ومنذئذ قدر لصورة هللا هذه‪ ،‬في ثوبها اإلنساني‪ ،‬أن‬ ‫تظل سارية المفعول‪ .‬وأصبح الخالص الذي يسعى إليه اإلنسان مسبوقا بمجهود يقوم‬ ‫به لكي يرتقي من موقعه على األرض إلى هذا الشبه مع هللا‪.‬‬ ‫وبناء عليه‪ ،‬فقد أصبحت اإلنسية المسيحية تقوم منذ هذا الوقت على هذا التماثل‪.‬‬ ‫واقتضت صياغتها توظيف عنصرين كان يكتنفهما غموض منذ القرون المسيحية‬ ‫األولى وهما ‪ :‬الطبيعة والعقل‪.‬‬ ‫يمكن القول بخصوص العنصر األول‪ ،‬أن فكر العصر الوسيط األعلى غلب‬ ‫عليه التصور الرمزي للطبيعة‪ .‬وقد ذهب القديس أوغسطين‪ ،‬أحد أقطاب الفكر آنذاك‪،‬‬ ‫إلى جعل ما فوق الطبيعة كال والطبيعة جزءا من هذا الكل‪ .‬وعلى غرار مفكري هذه‬ ‫الحقبة‪ ،‬ظل عدد من رجال القانون خالل القرن الثاني عشر ال يميزون بين الطبيعة‬ ‫وهللا‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬بدأ نفر منهم يميز بين مفهوم الطبيعة ومفهوم ما فوق الطبيعة خالل‬ ‫هذه الفترة بالذات‪ .‬وأخذ مفهوم الطبيعة‪ ،‬في داللته‪ ،‬كعالم فيزيائي وكوسملوجي يتبلور‬ ‫شيئا فشيئا‪ .‬وال أنكر أن دور التراث اإلسالمي والتراث اليهودي كان حاسما في هذا‬ ‫المقام‪ ،‬ألنهما انتقال إلى أوربا‪ ،‬فاطلع مفكرو الغرب من خاللهما على مؤلفات مفكري‬ ‫اإلغريق‪ ،‬من أمثال أرسطو‪ ،‬التي لم يكونوا يعيرونها أي اهتمام‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فقد أفضى هذا االجتهاد إلى شيوع المفهوم الجديد للطبيعة‬ ‫في أوساط المفكرين‪ .‬وتغير في ضوئه سلوك األفراد كما يتجلى ذلك‪ ،‬على سبيل‬ ‫المثال‪ ،‬في التنديد بالمثلية الجنسية التي اعتبرت "خطيئة منافية للطبيعة"‪.‬‬ ‫وعلى غرار مفهوم الطبيعة‪ ،‬كان مفهوم العقل فضفاضا وغامضا هو اآلخر‬ ‫خالل العصر الوسيط األعلى‪ .‬وابتداء من مطلع القرن الثاني عشر شرع المفكرون في‬ ‫إعادة ضبط دالالته‪ .‬وقد كانت إسهامات القديس أنسلم حاسمة في هذا االتجاه‪ ،‬حيث‬ ‫دعا إلى تبني مبدإ "االيمان يسبق الفهم‪ ،‬وبعد ذلك يجب على المرء أن يفهم ما آمن‬ ‫به"‪ .‬ثم أعاد األسقف الفيكتوري هيوغ (‪ 31)Hugues de Saint-Victor‬طرح‬

‫‪ - 31‬عالم الهوت وفيلسوف‪ .‬ولد سنة ‪ 1096‬بمقاطعة ساكس على األرجح‪ .‬بدا حياته كراهب في دير القديس ڤيكتور‬ ‫(بالقرب من باريس) الذي التحق به سنة ‪.1118‬‬ ‫در س الالهوت والفلسفة‪ ،‬وتأثر كثيرا بالقديس أوغسطين‪ .‬واهتم‪ ،‬كغيره من مفكري عصره‪ ،‬بالقضايا الدينية‬ ‫والفلسفية‪ .‬وزاد عن اكثرهم في اهتمامه بالعلوم البحتة والفنون‪ ،‬انطالقا من مبدأ تبناه مفاده أن "ثمة وحدة بين المعارف‬ ‫والكائن االنساني‪.‬حدث أن انفرطت تلك الوحدة‪ ،‬ويتوجب اعادتها الى وضعها السابق"‪ .‬وهذا ما يبرر تنوع المؤلفات التي‬ ‫وضعها قبل وفاته سنة ‪.1141‬‬

‫‪88‬‬

‫المسألة‪ .‬فميز في العقل بين "عقلين" ‪ :‬عقل أعلى مختص بالحقائق المتعالية‪ ،‬أو‬ ‫"الترنسندنطالية"‪ ،‬وعقل أسفل مختص بالقضايا المادية الدنيوية‪.‬‬ ‫ومما ال شك فيه‪ ،‬أن تجديد السؤال بخصوص هذه القضايا يفيد بأن الالهوت‬ ‫دخل مجال التطور وإعادة النظر في كثير من المسلمات‪ .‬ويمكن االستشهاد في هذا‬ ‫الشأن بما أورده األب شوني (‪ 32)le Père Chenu‬الذي يذكر بأن علم الالهوت‬ ‫تطور مقتفيا في ذلك التطور العام الذي حصل في مناهج تحليل نصوص النحو‪،‬‬ ‫والمنطق‪ ،‬والجدل‪ .‬وكان معنى ذلك‪ ،‬في نهاية المطاف‪ ،‬أن المسيحية أخذت تسلك‬ ‫طريق المدرسية (‪.)la scolastique‬‬ ‫قامت اإلنسية المسيحية على عنصري الطبيعة والعقل اللذين أعيد النظر في‬ ‫دالالتهما حسبما تم توضيح ذلك‪ .‬كما قامت أيضا على إعطاء االعتبار لذات اإلنسان‬ ‫الباطنية‪ ،‬أي لكنهه وللجانب الحميمي فيه‪ .‬وحدث ذلك بالرجوع إلى نظرية أرسطو في‬ ‫هذا الشأن‪ ،‬حيث أعيدت صياغتها في قالب مسيحي تحت شعار‪" :‬اعرف نفسك بنفسك‬ ‫أيها المسيحي"‪ .‬فأفضى تبني هذا الشعار إلى صياغة جديدة لمفهوم الخطيئة الذي‬ ‫أضحى يقوم على مبدإ حسن النية والقصد‪ .‬وتحول هذا المبدأ الخاص بدوره إلى مبدإ‬ ‫عام هو "مسائلة الذات" (‪ )introspectus‬و(‪ )l’introspection‬الذي تم إقراره في‬ ‫المجمع الديني الذي التأم بموقع لتران )‪ )Latran‬بمدينة روما سنة ‪.1215‬‬ ‫قصارى القول‪ ،‬قامت اإلنسية المسيحية على مبدأ مراجعة وإعادة صياغة‬ ‫مفاهيم قديمة تم إثراؤها خالل القرن الثاني عشر‪ .‬ولذلك اتخذت هذه اإلنسية أحيانا‬ ‫أشكاال مختلفة أو متناقضة كما هو واضح في طروحات أعالم فكر القرن الثالث‬ ‫عشر‪ ،‬أمثال القديس أبيالر والقديس بيرنار والقديس يوحنا السارسبرنسي ( ‪Joannis‬‬ ‫‪.)Jean de Salisbury( )Saresberiensis‬‬ ‫واألهم من ذلك‪ ،‬هو أن اإلنسية المسيحية تبلورت في سياق تحوالت كبرى‬ ‫وعميقة تحدث عنها معظم المهتمين بتاريخ العصر الوسيط‪ ،‬ومن بينهم روبير أيان‬ ‫مور (‪ )Robert Ian Moore‬الذي يرى في تلك التحوالت "ثورة أوربية أولى"‬ ‫‪ - 32‬يتعلق األمر باألب ماري‪-‬دومينيك شوني (‪ )Marie-Dominique Chenu‬أحد الوجوه البارزة في الكنيسة‬ ‫األوربية المعاصرة‪.‬‬ ‫ولد يوم ‪ 7‬يناير ‪ 1895‬ببلدة سواسي (‪ )Soisy‬قرب باريس‪ .‬وتوفي يوم ‪ 11‬فبراير ‪.1990‬‬ ‫تلقى تعليمه اإلعدادي بمؤسسة كاثوليكية بلجيكية‪ ،‬ثم انخرط منذ بلوغه سن الثامنة عشرة في طائفة المسيحيين‬ ‫الدومينيكان‪ .‬ورحل بعد مدة الى روما التي درس بها الالهوت والفلسفة‪ .‬وبعد عودته الى بلجيكا عكف على الوعظ‬ ‫والتدريس بمدرسة سولشوار (‪ )Saulchoir‬التابعة لطائفة الدومينيكان ‪.‬واهتم بالتأليف في الالهوت الذي خصه‬ ‫بمجموعة مؤلفات من بينها ‪:‬‬ ‫‪- La théologie au XIIe siècle, Paris, Vrin, 1957.‬‬ ‫‪- La théologie comme science au XIIIe siècle, Paris, Vrin, 2002, (3 e édition).‬‬

‫‪89‬‬

‫حدثت بين القرنين العاشر والثالث عشر‪ .‬والذي يدافع عن فكرة مفادها أن أوربا نشأت‬ ‫خالل األلفية الثانية وليس خالل األلفية األولى‪.‬‬ ‫وتعقيبا على وجهة نظر روبير أيان مور‪ ،‬يمكن القول بأن هذا األخير يحبذ‬ ‫التركيز على الفترة الممتدة بين القرنين العاشر والثالث عشر على حساب العصر‬ ‫الوسيط األعلى‪ ،‬في حين أرى شخصيا بأن العصر الوسيط األعلى يشكل طبقة ال تقل‬ ‫أهمية عن الطبقة التي تشكلها الحقبة الممتدة بين سنتي ‪ 1000‬و‪ .1300‬بل أميل الى‬ ‫التأكيد بأنهما يمثالن معا طبقتين حاسمتين في عملية بناء أوربا‪.‬‬ ‫وعموما‪ ،‬يرى روبير أيان مور بأن "عملية المزج بين القدرة والفضول‬ ‫والبراعة هي التي كانت وراء انكباب األوربيين بشكل مكثف على استثمار األراضي‬ ‫واستثمار الجهد العضلي‪ ،‬وعلى استغالل أمثل لقوة مؤسساتهم‪ ،‬مما سمح بخلق‬ ‫الظروف الالزمة من أجل تطوير رأسمالهم‪ ،‬وصناعاتهم‪ ،‬وإمبراطورياتهم بغض‬ ‫النظر عن الحصيلة‪ .‬وهذا ما يمثل‪ ،‬الحدث المركزي‪ ،‬ليس في تاريخ أوربا فحسب‪،‬‬ ‫بل في تاريخ العالم الحديث برمته"‪.‬‬ ‫وأعتقد بأن ما يقول به روبير أيان مور يكتسي قيمة بالغة‪ ،‬ألن فيه تأكيد على‬ ‫المنعطف الكبيرالذي شهدته عملية بناء أوربا‪ ،‬رغم بعض المبالغات التي تتضمنها‬ ‫القولة‪ .‬وستتم العودة للحديث عن هذا المنعطف في الفصل الموالي من الكتاب الذي‬ ‫سيخصص للقرن الثالث عشر‪ ،‬ألن هذا القرن يمثل الحقبة المثالية التي يمكن أن نقف‬ ‫من خالل النظر إليها إلى عظمة البناء الذي استند على المدن بشكل خاص‪ .‬رغم أن‬ ‫هذا الحيز الزمني بالذات‪ ،‬شهد بداية توقف المد القوي الذي تحقق خالل القرن الثاني‬ ‫عشر‪.‬‬ ‫‪ )25‬ميالد أوربا االضطهاد‬ ‫أعتقد أن الوقت حان الستعراض بعض الظواهر السلبية التي أسفر عنها ذلك‬ ‫المد‪ .‬وأ حيل القارئ بخصوص هذا الجانب على روبير أيان مور مجددا‪ ،‬ألنه استطاع‬ ‫وضع األصبع على ما يسميه نشأة "مجتمع االضطهاد"‪ .‬فماذا حدث اذن؟ لقد عاش‬ ‫مسيحيو الغرب فترة طويلة من الزمن ضعافا‪ ،‬يسيطر عليهم إحساس بالخوف‪ .‬ثم ساد‬ ‫بينهم فيما بعد شعور بالطمأنينة المادية والفكرية والدينية‪ .‬ورغم أن الكمال لم يتحقق‪،‬‬ ‫فقد أصبح المسيحيون واثقين من أنفسهم‪ .‬وتبعا لذلك تحولوا إلى توسعيين‪ ،‬بل إلى‬ ‫عدوانيين‪ ،‬ألنهم أرادوا استئصال كل جرثومة مولدة للنجاسة في مسيحية قوية‬ ‫وناجحة‪ .‬فنتجت عن ذلك سلسلة حركات كانت من ورائها الكنيسة والسلطات الدنيوية‬ ‫بهدف تهميش‪ ،‬أو إقصاء‪ ،‬رؤوس الفتنة والدنس‪ .‬وكان من أبرز ضحايا عمليات‬

‫‪90‬‬

‫"االضطهاد"‪ :‬الهراطقة (أو الخارجون عن الدين) أوال‪ ،‬ثم اليهود‪ ،‬والمثليون (من‬ ‫الرجال) والمصابون بالجذام‪.‬‬ ‫‪ )26‬الهراطقة‬ ‫واكبت الهرطقة تاريخ المسيحية منذ نشأتها‪ .‬ومن المعروف أن هذه الديانة‬ ‫الجديدة أقرت‪ ،‬من خالل سلسلة مجامع دينية‪ ،‬عقيدة رسمية تبنتها الكنيسة وأضحت‬ ‫بمثابة أرثوذوكسية‪ .‬وكان من المنتظر أن تنشأ إزاء هذه األرثوذوكسية عدة‬ ‫"اختيارات" (‪ .)des choix‬ومن ثم‪ ،‬نشأت كلمة "هرطقة" (‪ )une hérésie‬التي‬ ‫تعني في األصل اختيار(‪.)un choix‬‬ ‫وكان من الطبيعي أن تندد الكنيسة بالهرطقة‪ ،‬ألنها كانت تتعلق بقضايا تمس‬ ‫جوهر العقيدة‪ ،‬مثل قضية الموازنة في المرتبة بين األشخاص الثالث الذين يؤلفون‬ ‫الثالوث المقدس‪ ،‬وقضية المسيح‪ ،‬الذي لم يعترف أقطاب الهرطقة بطبيعته اإللهية أو‬ ‫البشرية‪.‬‬ ‫وتشعبت الهرطقة بطبيعة الحال لتأخذ أحيانا منحى اجتماعيا‪ ،‬كما حدث مثال في‬ ‫شمال إفريقيا من خالل الحركة الدوناتية التي عارضها بشدة القديس أوغسطين‪ .‬ورغم‬ ‫ذلك‪ ،‬لم تخرج الهرطقة عن نطاق قضايا العقيدة‪ .‬وظلت محدودة نسبيا حتى مطلع‬ ‫القرن العاشر‪ ،‬حيث اندلعت موجة عارمة من الحركات الهرطقية ميز فيها الباحثون‬ ‫بين حركات عالمة وحركات شعبية‪ .33‬وعموما‪ ،‬فقد كان بعضها يعبر عن تطلع عدد‬ ‫من المسيحيين إلى صفاء أكثر للسلوك‪ ،‬بينما كان بعضها اآلخر يعبر عن رغبة عامة‬ ‫في مباشرة اإلصالح‪ .‬وهذا النوع هو الذي مهد في واقع األمر لإلصالح الﯕريﯕوري‬ ‫الذي سبق الحديث عنه‪.‬‬ ‫من المفيد القول لتوضيح األمر أكثر بأن الهدوء الذي شهدته الحقبة‬ ‫الكارولنجية‪ ،‬تلته اضطرابات وقالقل كانت من ورائها الكنيسة والالئكيون في ذات‬ ‫الوقت‪ ،‬ألن كل طرف منهما كان يسعى لإلفالت من سيطرة الطرف اآلخر‪ .‬بينما يفيد‬ ‫الواقع بأن الكنيسة كانت دائما الطرف المسيطر‪ ،‬معنويا وماديا‪ ،‬منذ نشأة الديانة‬ ‫المسيحية‪ .‬ويبدو أن الحركات الهرطقية التي كانت ترفضها الكنيسة‪ ،‬هي تلك‬ ‫الحركات التي كانت تحاول المساس بهذه السلطة‪ .‬وقد انتشرت في كل من أورليان‬ ‫(‪ )Orléans‬وأراس (‪ )Arras‬وميالنو ولومبارديا‪ .‬وكانت عموما أقل تطرفا من‬ ‫‪ - 33‬لتكوين فكرة عن هذا التمييز يمكن العودة إلى أعمال المؤتمر العلمي الذي احتضنه دير رايومون )‪(Rayaumont‬‬ ‫السيستيرسي في شهر مايو ‪ .1962‬وقد صدرت تلك األعمال سنة ‪ 1968‬في مؤلف بعنوان ‪:‬‬ ‫‪Hérésies et sociétés dans l’Europe pré-industrièlle XI-XVIIIe siècle, Paris-La Haye,‬‬ ‫‪Mouton.‬‬

‫‪91‬‬

‫الحركات التي انتشرت في كل من لوثارانجيا (‪ )la Lotharingie‬وجنوب غالة‬ ‫وشمال ايطاليا‪ .‬فبدا الوضع ينذر بميالد "أوربا االحتجاج"‪ .‬ولكن الكنيسة بدت غير‬ ‫قادرة على التطور بين ضرورة القيام بإصالح في أوساط رجال الدين‪ ،‬والعمل على‬ ‫قمع تلك الحركات التي استشرت في مجال واسع‪.‬‬ ‫كان اإلصالح يقتضي محاربة عمليات بيع األسرار(‪،)les sacrements‬‬ ‫والمناصب الدينية‪ ،‬والتصدي لظاهرة زواج الرهبان ومعاشرة النساء‪ ،‬وإعادة الثقة في‬ ‫أوساط كثير من عامة المسيحيين الذين كانوا يرفضون تلقي ما يسمى باألسرار‪،‬‬ ‫المفضية للخالص‪ ،‬من قبل كهنة مشكوك في سلوكهم‪.‬‬ ‫وكان عدد من الهراطقة يرفضون تقديس الصليب بنوعيه‪ ،‬أو القيام ببعض‬ ‫المناسك التي أقرتها الكنيسة تحت تأثير بعض التنظيمات القوية مثل دير كلوني‪ .‬ومن‬ ‫بين تلك المناسك إقامة الصلوات على أرواح بعض رجال الدين‪ ،‬أو تقديم مقابل للكهنة‬ ‫والرهبان الذين يقومون بذلك‪ ،‬أو تقديس بعض المدافن‪.‬‬ ‫ويبدو أن النقطة التي أفاضت الكأس‪ ،‬تمثلت في اتهام المعارضين للكنائس‬ ‫ولرجال الدين باالغتناء الفاحش‪ .‬فأخذ رجال الكنيسة يشعرون بكونهم أضحوا يقيمون‬ ‫في قلعة يحاصرها األعداء من كل جانب‪ .‬فكان ال بد من إيجاد مخارج‪ .‬فلجأوا إلى‬ ‫أساليب متجاوزة‪ ،‬وغير منسجمة مع مستجدات العصر كنعت المعارضين بألقاب‬ ‫تنتمي للعصر القديم المتأخر من قبيل "المانويين" أو "المتطرفين" الذين يضعون حدا‬ ‫فاصال بين الخير والشر‪.‬‬ ‫واتخذ دير كلوني‪ ،‬بوصفه المؤسسة الدينية المسيطرة على الكنيسة‪ ،‬على عاتقه‬ ‫مسؤولية التصدي للهراطقة‪ .‬فوضع بطرس المبجل (‪ ،)Pierre le Vénérable‬الذي‬ ‫تزعم إدارة الدير‪ ،‬ابتداء من سنة ‪ ،1122‬ثالثة مؤلفات استعرض فيها التحديات التي‬ ‫تواجهها الكنيسة‪ .‬فعدت منذئذ بمثابة "مؤلفات تربوية" خاصة باألرثوذكسية المسيحية‪.‬‬ ‫خص األول منها لدحض طروحات بيير دي بريس (‪ )Pierre de Bruys‬أحد‬ ‫أقطاب الهراطقة الذي ألب كثيرا من مسيحيي إحدى القرى بجبال األلب ضد الشعائر‬ ‫المتصلة باألسرار‪ ،‬وضد الصلوات على أرواح الموتى‪ ،‬وضد تقديس الصليب‪.‬‬ ‫وخصص الثاني للحديث عن رسول اإلسالم الذي وصفه بكونه مشعوذ‪ .‬بينما خصص‬ ‫المؤلف الثالث للحديث عن اليهود الذين نعتهم بكونهم "قتلة هللا"‪ ،‬ألنهم قاموا بصلب‬ ‫المسيح‪.34‬‬ ‫‪ - 34‬المؤلفات المشار إليها هي ‪:‬‬ ‫‪- Contra Petrobrusianos hereticos (vers 1141), édi. par James Fearns, Turnhout (Belgique),‬‬ ‫‪Brepols, coll. "Corpus Christianorum Continuatio Mediaevalis", 1968. Contre les Pétrobru‬‬‫‪siens, disciples de Pierre de Bruys précurseurs de l'Église vaudoise.‬‬

‫‪92‬‬

‫شكلت سنة ‪ 1140‬بداية انطالق هجوم كاسح ضد الهرطقة التي وصفتها‬ ‫الكنيسة‪ ،‬من منطلق الداللة الجديدة التي أعطيت لمفهوم الطبيعة‪ ،‬بكونها مرض‬ ‫كالجذام أو طاعون‪ .‬وحذرت‪ ،‬عموم المسيحيين‪ ،‬بأن األمر يتعلق بمرض معدي‪.‬‬ ‫ويبدو أن المهمة لم تكن سهلة‪ ،‬ألن الهرطقة كانت قد استشرت في عدة مناطق‬ ‫وأصبح لها كثير من األتباع‪ .‬ففي جنوب غالة انتشرت في صفوف عدد كبير من سكان‬ ‫قمطية تولوز الذين نجحوا سنة ‪ 1167‬في عقد مجمع ديني تحت أنظار القمط‪ .‬بل‬ ‫األدهى من ذلك أن عددا من األسر النبيلة انخرطت في هذه الحركة‪ ،‬ألنها كانت‬ ‫تعارض مبدأ الكنيسة القاضي بمنع الزواج بين ذكور وإناث من نفس القرابة‪ .‬وقد‬ ‫ترتبت عن هذا المنع تجزئة استغالليات كثير من تلك األسر‪.‬‬ ‫وأخذت هرطقة جنوب غالة تتجه لتأخذ شكل مانوية حقيقية عرفت "بالتقطيرية"‬ ‫(‪ .35)le catharisme‬فكان معتنقوها يمتنعون عن كل الماديات والشهوات‪،‬‬ ‫ويمارسون طقوسا مختلفة كثيرا عن طقوس الكنيسة المسيحية‪ .‬و تميز بعضهم بكونهم‬ ‫آثروا حياة العفة والسمو بالنفس عن الملذات‪ ،‬فكانوا يحظون بنوع من التقديس عندما‬ ‫يتقدم بهم العمر‪ .‬وأعتقد أن "التقطيرية" لم تكن هرطقة مسيحية‪ ،‬وإنما كانت ديانة‬ ‫أخرى‪ .‬وقد اكتسبت كل هذه األهمية التي أحاطت بها ألن الكنيسة بالغت من خطورتها‬ ‫بهدف القضاء عليها؛ وألن بعض مناضلي‪ ،‬القرن العشرين‪ ،‬المنتمين لموطنها‬ ‫مجدوها‪ ،‬باعتبارها إرثا محليا‪ .‬وعلى كل‪ ،‬فهذا ال يعني التقليل من قوة العنف الذي‬ ‫‪- Contra Sarracenos, édi. par J. Kritzek, Peter the Venerable and Islam, Princeton‬‬ ‫‪University Press, 1964.‬‬ ‫‪- Adversus judaeorum, édi. par Y. Friedman, Turnhout, Brepols, 1985‬‬ ‫‪ - 35‬من المفيد اإلشارة إلى أن الباحثين العرب القالئل الذين تناولوا بإيجاز تاريخ هذه الحركة الدينية‪ ،‬تحدثوا عنها باسم‬ ‫"الكاثارية" الذي رأوا أنه التسمية المقابلة للتسمية األنجليزية "‪ ."catharism‬وخالفا لهم‪ ،‬فإننا نحبذ تسميتها بالحركة‬ ‫"التقطيرية" ألن كلمة ‪( catharism‬باألنجليزية) أو ‪( catharisme‬بالفرنسية) مشتقة من كلمة "‪ "katharós‬ذات‬ ‫األصل اإلغريقي‪ ،‬وتعني الشيء الصافي أوالطاهر( ‪ .)pur‬وقد سعى أقطاب الحركة‪ ،‬عند ظهورها‪ ،‬إلى تطهير ←‬ ‫المسيحة مما رأوه شوائب شابتها منذ نشأتها‪ ،‬وكذل ك تطهير أرواح المسيحيين‪ .‬فقاموا بما يشبه عملية "تقطير" للمسيحية‪،‬‬ ‫كالعملية التي يقوم بها من يريد استخالص سائل‪ ،‬أو عطر‪ .‬فهو يقوم بعملية تقطير الستخالص السائل أو العطر‪ ،‬أو ماء‬ ‫الورد‪.‬‬ ‫وقد حظيت الحركة باهتمام عدد كبير من الباحثين‪ ،‬حتى ان بعضهم قضى ردحا من حياته في التأليف فيها‪ .‬ومن بين‬ ‫هؤالء جون دوڤيرنوا وروني نيلي‪ .‬اللذين يمكن العودة الى مؤلفيهما ‪:‬‬ ‫‪- Jean Duvernoy, Le Catharisme : La Religion des Cathares, Toulouse, Les Éditions Privat,‬‬ ‫‪1976.‬‬ ‫‪Le Catharisme : L’Histoire des Cathares,Toulouse, Les Éditions Privat, 1979.‬‬ ‫‪- René Nelli, Les Cathares, Paris, Les Éditions Marabout, 1972.‬‬

‫‪:‬‬

‫‪93‬‬

‫جوبهت به الحركة‪ ،‬كما أنه ليس تقييما لمدى نجاحها ألنه أمر بالغ الصعوبة‪ .‬ولو قدر‬ ‫لها أن تنجح ألصبحت أوربا قارة أصولية‪.‬‬ ‫ظهرت في غالة‪ ،‬إلى جانب الحركة التقطيرية‪ ،‬السابق ذكرها‪ ،‬هرطقة تزعمها‬ ‫شخص تاجر‪ ،‬لم يكن برجل دين‪ ،‬يدعى بيير ڤالديس (‪ .)Pierre Valdès‬وزع ما‬ ‫تبقى له من ثروة على الفقراء‪ ،‬ونادى بالتقشف اقتداء بالمسيحيين األوائل‪ ،‬وبعيش حياة‬ ‫بسيطة وفق ما تنص عليه تعاليم الكتاب المقدس‪ .‬وقد القت دعوته صدى كبيرا‬ ‫وانخرط فيها كثير من سكان مدينة ليون (‪.)Lyon‬‬ ‫وأعتقد أ ن "الڤالديسبة" لم تكن في األصل هرطقة مناوئة للكنيسة‪ ،‬وإنما كانت‬ ‫عبارة عن حركة تروم القيام بإصالح يكون فيه الالئكيون طرفا فاعال‪.‬‬ ‫ظلت الكنيسة صماء وآثرت إتباع سياسة "العصا الغليظة" تجاه الهراطقة‪ .‬وذلك‬ ‫ما تحقق سنة ‪ 1184‬حين استصدر البابا لوسيوس الثالث (‪ ،)Lucius III‬بتواطؤ مع‬ ‫اإلمبراطور فردريك‪ ،‬ظهيرا يقضي بمالحقة الهراطقة في كل مكان دون هوادة‪.‬‬ ‫وواصل الباباوات الذين اعتلوا عرش البابوية بعده سياسة المالحقة‪ ،‬والتنكيل‬ ‫بالهراطقة‪ ،‬ومصادرة ممتلكاتهم‪ .‬فتحولت تلك السياسة إلى ما يشبه الحرب الصليبية‪،‬‬ ‫ولكنها حرب داخل أوربا‪ .‬استنفرت الكنيسة أعدادا من "الصليبيين الالئكيين"‬ ‫لخوضها‪.‬‬ ‫وبما أن مناطق جنوب غالة كانت موطن أهم الحركات الهرطقية‪ ،‬فقد كانت‬ ‫كذلك أهم ساحة احتضنت حرب الكنيسة ضد هذه الحركات‪ .‬وجرت وقائع تلك الحرب‬ ‫في قمطية تولوز بشكل عام وفي بلدة بيزيي بشكل خاص‪ ،‬حيث عاث فيها أنصار‬ ‫الكنيسة فسادا ونكلوا بأهلها‪ .‬فنعتت وقائعها بكونها كانت بحق "حربا صليبية" ضد‬ ‫القطاريين‪.‬‬ ‫وانضم ملوك وأمراء كيانات غرب أوربا إلى هذه "الحرب الصليبية" بموجب‬ ‫مرسوم‪ ،‬صدر عن مجمع لتران المنعقد سنة ‪ ،1215‬يقضي بالتزام هؤالء الملوك‬ ‫واألمراء بالمشاركة في الحرب ضد الهراطقة‪ .‬كما يقضي بأن يقوم اليهود بتثبيت‬ ‫قطعة ثوب دائرية الشكل وحمراء اللون على مالبسهم لتمييزهم عن سائر الناس‪.‬‬ ‫وبموازاة هذه اإلجراءات تم تنصيب محكمة تابعة للكنائس وللبابوية يقدم إليها كل‬ ‫مشتبه في انتمائه إلى إحدى الجماعات الهرطقية‪ .‬واستبدلت هذه المحكمة منهج االتهام‬ ‫الذي كان معموال به بمنهج "التفتيش"(‪ )l’inquisition‬عن طريق االعتراف بالذنب‪.‬‬ ‫وغالبا ما كان االعتراف بالذنب ينتزع من الشخص انتزاعا عن طريق التعذيب الذي‬ ‫لم يعد أسلوبا معموال به منذ العصر الوسيط األعلى إال في حاالت نادرة‪ .‬ألن العبيد‬ ‫وحدهم هم الذين كانت تمارس في حقهم شتى أصناف العقوبات الجسدية‪ .‬وقد كان‬ ‫روبيرأيان مور محقا حين ذهب الى القول بأن التفتيش مثل أبشع مظاهر أوربا‬

‫‪94‬‬

‫االضطهاد‪ .‬إذ بموجبه أعدم حرقا عدد كبير من الذين انتزعت منهم اعترافات باالنتماء‬ ‫لجماعات الهراطقة‪ ،‬رغم أنه من الصعوبة بمكان تقديم رقم تقريبي عن عدد األفراد‬ ‫الذين حوكموا باإلعدام‪ .‬وكان تنفيذ الحكم يوكل للسلطات الدنيوية‪ ،‬التي تقوم بذلك‬ ‫بوصفها الذراع السياسي والعسكري للكنائس وللبابوية‪ .‬وتبعا لقسوة المصيرالذي كان‬ ‫ينتظركل من" اشتمت فيه رائحة" االنتماء إلى الجماعات الهرطقية‪ ،‬فقد تقلص عدد‬ ‫معتنقي "التقطيرية" منذ النصف الثاني من القرن الثالث عشر‪ .‬وانحصر في‬ ‫مجموعات قليلة اعتصمت بالجبال والمرتفعات‪ .‬مثل سكان قرية مونتايو‬ ‫(‪ )Montaillou‬الواقعة بمنطقة أرييج (‪ )l’Ariège‬الذين خصهم إيمانويل لو روا‬ ‫الدوري (‪ )Emmanuel Le Roy Ladurie‬بكتاب نموذجي رائع‪.36‬‬ ‫‪ )27‬اضطهاد اليهود‬ ‫مثل اليهود الطائفة الثانية التي شملها االضطهاد من قبل الكنيسة والقائمين على‬ ‫األمر في الممالك األوربية‪ .‬والواقع أن اليهود لم يكونوا أبدا مصدر إزعاج بالنسبة‬ ‫للمسيحيين وحتى مطلع القرن العاشر كان عددهم قليال في غرب أوربا‪ .‬وكانوا‪ ،‬الى‬ ‫جانب بعض المشارقة‪ ،‬من لبنانيين وسوريين وغيرهم‪ ،‬يمتهنون التجارة التي كانت‬ ‫وقتئذ محدودة بين العالم المسيحي والمشرق‪ .‬ولم تتخذ الكنيسة موقفا متشددا من عالقة‬ ‫اليهود بالمسيحيين خالفا لكنيسة القوط الغربيين بشبه جزيرة أيبيريا‪ ،‬التي كانت‬ ‫متشددة تجاه اليهود حتى تاريخ سيطرة المسلمين على األندلس‪.‬‬ ‫وظلت عالقة المسيحيين باليهود عالقة عادية زمن حكم األسرة الكارولنجية‪،‬‬ ‫رغم أن بعض رجال الدين المسيحيين لم يكونوا ينظرون بعين الرضى لليهود‪ .‬وحين‬ ‫انتشرت الفيودالية في غرب أوربا وقع معظم اليهود في شرك القنانة‪ .‬فوضع بعضهم‬ ‫تحت حماية السنايير‪ ،‬بينما وضع أكثريتهم تحت حماية األمراء والملوك‪.‬‬ ‫ومن المفيد التذكير بأن عدد اليهود كان يناهز األربعة آالف شخص في ألمانيا‬ ‫حوالي سنة ‪ .1000‬وتكاثروا ليبلغ عددهم عشرين ألف نسمة في غضون قرن من‬ ‫الزمان‪ .‬ويبدو أنهم كانوا يتمتعون ببعض الحظوة ألن األمراء كانوا يفضلون االعتماد‬ ‫على خدماتهم بدل المسيحيين‪.‬‬ ‫ويعزى ارتفاع أعداد اليهود‪ ،‬المستقرين بألمانيا وبعموم ممالك غرب أوربا‪،‬‬ ‫ل تحسن األوضاع االقتصادية بعد مطلع القرن الحادي عشر‪ .‬كما أن هذا التحسن ذاته‬ ‫كان وراء ظهور مالمح سياسة االضطهاد التي أصبحوا عرضة لها‪ .‬ولكن قبل ظهور‬ ‫‪ - 36‬المقصود هنا كتاب ‪:‬‬ ‫‪Montaillou, village occitan de 1294 à 1324, Paris, Gallimard, 1975.‬‬

‫‪95‬‬

‫هذه المالمح‪ ،‬كانت عالقة المسيحيين باليهود عادية‪ .‬وكانت اليهودية هي الديانة‬ ‫الوحيدة التي اعترف بها األمراء والملوك المسيحيون‪ ،‬وسمحوا لمعتنقيها بإقامة‬ ‫المعابد والمدارس‪.‬‬ ‫ويبدو أن تحسن األوضاع االقتصادية‪ ،‬الذي دفع المسيحيين لخوض الحروب‬ ‫الصليبية ونجاحهم في االستيالء على بيت المقدس سنة ‪ ،1099‬قلب األوضاع رأسا‬ ‫على عقب‪ .‬فقد أحيت معاينة المحاربين والحجاج لبيت المقدس عن كثب شعورا دفينا‬ ‫لديهم بالحقد على اليهود الذين كانوا‪ ،‬في نظرهم‪ ،‬وراء المصير الذي انتهت إليه حياة‬ ‫المسيح‪ .‬فاخذ هذا الشعور ينمو بوتيرة سريعة‪ .‬وتحول خالل القرنين الثاني عشر‬ ‫والثالث عشر إلى عمليات تنكيل ومالحقة لليهود من قبل عامة المسيحيين‪ .‬وكانت‬ ‫وراء عمليات التنكيل األولى إشاعات راجت في أوساط العامة‪ ،‬مفادها أن اليهود قتلوا‬ ‫يوما شابا مسيحيا واستعملوا دمه في طقوسهم‪ .‬وأسفرت تلك العمليات عن سفك دم‬ ‫عدد من اليهود‪ .‬وراجت أول إشاعة من هذا القبيل في مدينة نورتش (‪)Norwich‬‬ ‫بأنجلترا سنة ‪ .1144‬وتلتها اشاعات أخرى خالل النصف الثاني من القرن الثاني‬ ‫عشر والنصف األول من القرن الموالي‪،‬كما حدث مثال في مدينة لينكولن(‪)Lincoln‬‬ ‫سنة ‪ ،1255‬حيث شاع في أوساط سكانها أن مجموعة من اليهود عذبوا شابا مسيحيا‬ ‫حتى الموت‪ .‬فتم القاء القبض على ‪ 19‬يهوديا سيقوا الى لندن التي اعدموا فيها شنقا‪.‬‬ ‫وكان من الممكن أن تكون الحصيلة أكثر‪ ،‬لوال تدخل أخ الملك الذي أنقذ أرواح ‪90‬‬ ‫نفرا من اليهود‪ .‬وتوالت مثل هذه االشاعات خالل النصف الثاني من القرن الثالث‬ ‫عشر‪ .‬وراجت في سائر أنحاء الغرب المسيحي‪ ،‬باستثناء مملكة غالة‪ ،‬التي لم تحدث‬ ‫فيها أية عملية تنكيل باليهود اال بعد سنة ‪.1270‬‬ ‫ولم تتوقف دواعي التنكيل باليهود عند حد اتهامهم بقتل شباب مسيحيين‪ ،‬بل‬ ‫أخذت تتنوع حين راجت شائعة تفيد بأن اليهود يدنسون الخبز‪ ،‬الذي كان يحضر نوع‬ ‫منه ليقدم كصدقة (‪ .)l’hostie‬فأخذت الكنيسة تتهمهم بالمس بالشعائر والطقوس‬ ‫لتأليب المسيحيين ضدهم‪.‬‬ ‫وكانت تلك االشاعات‪ ،‬وما ترتب عنها من عمليات تنكيل وتقتيل طالت أعدادا‬ ‫من المتهمين‪ ،‬مدخال لبداية موجات تهجير جماعي لليهود من معظم ممالك غرب‬ ‫أوربا‪ .‬حدثت أوالها في أنجلترا سنة ‪ ،1290‬ثم في فرنسا سنة ‪ ،1306‬وتوالت‬ ‫عمليات تهجير اليهود خالل القرن الرابع عشر بالموازاة مع اشتداد األزمة‬ ‫االقتصادية‪ ،‬وانتشار الطاعون األسود‪ ،‬واتهام اليهود بكونهم هم المسؤولين عن تفشي‬ ‫العدوى‪ ،‬وبكونهم يقفون وراء المصائب التي أصبح يتخبط فيها المسيحيون‪ .‬وتم تشديد‬ ‫الخناق على األعداد القليلة من اليهود الذين ظلوا مستقرين بممالك غرب أوربا‪ .‬فقد‬ ‫منعوا من حق امتالك استغالليات‪ ،‬ومن حق مزاولة أية حرفة أو نشاط اقتصادي‪ .‬كما‬

‫‪96‬‬

‫خصصت لهم أحياء كانوا يقيمون بها‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬ظلت أعداد مهمة منهم مستقرة في‬ ‫بعض مقاطعات ألمانيا‪ ،‬وبعض المناطق الواقعة تحت نفوذ البابوية‪ .‬كما لم يستطع‬ ‫الملوك االستغناء عن خدمات بعضهم كأطباء لهم في القصور‪ ،‬أو كممولين لهم بما‬ ‫كانوا يتوفرون عليه من ثروات نقدية‪.‬‬ ‫وانطالقا مما تقدم‪ ،‬يمكن القول بأن اضطهاد اليهود شكل بدوره مظهرا بشعا من‬ ‫مظاهر أوربا االضطهاد إلى جانب محاكم التفتيش التي سبق الحديث عنها‪ .‬والمالحظ‬ ‫أن اضطهاد اليهود استمر بعد العصر الوسيط‪ .‬واصطبغ خالل األزمنة الحديثة‬ ‫والمعاصرة بصبغة عنصرية لم تكن معروفة من قبل‪ .‬ولكن العصر الوسيط يمثل‬ ‫الحيز الزمني الذي بدأت فيه بوادر التفاضل بين األجناس‪.‬‬ ‫‪ )28‬المثﻠية الجنسية‬ ‫يمثل الذكور الذين يمارسون الجنس مع أمثالهم الفئة الثالثة التي شملها‬ ‫االضطهاد‪ .‬وقد كان هؤالء موضوع مضايقات شديدة من منطلق بعض التعاليم‬ ‫الواردة في كتاب العهد القديم التي تندد بهذا السلوك وتعتبر مرتكبيه مذنبين ومنحرفين‪.‬‬ ‫والغريب في األمر أن نوعا من غظ الطرف شمل ظاهرة المثلية الجنسية التي‬ ‫كانت متفشية نسبيا في أوساط بعض رجال الدين‪ .‬ولكن ابتداء من مطلع القرن الثاني‬ ‫عشر عمت "رياح اإلصالح" هذه الظاهرة بالموازاة مع تبني الدالالت الجديدة لمفهوم‬ ‫الطبيعة‪ .‬فغدا "الشذوذ الجنسي" في أعين الكنيسة خطيئة ألنه سلوك منافي للطبيعة‪.‬‬ ‫والمالحظ أن موقف الكنيسة من هذا السلوك‪ ،‬شابه نوع من الغموض‬ ‫واالضطراب في ذات الوقت‪ .‬فتراوح بين الصرامة أحيانا‪ ،‬والصمت وغض الطرف‬ ‫في أحايين أخرى‪ .‬فقد أغفلت الكنيسة ظاهرة السحاق بين النساء‪ ،‬بينما عاقبت فئات‬ ‫من الرجال بعينهم‪ ،‬كما حدث مثال في حق المدعو جاك دي موالي ( ‪Jacques de‬‬ ‫‪ ،)Molay‬زعيم طائفة الرهبان المحاربين‪ ،‬باسم معبد سليمان (‪،)les Templiers‬‬ ‫الذي اتهم بارتكاب هذه الخطيئة‪ ،‬فصدر في حقه حكم باإلعدام حرقا‪ .‬وبالمقابل غضت‬ ‫الكنيسة الطرف عن عدد من الرجال المنتمين للطبقة األرستقراطية الذين كانوا‬ ‫يمارسون الجنس مع أمثالهم‪.‬‬ ‫‪ )29‬غموض بخصوص داء الجذام‬ ‫مما ال شك فيه أن أمر إدراج المصابين بالجذام ضمن الئحة الفئات التي طالها‬ ‫االضطهاد يبدو غريبا‪ .‬خاصة وأن موقف المسيحيين من هؤالء اتسم بالتناقض‬ ‫الصارخ‪ ،‬إذ تأرجح بين الرأفة واالضطهاد‪.‬‬

‫‪97‬‬

‫شكل موقف المسيح من المصابين بالجذام مرجعية في تبني موقف الرأفة‪ .‬فقد‬ ‫كان يأخذ بيد المصابين بهذا الداء‪ .‬وحدث يوما أنه قبل أحدهم‪ .‬وهكذا دأب عدد من‬ ‫رجال الدين على االقتداء بالمسيح في هذا الشأن منذ القرن الرابع‪ ،‬تاريخ انتشار هذا‬ ‫الداء بأوروبا‪ .‬واستمر األمر على نفس المنوال بعد القرن الحادي عشر‪ ،‬حيث ظل‬ ‫عدد من رجال الدين يقومون برعاية هؤالء المصابين ويقدمون لهم ما يسد رمقهم‪ .‬وقد‬ ‫شاع ذكر بعضهم في هذا المجال‪ ،‬أمثال القديس فرانسوا األسيزي ( ‪Saint François‬‬ ‫‪ )d’Assise‬والقديس لويس (‪.)Saint Louis‬‬ ‫وخالفا لرجال الدين النظاميين‪ ،‬تبنى معظم المسيحيين موقف االزدراء‬ ‫واالشمئزاز من المصابين بالجذام‪ .‬وبما أنهم كانوا يعتبرون شكل الجسم صورة‬ ‫لطبيعة الروح‪ ،‬فقد ساد االعتقاد بأن تفشي الداء في جسم الفرد يعد من عالمات‬ ‫الخطيئة‪ .‬وأن المصابين هم عموما أبناء أبوين لم يحترما الفترات التي يتوجب فيها‬ ‫على الزوجين االمتناع عن ممارسة الجنس‪.‬‬ ‫والمالحظ أن المؤلفات األدبية زادت من تزكية موقف العامة بما نشرته من‬ ‫حكايات مسيئة عن الداء وعن المصابين به‪ .‬وكان من تداعيات انتشار داء الجذام‬ ‫واستمرار الموقف المتقزز منه‪ ،‬أن أخذ القائمون على األمر ابتداء من مطلع القرن‬ ‫الثاني عشر في إقامة منشآت بضواحي المدن إليواء المصابين‪ .‬تميزت هذه المنشآت‬ ‫بكونها كانت مستشفيات وسجونا في نفس الوقت‪.‬‬ ‫وعموما‪ ،‬كان الجذام داء متميزا خالل العصر الوسيط لما ظل يكتنفه من مواقف‬ ‫وصور وإيحاءات ورموز تعاظم أمرها أكثر عند مطلع القرن الرابع عشر‪ ،‬مع تفشي‬ ‫األمراض واألوبئة وانتشار القلق والتذمر في أوساط المسيحيين الذين اتهموا‬ ‫المصابين بالجذام بتسميم اآلبار‪ .‬ولكن سرعان ما تراجع الجذام إلى المرتبة الثانية في‬ ‫الئحة األمراض الكبرى حين تفشى الطاعون األسود الذي أصبح يحتل موقع‬ ‫الصدارة‪.‬‬ ‫‪ )3‬الشيطان في فورة‬ ‫عدت جميع الفئات التي طالها االضطهاد بمثابة كائنات مبيدة‪ ،‬ولذلك انتهى‬ ‫األمر بأن شكلت "مجتمعا مضادا" يهدد األسوياء والمسيحيين األوفياء في نقاوتهم‬ ‫وفي مسعاهم نحو الخالص‪ .‬واعتبر الشيطان قائدا لهذا المجتمع المضاد إما لكونه‬ ‫يمتلك بعض األفراد ويسكن ذواتهم‪ ،‬وإما ألنه يتحكم في البعض اآلخر‬ ‫وال بأس من التذكير بأن الشيطان دخل إلى أوربا مع مقدم المسيح إليها‪ .‬وكان‬ ‫تحت إمرته وقت دخوله فيالق مؤلفة من مختلف أنواع الجن المنحدرين من الوثنية‬ ‫اإلغريقية‪ -‬الرومانية‪ ،‬ومن المعتقدات الشعبية‪.‬‬

‫‪98‬‬

‫ويبدو أن تحوالت ما بعد القرن الحادي عشر جعلت الشيطان يرتقي إلى منصب‬ ‫"القائد األعلى" لجميع التشكيالت التي يتألف منها الشر‪ .‬وأصبح منذئذ يقود جوقة‬ ‫المعذبين‪ .‬والحقيقة أن كثيرا من الرجال ومن النساء استطاعوا اإلفالت من قبضته‪.‬‬ ‫ولكنهم ظلوا رغم ذلك مهددين أو قابلين لإلغراء‪.‬‬ ‫وبما أن المسيحية كانت متحدة‪ ،‬فإن عدو الجنس البشري‪ ،‬أي الشيطان‪ ،‬امتلك‬ ‫هو اآلخر سلطة موحدة‪ .‬واتخذ من الهرطقة أداته القاتلة‪ ،‬بينما اتخذت الكنيسة من‬ ‫التفتيش (‪ )l’inquisition‬سالحا لمواجهته‪ .‬واحتدمت المواجهة‪ ،‬وطال أمدها‪ ،‬ورغم‬ ‫ذلك ظل الشيطان صامدا وقادرا على الرد‪ .‬ولذلك صدق من قال بأن أوربا الشيطان قد‬ ‫ولدت‪.‬‬ ‫‪ )31‬أطراف أوربا الفيودالية‬ ‫أصبحت المؤسسات الفيودالية طاغية على المشهد في جميع أنحاء العالم‬ ‫المسيحي عند نهاية القرن الثاني عشر‪ .‬أما فيما يتعلق بمستوى تبلور هذه المؤسسات‪،‬‬ ‫فيمكن القول على غرار عدد من الباحثين‪ ،‬بأن بعض هذه الفيوداليات ظلت هامشية في‬ ‫المناطق الطرفدارية رغم انخراطها في الفيودالية المسيحية ككل‪ .‬ينطبق هذا األمر‬ ‫على إرلندا‪ ،‬رغم كونها كانت إحدى أهم المراكز الدينية والحضارية خالل العصر‬ ‫الوسيط األعلى‪ .‬فقد احتفظ سكانها بخصوصيتهم الدينية على األقل‪ ،‬مما جعل ثقافتهم‬ ‫المحلية األصيلة تظل محتفظة بحيويتها‪ .‬بل امتد إشعاعها خارج إرلندا فشمل غالة‬ ‫وانجلترا التي كان سكانها يمقتون اإلرلنديين وينعتونهم بالمسيحيين المتبربرين‪ .‬بل‬ ‫كثيرا ما فكروا في غزو بالدهم وإبادتهم‪ .‬ورغم ذلك فال زالت إرلندا تنتمي ألوربا‪.‬‬ ‫وينطبق ذات األمر‪،‬إلى حد ما على بروطانيا (‪ .)la Bretagne‬فقد احتلها‬ ‫البروطانيون الوافدون من أنجلترا منذ القرن الرابع‪ .‬واستطاع سكانها التحرر من‬ ‫قبضتهم‪ .‬وأنشأوا خالل الحقبة الكارولنجية كيانا شبه مستقل خاص بهم‪ .‬ثم تحول هذا‬ ‫الكيان إلى دوقية (‪ )un duché‬خالل فترة حكم أسرة آل كابت‪ .‬واستطاع األدواق‬ ‫الذين تعاقبوا على السلطة من الحفاظ على نوع من االستقالل بفضل سياسة التوازن‬ ‫التي انتهجوها في عالقتهم بالفرنسيين واالنجليز‪.‬‬ ‫ويبدو أن هذه السياسة كانت ناجعة‪ ،‬بدليل أن أدواق القرن الخامس عشر‬ ‫استطاعوا االستقالل تماما عن الفرنسيين‪ ،‬مستغلين لتحقيق ذلك موقع الدوقية‬ ‫الجغرافي‪ ،‬وتوفرها على منفذ بحري حولوه إلى قاعدة بحرية وتجارية نشيطة‪.‬‬ ‫وفي أقصى جنوب أوربا‪ ،‬بعيدا عن العالم السلتي‪ ،‬شكل القرن الثاني عشر فترة‬ ‫حاسمة بالنسبة للممالك المسيحية في شبه جزيرة أيبيريا وكذلك بالنسبة لصقلية‬ ‫وايطاليا‪.‬‬

‫‪99‬‬

‫ففي شبه جزيرة أيبيريا ارتفعت وتيرة حرب االسترداد‪ .‬ودخلت منعطفا حاسما‬ ‫بنجاح ألفونسو السادس ملك ليون وقشتالة في استرداد مدينة طليطلة التي كانت ملتقى‬ ‫المفكرين والمترجمين من مختلف األديان‪ .‬وظلت عقب استردادها أحد مراكز النهضة‬ ‫الفكرية التي شهدتها أوربا فيما بعد‪.‬‬ ‫وفي صقلية وجنوب ايطاليا‪ ،‬انتهت فترة حكم الملوك النورمان وحل بدلهم‬ ‫ملوك ألمان‪ ،‬من بينهم هنري السادس وفردريك الثاني‪ ،‬فشكل ذلك نقلة في تاريخ‬ ‫صقلية وأقاليم جنوب ايطاليا التي عادت لحضيرة أوربا‪ ،‬مما انعكس إيجابا على مدينة‬ ‫بالرمو التي أضحت عاصمة التعدد الثقافي‪.‬‬ ‫وإذا ما وجهنا أنظارنا نحو أوربا الوسطى والشمالية‪ ،‬تستوقفنا هنغاريا التي‬ ‫غدت‪ ،‬بفضل انضمام كرواتيا إليها‪ ،‬إحدى أقوى المالك المسيحية‪ .‬وشاءت األقدار أن‬ ‫يعتلي عرشها‪ ،‬بين سنتي ‪ 1172‬و‪ 1196‬الملك بيال (‪ )Béla‬الذي كانت تربطه‬ ‫بالبيزنطيين عالقات وطيدة‪ .‬فارتأى التقرب أيضا من ملوك الغرب المسيحي‪ ،‬فاتخذ‬ ‫لتحقيق ذلك ابنة ملك فرنسا لويس السابع زوجة ثانية له‪.‬‬ ‫وقريبا من هنغاريا‪ ،‬كانت دوقية بوهيميا تسعى لتحقيق القوة السياسية‪-‬العسكرية‬ ‫والرفاه االقتصادي‪ .‬فارتأى أدواقها إتباع النموذج الغربي المسيحي لتحقيق هذا‬ ‫المسعى‪ .‬فحرصوا على تمتين عالقاتهم مع اإلمبراطور‪ .‬وسمحوا للمسيحيين بإقامة‬ ‫األديرة‪ .‬وقاموا بتقديم أفياف (أراضي) اقتطعوها من األراضي التي كانت في حوزة‬ ‫األسرة الحاكمة بمنطقة موراڤيا‪.‬‬ ‫وعلى غرار أدواق بوهيميا‪ ،‬حاول ملوك بولندا القيام بإصالحات دينية‪ .‬سمحوا‬ ‫في إطارها بإنشاء أديرة تتبع الطريقة البندكتية‪ .‬كما قاموا بإصالحات اقتصادية لتحقيق‬ ‫إقالع مماثل للذي حدث في ممالك غرب أوربا‪ .‬وواصل بولسالس الثالث ( ‪Boleslas‬‬ ‫‪ ،)III‬الذي حكم بين سنتي ‪ 1086‬و‪ ،1138‬سياسة اإلصالحات الدينية واالقتصادية‪.‬‬ ‫وعمل على توسيع مملكة بولندا بأن ضم إليها إقليم بوميرانيا (‪،)la Poméranie‬‬ ‫وحول سكانه إلى المسيحية‪ .‬ولكن انجازاته ذهبت أدراج الرياح حين تم تقسيم المملكة‬ ‫بين أبنائه األربعة‪ ،‬بموجب الوصية التي حررها قبيل وفاته‪ .‬فكان هذا التقسيم بداية‬ ‫ضعف المملكة‪.‬‬ ‫ويعتقد بعض المؤرخين بأن انهيار االتحاد السوڤياتي سنة ‪ 1989‬سمح بعودة‬ ‫ظهور أوربا الوسطى التي كانت قد تشكلت خالل العصر الوسيط‪ .‬ومن بين هؤالء‬ ‫المؤرخين الباحث الهنغاري ﯕابور كالنيكزاي (‪ )Gabor Klaniczay‬الذي ساهم في‬ ‫إنشاء قسم التاريخ األوربي الوسيط بجامعة أوربا الوسطى الجديدة ببودابست‬ ‫(‪ .)Budapest‬وأدرج ضمن برنامجه مادة الدراسات المقارنة بين العوالم المسيحي‬ ‫الالتيني‪ ،‬واإلغريقي‪ ،‬والسالڤي‪ ،‬والشرقي‪ .‬وتركز هذه المادة على االنتشار التدريجي‬

‫‪100‬‬

‫للحضارة األوربية في هذه المناطق‪ .‬وانطلق كالنيكزاي في مشروعه من فكرة مفادها‬ ‫أن أوربا الوسطى هي اليوم‪ ،‬كما كانت في العصر الوسيط‪ ،‬مجاال متنوعا‪ ،‬خالقا‪،‬‬ ‫ومفتوحا أمام التأثيرات الوافدة من الغرب في اتجاه الشرق‪ .‬مما يسمح بالحديث عن‬ ‫"يوثوبيا" (‪ )une utopie‬أوربية حقيقية‪.‬‬ ‫وبعيدا عن أية نظرة طوباوية هذه المرة‪ ،‬فإن الواقع التاريخي في منطقة‬ ‫اسكندنافيا يفيد بأن هذه المنطقة كانت منتظمة في المجال المسيحي رغم أن األوضاع‬ ‫السياسية في الوحدات الثالث التي كانت تتألف منها لم تكن مستقرة‪ .‬كما أن نظمها‬ ‫اإلدارية لم تكن متطورة‪ .‬وقد تقوى الدانيون خالل القرن العاشر‪ ،‬وحاولوا فرض‬ ‫هيمنتهم على النرويج والسويد‪ .‬بل سعوا الى السيطرة على أنجلترا‪.‬‬ ‫وتميز القرن الثاني عشر في العالم اإلسكندناڤي بظهور بعض الزعامات في‬ ‫كل من النرويج والسويد‪ .‬ولكن عدم استقرار األوضاع فيهما حال دون تطورهما‪ .‬وما‬ ‫يجسد هذا األمر هو أن خمسة ملوك اعتلوا عرش السويد تم اغتيالهم في فترة وجيزة‬ ‫بين سنتي ‪ 1156‬و‪ .1210‬ولكن عدم استقرار األوضاع لم يمنع من تبلور طبقات‬ ‫أرستقراطية محلية في العالم اإلسكندناڤي‪ ،‬ومن انتشار المسيحية في مختلف وحداته‬ ‫السياسية‪ .‬وقد أتاح انتشار هذه الديانة إمكانية انفتاح هذا العالم على الثقافة الالتينية‪ .‬بل‬ ‫إن بعض األسر أخذت تبعث أبناءها لتلقي العلم‪ ،‬والتشبع بالثقافة الالتينية‪ ،‬في‬ ‫المدارس األلمانية‪ ،‬واألنجليزية‪ ،‬والفرنسية‪.‬‬ ‫‪ )32‬أوربا والحرب الصﻠيبية‬ ‫شهدت أوربا المسيحية بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر حدوث ظاهرة‬ ‫فريدة‪ ،‬هي ظاهرة الحرب الصليبية‪ ،‬التي ما زالت تحتل موقعا متميزا في الكتب‬ ‫المدرسية‪.‬‬ ‫ومن المفيد التذكير بأن التسمية التي اشتهرت بها تلك الحرب تعود لنهاية القرن‬ ‫الخامس عشر‪ ،‬رغم أن الكلمات القريبة من لفظة صليبية كانت معروفة منذ القرن‬ ‫الثاني عشر‪ .‬وأصبحت تطلق عند الشروع في استعمالها على سلسلة الحروب التي‬ ‫خاضها المسيحيون في فلسطين لبسط سيادتهم على مدفن المسيح وعلى سائر المناطق‬ ‫التي لها صلة بالمسيح وبالمسيحية‪ .‬وكان المسيحيون الذين خاضوا وقائع تلك الحرب‬ ‫يعتبرونها بمثابة حرب استرداد‪ ،‬كتلك التي حدثت فصولها في شبه جزيرة أيبيريا‪.‬‬ ‫والحقيقة أن الوقائع تبررهذا التصور ألن القدس كانت تحت حكم الرومان ثم‬ ‫أصبحت تحت سيادة البيزنطيين‪ .‬وتعتبر المنطقة المسيحية الوحيدة التي أضحت تحت‬ ‫سيطرة المسلمين فيما بعد‪ .‬ولم تكن تتوفر فيها‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬أية مؤسسة سياسية مسيحية‬ ‫تعنى بشؤون البقاع المسيحية المقدسة‪.‬‬

‫‪101‬‬

‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فاألهم هو أن المسيحيين شدوا الرحال إلى مدينة القدس منذ‬ ‫وقت مبكر‪ .‬وكانت المزار األول بالنسبة للحجيج كما سبقت اإلشارة إلى ذلك في‬ ‫موضع سابق‪ .‬ورغم سيطرة األتراك العثمانيين على هذه المنطقة منذ القرن العاشر‪،‬‬ ‫لم يتغير موقف المسيحيين‪ .‬فبدا وكأنه لم يكن ثمة مفر من حدوث االصطدام بين‬ ‫المسلمين والمسيحيين نظرا لالختالفات األيديولوجية والدينية‪ .‬ولكن هذا االصطدام‬ ‫جاء في حقيقة األمر حصيلة تطور بعيد األمد اكتسى مظهرين متضاربين‪.‬‬ ‫يتمثل المظهر األول في تبني المسيحيين لمبدإ الحرب بعد مرور فترة طويلة‬ ‫على ظهور المسيحية‪ .‬فحين ظهرت هذه الديانة كانت مناهضة للحرب‪ .‬وقد اشتهر‬ ‫المسيح بكونه كان يجنح دوما للسلم‪ .‬وسار على منواله المسيحيون األوائل حتى إن‬ ‫عددا منهم أعدموا من قبل األباطرة الرومان ألنهم كانوا يرفضون القيام بالخدمة‬ ‫العسكرية‪.‬‬ ‫وبدأ الوضع يتغير منذ القرن الرابع حين أضحت المسيحية دينا رسميا‬ ‫لإلمبراطورية‪ .‬فغدا لزاما على المسيحيين المشاركة في الحروب التي يخوضها‬ ‫اإلمبراطور‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬ظل كثير منهم يمقتون الحرب‪ .‬كما ظل رجال الدين‪ ،‬منذ‬ ‫القديس أوغسطين‪ ،‬متشبثين بمبدإ أن الحرب ال يجب خوضها اال اذا كانت دفاعية‬ ‫لدرء هجمات الوثنيين‪،‬أو المسلمين‪ ،‬الذين كانوا يعدون وثنيين هم أيضا‪ .‬وفي إطار‬ ‫هذه الحرب الدفاعية سمحت الكنائس بإنشاء طوائف المحاربين الذين كانت توكل إليهم‬ ‫مهمة الدفاع عن المؤسسات الدينية‪.‬‬ ‫ويتمثل المظهر الثاني في إضفاء صبغة المسيحية على الحرب ( ‪la‬‬ ‫‪ .)christianisation de la guerre‬والراجح‪ ،‬في هذا المقام‪ ،‬هو أن التحوالت‬ ‫التي شهدتها أوربا ابتداء من مطلع القرن الحادي عشر هي التي غيرت وجهة نظر‬ ‫المسيحيين تجاه الحرب‪ .‬فقد حدث نمو ديموغرافي ترتب عنه تزايد في أعداد الشبان‬ ‫المنتمين لفئة الفرسان من دون أرض‪ .‬كما ضاقت األراضي بأهلها‪ ،‬وفي نفس الوقت‬ ‫تزايدت ثروات أفراد األرستقراطية الذين أصبحوا يمتلكون موارد تسمح لهم باقتناء‬ ‫األسلحة والقيام بحمالت عسكرية‪.‬‬ ‫وكان من نتائج هذه التحوالت أن تبلور نوع من التوجه الحربي في الديانة‬ ‫المسيحية‪ .‬وكانت بوادر هذا التوجه قد ظهرت منذ حروب القرن التاسع التي خاضها‬ ‫المسيحيون لنشر المسيحية في أوساط الوثنيين‪ ،‬وهي حروب تم فيها تعميد السيف‬ ‫الذي غدا "يؤدي وظيفته" بمباركة من الكنيسة‪ .‬وحدث بعد مطلع القرن الحادي عشر‬ ‫أن تسارعت وتيرة هذا التوجه تحت تأثير التحوالت المشار إليها‪ ،‬وتحت ضغط‬ ‫االضطرابات االجتماعية التي اندلعت هنا وهناك‪ ،‬والتي لم تفلح اإلجراءات المتخذة‬

‫‪102‬‬

‫في إطار "هدنة هللا"‪ ،‬التي سبق الحديث عنها‪ ،‬من وضع حد لها‪ .‬فكان ال بد اذن من‬ ‫اقتراح حلول بديلة وإيجاد منافذ لتصريف هذه الطاقات المتنامية‪.‬‬ ‫وتحملت البابوية مسؤولية البحث عن مخارج‪ .‬ووجدت المخرج في خوض‬ ‫حروب في الخارج‪ .‬فعادت إلى أدبياتها لتجدد ما يبرر هذا المشروع‪ .‬ومن هنا بدأت‬ ‫تروج في أوساط المسيحيين صيغة "الحرب المقدسة" التي نقلتها عن المسلمين الذين‬ ‫اعتبروا الحرب منذ نزول القرآن "جهادا"‪ ،‬أي حربا مقدسة من واجب كل المؤمنين‬ ‫خوضها‪ .‬واختارت البابوية الصليب المصنوع من قماش‪ ،‬والملصق على صدور‬ ‫المحاربين‪ ،‬رمزا لهذه الحرب‪.‬‬ ‫ال أنوي استعراض فصول هذه الحرب‪ .‬ولكن ال بأس من التذكير بأن حملتها‬ ‫األولى انتهت بسيطرة المسيحيين على مدينة القدس سنة ‪ ،1099‬وبمصرع عدد كبير‬ ‫من المسلمين‪،‬وإنشاء عدة ممالك مسيحية بهذه البقاع‪ ،‬من أبرزها المملكة الالتينية‬ ‫ببيت المقدس‪.‬‬ ‫وأدت استعادة المسلمين لمملكة الرها إلى اندالع حملة صليبية ثانية سنة ‪.1144‬‬ ‫وقاد المسيحيين فيها اإلمبراطور كونراد الثالث وملك فرنسا لويس السابع‪ .‬ولم تحقق‬ ‫أية نتيجة تذكر لصالح المسيحيين‪ ،‬بل استطاع السلطان صالح الدين إلحاق الهزيمة‬ ‫بالمسيحيين في وقعة حطين سنة ‪ ،1187‬واستعادة بيت المقدس‪.‬‬ ‫واندلعت الحملة الصليبية الثالثة التي تزعم المسيحيين المشاركين فيها‬ ‫اإلمبراطور فردريك بربروسا (الذي توفي غرقا في أحد أنهار األناضول قبل مالقاة‬ ‫صالح الدين)‪ ،‬وملك أنجلترا ريتشارد قلب األسد‪ ،‬وملك فرنسا فليب أوغسطس‪ .‬وآلت‬ ‫هذه الحملة إلى الفشل كسابقتها‪ .‬ومنذئذ لم يستطع المسيحيون استعادة بيت المقدس‪.‬‬ ‫بدت الحرب الصليبية خالل القرن الثالث عشر وكأنها لم تعد تثير المسيحيين‬ ‫كما كان الشأن من قبل‪ .‬فآثر اإلمبراطور فردريك الثاني وضع حد للحملة السادسة‬ ‫سنة ‪ ،1229‬وذلك بالتوقيع على معاهدة سالم مع المسلمين أثارت حفيظة بعض ملوك‬ ‫أوربا الذين رأوا فيها كثيرا من اإلهانة للمسيحيين‪ .‬وهذا ما ألب بعضهم لخوص وقائع‬ ‫جديدة ضد المسلمين‪ .‬فتزعم ملك فرنسا لويس التاسع حملة أولى توجه بها صوب‬ ‫مصر وفلسطين بين سنتي ‪ 1248‬و‪ .1253‬ثم تزعم حملة ثانية في اتجاه شمال افريقيا‬ ‫سنة ‪ .1270‬انتهت بمصرعه أمام أبواب مدينة قرطاج‪ .‬فكان ذلك مقدمة نحو تساقط‬ ‫المراكز المسيحية في أيدي المسلمين‪ .‬حيث سقطت طرابلس سنة ‪ ،1289‬وتلتها عكا‬ ‫وصور سنة ‪.1291‬‬ ‫ورغم سلسلة الهزائم‪ ،‬ظلت الحرب تحت لواء الصليب تشد إليها بعض األمراء‬ ‫وجمهورا قليال من عامة المسيحيين‪ .‬ولم يصرف هؤالء وأولئك نظرهم عنها‪ ،‬إال بعد‬ ‫أن سيطر األتراك العثمانيون على القسطنطينية سنة ‪.1453‬‬

‫‪103‬‬

‫وكان من الطبيعي أن يترك هذا الصراع المرير بين المسيحيين والمسلمين‬ ‫صدى عميقا في وجدان المسيحيين‪ ،‬لذلك صدق الباحث ألفونس ديبرون ( ‪Alphonse‬‬ ‫‪ )Dupront‬حين قال بأن أسطورة القدس ظلت ساكنة في األذهان والوجدان منذ‬ ‫العصر الوسيط إلى اليوم‪ .37‬وقد تغيرت مالمح الصراع اليوم في سياق مختلف‪ ،‬فغدا‬ ‫طرفاه الرئيسان األمريكيون والمسلمون األصوليون‪ ،‬بما يفيد بأن صيغة "الحرب‬ ‫الصليبية" ما زالت‪ ،‬مع األسف‪ ،‬قابلة ألن تأخذ شحنات من الحرارة باستمرار‪.‬‬ ‫يمكن القول‪ ،‬في أعقاب ما تقدم بأن عددا كبيرا من الباحثين تناولوا الحرب‬ ‫الصليبية واختلفوا في تقييم حصيلتها من منظور المدى الطويل‪ .‬وظل عدد منهم‬ ‫ينظرون إليها حتى مطلع القرن الماضي بأنها كانت بمثابة بذور تفتقت عنها وحدة‬ ‫أوربا‪ ،‬وبأنها أبانت عن مدى حيوية الغرب المسيحي خالل العصر الوسيط‪ .‬وقد انتقد‬ ‫جون فلوري )‪ (Jean Flori‬هذا التوجه من خالل التركيز على ما يسميه "تناقضات‬ ‫الحرب الصليبية"‪.38‬‬ ‫يتمثل التناقض األول‪ ،‬في اعتقاده‪ ،‬في كون المسيحيين خاضوا حمالتها باسم‬ ‫دين مسالم في األصل ضد مجتمع يعتنق أفراده دينا أدرج الجهاد ضمن المبادئ التي‬ ‫قام عليها‪ ،‬ولكن هؤالء األفراد مارسوا كثيرا من التسامح الديني تجاه سكان المناطق‬ ‫التي فتحوها‪.‬‬ ‫يتمثل التناقض الثاني في كون الحرب الصليبية أتت كمحصلة لحركة توسع‬ ‫عامة‪ ،‬بدأت في اسبانيا واتسع نطاقها حين أصبحت القدس وضريح المسيح موضوع‬ ‫هذا التوسع‪ .‬وحدث أن نجحت حركة التوسع المشار إليها في الغرب‪ ،‬ولكنها فشلت في‬ ‫الشرق األوسط‪ ،‬فامتلك مسلمو هذه المنطقة زمام المبادرة وقاموا بهجوم مضاد انتهى‬ ‫بسيطرتهم على القسطنطينية وتهديدهم ألوربا الشرقية‪.‬‬ ‫يتمثل التناقض الثالث في كون الحرب الصليبية اندلعت في األصل النقاد‬ ‫مسيحيي المشرق‪ ،‬ومساعدة البيزنطيين في استعادة المناطق التي سيطر عليها‬ ‫المسلمون‪ .‬وتمت كل هذه العمليات في سياق وحدة الكنائس المسيحية‪ .‬ولكن اندالع‬ ‫الحرب أتى بنتيجة معاكسة لمسعى الوحدة‪.‬‬ ‫‪ - 37‬ألفونس دوبرون (‪ )Alphonse Dupront‬مؤرخ فرنسي توفي سنة ‪ .1990‬كان يهتم بتاريخ العصر الوسيط‬ ‫وتاريخ األزمنة الحديثة‪ .‬حاضر قبل وفاته بجامعة مونبوليي وجامعة باريس‪ ،‬وبالمعهد الجامعي األوربي بفلورنسا‪ .‬أنجز‬ ‫أطروحة ضخمة (من أربعة أجزاء) تناول فيها الجانب الميثولوجي في الحرب الصليبية (‪)le mythe de croisade‬‬ ‫وناقشها سنة ‪ . 1957‬وفيها أورد ما نقله جاك لو ﯕوف‪ .‬وقد ظلت أطروحته حبيسة أحد الرفوف‪ ،‬ولم يقدر لها أن ترى‬ ‫النور اال سنة ‪ 1997‬بفضل جهود بيير نورا (‪ )Pierre Nora‬الذي كان أحد تالمذته‪.‬‬ ‫‪ - 38‬يعتبر جون فلوري‪ ،‬الذي أحلنا على أحد مؤلفاته في هامش سابق‪ ،‬واحدا من أبرز المختصين الفرنسين في تاريخ‬ ‫العصر الوسيط‪ .‬حاضر بجامعة السوربون بباريس وبمركز الدراسات العليا الخاص بحضارة العصر الوسيط بجامعة‬ ‫بواتيي واشتغل ردحا من الزمن بالمعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط‪ .‬أنجز أبحاثا غزيرة ركز في معظمها على‬ ‫موضوعي الفروسية والحرب الصليبية‪ .‬ويكفي أن نذكر أنه خص الحرب الصليبية لوحدها بعشرة كتب‪.‬‬

‫‪104‬‬

‫ويتجلى التناقض الرابع في كون الحرب أريد لها عند االنطالقة أن تكون حربا‬ ‫لتحرير فلسطين وكذلك حجا الى البقاع المقدسة‪ ،‬حسب تصريح البابا أوربان الثاني‪،‬‬ ‫ولكن البابوية حولتها عن مسارها لتدرجها ضمن حروبها ضد أعدائها في الخارج‬ ‫وكذلك ضد أعدائها في الداخل‪ ،‬متمثلين في الهراطقة والمنشقين عن الكنيسة‪.‬‬ ‫وأعتقد شخصيا بأن الحرب الصليبية أثرت سلبا في عالقات أوربا المسيحية‬ ‫بالمسلمين وكذلك بالبيزنطيين‪ .‬ولكن هذا التأثير لم يتوقف بنهاية العصر الوسيط بل‬ ‫امتد إلى عالم اليوم‪ ،‬حيث يستحضر كثير من المسلمين ذكرى تلك الحرب بنوع من‬ ‫الحسرة ويعتبرونها عدوانا ارتكب في حقهم‪.‬‬ ‫وال مناص من التأكيد بأن نهاية الحرب الصليبية وضعت حدا لسراب ظل يلهث‬ ‫وراءه المسيحيون‪ ،‬يتمثل في رغبتهم في جعل القدس عاصمة للعالم المسيحي‪ .‬ومن‬ ‫ثم‪ ،‬فإن فشل تلك الحرب هيأ الظروف المالئمة لتحقيق وحدة أوربا‪ .‬ووضع خاتما‬ ‫(طابعا) على المعادلة القائمة بين أوربا والمسيحية لزمن طويل‪ ،‬بمعنى أنه أصبح‬ ‫هناك تطابق بين أوربا والمسيحية (أو أن أوربا والمسيحية أصبحا وجهان لعملة‬ ‫واحدة)‪ .‬ومن جهة أخرى أحدثت تلك الحرب شرخا عميقا بين أوربا الغربية وأوربا‬ ‫الشرقية‪ ،‬بين أوربا الالتينية وأوربا اإلغريقية‪ ،‬وخاصة بعد سنة ‪ ،1204‬حين انحرفت‬ ‫الحملة الرابعة عن هدفها‪ .‬إذ بدل أن يتوجه الذين اشتركوا فيها صوب فلسطين اتجهوا‬ ‫نحو القسطنطينية التي نهبوها وأنشأوا بها ما يشبه إمبراطورية التينية تالشت من‬ ‫حينها‪ .‬بل إن حصيلة الحرب الصليبية كانت سلبية حتى بالنسبة ألوربيي الغرب‬ ‫أنفسهم‪ .‬وعوض أن يحصل تقارب بين ممالكهم‪ ،‬أدت الحرب إلى اشتداد التنافس‬ ‫بينها‪ ،‬كما تجلى ذلك في تردي عالقات فرنسا بأنجلترا‪ .‬ومن هنا يفهم لماذا أبدى تجار‬ ‫ايطاليا وتجار قطلونيا تحفظهم من هذه الحرب‪ ،‬ولم يشاركوا فيها إال على مضض‪.‬‬ ‫وظلوا حريصين على تنمية تجاراتهم مع المشرق‪ .‬وفضال عن كل هذا وذاك أدت‬ ‫الحرب إلى تناقص عدد سكان أوربا وتراجع مواردها‪.‬‬ ‫وأعود للتأكيد‪ ،‬وبنوع من المرارة‪ ،‬بأنني كتبت منذ زمن بعيد بأن أهم ما جناه‬ ‫األوربيون من الحرب الصليبية‪ ،‬هو فاكهة المشمش‪ .‬وإنني ما زلت إلى اليوم متشبثا‬ ‫بما كتبه‪.‬‬ ‫‪ )33‬هل كانت الحرب الصﻠيبية أولى تجﻠيات االستعمار األوربي؟‬ ‫تقتضي المقاربة الطويلة األمد التي يقوم عليها هذا الكتاب‪ ،‬اختتام الحديث عن‬ ‫الحرب الصليبية‪ ،‬بإثارة مسألة على جانب كبير من األهمية‪ ،‬ال بد من تناولها وتتعلق‬ ‫هذه المسألة بالتوصيف الذي يمكن أن تنعت به عملية إقامة ممالك مسيحية بالشرق‬ ‫األوسط‪ .‬فهل كانت تمثل أولى تجليات ما سيصبح بعد القرن السادس عشر استعمارا‬

‫‪105‬‬

‫أوربيا؟ طرح هذا السؤال عدد كبير من الباحثين وأجاب عنه بعضهم باإليجاب‪ .‬ومن‬ ‫بينهم المؤرخ اإلسرائيلي جوزا براور (‪ .39)Josuah Prawer‬ال أشاطر شخصيا هذا‬ ‫الرأي‪ ،‬ألن تلك الممالك لم تكن مستعمرات لالستغالل االقتصادي أو مراكز استيطان‬ ‫إال في نطاق محدود‪ .‬كما أن الرفاه االقتصادي الذي حققته المدن المسيحية المتوسطية‬ ‫لم يتحقق بواسطة الحرب الصليبية‪ ،‬ولكنه تحقق‪ ،‬في األغلب األعم‪ ،‬من خالل سيطرة‬ ‫سلمية‪ ،‬إلى حد ما‪ ،‬على الثروات البيزنطية واإلسالمية‪ .‬وفضال عن كل هذا وذاك‪،‬‬ ‫فإ ن هجرة المسيحيين إلى الشرق األوسط كانت ضعيفة‪ .‬وإذا كانت العالقات بين‬ ‫المستعمرات والمدن الكبرى للدول المستعمرة قد تميزت خالل العصر الحديث بالفتور‬ ‫والتوتر‪ ،‬فإ ن مثل هذه العالقات لم تنشأ أبدا بين المالك الالتينية في الشرق األوسط‬ ‫والممالك المسيحية في أوربا‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن الكيانات التي أنشأت بمناسبة الحرب‬ ‫الصليبية كانت كيانات عابرة ألنها سرعان ما تالشت‪ ،‬فضال عن كونها كانت ظاهرة‬ ‫قروسطوية بامتياز‪.‬‬

‫‪ - 39‬يعد أحد أبرز المهتمين بتاريخ العصر الوسيط في اسرائيل‪ .‬حاضر‪ ،‬حتى وفاته سنة ‪ ،1990‬بالجامعة العبرية‬ ‫بالقدس وبجامعتي بن غوريون وحيفا‪ .‬اختص بالبحث في الممالك التي أنشأها المسيحيون في المشرق في سياق الحرب‬ ‫الصليبية‪ .‬ونشر حولها مجموعة مؤلفات‪،‬باللغتين الفرنسية واألنجليزية‪ ،‬من بينها ‪:‬‬ ‫‪- Histoire du Royaume latin de Jérusalem, Paris, Éditions du C.N.R.S., 1969.‬‬ ‫‪- The Latin kingdom of Jerusalem: European colonialism in the Middle Ages, Londres,‬‬ ‫‪Weidenfeld and Nicolson, 1972.‬‬

‫‪106‬‬

‫الفصل الخامس‬ ‫أوربا "الجميﻠة"‬ ‫أوربا المدن والجامعات‬ ‫(القرن الثالث عشر)‬

‫‪ )1‬نجاحات أوربا القرن الثالث عشر‬ ‫يعتبر القرن الثالث عشر فترة أوج الغرب الوسيط‪ ،‬رغم أن إشكالية األوج‬ ‫واالنحطاط يمكن أن تشكل موضوع نقاش‪ .‬وعموما‪ ،‬يمكن القول بأن هذا القرن شكل‬ ‫الحيز الزمني الذي تأكدت فيه شخصية العالم المسيحي‪ ،‬وقوته الجديدة اللتين تحققتا‬ ‫خالل القرون السابقة‪ .‬كما أنه مثل الحيز الذي تموضع فيه نموذج يمكن نعته‪ ،‬بوضعه‬

‫‪107‬‬

‫في سياق المدى البعيد‪ ،‬بكونه نموذج أوربي يستحق هذا التوصيف بكل ما يتصل به‬ ‫من نجاحات وإخفاقات ومشاكل‪.‬‬ ‫يمكن رصد تلك النجاحات في أربعة مجاالت رئيسة هي ‪:‬‬ ‫أوال االزدهار الحضري‪ .‬فبعد سيادة الطابع الريفي خالل العصر الوسيط‬ ‫األعلى‪ ،‬كما تم توضيح ذلك في فصل سابق‪ ،‬فإن أوربا حضرية هي التي فرضت‬ ‫نفسها خالل القرن الثالث عشر‪ ،‬ألن المدن هي التي أصبحت إطار أهم التفاعالت‪.‬‬ ‫ففيها حصل االختالط بين أعداد كبيرة من السكان‪ ،‬وفيها تبلورت المؤسسات الجديدة‪.‬‬ ‫وفيها أيضا ظهرت المؤسسات االقتصادية والثقافية الجديدة‪.‬‬ ‫ثانيا انتعاش المبادالت التجارية‪ ،‬وانتعاش فئة التجار‪ ،‬رغم ما استتبع ذلك من‬ ‫مشاكل بسبب شيوع استعمال النقود في الحياة االقتصادية وتداولها في أوساط الفئات‬ ‫االجتماعية‪.‬‬ ‫ثالثا انتشارالمعرفة في أوساط أعداد متزايدة من المسيحيين‪ ،‬أصبحوا يرتادون‬ ‫المدارس التي أخذت تنتشر في الحواضر‪ .‬وكانت هذه المدارس تشبه إلى حد ما‬ ‫المؤسسات االبتدائية والثانوية المعروفة اليوم‪ .‬وكانت أهمية ظاهرة التمدرس تختلف‬ ‫من منطقة ألخرى وبين مدينة وأخرى‪ .‬ولكنها عمت ما يناهز ‪ 60‬بالمائة‪ ،‬أو أكثر‬ ‫قليال‪ ،‬من إجمالي عدد األطفال‪ .‬والجدير بالمالحظة أن ظاهرة التمدرس همت أيضا‬ ‫عددا من البنات‪ ،‬كما هو الشأن مثال بالنسبة لمدينة ريمس (‪ .)Reims‬وال بأس من‬ ‫اإلشارة في نفس السياق إلى نشأة مؤسسات خاصة بالتعليم العالي‪ ،‬يمكن نعتها‬ ‫بالجامعات‪ .‬سرعان ما حققت النجاح واستقطبت العديد من الطلبة الذين أسندت مهمة‬ ‫تدريسهم لعلماء مشهورين‪ .‬وأخذت تتبلور شيئا فشيئا في هذه المؤسسات معرفة‬ ‫جديدة‪ .‬هي الفكر السكوالتي أو المدرسي الذي ميز القرن الثاني عشر‪.‬‬ ‫رابعا ظهور فئة جديدة من رجال الدين اتخذوا من المدن مستقرا لهم‪ .‬ونشطوا‬ ‫كثيرا في أوساط سكانها ‪ :‬إنهم "اإلخوان المنتمون لطوائف الفقراء" الذين تركوا‬ ‫بصمات واضحة على المسيحية والفكر الديني‪.‬‬ ‫أوال ‪ :‬النجاح الحضري‪ .‬أوربا الحضر‬ ‫رغم أن مدينة العصر الوسيط قامت على أنقاض مدينة العصر القديم‪ ،‬فقد‬ ‫تغيرت كثيرا مرفلوجيتها ووظائفها‪ .‬ويمكن أن نذكر في هذا الشأن أن الوظيفة‬ ‫العسكرية فيها تراجعت إلى المقام الثاني لصالح قصور السنايير‪ .‬وبالمقابل‪ ،‬احتلت‬ ‫الوظيفة االقتصادية المقام األول في المدينة بعد أن كانت أقل أهمية خالل العصر‬ ‫القديم‪ ،‬ألن عدد سكان المدن كان قليال باستثناء روما وبعض المدن الشرقية‪ .‬وتبعا‬

‫‪108‬‬

‫لذلك‪ ،‬لم تكن مدن العصر القديم مراكز استهالك‪ ،‬في حين أصبحت مدن العصر‬ ‫الوسيط مراكز استهالك‪ ،‬وأيضا مراكز مبادالت بفضل ظاهرة التمدن التي طالت‬ ‫األسواق والمعارض‪ .‬ومن المفيد التذكير في هذا المقام بأن مدينة العصر الوسيط‬ ‫كانت متعددة المراكز‪ ،‬ولكن السوق كان أهمها‪ .‬ويعد هذا األمر تحوال جديدا يضاف‬ ‫إليه تحول آخر ال يقل أهمية‪ ،‬وهو أن المدينة أضحت مركز إنتاج بفضل الورشات‬ ‫الحرفية التي أصبحت تحتضنها‪ ،‬بعد أن كانت تحتضنها فيما مضى دومينات أفراد‬ ‫األرستقراطية العقارية‪ .‬والدليل على ذلك‪ ،‬هو كون كثير من أزقة المدن المعاصرة ما‬ ‫زالت تحمل أسماء بعض الحرف والحرفيين من قبيل "زقاق الدباغين" أو "زقاق‬ ‫النساجين"‪ .‬وتحيل هذه األسماء طبعا على الحرف التي كانت منتشرة في مدن العصر‬ ‫الوسيط‪ .‬واستطاعت هذه المدن أن تكون لنفسها نوعا من العقلية أو الذهنية الحضرية‬ ‫أمدتها بهوية وسلطة خاصتين‪ .‬وقد كان التعارض بين المدينة والبادية خالل العصر‬ ‫القديم يوازيه تعارض بين الحضارة والبربرية‪ .‬وظل هذا التعارض قائما خالل العصر‬ ‫الوسيط‪ ،،‬وربما ازداد حدة إذا علمنا بأن سكان بوادي العصر الوسيط كانوا يدعون‬ ‫باسم "‪ ،"les vilains‬وهو اسم قدحي معناه أن الذين ينعتون به "حقيرون"‪،‬‬ ‫"منحطون"‪"،‬غوغاء"‪" ،‬أفظاظ" ألن معظمهم كانوا عبيدا فتحولوا إلى أقنان‪ .‬بينما‬ ‫كان سكان الحواضر أحرارا‪ .‬وهذا ما يعنيه المثل القائل ‪" :‬هواء المدينة يجعل المرء‬ ‫حرا"‪.‬‬ ‫ويستدعي هذا المثل إثارة مسألة على جانب من األهمية‪ ،‬وهي أن المسيحية‬ ‫تبنت تصورا للمدينة يعود للعصر القديم سبق أن بلوره أرسطو وسيسرون مفاده أن‬ ‫المدينة ليست بجدرانها وإنما بأناسها‪ ،‬أي بسكانها‪ .‬وقد عمل كل من القديس‬ ‫أوغسطين‪ ،‬وبعده ايزيدور االشبيلي على الترويج لهذا التصور الذي اصطبغ بصبغة‬ ‫الهوتية مع مر القرون‪ .‬فأخذت بعض تآليف القرن الثالث عشر تشبه األزقة الضيقة‬ ‫المظلمة بجهنم والساحات والميادين بالجنة مما يسمح بالقول بأن العقلية السائدة في‬ ‫الحواضر أصبحت شيئا فشيئا تدرج ضمن مكوناتها رؤية حضرية ( ‪une vision‬‬ ‫‪.)urbanistique‬‬ ‫والواقع أن الشبكة الطرقية التي كانت معروفة في العصر الروماني فقدت ذلك‬ ‫التماسك الذي كان يميزها فتحولت في العصر الوسيط إلى مجرد مسالك‪ .‬بل غدت في‬ ‫مدن هذه الحقبة مجرد ممرات‪ .‬وابتداء من القرن الثاني عشر شرع العمل في تبليطها‪،‬‬ ‫وشقت بها قنوات لتصريف المياه المستعملة‪ ،‬وتم تزينها بمجموعة معالم (تماثيل‬ ‫وغيرها)‪ .‬لم تعد هذه التماثيل تقام فقط للتذكير بسلطة األقوياء‪ ،‬وإنما أصبحت تقام‬ ‫أيضا لغايات جمالية‪ .‬ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن مدينة العصر الوسيط غدت‬ ‫أحد المجاالت التي تجلى فيها مفهوم الجمال في دالالته الحديثة المختلفة عن دالالت‬

‫‪109‬‬

‫العصر القديم‪ .‬وقد وضح الباحث أمبرتو إيكو (‪ )Umberto Eco‬بجالء كيف نشا‬ ‫مبدأ الجمال في العصر الوسيط‪ ،‬وكيف أن المعالم جسدت جانبه التطبيقي‪ ،‬فيما شكل‬ ‫الفكر المدرسي الحضري جانبه النظري‪ .‬كما وضح الباحث روبيرتو سباتينو لوبيز‬ ‫بدوره بأن المدينة أضحت تمثل في العصر الوسيط "حالة روح" اختزلت حقائق مادية‬ ‫وتمثالت ذهنية في نفس الوقت‪ .40‬وإلى جانب ذلك‪ ،‬ال بد من التذكير بأن مدن العصر‬ ‫الوسيط ورثت األسوار عن العصر القديم‪ .‬فقد كانت هذه األسوار تحيط بالمدن‬ ‫لحمايتها من الهجمات األجنبية‪ ،‬وخاصة هجمات قبائل المتبربرين‪ .‬ولكن معظم هذه‬ ‫األسوار انهارت‪ ،‬ولذلك رمم رجال العصر الوسيط تلك األسوار‪ ،‬أو باألحرى‪ ،‬قاموا‬ ‫ببناء أسوار جديدة‪ .‬ولكن لم يقوموا بذلك بهدف حماية المدينة‪ ،‬وإنما ألن األسوار‬ ‫كانت رمزا بامتياز للمدينة‪ .‬ألن المدينة الحقيقية آنذاك كان يجب أن تحاط بأسوار‪.‬‬ ‫وحين أضحت المدن تتمتع بشخصية قانونية‪ ،‬أخذ القائمون على الشأن المحلي فيها‬ ‫يستعملون أختاما منقوش عليها شكل يجسد السور الذي اتخذ شعارا للمدينة‪ .‬وتجدر‬ ‫اإلشارة في هذا الشأن إلى أن أسوار المدينة كانت توضع لها أبواب شكلت صلة وصل‬ ‫بين العالمين الداخلي والخارجي‪ ،‬لكونها كانت معبر الناس والبهائم والمؤن‪ .‬وترتب‬ ‫عن ذلك نشوء جدلية الداخل والخارج التي احتلت موقعا متميزا في العصر الوسيط‬ ‫وال زالت لها امتدادات في أوربا المعاصرة‪ .‬وقد تم تغليب الداخل في هذه الجدلية نظرا‬ ‫لحمولته المادية (الترابية) واالجتماعية والروحية‪.‬‬ ‫أ) المدن األسقفية‬ ‫شكلت المدينة األسقفية أول نموذج فرض وجوده في أوربا العصر الوسيط‪ .‬بل‬ ‫إن وجود أسقف كان في حد ذاته مؤشرا على وجود مركز حضري‪ ،‬ألن األسقف كان‬ ‫زعيما ال مناص منه ألي تجمع بشري مهم عدديا‪ ،‬كما كان المسؤول عن الشعائر‬ ‫الدينية التي تقام عادة في الكنائس‪ .‬وقد اتخذت عملية تشكل الساكنة الحضرية من قبل‬ ‫المسيحيين ومريدي الكنائس منحى ثوريا من خالل ظاهرة تمدين األموات‪ .‬ولتوضيح‬ ‫هذا األمر‪ ،‬من المفيد التذكير بأن جثمان الميت لم يعد مصدر فزع كما كان األمر‬ ‫قديما‪ ،‬ألن المسيحية عملت على إدماج المقبرة في الوسط الحضري‪ .‬وتبعا لذلك‬ ‫أضحت مدينة األموات تقع داخل مدينة األحياء‪.‬‬ ‫‪ - 40‬عبر أومبيرتو ايكو األديب والباحث االيطالي عن وجهة نظره المشار اليها في المتن في كتاب له تحت عنوان ‪:‬‬ ‫‪Art et beauté dans l’esthétique médiévale, trad. Fr., Maurice Javion, Paris, Les Editions‬‬ ‫‪Ldf., 2002.‬‬ ‫أما المؤرخ االيطالو‪ -‬أمريكي روبيرتو سباتينو لوبيز فعبر عن وجهة نظره في كتاب له أحلنا عليه في هامش سابق‬ ‫وفي كتاب آخر صدر له بباري (‪ )Bari‬سنة ‪ 1984‬عن مؤسسة التيرزا (‪ )Casa Laterza‬بعنوان ‪:‬‬ ‫‪Intervista sulla citta medievale.‬‬

‫‪110‬‬

‫ب) المدن "الكبرى"‬ ‫تميز القرن الثالث عشر‪ ،‬على المستوى الحضري‪ ،‬بنمو وتعدد المدن الصغرى‬ ‫والمتوسطة‪ ،‬وبتزايد عدد سكان بعض المدن الكبرى‪ ،‬واتساع مجالها الحضري‪ .‬ولكن‬ ‫ال بد من التنبيه في هذا الشأن بأنه ال يجب أن نتصور بأن المدن الموسومة بالكبر‬ ‫كانت تشبه المدن الكبرى في أوربا األزمنة الحديثة‪ ،‬أو المدن المشرقية في بيزنطة أو‬ ‫في العالم اإلسالمي‪ ،‬ألن أهم مدن الغرب المسيحي كان عدد سكانها يتراوح بين عشرة‬ ‫آالف وعشرين ألف نسمة‪ .‬ولم تخرج عن المألوف سوى مدن معدودة هي ‪ :‬بالرمو‪،‬‬ ‫وبرشلونة بحوالي خمسين ألف نسمة‪ ،‬ولندن‪ ،‬وﯕاند (‪( )Gand‬أو غنت ‪،)Gent‬‬ ‫وجنوة بحوالي ستين ألف نسمة‪ ،‬وعلى غرارها كانت مدينة قرطبة الواقعة آنذاك‬ ‫ضمن دائرة نفوذ المسلمين‪ .‬أما المدن التي تجاوز سقف سكانها الستين ألف نسمة‪،‬‬ ‫فكانت معدودة على رؤوس أصابع اليد الواحدة‪ .‬وهي بلونيا )‪ )Bologne‬التي ناهز‬ ‫عدد سكانها السبعين ألف نسمة‪ ،‬وميالنو بحوالي خمسة وسبعين ألف نسمة‪ ،‬وفلورنسا‬ ‫التي يحتمل أن يكون عدد سكانها قد تجاوز المائة ألف بقليل‪ ،‬وباريس التي عدت خالل‬ ‫القرن الثالث عشر أكبر مدن الغرب األوربي على اإلطالق بحوالي مائتي ألف نسمة‪.‬‬ ‫ج) أدب ذو صبغة حضرية‬ ‫سمح نمو مدن العصر الوسيط ‪ ،‬وما استتبعه من هيبة أصبحت تتمتع بها‪،‬‬ ‫بنشأة جنس أدبي سرعان ما تطور بالنظر لمحدودية عملية تداول الكتب والمؤلفات‬ ‫آنذاك‪ .‬يتمثل هذا الجنس األدبي في "اإلخباريات الحضرية" التي كان أصحابها‬ ‫"يتغنون" بمكونات المدن في وقت لم يوجد فيه من يتغنى بالجبال أو السواحل‪ .‬بل في‬ ‫وقت لم تكن فيه لفظة "مشهد" أو ما شابهها موجودة على اإلطالق‪ ،‬وحتى كتب‬ ‫الجغرافيا المتوفرة آنذاك‪ ،‬لم توفر "للمعجبين" من أوربيي العصر الوسيط سوى‬ ‫نصوصا تتحدث عن المدن‪ .‬والراجح أن اإلعجاب بالمدن مرده لكثافة سكانها‪،‬‬ ‫وألهمية األنشطة االقتصادية التي كانوا يزاولونها‪ ،‬ولتنوع الحرف الموجودة بها‪،‬‬ ‫ولغنى ثقافتها‪ ،‬ولجمالية كنائسها‪ .‬وفضال عن كل هذا وذاك‪ ،‬فقد حظيت المدن باهتمام‬ ‫واضعي هذه اإلخباريات بسبب الروايات ذات الطابع الميثولوجي التي أحاطت‬ ‫بنشأتها‪ ،‬وما نسج حول مؤسسيها "األبطال" من أساطير‪ .‬وقد اشتركت اإلخباريات‬ ‫الحضرية مع مؤلفات العصر القديم في تناول هذا الموضوع بالذات‪ .‬ومن هذا المنطلق‬ ‫شكلت المدن‪ ،‬من خالل االهتمام الذي أواله المؤلفون لها‪ ،‬إحدى القنوات التي ساهمت‬ ‫في إعطاء معنى للتاريخ‪ .‬وقد اتخذ ما تم تأليفه حولها بعدا أوربيا‪.‬‬

‫‪111‬‬

‫د) العواصم‬ ‫يجب تنبيه القارئ الى أنه ذا كان من الممكن ترتيب مدن العصر الوسيط من‬ ‫وجهة نظر ديموغرافية تبعا لعدد سكانها‪ ،‬فمن الممكن أيضا ترتيبها من وجهة نظر‬ ‫سياسية‪ .‬وفي هذه الحالة يمكن الحديث عن نموذجين من المدن ‪ :‬المدن العواصم التي‬ ‫سيتم الحديث عنها في هذه الفقرة‪ ،‬والمدن‪-‬الدول التي ستخصص لها الفقرة الموالية‪.‬‬ ‫كانت المدن العواصم مقرات لسلطة سياسية عليا‪ .‬وقليلة هي مدن العصر‬ ‫الوسيط التي ارتقت إلى هذه المرتبة‪ ،‬رغم أن مصطلح عاصمة اكتسى دالالت مختلفة‪.‬‬ ‫وهذا ما وضحه الباحث جوين ألفريد ويليامس )‪ )Gwyn Alfred Williams‬الذي‬ ‫خص مدينة لندن ببحث منوغرافي بين فيه كيف ارتقت هذه المدينة من مجرد "كمونة"‬ ‫(‪ )commune‬إلى عاصمة‪ .41‬وينسجم هذا الطرح مع التصور الذي كان يتبناه سكان‬ ‫المدينة أنفسهم حول العاصمة‪ ،‬حيث لم تكن لندن (كلها) في نظرهم هي العاصمة‪،‬‬ ‫وانما "مدينة ويستمنستر" (‪ )City of Westminster‬فقط‪ .‬ويختلف األمر تماما‬ ‫بالنسبة لمدينة روما‪ .‬فقد كانت تحتضن البابوية وقصر الفاتكان‪ ،‬وكانت محاطة‬ ‫باألسوار‪ ،‬ورغم ذلك لم تعد عاصمة بما في الكلمة من معنى‪ .‬وظلت تعتبر عاصمة‬ ‫"على مضض" ألن مراسيم تتويج األباطرة كانت تتم بها‪ .‬وخالفا لروما‪ ،‬عدت باريس‬ ‫عاصمة بامتياز منذ سنة ‪ 987‬بفضل جهود الملوك الكابتيين الذين جعلوها تتبوأ مكانة‬ ‫مرموقة وكذلك بفضل الدعاية التي اضطلع بها إخباريو دير سان دوني‪ ،‬الذي كانت‬ ‫أراضيه تحتضن مدافن ملوك فرنسا‪ ،‬حتى أن أوالئك اإلخباريين اعتبروا بلدة سان‬ ‫دوني عاصمة بدورها‪ .‬والحقيقة أن العاصمة تشكلت من الثنائي باريس‪ -‬سان دوني‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن عواصم العصر الوسيط لم تكن تستند على حقيقة‬ ‫تاريخية إال في حاالت نادرة‪ .‬ومن هذا المنطلق‪ ،‬فإن العالم المسيحي نفسه لم يكن‬ ‫يتوفر في الواقع على عاصمة رغم أن العادة جرت باعتبار روما عاصمة لهذا العالم‪.‬‬ ‫ه) المدن‪ -‬الدول‬ ‫يتألف هذا النموذج من المدن التي تطورت وتمددت فأصبحت دوال قائمة‬ ‫بذاتها‪ .‬وقد شكلت شبه جزيرة ايطاليا المجال الرئيس لهذا النموذج‪ .‬ويعتبر إيڤ رنووار‬ ‫(‪ ) Yves Renouard‬واحدا من الباحثين الذين اهتموا بدراسة هذا النوع من المدن‪.‬‬ ‫وقد ميز في تطورها بين ثالثة مراحل ‪ :‬مرحلة أولى كانت فيها كل مدينة – دولة‬ ‫‪ - 41‬يمثل هذا البحث في األصل أط روحة لنيل الدكتوراه أنجزها جوين ألفريد ويليامس الذي حاضر‪ ،‬قبل وفاته سنة‬ ‫‪ ،1995‬بكل من جامعة يورك (‪ )York‬وجامعة ويلز‪ -‬كارديف (‪.)Wales-Cardiff‬‬ ‫نشر تلك األطروحة سنة ‪ 1963‬تحت عنوان ‪← ، Medieval London, from commune to capital :‬‬ ‫وصدرت ضمن منشورات جامعة لندن ‪ .‬كما أصدر الى جانبها مجموعة أبحاث‪ ،‬معظمها حول تاريخ بالد الغال‪.‬‬

‫‪112‬‬

‫مجرد كمونة استطاعت األرستقراطية أن تستحوذ فيها على السلطة على حساب القمط‬ ‫واألسقف‪ .‬مرحلة ثانية شهدت فيها األرستقراطية الحاكمة تصدعات وانقسامات إلى‬ ‫فصائل سمحت باستيالء طرف أجنبي عن الفصائل على السلطة في المدينة‪ .‬ومرحلة‬ ‫ثالثة استطاعت فيها نخبة من التجار وطوائف الحرفيين امتالك السلطة في المدينة‬ ‫وممارستها بواسطة حكومة تمثل هذه األطياف‪ .‬ولذلك تميز تاريخ هذه المدن – الدول‬ ‫بصراع دائم بين مختلف القوى الحاكمة لها أو بين مختلف العائالت‪ ،‬ألن هذه العائالت‬ ‫كانت تمارس السلطة بواسطة مجالس تمثلها‪ .‬وغالبا ما كان لكل مجلس من هذه‬ ‫المجالس نفوذ في رقعة ترابية معينة تقع في محيط المدينة‪ .‬فيحدث التنافس حول‬ ‫مناطق النفوذ‪ ،‬ثم يتحول التنافس إلى صراع دموي‪.42‬‬ ‫ويبدو أن مدن ايطاليا وحدها هي التي شكلت االستثناء على صعيدين ‪ :‬ألن‬ ‫بعضا منها تحولت إلى دول كما تم توضيح ذلك‪ ،‬وألن نبالء ايطاليا كانوا يقيمون في‬ ‫تلك المدن – الدول خالفا لنبالء باقي مناطق أوربا الذين كانوا يقيمون في قصور تقع‬ ‫في األرياف‪ ،‬رغم أن بعض األثرياء منهم كانوا يتوفرون على إقامات ثانوية بالمدينة‬ ‫المجاورة للبادية التي يقيمون بها‪.‬‬ ‫و) المدن والفيودالية‬ ‫جرت العادة في أوساط المهتمين بتاريخ العصر الوسيط بإقامة نوع من التقابل‬ ‫أو التعارض بين الظاهرة الحضرية وظاهرة الفيودالية‪ .‬ويقر معظمهم بأن المدينة‬ ‫تمثل بحق جرثومة مدمرة للفيودالية ألنها عنصر غريب عنها‪ .‬ولم يشد عن هؤالء إال‬ ‫باحثين قالئل‪ ،‬وعلى رأسهم األنجليزي رودني هيلتون )‪ )Rodney Hilton‬الذي‬ ‫يذهب إلى االعتقاد بأن المدن كانت منسجمة تمام االنسجام‬ ‫مع البنيات الفيودالية‪ ،‬بل وكانت جزءا من الفيودالية‪.43‬‬ ‫ودون الخوض طويال في الموضوع‪ ،‬يمكن االقرار بأن العصر الوسيط ترك‬ ‫ألوربا اقتصادا ومجتمعا قائمين على عالقات بين المدينة والبادية أساسها التكامل‬ ‫وليس التناقض‪ .‬وإن الغلبة كانت لصالح المدن التي استغلت فائض إنتاج البوادي‪،‬‬ ‫فتطورت بها األنشطة التجارية والحرفية‪ .‬كما تنامت بشريا من خالل هجرة عدد من‬ ‫الفالحين إليها‪ .‬وكان معظم هؤالء الفالحين حديثي االستقرار بتلك المدن‪ .‬وتطورت‬ ‫‪ - 42‬عبر ايڤ رنووار عن وجهة نظره هاته في كتابين هما ‪:‬‬ ‫‪- Histoire de Florence, Paris, P.U.F., 1964.‬‬ ‫‪- Les villes d’Italie de la fin du Xe siècle au début du XIVe siècle, Paris, Sedes, 1969, 2 vol.‬‬ ‫‪ - 43‬لمزيد من التفاصيل بخصوص وجهة نظر رودني هيلتون يمكن العودة لكتابه ‪:‬‬ ‫‪- English and French Towns in feudal society, a comparative study, Cambridge, Cambridge‬‬ ‫‪University Press, 1992.‬‬

‫‪113‬‬

‫المدن سياسيا أيضا‪ .‬فشرعت في تبني أشكال متطورة من السلطة ومنسجمة‪ ،‬في ذات‬ ‫الوقت‪ ،‬مع بنيات النظام الفيودالي بعد أن كانت الحكومات المشرفة على تدبير الشأن‬ ‫العام بها ذات طابع سنيوري محض‪.‬‬ ‫‪ )1‬شخصية المدينة األوربية‬ ‫تميزت مدن العصر الوسيط بخاصية هامة ورثتها أوربا األزمنة الحديثة تمثلت‬ ‫في بنية مجتمعاتها وفي طبيعة الحكومات المسيرة لها‪ .‬وبقدرما انسجمت هذه‬ ‫الحكومات مع بنيات النظام الفيودالي‪ ،‬كما سبقت اإلشارة إلى ذلك‪ ،‬بقدر ما أبانت عن‬ ‫تطور خاص‪ .‬وتعود بدايات هذا التطور إلى القرن الحادي عشر‪ .‬وقد تواصل مع‬ ‫الزمن‪ ،‬وانتهى بتالشي هيمنة األساقفة واألقماط معا‪ .‬ففي معظم المدن‪ ،‬كان األساقفة‬ ‫يمارسون السلطة المدنية كما تم توضيح ذلك سابقا‪ .‬وفي مدن أخرى كان األقماط‬ ‫يقومون بهذا الدورالى حد ما‪ ،‬رغم أن األساقفة كانوا هم المشرفون الفعليون بدل‬ ‫األقماط‪ .‬وفي سياق هذا التطور كانت المدن تشهد من حين آلخر حركات احتجاج‬ ‫شعبية اتخذت في األغلب األعم طابعا سلميا‪ ،‬وإن اتخذ بعضها منحى عنيفا كما حدث‪،‬‬ ‫على سبيل المثال‪ ،‬سنة ‪ ،1116‬حيث انتهت انتفاضة قام بها سكان مدينة الوون‬ ‫)‪ )Laon‬باغتيال القمط – األسقف الذي كان يحكمها‪.‬‬ ‫وكان السنايير يضطرون لالستجابة لضغط المحتجين‪ ،‬فيمنحونهم بعض‬ ‫االمتيازات في شكل حرية أكثر‪ ،‬أو يخففون عنهم بعض الضرائب‪ .‬ولكن المحتجين‬ ‫كانوا يطالبون دوما بمنحهم نوعا من التسيير الذاتي في إطار كمونات ( ‪des‬‬ ‫‪ ،)communes‬وهو المطلب الذي كان يرفضه السناييرباستمرار‪ .‬ويجب التنبيه في‬ ‫هذا الشأن بأن عددا من الباحثين تناولوا موضوع حركة الكمونات‪ ،‬وأسالوا فيه كثيرا‬ ‫من المداد حتى أنهم أحاطوه بطابع ميثولوجي‪ .‬والواقع أن مدن ايطاليا وحدها هي التي‬ ‫تمتع سكانها باستقالل تام‪ ،.‬أما فيما عداها‪ ،‬فكان االستقالل نسبيا‪ .‬ومن المعروف أن‬ ‫سكان معظم مدن فرنسا لم يحصلوا سوى على امتيازات‪ ،‬ولم يتمتعوا قط باالستقالل‬ ‫الذي كانوا ينشدونه‪ .‬ويعتبر"ميثاق" لوريس (‪ ،)Lorris‬الذي وقعه الملك لويس السابع‬ ‫سنة ‪ ،1155‬والذي حصل بموجبه سكان هذه المدينة على امتيازات‪ ،‬بمثابة نموذج تم‬ ‫االقتداء به في سائر أنحاء فرنسا‪ .‬وتجلى هذا االقتداء في مدينة تولوز التي منحت‬ ‫لسكانها سنة ‪ 1147‬نفس االمتيازات التي تضمنها "الميثاق" السالف الذكر‪ .‬وبعدها‬ ‫منحت كذلك نفس االمتيازات لسكان مدينتي نيم )‪ ،)Nîmes‬وآرل (‪ .)Arles‬وسارت‬ ‫بعض مدن أنجلترا وبعض مدن مملكة أرغونة على نفس المنوال‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فاألهم‪ ،‬هو أن حكم السكان الحضريين ألنفسهم بأنفسهم‬ ‫ترك أثران عميقان وبعيدي المدى في مدن أوربا‪.‬‬

‫‪114‬‬

‫تمثل األثر األول في تزايد حاجة سكان المدن للحقوقيين ورجال القانون عامة‪.‬‬ ‫والواقع أن هذه الفئة من أهل المعرفة‪ ،‬لم تكن لها دراية واسعة بالشؤون القانونية في‬ ‫بداية األمر‪ .‬فأخذ األفراد المنتمون لها يلجون الجامعات فتمكنوا من صقل معارفهم‪،‬‬ ‫وأصبحوا أكثر قدرة على النظر في مختلف القضايا التي تطرحها المعامالت بين‬ ‫سكان المدن‪ .‬فترتبت عن ذلك نتيجتان واحدة سلبية إلى حد ما‪ ،‬تجسدت في ظهور‬ ‫إرهاصات ظاهرة البيروقراطية في مدن أوربا‪ ،‬والثانية ايجابية تجسدت في عملية‬ ‫مراجعة وتطوير منظومة القوانين المعمول بها‪.‬‬ ‫أما األثرالثاني‪ ،‬فيتصل بمسألة الجبايات‪ .‬إذ من المعروف أن المكوس‪،‬‬ ‫واإلتاوات‪ ،‬والمغارم التي كانت مفروضة على السواد األعظم من مجتمع العصر‬ ‫الوسيط كانت متنوعة‪ .‬وقد ظلت ذات صبغة فيودالية حتى القرن الثالث عشر‪ ،‬حيث‬ ‫بدأت في الظهور ضرائب جديدة أخذ يفرضها الملوك‪ ،‬هذه المرة‪ ،‬في سياق نشأة‬ ‫الممالك الحديثة في أوربا‪ .‬وهذه الضرائب‪ ،‬التي يمكن نعتها بكونها ضرائب دولة‪،‬‬ ‫أصبح سكان المدن ملزمين بدورهم بتأديتها‪ ،‬باإلضافة إلى سلسلة الضرائب التي تدخل‬ ‫في خانة ما يمكن تسميته بضريبة الرأس "‪ ."les tailles‬وأعتقد أن أجرأة هذا‬ ‫"الجيل" الجديد من الضرائب‪ ،‬التي أصبحت مفروضة على سكان المدن‪ ،‬تسمح‬ ‫بالحديث عن انبثاق "أوربا الضرائب"‪.‬‬ ‫ورغم أن عائدات تلك الضرائب كانت تصرف في تمويل مشاريع ذات لنفع‬ ‫عام‪ ،‬فالواقع أن اختالالت شابت جبايتها من قبيل محاباة البعض والشطط في حق‬ ‫البعض اآلخر‪ .‬وتفيد هذه اإلختالالت بأن سكان المدن لم يكونوا أبدا سواسية‪ .‬ويبدو أن‬ ‫ظاهرة الالمساواة في مدن أوربا استشرت مع مرور الزمن‪ .‬فقد ظلت أسر كثيرة‬ ‫تعيش حياة الكفاف‪ ،‬بينما ظهرت أسر غنية بما تملكه من مال وعقار‪ .‬فانبثق عن هذه‬ ‫األسر أعيان المدن الذين شكلوا نخبة متميزة‪ .‬ونادرا ما كان ينخرط في هذه النخبة‬ ‫بعض األفراد العاديين‪ ،‬اللهم إال إذا كانوا ينتمون ألسر عريقة تمتلك سمعة جيدة وال‬ ‫تملك ماال أوعقارا‪ .‬ونسجت بين األعيان قرابات (‪ )des lignages‬على غرار ما كان‬ ‫يحدث في األرياف‪ ،‬ولكن دون أن تكون هذه القرابات قائمة على الدم‪.‬‬ ‫وإذا كان المال‪ ،‬وعراقة االنتماء‪ ،‬من بين العناصر التي منحت إمكانية التميز‬ ‫بين األفراد أو األسر في مدن أوربا‪ ،‬فكذلك أضحت بعض المهن تتيح للذين يزاولونها‬ ‫إمكانية التميز‪ .‬ولذلك استطاع االرتقاء إلى مصاف األعيان كل أوالئك الذين كانوا‬ ‫يزاولون مهنة القانون كالتوثيق مثال‪ .‬وبما أن بعض المهن أصبح لها مثل هذا التأثير‬ ‫فقد تمت إعادة النظر في أحكام القيمة التي كانت تلف عددا منها‪ .‬وعلى سبيل المثال‪،‬‬ ‫فإن المهنة التي كان يزاولها صاحب خان (‪ ،)aubergiste‬أو من يقوم مقامه‪ ،‬لم تعد‬ ‫محط تبخيس كما كان األمر منذ العصر القديم‪ .‬ويبدو أن مهنة الدعارة ومهنة تقديم‬

‫‪115‬‬

‫القروض مقابل فائدة (أي الربا)‪ ،‬ظلتا وحدهما موضوع تحقير وتخسيس من قبل‬ ‫"المجتمع المدني"‪ ،‬وموضوع تحريم من قبل الكنيسة‪ .‬وحدث أن أخذت تتغيرالمواقف‬ ‫منهما مع مر الزمن‪ ،‬ألن مجال القروض مقابل فائدة تقلص كثيرا بحيث لم يعد يشمل‬ ‫سوى قروض االستهالك التي ظل اليهود يقدمونها مقابل فائدة‪ .‬أما الدعارة‪ ،‬فلم تعد‬ ‫الكنيسة‪ ،‬بعد منصف القرن الثاني عشر‪ ،‬تجرم ممارسيها‪ ،‬بل يمكن القول بأنها أخذت‬ ‫تشجعها‪.‬‬ ‫ولتوضيح هذا التحول‪ ،‬نذكر أن الكنيسة كانت ترى بأن الدعارة ناتجة عن‬ ‫الخطيئة األولى‪ ،‬وهي مظهر من مظاهر ضعف اإلنسان‪ .‬وفضال عن ذلك‪ ،‬فإن‬ ‫مجتمع العصر الوسيط‪ ،‬الذي كان مجتمعا ذكوريا‪ ،‬لم تكن تصدمه ظاهرة الدعارة التي‬ ‫كانت فيها "مصلحة" لصالح الرجال على حساب اإلناث‪ .‬ومن بين المعطيات الدالة‬ ‫على هذه النظرة المجتمعية للدعارة أن الملك الورع سان لويس حاول جاهدا اجتثاث‬ ‫الدعارة من مملكته‪ ،‬أو على األقل من مدينة باريس‪ ،‬فنصحه مقربوه‪ ،‬بمن فيهم أسقف‬ ‫المدينة‪ ،‬بأن محاولته ستكون عديمة الجدوى‪ ،‬بل ستكون منافية لطبيعة النظام‬ ‫االجتماعي‪ .‬وتضاف في هذا السياق االشارة الى معطى آخر وهو أن الدعارة كانت‬ ‫وسيلة لمراقبة تجاوزات مجتمع كان فيه عدد العزاب كثيرا‪ .‬وجلهم من رجال الدين‪،‬‬ ‫ومن الشباب المحرومين من النساء‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬بذل رجال الكنيسة جهودا إلضفاء‬ ‫طابع إنساني وديني على عالم المومسات المسنات‪ ،‬أو الالئي انقطعن عن ممارسة‬ ‫الدعارة‪ .‬وتجلت تلك الجهود نظريا في كون الكنيسة كانت تعتبر إقدام رجل على‬ ‫الزواج من مومس عمال طيبا‪ .‬بينما تجلت عمليا في إشرافها على إنشاء ما يسمى‬ ‫"بطائفة ماري‪ -‬مادلين" (‪ )l’ordre de Marie-Madeleine‬الذي بموجبه تم‬ ‫تخصيص بعض الموناستيرات إليواء عدد من المومسات‪.‬‬ ‫ويجب التنبيه الى أن ما ذكر عن تغير نظرة الكنيسة والمجتمع للدعارة‪ ،‬ال يعني‬ ‫البتة بأن موقف األوربيين من هذه الظاهرة كان موحدا‪ .‬ففي مدن أوربا الشمالية‬ ‫اتسمت النظرة للدعارة بتسامح نسبي‪ .‬فقد اشترط على المومسات في بعض من تلك‬ ‫المدن ارتداء مالبس خاصة‪ ،‬وعدم التزين بحلي مماثلة لتلك التي تتزين بها النساء‬ ‫البورجوازيات‪ .‬أما في مدن أوربا الجنوبية فكان هامش التسامح من الدعارة أكثر‪ .‬إذ‬ ‫أقيمت في بعض هذه المدن دور خاصة بالبغاء (مبغيات) كانت تشرف عليها البلديات‬ ‫وتجني من ورائها مداخيل مهمة تمثلت في واجب الكراء وبعض المكوس‪،‬‬ ‫والغرامات‪ .‬وتبعا لتنامي األنشطة الحرفية وتزايد عدد العامالت الفقيرات‪ ،‬نشطت‬ ‫ظاهرة الدعارة في مثل هذه الدور وغيرها‪ ،‬كما في الحمامات التي يستخدم أصحابها‬ ‫النساء‪ .‬وكانت هذه الحمامات شبيهة إلى حد ما بمراكز التدليك المعروفة في عالمنا‬ ‫المعاصر‪.‬‬

‫‪116‬‬

‫والظاهر أن نظرة التسامح إزاء ظاهرة الدعارة كانت تتماشى تماما مع تطور‬ ‫المجتمع وتطور منظومة األحكام والقيم خالل القرن الثالث عشر‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فلم يكن‬ ‫غريبا أن يتناول بعض المنظرين من رجال الدين هذه الظاهرة‪ .‬فذهب بعضهم إلى‬ ‫إضفاء طابع الشرعية عليها‪ ،‬حيث أجازوا للفتاة أو المرأة ممارسة الدعارة لمدعاة‬ ‫الحاجة وضرورة العيش‪ ،‬وليس لرغبة في المتعة‪.44‬‬ ‫وأعتقد أن كل اإلجراءات التي همت ممارسة الدعارة كانت تروم "تقنينها"‪.‬‬ ‫ويندرج ذلك في إطار عملية تقنين سائر المهن التي كانت تمارس في مدن أوربا‪ .‬وبما‬ ‫أن ظاهرة الدعارة وصلت إلى درجة أصبح فيها من الالزم تقنينها‪ ،‬فيحق اذن الحديث‬ ‫عن ميالد أوربا الدعارة التي الزالت إلى اليوم من بين أكثر الظواهر إثارة للنقاش‪.‬‬ ‫‪ )2‬تراتبية الحرف داخل المدينة‬ ‫ظهرت تجليات الالمساواة بين سكان المدينة في مجال الحرف التي أخذت تمد‬ ‫المدن بقسط مهم من القوة‪ .‬ففي ايطاليا التي بلغ فيها مستوى تنظيم المهن درجة عليا‬ ‫من الرقي ظهر منعطف حاسم في مجال الحرف تجلى في انقسامها إلى صنفين ‪:‬‬ ‫حرف كبرى أساسية وحرف صغرى أقل قيمة‪ .‬وفي مدينة فلورنسا على سبيل المثال‬ ‫كانت الحرف الصغرى كثيرة العدد‪ ،‬أما الحرف الكبرى فلم يتجاوز عددها إحدى‬ ‫عشرة حرفة‪ ،‬من بينها خمسة حرف فقط كان يحتكر مزاولتها رجال أعمال تجاوز‬ ‫مجال نشاطهم حدود ايطاليا‪ .‬فكان منهم المشتغلون في مجال االستيراد والتصدير‪،‬‬ ‫والمشتغلون في مجال صرف العمالت‪ ،‬والمشتغلون في تجارة األصواف‪ ،‬ومنها‬ ‫الحرير بوجه خاص‪ .‬كما كان من بين الحرفيين الخمسة الكبار أطباء‪ ،‬وتجار كبار‬ ‫اختصوا في تجارة مختلف أنواع العقاقير والتوابل التي تجاوز عددها ‪ 288‬نوعا‪.‬‬ ‫وقد شكل أعيان المدن ما يصطلح على تسميته تجاوزا "الباتريسيا" ( ‪le‬‬ ‫‪ .)patriciat‬واستطاع األثرياء واألقوياء منهم السيطرة على مدن العصر الوسيط‪.‬‬ ‫وكان معظمهم من كبار التجار‪ .‬ورغم ذلك يبدو من غريب الصدف أن تلك المدن لم‬ ‫تستمد ثروتها من النشاط التجاري‪ ،‬بقدر ما استمدتها من النشاط الصناعي‪ .‬ويبدو هذا‬ ‫األمر جد واضح في منطقة الفالندر (‪ )la Flandre‬التي تساءل المؤرخ البلجيكي‬ ‫شارل ڤيرالندن (‪ )Charles Verlinden‬عن مصدر ثروتها من خالل سؤال بسيط‬ ‫صاغه على النحو اآلتي ‪" :‬تجار أم نساجون؟"‪ .‬فخلص‪ ،‬بعد بحث مستفيض‪ ،‬الى‬ ‫‪ - 44‬أنظر على سبيل المثال موقف القديس توما األكويني (‪ )Saint Thomas d’Aquin‬الذي لم يجرم الدعارة‪،‬‬ ‫واعتبرها نوعا من اإلثم ال بد من اقترافه‪ .‬ورأى أنه بإمكان الكنيسة قبول صدقة تمنحها مومس‪ ،‬واالمتناع عن قبول‬ ‫صدقة يمنحها أحدهم من مال مسروق‪.‬‬ ‫أنظر النسخة العربية من كتابه "الخالصة الالهوتية"‪ ،‬ترجمة الغوري بولس عواد‪ ،‬المطبعة األدبية‪ ،‬بيروت‪،1881 ،‬‬ ‫خمسة مجلدات‪( .‬اعيد طبع الكتاب سنة ‪.)2012‬‬

‫‪117‬‬

‫القول بأن الصناعة هي التي كانت العامل األول في التحوالت الديموغرافية التي‬ ‫شهدتها هذه المنطقة‪ ،‬وهي التي أفضت إلى نشأة وتطور المدن الفالمانية‪ .‬وإن التجارة‬ ‫فيها نشأت عن الصناعة وليس العكس‪.‬‬ ‫تمثلت الصناعة الوارد ذكرها في صناعة النسيج التي قامت في معظم مدن‬ ‫أوربا‪ .‬فنشأت عنها أوربا النسيج التي تمخضت فولدت أوربا التجار الذين سيأتي‬ ‫الحديث عنهم الحقا‪.‬‬ ‫‪ )3‬المدينة األوربية‪ ،‬بابل أم القدس؟‬ ‫ظل المخيال قويا في أوربا العصور الوسطى رغم أنه اتخذ في معظم األحيان‬ ‫أشكاال رمزية‪ .‬واحتدم داخل مخيال النخبة المثقفة من رجال الدين بالتحديد صراع حاد‬ ‫خالل القرن الثاني عشر تمحور حول الموقف من المدينة بين الرفض والقبول‪.‬‬ ‫وتلخص هذا الصراع شهادتان نموذجيتان لقطبين من أقطاب الفكر الديني هما األسقف‬ ‫سان بيرنار (‪( )Saint Bernard‬المتوفى سنة ‪ )1091‬والراهب فليب هارڤنت‬ ‫(‪( )Philippe de Harvengt‬المتوفى سنة ‪ .)1183‬فقد حدث يوما أن قدم األسقف‬ ‫بيرنار إلى باريس في وقت كانت قد بدأت تعج فيه جامعتها باألساتذة وبطلبة العلم‪.‬‬ ‫فصرخ في أوساطهم في إحدى المناسبات قائال ‪ " :‬بادروا بالهرب من بابل‪ ،‬فروا‬ ‫وأنقذوا أرواحكم‪ .‬طيروا جميعا نحو المدن الملجأ‪ ،‬يعني إلى الموناستيرات"‪ .‬وبعده‬ ‫ببضع عشرات من السنين‪ ،‬كتب الراهب هارڤنت إلى أحد تالمذته خطابا جاء فيه ‪:‬‬ ‫"ها أنت في باريس‪ .‬دفعك حب العلم لالقامة بها‪ .‬وها أنت وجدتها القدس التي يحلم بها‬ ‫الكثير"‪ .‬وانطالقا من هاتين الشهادتين يتضح جليا مدى التحول الذي لحق صورة‬ ‫المدينة في المخيال منذ نهاية القرن الثاني عشر‪ .‬فقد حلت القدس محل بابل رغم أن‬ ‫آفات ونقائص كثيرة ظهرت في المدن‪ ،‬واستشرت عند نهاية العصر الوسيط‪.‬‬ ‫‪ )4‬المدينة والديمقراطية‬ ‫ت مثل الالمساواة االجتماعية أبرز هذه النقائص‪ .‬فعلية القوم المؤلفون من التجار‬ ‫واألفراد الممارسون للحرف األساسية الكبرى‪ ،‬كانوا يشكلون المجالس المشرفة على‬ ‫تدبير الشأن العام في المدن‪ .‬وكان يقابلهم في الطرف اآلخر عامة الشعب المغلوبين‬ ‫على أمرهم‪.‬‬ ‫لم تكن المدن مراكز اقتصادية فقط كما سبقت اإلشارة إلى ذلك‪ ،‬ولكنها كانت‬ ‫أيضا مراكز انبثق فيها نموذج ديمقراطي‪ ،‬رغم تزايد عدد الفقراء يوما بعد يوم‪ .‬وقد‬ ‫اهتم بدراسة هذا الجانب بعض الباحثين ومن بينهم روبيرتو ساباتينو لوبيز الذي قام‬ ‫بمقارنة بين نظم تدبير الشأن العام في المدن األوربية وفي مدن بيزنطة‪ ،‬ومدن العالم‬

‫‪118‬‬

‫اإلسالمي‪ ،‬ومدن الصين‪ ،‬فتوصل إلى خالصة مفادها أن "التجربة الحضرية في أوربا‬ ‫كانت عموما كثيفة وجد متنوعة وذات طابع ثوري وأكثر ديمقراطية من أية تجربة‬ ‫أخرى"‪ .‬ويمكن التعقيب على هذه الخالصة بالقول بأن المدينة األوربية تمثل محصلة‬ ‫للتطور التاريخي الذي شهدته أوربا‪ .‬فقد نشأت جميع المدن انطالقا من نواة حضرية‬ ‫وتطورت على نفس المنوال تقريبا في جميع أنحاء أوربا‪ .‬وتنطبق هذه الحقيقة على‬ ‫المناطق السلتية كما على المناطق الجرمانية‪ ،‬أو االسكندناڤية‪ ،‬أو الهنغارية‪ ،‬أو‬ ‫السالڤية‪ .‬وإن االندماج التدريجي لجميع هذه المناطق في أوربا ارتبط إلى حد بعيد‬ ‫بثقل المدن‪ .‬ومن المعطيات التي توضح هذا األمر هو أن ظاهرة التمدن لم تكن على‬ ‫درجة كبيرة من القوة‪ ،‬كما أن عدد المدن الكبرى كان قليال كلما اتجهنا نحو شرق‬ ‫أوربا‪ ،‬أو نحو شمالها‪ .‬وبما أن هذه الظاهرة (أي التمدن) هي من مظاهر النمو والقوة‬ ‫فقد تحققت في جميع الجهات‪ .‬ولم تشذ عن ذلك سوى منطقتا ايسالندا والفريز ( ‪la‬‬ ‫‪ )Frise‬اللتان لم يشملهما هذا التطور الحضري‪.‬‬ ‫‪ )5‬تعريف المدينة والحضري( ساكن المدينة)‬ ‫يجب التنبيه في مستهل ها المبحث بأني سأكتفي في تعريف مدينة العصر‬ ‫الوسيط وساكنها بتبني التعريف الذي اقترحه كل من جاك روسييو ( ‪Jacques‬‬ ‫‪ 45)Rossiaud‬وموريس لومبار (‪.46)Maurice Lombard‬‬ ‫يعرف جاك روسييو مدينة العصر الوسيط "بكونها‪ ،‬أوال وقبل كل شيئ ‪،‬‬ ‫مجتمع متحرك ومتجمع في حدود مجال ضيق يقع وسط مساحات ممتدة قليلة السكان‪.‬‬ ‫والمدينة هي بعد ذلك فضاء لإلنتاج والمبادالت تختلط فيه الحرف بالتجارة اللتان‬ ‫يغذيهما اقتصاد نقدي ‪ .‬والمدينة هي أيضا مركز تسود فيه منظومة قيم خاصة تنبثق‬ ‫منها الممارسة الجادة الخالقة للعمل وحب ممارسة التجارة وكسب المال‪ ،‬وميل نحو‬ ‫الترف‪ ،‬وإحساس بالجمال‪ .‬والمدينة هي كذلك تنظيم لمجال مغلق تحيط به أسوار‬ ‫يمكن النفاذ إليه عبر أبواب تؤدي إلى أزقة وساحات توجد بها أبراج‪ .‬ولكن المدينة هي‬ ‫‪ - 45‬أستاذ باحث في التاريخ األوربي الوسيط‪ .‬حاضر في جامعتي كليرمون‪ -‬فيرون (‪ )Clermont-Ferrand‬وليون‬ ‫الثانية (‪ ،) Lyon 2‬واشتهر بالبحث في موضوعي "المدينة" و"الدعارة والجنس" الذين خصهما بعدة مؤلفات من بينها ‪:‬‬ ‫‪- Lyon, 1250-1550, réalités et immaginaires d’une métropole, Paris, Champ Vallon, 2012.‬‬ ‫‪- La prostitution médiévale, Paris, Flammarion, 1988.‬‬ ‫‪ - 46‬مؤرخ فرنسي توفي سنة ‪ . 1965‬تخصص في البحث في التاريخ االسالمي الوسيط‪ ،‬ولكنه تميز عن جمهور‬ ‫الباحثين في هذا المجال بكونه تناول قضايا دقيقة وجديدة في حقل البحث التاريخي‪ ،‬عامة والبحث في تاريخ االسالم‬ ‫بوجه خاص‪ ،‬من قبيل العملة والنقود والمعادن النفيسة وشبكة المبادالت‪ ...‬ومن أشهر مؤلفاته ‪:‬‬ ‫‪- Espaces et réseaux du Haut Moyen Age, Paris, Les Editions de l’Ecole des Hautes Etudes‬‬ ‫‪en Sciences Sociales, 1972.‬‬ ‫‪- L’Islam dans sa première grandeur, Paris, Flammarion, 1980.‬‬

‫‪119‬‬

‫أ يضا تنظيم اجتماعي وسياسي يقوم على الجوار‪ ،‬وفيه ال يتدرج األثرياء‪ ،‬وإنما‬ ‫يشكلون مجموعة من المتساوين األنداد‪ .‬يجلسون جنبا لجنب لحكم كتلة كبيرة من‬ ‫الناس الموحدين المتضامنين‪ .‬وإن هذا المجتمع الالئكي المتمدن بدا وكأنه تخلى عن‬ ‫الزمن التقليدي الذي كانت تضبطه أجراس الكنيسة التي تقرع بانتظام واكتسح زمانا‬ ‫جماعيا تقرع فيه من حين لحين‪ ،‬وبشكل غير منتظم‪ ،‬أجراس الئكية تنادي للقيام‬ ‫بانتفاضة‪ ،‬أو تنادي من أجل الدفاع‪ ،‬أو من أجل تقديم يد المساعدة"‪.‬‬ ‫تبدو الصورة التي يقدمها روسييو عن المدينة مثالية لحد ما على اعتبار أن‬ ‫صاحبها ينظر إلى سكان المدينة باعتبارهم مجتمعا متساويا‪ .‬في حين رأينا فيما مضى‬ ‫كيف أن نخبة هي التي تسيطر وتمارس السلطة وتشرف على جباية الضرائب التي‬ ‫يتجلى فيها اإلجحاف في حق فئات عريضة من السكان‪ ،‬ما فتأ عددهم يتزايد وبؤسهم‬ ‫يتعمق ويقتضي الحديث فعال عن أوربا البؤس الحضري‪.‬‬ ‫ويبدو أن ثمة ما يشفع هذه الصورة المثالية‪ ،‬ألن النموذج البورجوازي هو في‬ ‫حد ذاته نموذج يقوم على التساوي‪ .‬ويرمي في كل حال إلى إرساء تدرج أفقي وليس‬ ‫الى تدرج عمودي كما هو الشأن بالنسبة لمجتمع البوادي‪ .‬ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن‬ ‫عالم البورجوازية كانت تخترقه أسطورة "المائدة المستديرة" التي تسمح بالحلم‬ ‫بمجموعة من األفراد المتساوين يجلسون سويا حول مائدة مستديرة‪ .‬وفي هذا الحلم‬ ‫كان ينتفي التدرج باستثناء تميز فرد واحد قائد هو الملك أرثور (‪ .)Arthur‬ولكن‬ ‫الحلم الوارد ذكره هو حلم أرستقراطي ينشد المساواة بين األرستقراطيين‪ .‬ولكن‬ ‫المساواة في أوساط البورجوازية لم تكن تستند إلى أية حقيقة في واقع األمر‪ ،‬ورغم‬ ‫ذلك تبنت البورجوازية هذا النموذج النظري القروسطوي‪.‬‬ ‫وإذا كان روسييو قد أحاط بمختلف العناصر التي تسمح بتعريف المدينة‪ ،‬فكيف‬ ‫يمكن تعريف الحضري أي ساكن المدينة ؟ جوابا على هذا السؤال أحيل القارئ مرة‬ ‫أخرى على نفس الباحث الذي سأعزز تعريفه لساكن المدينة بما أورده موريس لومبار‬ ‫بدوره في الموضوع‪.‬‬ ‫يعتبر روسييو "الحضري فردا نموذجيا متفردا عن سائر أفراد العصر‬ ‫الوسيط‪ .‬ويتساءل ما هي العناصر المشتركة بين البورجوازي والمتسول‪ ،‬بين الكاهن‬ ‫(‪ )le chanoine‬والمومس وكلهم يحملون صفة حضريين؟ وما هي نقاط االلتقاء بين‬ ‫أحد سكان فلورنسا وأحد سكان مونتبريزون (‪ )Montbrison‬بمقاطعة اللوار؟ فإذا‬ ‫كانت أوضاعهما االجتماعية وأنماط تفكيرهما مختلفة‪ ،‬فإنهما يقطنان معا المدينة‪ .‬وال‬ ‫ش ك أن رجل الدين الكاهن قد يلتقي الموس في الطريق‪ .‬وقد يحدث نفس األمر بين‬ ‫البورجوازي والمتسول‪ .‬ال يستطيع أحدهم تجاهل اآلخر‪ .‬وكلهم يعيشون مندمجين في‬ ‫مجال ضيق يقتضي أشكاال من االجتماع غير مألوفة أو معروفة في القرية‪ .‬ويتبعون‬

‫‪120‬‬

‫نمطا معينا من الحياة‪ .‬ويستعملون النقود في حياتهم اليومية‪ .‬كما يضطر بعضهم إلى‬ ‫االنفتاح على العالم الخارجي لضرورات خاصة"‪.‬‬ ‫وينظر موريس لومبار من جانبه إلى أحد الحضريين وهو تاجر‪".‬بأنه عنصر‬ ‫مهم في شبكة تربط بين مختلف المراكز‪ .‬وهو رجل منفتح على العالم الخارجي‪،‬‬ ‫مرهف اإلحساس تجاه التأثيرات القادمة عبر الطرق من مختلف المدن إلى المدينة‬ ‫التي يقيم بها‪ .‬وإن هذا الرجل يطور وظائفه السيكولوجية على الدوام بفضل انفتاحه‬ ‫على العالم الخارجي"‪.‬‬ ‫والمحصلة هي أن الحضري فرد يستفيد من ثقافة جماعية تساهم في صياغتها‬ ‫المدرسة‪ ،‬والساحة العمومية‪ ،‬والحانة‪ ،‬والمسرح‪ ،‬والكنيسة‪.‬‬ ‫وكما ساهمت المدينة في تكوين الفرد‪ ،‬ساهمت في تحرر الرجل والمرأة معا‪.‬‬ ‫كما ساهمت في تطور بنية األسرة‪ ،‬من خالل التحوالت التي طرأت على المهر‪ ،‬حيث‬ ‫أضحى في الوسط الحضري عبارة عن أموال منقولة (‪ )des biens meubles‬أو‬ ‫نقود في األغلب األعم‪.‬‬ ‫وتأسيسا على ما تقدم‪ ،‬يمكن القول بأن المدينة هي شخصية مكونة من أشخاص‬ ‫تعمل دوما على صقلهم‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإن أوربا الحضرية ال زالت إلى اليوم تحتفظ‬ ‫بخصائص كثيرة أساسية ورثتها عن مدن العصر الوسيط‪.‬‬ ‫ثانيا ‪ :‬النجاح التجاري‪ .‬أوربا التجار‬ ‫إذا كان القرن الثالث عشر قرن المدن‪ ،‬فقد كان أيضا قرن صحوة وتطور نشاط‬ ‫ارتبط بالمدن ارتباطا وثيقا وهو النشاط التجاري‪.‬‬ ‫أ) التاجر االيطالي والتاجر الهانسياتي‬ ‫يندرج انتعاش المبادالت البعيدة المدى منذ القرن الثاني عشر في إطار ما بات‬ ‫يعرف اليوم "بالثورة التجارية"‪ .‬فقد شهد العالم المسيحي فترة هدوء واستقرار نسبيين‪.‬‬ ‫وال مجال هنا لإلنكاربأن الحرب الصليبية كانت واجهة اخفت وراءها مبادالت تجارية‬ ‫نشيطة بين أنحاء العالم المسيحي ظهر في ضوئها قطبان تجاريان مهمان ‪ :‬واحد في‬ ‫البحر المتوسط والثاني في الشمال‪ .‬فكان على المسيحيين إيجاد موقع لهم بين قطب ذي‬ ‫صبغة إسالمية وقطب ذي صبغة سالڤو‪ -‬اسكندناڤية‪ .‬ولذلك تشكلت مجموعتان من‬ ‫المدن التجارية هما مجموعة المدن االيطالية ومجموعة مدن شمال ألمانيا‪ .‬ومن هنا‬ ‫بزغ نجم التجار االيطاليين والتجار الهانسيين‪ .‬وقد قامت بطبيعة الحال بين‬ ‫المجموعتين مراكز اتصال تفردت بكونها جمعت بين النشاط التجاري والنشاط‬

‫‪121‬‬

‫الصناعي‪ .‬وأهم مراكز االتصال المشار إليها قامت في شمال غرب أوربا‪ ،‬أي في‬ ‫جنوب شرق أنجلترا‪ ،‬وفي كل من مناطق نورمانديا والفالندر وشامبانيا‪.‬‬ ‫ب) التاجر األوربي المتجول‬ ‫عرف التاجر األوربي خالل العصر الوسيط بكونه كان تاجرا متجوال قبل كل‬ ‫شيء‪ ،‬نظرا للحالة المتردية لشبكة الطرق‪ ،‬ونظرا لمحدودية وسائل نقل البضائع‪،‬‬ ‫ونظرا النعدام األمن‪ ،‬وربما‪ ،‬وهنا األهم‪ ،‬نظرا لثقل المكوس وضرائب حق المرور‬ ‫التي كان يفرضها السنايير والمشرفون على إدارة المدن‪ ،‬وكل شخص أو طرف تقع‬ ‫قنطرة أو ممر أو معبر في مجال نفوذه‪ .‬ولعل أهم مكسب تحقق لصالح التجارة البرية‬ ‫خالل القرنين الثاني عشر والثالث عشر تمثل في تشييد عدد من القناطر على بعض‬ ‫األودية‪ .‬وأشهرها على اإلطالق الجسر المعلق الذي تم انجازه سنة ‪ 1237‬عبر ممر‬ ‫ﯕوثار (‪ )le Gothard‬في جبال األلب‪ ،‬والذي سمح بتقليص المسافة بين ايطاليا‬ ‫وألمانيا‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬كان التجار يفضلون استعمال المجاري المائية‪ .‬فاستعملوا‬ ‫األنهار‪ ،‬مثل نهر البو وروافده‪ ،‬والممر"الروداني" الممتد نحو نهري الموزيل‬ ‫والموز‪ ،‬وشبكة األنهار الفالمانية التي تم تعزيزها بعدة قناطر اصطناعية وسدود‬ ‫حاجزة‪ .‬كما استعملوا البحار رغم المخاطر‪ ،‬التي زادت من تضخيمها الحكايات‬ ‫المتاوترة عن البحر‪ .‬ويمكن اعتبار العصر الوسيط عصر انبثاق أوربا البحر‪ .‬وقد‬ ‫واكب هذا االنبثاق تطور بطيء‪ ،‬ولكن حاسم‪ ،‬تجلى في زيادة حمولة بعض المراكب‪،‬‬ ‫وفي ا نتشار استعمال الدفة والشراع الالتيني‪ ،‬والبوصلة والخرائط‪ .‬ولكن هذه‬ ‫التطورات لم تفض في الواقع إلى الرفع من وتيرة التجارة البحرية التي أضحت مع‬ ‫ذلك أقل تكلفة من التجارة البرية‪.‬‬ ‫ج) معارض منطقة شامبانيا‬ ‫يمثل انعقاد معارض شامبانيا ابتداء من نهاية القرن الثاني عشر حدثا تجاريا‬ ‫كبيرا‪ .‬كما يمكن اعتباره احد أبرز مظاهر الثورة التجارية‪ ،‬والمظهر ذي البعد‬ ‫األوربي يامتياز‪.‬‬ ‫كانت هذه المعارض تقام في أربعة مراكز هي النيي (‪ ،)Lagny‬وبارعلى نهر‬ ‫أوب (‪ ،)Bar-sur-Aube‬وبروڤان (‪ ،)Provins‬وتروا (‪ .)Troyes‬وكانت تنعقد‬ ‫بشكل متتالي على امتداد السنة على النحو اآلتي ‪ :‬في النيي خالل شهري يناير‬ ‫وفبراير‪ ،‬وفي بار خالل شهري مارس وأبريل‪ ،‬وفي بروڤان خالل شهري مايو‬ ‫ويونيو‪ ،‬وفي تروا خالل شهري يوليوز وغشت‪ ،‬تم في بروڤان من جديد خالل شهري‬ ‫شتنبر وأكتوبر بمركز القديس أيول (‪ .)Saint Ayoul‬ثم تنعقد مرة أخرى في تروا‬

‫‪122‬‬

‫خالل شهري نونبر ودجنبر بمركز القديس ريمي (‪ .)Saint Rémi‬فبدت وكأنها‬ ‫سوق تجاري كبير ودائم في غرب أوربا‪ .‬ولذلك كان تجار وسكان المراكز السالف‬ ‫ذكرها يحضون بامتيازات مهمة‪ .‬كما أن نجاح هذه المعارض عزز سلطات أقماط‬ ‫شامبانيا‪ ،‬ال ذين اشتهروا بكونهم أحسنوا تدبير تلك التظاهرة التجارية‪ .‬فكانوا ال‬ ‫يشتطون في فرض الضرائب‪ ،‬كما حرصوا على حسن سير المعامالت داخل هذه‬ ‫األسواق‪.‬‬ ‫وكان يشرف على عمليات تأمين األسواق ومراقبة عمليات البيع والشراء طاقم‬ ‫من التجار في بداية األمر‪ .‬ولكن ابتداء من سنة ‪ 1284‬أصبح يقوم بهذه المهام‬ ‫موظفون مختصون تابعون للمملكة‪ ،‬فغدت تلك المعارض بحق عبارة عن مركز‬ ‫للمبادالت‪ .‬عده البعض بمثابة " نواة مؤسسة مقاصة"‪ ،‬ألن عمليات تسديد الديون فيها‬ ‫كانت تتم عن طريق المقاصة (‪ .)la compensation‬ويفيد هذا األمر بأن االقتصاد‬ ‫القائم على المبادالت التجارية ال يمكن أن يتطور إال بدعم من السلطة السياسية وأيضا‬ ‫تحت إشرافها‪ .‬وقد انتظم النشاط التجاري‪ ،‬خالل القرنين الثاني عشر والثالث عشر‪،‬‬ ‫حول العقود والجمعيات التجاري ولكن صالحية هذه األخيرة ارتبطت بسلسلة محدودة‬ ‫من العقود ولمدة محدودة أيضا‪ .‬وكان يجب انتظار نهاية القرن الثالث عشر لتظهر‬ ‫مؤسسات تجارية حقيقية‪.‬‬ ‫‪ )1‬مشاكل نقدية‬ ‫كانت هذه التجارة الدولية تقتضي وجود أداة نقدية قوية وقابلة لالنتشار بدل‬ ‫العمالت الفيودالية التي كانت متداولة آنذاك‪ .‬وقد لجأ األوربيون الستعمال وحدة النقد‬ ‫البيزنطية‪ ،‬حتى حدود القرن الثاني عشر‪ ،‬لتحقيق هذا الهدف‪ .‬ويبدو أن تنامي‬ ‫المبادالت التجارية تجاوز اإلمكانيات التي كان يتيحها استعمال العملة البيزنطية‪ ،‬فعاد‬ ‫األوربيون لمشروع فكر فيه شارلمان ثم تخلى عنه وهو استعمال الذهب في سك‬ ‫العملة‪ .‬فتزعمت جنوة هذه العملية منذ سنة ‪ ،1252‬ثم تلتها فرنسا ابتداء من سنة‬ ‫‪ .1266‬وانخرطت باقي المدن‪-‬الدول االيطالية إتباعا في ذات العملية‪ .‬ورغم اإلقبال‬ ‫الذي حظيت به هذه العمالت من قبل المتعاملين‪ ،‬فإن تعددها كان في حد ذاته مشكلة‬ ‫حدت من تنامي المبادالت التجارية‪ .‬فالنظام الفيودالي تميز بالتجزئة‪ ،‬كما هو معروف‪.‬‬ ‫وقد انعكست هذه التجزئة سلبا على عملية التداول النقدي‪ ،‬التي لم يكن ممكنا أن تتحقق‬ ‫إال بوجود عملة موحدة‪ ،‬أو بوجود عدد محدود من العمالت على األقل‪.‬‬ ‫‪ )2‬أوربا التجار‬

‫‪123‬‬

‫أخذ عدد التجار المتجولين‪ ،‬الذين سبق الحديث عنهم‪ ،‬يتراجع لفائدة التجار‬ ‫المستقرين‪ .‬كان الواحد من هؤالء التجار يمارس نشاطه بواسطة مجموعة من‬ ‫المحاسبين والوكالء والممثلين‪ ،‬وعدد من األعوان‪ ،‬يمكن تسميتهم بالسعاة‪ .‬كانوا‬ ‫مقيمين خارج منطقة إقامة التاجر المستقر ويتلقون منه التعليمات‪ ،‬ثم يقومون بتنفيذ‬ ‫تلك التعليمات‪ .‬ومن هذا المنطلق تنوعت طبقة التجار الذين يمكن التمييز فيهم‪،‬‬ ‫اعتمادا على ما أورده الباحث رايمون دي روڤر )‪ 47)Raymond de Roover‬في‬ ‫الموضوع‪ ،‬بين فئة المقرضين‪ ،‬المعروفين في أوساط التجار باسم "اللومبارديين"‬ ‫و"الكاهورسيين" (على اعتبار أن االيطاليين وأثرياء مدينة كاهور(‪ )Cahors‬عرفوا‬ ‫في أوساط العموم بكونهم أشهر المانحين للقروض مقابل فائدة)‪ .‬وكانوا يقدمون‬ ‫قروضا مقابل ضمانات أعلى قيمة من تلك التي يشترطها اليهود المانحين لقروض‬ ‫االستهالك‪ .‬والى جانب المقرضين‪ ،‬هناك فئة الصيارفة الذين كانوا يقومون بالعملية‬ ‫المالية األكثر شيوعا في العصر الوسيط نظرا لتعدد العمالت المتداولة‪ .‬وهناك فئة‬ ‫المشتغلين بالكمبياالت‪ ،‬الذين كانوا بمثابة تجار بنكيين‪ .‬وقد كانوا في األصل صيارفة‪،‬‬ ‫فأضافوا إلى االشتغال في صرف العمالت‪ ،‬االشتغال في االستئمان على الودائع‬ ‫واالستثمار في القروض‪ .‬وبفضل نشاطهم أخذت تنبثق أوربا األبناك‪.‬‬ ‫وفي ضوء ما تقدم‪ ،‬يمكن التذكير بما قيل سابقا‪ ،‬وهو أن العالم الذي احتضن‬ ‫أنشطة التجار‪ ،‬كان عالم المدن بصفة خاصة‪ .‬ورغم أن عددا من تجار ايطاليا كانوا‬ ‫ينتمون إلى ما يعرف "بالشعب"‪ ،‬فالواقع أن أوالئك التجار كانوا يتألفون من شريحتين‬ ‫تبعا لثرواتهم ونفوذهم السياسي‪ .‬وقد كانت هذه الحقائق االجتماعية ذات قيمة كبرى‬ ‫وأهم من التمايز القانوني‪ .‬والدليل على ذلك هو أن حق انتماء الفرد للبورجوازية لم‬ ‫تكن له قيمة قياسا مع الثروة والدور االقتصادي والسياسي داخل المدينة‪ .‬وهذا ما‬ ‫يذهب إليه أيضا الباحث إيف رنووار )‪ )Yves Renouard‬حين يؤكد "بأن الهيمنة‬ ‫السياسية لرجال األعمال أفضت إلى إرساء نظام طبقي"‪ .48‬وتجلت هذه الهيمنة في‬ ‫عدة أوجه‪ .‬فقد استفادوا من انتشار العمل مقابل أجر في أوساط العمال الحرفيين‬ ‫‪ - 47‬مؤرخ من أصل بلجيكي حمل الجنسية األمريكية‪ .‬ولد سنة ‪ 1904‬وتوفي سنة ‪ .1972‬حاضر في تاريخ أوربا‬ ‫الوسيط بجامعتي هارڤارد وشيكاﯕو‪ ،‬وكذلك بكوليج بوسطن وكوليج بروكلين‪.‬‬ ‫اشتهر بالبحث في التاريخ االقتصادي عامة‪ ،‬وبالبحث في المبادالت التجارية والمؤسسات المالية بشكل خاص‪ .‬ومن‬ ‫بين مؤلفاته ‪← :‬‬ ‫‪- Money, banking and credit in medieval Bruges, Cambridge, Medieval Academy of‬‬ ‫‪America, 1948.‬‬ ‫‪- L’évolution de la lettre de change, XIVe-XVIIIe siècle, Paris, Les Editions de l’Ecole des‬‬ ‫‪Hautes Etudes en Sciences Sociales, 1953.‬‬ ‫‪ - 48‬لمزيد من التفاصيل يمكن االطالع على كتاب رنووار ‪:‬‬ ‫‪Les hommes d’affaires italiens au Moyen Age, Paris, A. Colin, 1949.‬‬

‫‪124‬‬

‫والعمال الصناعيين‪ ،‬فهيمنوا على سوق الشغل عن طريق تثبيت األجور‪ .‬كما هيمنوا‬ ‫على سوق العقار ألنهم كانوا مالكين للعقارات ومنعشين عقاريين في نفس الوقت‪.‬‬ ‫وفضال عن ذلك‪ ،‬سمح لهم انتماؤهم لمجالس المدن بممارسة تأثير في النظام الجبائي‬ ‫الذي أرادوه أن يكون مجحفا وغير عادل لكي يستمر التمايز االجتماعي‪ .‬ويمكن‬ ‫االستدالل على ذلك بنص من كتاب وضعه رجل القانون فليب دو بومنوار‬ ‫)‪ ،(Philippe de Beaumanoir‬في النصف الثاني من القرن الثالث عشر‪ ،‬يسلط‬ ‫الضوء على جذور الالمساواة في أوربا الحضرية يقول فيه ‪ " :‬لقد رفعت تظلمات‬ ‫كثيرة في مدن الكمونات في موضوع ضريبة الرأس )‪ .)la taille‬ألنه اتضح أن‬ ‫األغنياء الذين يشرفون على تدبير شؤون المدينة يصرحون بأقل مما يتوجب عليهم‬ ‫دفعه‪ ،‬هم وذووهم‪ .‬ويساعدون األغنياء اآلخرين في االستفادة من نفس االمتيازات‪.‬‬ ‫وهكذا يقع كل الثقل على البسطاء من الناس"‪ .49‬لقد كان التنصل الضريبي قويا‪،‬‬ ‫بحيث كانت تترتب عنه فضائح كبرى من حين آلخر‪ .‬كما حدث في مدينة آراس‬ ‫)‪ )Arras‬على سبيل المثال‪ ،‬حيث إن أحد أفراد أسرة "الكريسبيين" )‪)les Crespin‬‬ ‫الشهيرة بمزاولتها لألعمال المصرفية "تناسى" بأن يصرح بمبلغ أرباح قيمته ‪000‬‬ ‫‪ 20‬ليرة‪ .‬وهو األمر الذي يستحق القول بأن أوربا التملص الضريبي‪ ،‬قد انطلقت فعال‪.‬‬ ‫‪ )3‬مبرر وجود النقد‬ ‫كان ينظر الى كل تاجر في بداية األمر‪ ،‬وخالل القرن الثاني عشر أيضا‪،‬‬ ‫كشخص يمارس الربا بشكل أو بآخر‪ .‬ومثل هذا النشاط كانت تدينه الكنيسة‪ .‬ولكن حين‬ ‫انحصر العمل الربوي في أوساط اليهود‪ ،‬وتقوت سلطة التجار‪ ،‬أخذت الكنيسة تبرر‬ ‫شيئا فشيئا األرباح التي كان يجنيها التجار‪ .‬ولكنها لم تضع حدا واضحا بين األرباح‬ ‫المشروعة واألرباح غير المشروعة‪ .‬وتتضمن المبررات التي قدمتها الكنيسة عناصر‬ ‫ذات صلة بتقنيات التجارة نفسها‪ .‬من ذلك مثال‪ ،‬أن الكنيسة أجازت للتاجر الذي لحقه‬ ‫ضرر من جراء تأخير في استالم بضاعة‪ ،‬أو ما شابه ذلك‪ ،‬الحق في المطالبة‬ ‫بتعويض‪.‬‬ ‫وعموما‪ ،‬فإن تلك المبررات تسمح بالقول بأن ممارسة التجارة أدخلت في أذهان‬ ‫األوربيين وأخالقهم مبادئ جديدة مثل الصدفة‪ ،‬والمخاطر‪ ،‬وعدم اليقين‪ .‬كما أدخلت‬ ‫مبدءا مهما‪ ،‬سيتم التوقف عنده بعد حين‪ ،‬هو مبدأ تبرير‪ ،‬أو شرعنة‪ ،‬الربح الذي يجنيه‬ ‫‪ - 49‬النص الذي نقله جاك لو ﯕوف ورد في كتاب "‪ "Coutumes de Beauvaisis‬الذي حققه وقدم له أميدي سلمون‬ ‫)‪ ،)Amédée Salmon‬وصدر بباريس في جزئين سنتي ‪ 1889‬و‪ .1890‬والكتاب من وضع فليب دو بومانوار الذي‬ ‫ولد سنة ‪ 1250‬وتوفي سنة ‪ .1296‬شغل منصب "بايي" (‪ )Bailli‬في عدة مقاطعات بغالة‪ ،‬زمن حكم الملك سان لويس‪.‬‬ ‫فاستغل تجربته في التدبير واالشراف على شؤون القضاء في وضع المؤلف المذكور‪ ،‬الذي يقع في أكثر من ألف صفحة‬ ‫موزعة على ‪ 70‬فصال تعرض فيها للقوانين واألعراف التي كانت تنظم المعامالت بين األفراد‪.‬‬

‫‪125‬‬

‫التاجر‪ .‬إذ أصبح ينظر إلى هذا الربح كأجر أو كراتب يتقاضاه التاجر مقابل عمل يقوم‬ ‫به‪ .‬وساهم أقطاب الفكر المدرسي "السكوالتي" بدورهم في الترويج لفكرة مفادها أن‬ ‫أعمال التجار تروم تحقيق المنفعة العامة‪ .‬وتندرج في هذا السياق تصريحات بعض‬ ‫علماء الالهوت‪ ،‬أمثال بوركهارد الستراسبورغي ‪Burchard de) Strasbourg)50‬‬ ‫وتوماس الشوبهامي )‪ .51)Thomas de Chobham‬فقد صرح األول يوما بقوله ‪:‬‬ ‫"إن التجار يعملون من أجل منفعة عموم الناس‪ ،‬ولما فيه خير الجميع بحملهم البضائع‬ ‫إلى األسواق والمعارض"‪ .‬بينما أكد الثاني ‪" :‬بأن الفاقة ستكون عظيمة في عدة دول‬ ‫إن لم ينقل التجار ما يزيد عن الحاجة من بضائع إحدى الجهات إلى جهة أخرى تحتاج‬ ‫إليها‪ .‬وعلى هذا األساس فهم يستحقون الحصول على راتب مقابل عملهم"‪ .‬وفي ضوء‬ ‫هذه المواقف يتضح اذن بأن التجارة الدولية أضحت ضرورة يريدها هللا وتنسجم تماما‬ ‫مع قدرته‪.‬‬ ‫وكان من نتائج تعاظم الهالة التي أصبحت تحيط بالتجار‪ ،‬وتزايد نفوذهم‪ ،‬أن‬ ‫تغيرت مواقف عموم األوربيين‪ .‬فغدت النقود أساس وقوام المجتمع‪ .‬ورغم ذلك لم يبد‬ ‫التجار أية معارضة منهجية لمنظومة قيم أفراد األرستقراطية‪ .‬بل حاولوا تقليدهم في‬ ‫نمط عيشهم والظهور بمظهرهم‪ .‬وقاموا أيضا باقتناء األراضي التي اعتمدوا في‬ ‫استثمارها على الفالحين على غرار ما كان يقوم به أفراد األرستقراطية‪ .‬وأنفقوا جانبا‬ ‫من ثرواتهم النقدية في أعمال البر واإلحسان كتقديم الصدقات واألعطيات‪ ،‬وبناء‬ ‫مراكز صحية في الحواضر‪ .‬وكانوا يبتغون من وراء تلك األعمال التكفير عن ذنوبهم‬ ‫أمال في الحصول على الخالص الذي ظلت الكنيسة حتى حدود القرن الثالث عشر‬ ‫ترفض منحه للمشتبه في مزاولتهم ألعمال الربا‪.‬‬ ‫وفي ذات السياق‪ ،‬ال بأس من إثارة انتباه القارئ إلى مسألة أراها على جانب‬ ‫من األهمية‪ ،‬وهي أن عددا من التجار انخرطوا منذ القرن الثالث عشر في عمليات‬ ‫تشييد كنائس جديدة‪ .‬وأغدقوا األموال على الرسامين والنحاتين لزخرفتها وتزيينها‪.‬‬ ‫ويمكن هنا ذكر ما قام به بعض تجار فلورنسا الذين قدموا مبلغا ماليا مغريا للفنان‬ ‫الشهير جيوتو)‪ )Giotto‬نظير زخرفة وتزيين بعض كنائس المدينة‪ .‬فكانوا أول نفر‬ ‫من الناس امتلكوا حس الجمال في هذا الوقت المبكر‪ .‬وهو األمر الذي يدعو للحديث‬ ‫عن نوع من التحالف الغير منتظر بين المال والجمال‪.‬‬

‫‪ - 50‬رجل دين من أصل فرنسي‪ .‬كان يشغل منصب موثق في قصر االمبراطور فردريك األول بربروسا الذي أرسله‬ ‫سنة ‪ 1175‬مبعوثا الى القاهرة ودمشق إلبرام معاهدة صلح مع صالح الدين األيوبي‪.‬‬ ‫‪ - 51‬رجل دين أنجليزي ولد سنة ‪ 1160‬وتوفي بين سنتي ‪ 1233‬و‪ .1236‬درس الالهوت والقانون بباريس‪ .‬واشتهر‬ ‫بالبحث في التشريع الجنائي الذي وضع فيه مؤلفا رأى فيه الباحثون المحدثون نوعا من "مدونة عقوبات"‪.‬‬

‫‪126‬‬

‫وفي ضوء تنامي المبادالت التجارية‪ ،‬ال يمكن إغفال الحديث عن تطور تقنيات‬ ‫التجارة‪ ،‬وخاصة منها ما له صلة بالكتابة التي أضحت أداة أساسية في عمل التجار‬ ‫والمشتغلين بالصيرفة‪ .‬واقتضت منهم‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬تحسين مستواهم الثقافي‪.‬‬ ‫فظهرت‪ ،‬في سياق هذا الطلب‪ ،‬مؤسسات تقدم دروسا في مجال تحرير الفواتير‬ ‫والعقود والمستندات وما شاكلها‪ ،‬والحساب والجغرافيا واللغات الحية‪ .‬وتبدو عملية‬ ‫الكتابة‪ ،‬أو التحرير‪ ،‬ضرورية إذا ما علمنا بأن أحد تجار جنوة لم يفته أن ينبه زمالئه‬ ‫بضرورة تدوين كل صغيرة وكبيرة قبل أن يطالها النسيان‪ .‬وعاد تاجر فلورنسي‪،‬‬ ‫عقودا بعد ذلك‪ ،‬ليؤكد بدوره ضرورة أال يتكاسل التاجر في تدوين ما يقوم به من‬ ‫أعمال‪ .‬بل إن بعض المنتمين ألوساط التجار لم يكتفوا بإسداء النصح لزمالئهم‪ ،‬بل‬ ‫تجشموا عناء وضع مؤلفات في مجال تقنيات التدوين والحساب كما هو الشأن بالنسبة‬ ‫لاليطالي ليوناردو فيبوناتشي )‪ )Leonardo Fibonnacci‬الذي وضع مصنفا في‬ ‫علم الحساب سنة ‪ .1202‬فقد كان ابن أحد البيزويين الذي عمل ضابطا جمركيا‬ ‫لحساب جمهورية البندقية في بجاية بشمال إفريقيا‪ .‬فترعرع ابنه ليوناردو في مدينة‬ ‫بجاية‪ .‬ولما شب سافر كثيرا في مهام لحساب أبيه‪ .‬واختلط خالل أسفاره إلى مصر‬ ‫وسوريا وجزيرة صقلية بالتجار المسلمين‪ .‬فتعلم كثيرا من مبادئ الرياضيات العربية‬ ‫التي نقلها العرب عن الهنود‪ .‬ونقل إلى األوربيين األرقام العربية‪ ،‬وأهمها الصفر الذي‬ ‫يعد ابتكارا أساسيا في الترقيم‪ ،‬كما نقل كثيرا من القواعد التي تقوم عليها بعض‬ ‫العمليات الحسابية‪.‬‬ ‫وعلى كل‪ ،‬فعند انصرام القرن الثالث عشر حقق التجار مكسبين مهمين‪ ،‬كانا‬ ‫حتى ذلك التاريخ يبدوان متقابلين‪ ،‬وهما الرفاه المادي واالستقرار الروحي‪ .‬فقبل ذلك‪،‬‬ ‫كانوا يجنون األموال‪ ،‬ولكنهم كانوا يتعذبون‪ .‬فالصرة التي كان يضع فيها كل واحد‬ ‫منهم تلك األموال ويربطها حول عنقه‪ ،‬كانت تبدو كطوق يجذب منه نحو جهنم‪ .‬وقد‬ ‫جسدت هذا المشهد كثير من الرسومات والجداريات‪ .‬أما بعد القرن الثالث عشر‪،‬أصبح‬ ‫بمقدورالتاجراالحتفاظ بتلك األموال واالنتقال بها الى المطهر )‪،52)le purgatoire‬‬

‫‪ - 52‬يعتقد المسيحيون الكاثوليك بأن المسيحي المؤمن التقي يذهب الى الجنة بعد الممات‪ ،‬بينما يذهب الكافر وكثير الذنب‬ ‫الى جهنم‪ .‬وهناك فئة من المؤمنين القليلي الذنوب يحتاجون بعد الممات‪ ،‬وقبل مالقاة ربهم‪ ،‬الى عملية تطهير تتم في‬ ‫مطهر عبر عذاب موقوت للتخلص من تلك الذنوب قبل دخول الجنة‪.‬‬ ‫وبما أن الكتاب المقدس ال يتضمن نصوصا صريحة تتحدث عن التطهير‪ ،‬فقد اختلف المسيحيون القدامى والمحدثون‬ ‫حول المطهر بين قائل بأنه "فضاء" بين السماء وجهنم‪ ،‬وقائل بأنه "حالة انتظار" قبل الحصول على الغفران‪.‬‬ ‫لمزيد من التفاصيل يمكن العودة الى الكتابين التاليين على سبيل المثال ال الحصر ‪:‬‬ ‫‪- Jacques Le Goff, La naissance du purgatoire, Paris, Gallimard, 1981.‬‬ ‫‪- Guillaume Cuchet, Le purgatoire. Fortune historique et historiographie d’un dogme, Paris,‬‬ ‫‪Les Editions de l’Ecole des Hautes Etudes en Sciences Sociales, 2012.‬‬

‫‪127‬‬

‫ليمكث به فترة قصيرة أو طويلة‪ ،‬قبل أن يستكمل طريقه نحو الجنة‪ .‬وبذلك نجح‬ ‫التجار في إحداث المصالحة بين "الصرة والحياة"‪.‬‬ ‫‪ )4‬االيطاليون والهانسيون‬ ‫اقتسم شعبان السيطرة على تجارة القرن الثالث عشر وهما االيطاليون‪ ،‬الذين‬ ‫سيطروا على تجارة البحر المتوسط‪ ،‬واأللمانيون الذين سيطروا على تجارة المجال‬ ‫الممتد من الجزر البريطانية ومنطقة الفالندر حتى بحر البلطيق‪ .‬وإذا كان التجار‬ ‫االيطاليون قد تمكنوا من التواجد بكثافة في العالم البيزنطي‪ ،‬وعلى أطراف العالم‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬وسجلوا حضورا في منطقة الفالندر‪ ،‬فإنهم لم يستطيعوا مع ذلك بلوغ‬ ‫مستوى التوسع الذي حققه التجار الهانسيون‪ .‬وال غرو في ذلك‪ ،‬فالتجار الهانسيون هم‬ ‫ورثة تجار العصر الوسيط األعلى‪ ،‬وخاصة منهم‪ ،‬الفريزيون والفالمانيون‪ .‬لكنهم‬ ‫تميزوا عنهم بدينامية أكبر وباالتجار في بضائع أكثر كمية‪ .‬ولذلك تراجعت تييل‬ ‫)‪ )Tiel‬الواقعة على دلتا نهرالراين منذ القرن الثاني عشر لصالح أوتريخت‪.‬‬ ‫وأصبحت محج التجار الفالمانيين والفريزيين‪ ،‬باإلضافة إلى التجار الرينانيين ( ‪les‬‬ ‫)‪ Rhénans‬والسكسونيين والدانيين والنرويجيين‪ .‬بينما أضحت مدينة بروج أهم‬ ‫مركز تجاري في األراضي المنخفضة‪ .‬وكان هؤالء التجار يقومون بعمليات استيراد‬ ‫وتصدير لمواد متنوعة مثل خمور مناطق الراين‪ ،‬التي كانت تنافس الخمور الفرنسية‪،‬‬ ‫وبعض األدوات المعدنية‪ ،‬واألحجار الكريمة‪ ،‬واألقمشة الفارهة‪ ،‬والدروع‪.‬‬ ‫ورغم ما قيل في حق هؤالء التجار‪ ،‬فقد فاقهم تجار مدينة كلونيا )‪)Cologne‬‬ ‫الذين كانوا يعرضون بضائعهم في أسواق الجزر البريطانية غربا‪ ،‬وفي أسواق‬ ‫الدانمارك شرقا‪ .‬ويبدو أنهم حققوا نجاحا منقطع النظير في األسواق البريطانية بدليل‬ ‫أنهم منحوا حق المقام بمدينة لندن منذ سنة ‪ .1130‬ووضعت رهن إشارتهم إقامة على‬ ‫ضفاف نهر التاميز)‪ )la Tamise‬إلى األعلى بمحاذاة قنطرة لندن‪ .‬وقد حولوا تلك‬ ‫اإلقامة إلى مركز أعمال‪ .‬ولم تكد تمض بضع سنوات على استفادتهم من هذا االمتياز‬ ‫حتى منحهم الملك هنري الثاني حماية خاصة سنة ‪.1157‬‬ ‫وانضم البحارة‪-‬الفالحون المنحدرون من جزيرة ﯕوتالند )‪ )le Gotland‬إلى‬ ‫هذه الحركة التجارية‪ ،‬فسيطروا على تجارة بحر البلطيق‪ ،‬وساهموا في إثراء مدينة‬ ‫نوڤﯕرود )‪ )Novgorod‬رغم وجود بعض التجار الروس في هذا المجرى المائي‪.‬‬ ‫ويبدو أن النمو المطرد الذي شهدته المدن خالل القرن الثالث عشر أفضى إلى‬ ‫تغير المشهد التجاري بشكل الفت‪ ،‬حيث ظهر إقليم الهانس األلماني على الواجهة‪.‬‬ ‫وسرعان ما تنامى دوره التجاري في ارتباط وثيق مع تطور حركة التمدين‪ .‬وقد‬ ‫خلص الباحث فليب دولنجر )‪ )Philippe Dollinger‬الذي تناول حيثيات هذه‬

‫‪128‬‬

‫التحوالت التي برزت تحت تأثير تجار المدن الهانسياتية وفق مخطط صاغه كما يلي ‪:‬‬ ‫"لقد ساهمت هجرة عدد من الفالحين والحرفيين في تزايد عدد سكان المدن‪ ،‬وخاصة‬ ‫منها تلك التي كانت تحتل موقعا متميزا‪ .‬كما كان يقيم بها عدد من التجار‪ .‬وكان يوجد‬ ‫في هذه المدن المحصنة حي خاص بالتجار‪ ،‬وكذلك مركز إداري قديم يشرف عليه‬ ‫مجموعة من رجال الدين‪ ،‬أو مجموعة من الالئكيين‪ .‬وفي هذه المدن كانت كل‬ ‫المعامالت العقارية والتجارية تنظم وفق منظومة قانونية موحدة وخاصة بالمدينة‪.‬‬ ‫وفضال عن ذلك‪ ،‬كانت تقيم في هذه المدن جالية مؤلفة من البورجوازيين تكونت وفق‬ ‫ميثاق‪ .‬وكان التجار المنضوين أحيانا في جمعيات (‪ )des guildes‬يهيمنون على هذه‬ ‫الجالية‪ .‬وقد استطاعت األسر الثرية االستحواذ على اإلدارة في هذه المدن التي تمكنت‬ ‫من تحقيق هامش كبير من االستقاللية عن السنيور المحلي‪ .‬ونشأت فيها بالتدريج‬ ‫مؤسسات إدارية يتحكم في تسييرها البورجوازيون"‪.53‬‬ ‫يجب التأكيد في سياق هذا النسق الذي اقترحه دولنجر على أهمية مسألة تكوين‬ ‫منظومة قانونية حضرية (خاصة بالمدينة) التي شرع في صياغتها منذ مطلع القرن‬ ‫الثالث عشر‪ .‬واعتبرت المنظومة القانونية الخاصة بمدينة دورتموند )‪(Dortmund‬‬ ‫نموذجية بالنظر لتأثيرها في القوانين المتبعة في كثير من مدن منطقة وستفاليا‪ ،‬التي‬ ‫كان المتعاملون فيها يلجأون إلى محاكم ومؤسسات دورتموند للبث في القضايا التي‬ ‫يستعصي البث فيها من قبل محاكم ومؤسسات مدنهم‪ .‬والجدير بالذكر في هذا المقام‬ ‫هو أن قوانين عدة مدن ألمانية مثل ﯕوسالر (‪ )Goslar‬وماﯕدبورﯕ‬ ‫(‪ )Magdebourg‬أضحت فيما بعد تؤلف "القانون األلماني"‪.‬‬ ‫ولعل أهم حدث يجب التوقف عنده‪ ،‬يتمثل في تشييد مدينة لوبيك (‪)Lñbeck‬‬ ‫سنة ‪ 1159‬من قبل أدولف الثاني قمط هولشتاين وفصل (‪ )vassal‬هنري األسد دوق‬ ‫سكسونيا‪ .‬والحقيقة أن أهمية الحدث ال تكمن في تأسيس المدينة‪ ،‬وإنما في كون القمط‬ ‫أسند عملية تشييدها وإدارتها إلتالف مكون من عدة مقاولين‪ .‬فغدت عقب تشييدها على‬ ‫رأس إمبراطورية حضرية وتجارية تسمى الهانس (‪ .)la Hanse‬وإن عددا مهما من‬ ‫تجار هذه المدينة هم الذين أسهموا بشكل فعال حتى منتصف القرن الثالث عشر في‬ ‫ثراء جزيرة ﯕوتالند‪ ،‬وفي ثراء تجارها‪ ،‬ألنهم أقاموا بها مدة من الزمن‪ .‬وبذلك قدر‬ ‫لمدينة لوبيك أن تتجاوز كثيرا مدينة ڤيسبي (‪ )Visby‬التي كانت تعد إحدى أهم مدن‬ ‫جزيرة ﯕوتالند‪ .‬وأخذت مكانها كأهم مركز في تجارة شمال أوربا‪ .‬وتجسد هذا الدور‬ ‫المتنامي في كون تجارها أصبحوا يستعملون مراكب بحرية ضاهت حمولتها حمولة‬ ‫‪ - 53‬يمكن العودة فيما يتعلق بتفاصيل هذا المخطط لكتاب دولنجر ‪:‬‬ ‫‪La Hanse (XIIe-XVIIe siècles), Paris, Aubier, 1964.‬‬

‫‪129‬‬

‫المراكب االيطالية‪ .‬وسيطروا على شبكة تجارية وبحرية تربط بين مدن قوية مثل‬ ‫روستوك (‪ )Rostock‬وسترالسوند )‪ )Stralsund‬وستيتين)‪ )Stettin‬ودانتزيﯔ‬ ‫)‪ )Dantzig‬وإلبينك )‪ .)Elbing‬وعمل التجارالنشطون في هذه الشبكة على ضم‬ ‫جهودهم لجهود طا ئفة الفرسان التوتونيين األلمان في التوسع والتنصير في بروسيا‬ ‫وفي غيرها‪.‬‬ ‫ويبدو أن نشاط تجار لوبيك‪ ،‬والتجار األلمان بشكل عام‪ ،‬خلق ظروفا مالئمة‬ ‫ساعدت على إنشاء عدة مدن من بينها مدينتي ستوكهولم في السويد وبيرجن‬ ‫(‪ )Bergen‬في النرويج‪ .‬ولم يقتصر نشاطهم على مناطق الشمال‪ ،‬بل قاموا بدور رائد‬ ‫في تجارة مناطق الغرب‪ .‬فقد وصلت مراكبهم إلى مرافئ أنجلترا التي حظوا لدى‬ ‫ملوكها بمكانة خاصة‪ .‬فقد منحهم الملك هنري الثالث حق تكوين جمعيات‪ ،‬أوعصب‬ ‫"الهانس" على شاكلة العصب التي كونها تجار كلونيا (‪ .)les Colonais‬وكانت‬ ‫عملية تشكيل هذه الجمعيات مناسبة ظهر فيها ألول مرة مصطلح "الهانس" الذي تأكد‬ ‫استعماله أكثر بعد تأسيس عصبة المدن‪.‬‬ ‫وبالموازاة مع النجاحات المتتالية التي حققتها المدن الهانسية‪ ،‬كانت مدينة بروج‬ ‫تجتهد بدورها في إيجاد موقع لها في تجارة هذه الحقبة التاريخية‪ .‬وقد تحقق لها ذلك‬ ‫فعال فغدت مركزا تجاريا مهما في الغرب يفد إليه التجار األنجليزيون وااليكوسيون‬ ‫وااليرلنديون يحملون كميات من األصواف كانت مصانع النسيج في حاجة إليها‪ .‬كما‬ ‫كان يفد إليها التجار الهولنديون والفريزيون بواسطة مراكب محملة بالدواب‪ .‬ولم‬ ‫يتردد في الوفادة إليها تجار جنوب فرنسا يحملون كميات من الخمور‪ .‬وانضم إليهم‬ ‫التجار االسبانيون والبرتغاليون محملين بكميات من أصواف وفواكه مناطق جنوب‬ ‫أوربا‪.‬‬ ‫ونظرا لقرب المسافة بين ايطاليا ومدينة بروج‪ ،‬آثر التجار االيطاليون االنضمام‬ ‫إلى التجار الذين كانوا يحطون الرحال بمدينة بروج بدل المتاجرة في أسواق منطقة‬ ‫شامبانيا‪ .‬وهكذا ساهموا في تحويل بروج إلى مركز تجاري عالمي‪ .‬فأخذت مراكب‬ ‫تجار جنوة والبندقية‪ ،‬المحملة بالتوابل‪ ،‬تحط الرحال بها إتباعا‪.‬‬ ‫وانطالقا من المعطيات التي يتضمنها هذا المبحث‪ ،‬يتضح بأن تجارة القرن‬ ‫الثا لث عشر‪ ،‬التي جعلت المراكب البحرية تجوب الموانئ الممتدة بين ايطاليا ومنطقة‬ ‫الفالندر وبحر البلطيق‪ ،‬أفضت إلى تشكل اقتصاد عالمي أوربي ( ‪une économie‬‬ ‫‪.)monde européenne‬‬ ‫ثالثا ‪ :‬النجاح المدرسي والجامعي‬

‫‪130‬‬

‫إذا كان القرن الثالث عشر في أوربا هو قرن المدن والتجارة‪ ،‬فقد كان كذلك‪،‬‬ ‫قرن المدارس والجامعات‪ .‬فقد خلق تنامي قوة البورجوازية في الحواضر المناخ‬ ‫المالئم لتأسيس مدارس "ابتدائية وثانوية" تضاعفت أعدادها منذ القرن الثاني عشر‪.‬‬ ‫أرست هذه المدارس قواعد التعليم في أوربا‪ .‬ولكن الحدث المثير لالنتباه‪ ،‬الذي دشن‬ ‫تقليدا تربويا حيويا ال زال مستمرا إلى اآلن‪ ،‬يتمثل في إنشاء مدارس "للتعليم العالي"‬ ‫تسمى بالجامعات‪ .‬لقد كانت تلك المدارس تحمل عند نهاية القرن الثاني عشر إسم "‬ ‫ستوديوم عام" (‪ )studium generale‬أي مدرسة عامة‪ .‬وتفيد هذه التسمية‪ ،‬بأن‬ ‫األمر يتعلق بمؤسسة عليا تقدم تعليما موسوعيا‪.‬‬ ‫تم تشييد هذه المؤسسات في خضم العمليات الكبرى التي كانت تروم تنظيم‬ ‫الحرف في المدن‪ .‬وقد انتظمت بدورها في طوائف كباقي الحرف واتخذت كل واحدة‬ ‫منها اسم الجامعة‪ ،‬الذي يعني الطائفة أو الهيئة‪ .‬وظهر هذا اإلسم ألول مرة سنة‬ ‫‪ 1221‬في باريس للداللة على طائفة‪ ،‬أو هيئة‪ ،‬المعلمين والطلبة الباريسيين‬ ‫(‪.)universitas magistrorum et scolarium‬‬ ‫وال بد من تنبيه القارئ إلى مسألة ذات قيمة‪ ،‬أغفل التاريخ التأكيد عليها‪ ،‬وهي‬ ‫أن الهيئات الجامعية اتبعت في تطورها خالل العصر الوسيط مساران مختلفان‬ ‫يسمحان بالحديث عن نموذجين ‪ :‬النموذج الباريسي الذي كان فيه األساتذة والطلبة‬ ‫يؤلفون هيئة واحدة‪ .‬والنموذج البولوني الذي كان فيه الطلبة لوحدهم يؤلفون الجامعة‪.‬‬ ‫وإن النموذج الباريسي هو الذي قدر له أن يستمر إلى يومنا هذا‪.‬‬ ‫وتكاد مسيرة األستاذ الجامعي في أوربا القرن الثالث عشر تشبه مسيرة التاجر‪.‬‬ ‫فقد كان التاجر متهما بكونه يبيع الوقت الذي يدخل في ملكية هللا وحده‪ .‬بمعنى أنه‬ ‫يجني أرباحا وفوائد حتى وإن كان نائما‪ .‬وتغير الموقف خالل القرن الثالث عشر‪.‬‬ ‫فأصبح ينظر إلى تلك األرباح بكونها مستحقات عن عمل مفيد يقوم به‪ .‬وعلى غرار‬ ‫التاجر‪ ،‬كان ينظر إلى األستاذ خالل القرن الثاني عشر بكونه يبيع المعرفة التي ال‬ ‫يمتلكها إال هللا‪ ،‬ثم تغير الموقف في القرن الثالث عشر‪ ،‬فأصبح ينظر إليه بكونه يقدم‬ ‫دروسا للطلبة ويتلقى مبلغا ماليا نظير تلك الدروس‪ .‬ومن هذا المنطلق يمكن الحديث‬ ‫عن ميالد أوربا العمل الثقافي إلى جانب أوربا العمل التجاري‪.‬‬ ‫كان األستاذ الجامعي يلقن الدروس كما كان يقوم بعمل التفكير والكتابة‪ ،‬أي‬ ‫يقوم بما ننعته اليوم بالبحث العلمي‪ .‬كما أكتسب عدد من األساتذة شهرة بانخراطهم في‬ ‫النقاشات والحوارات التي كانت تدور آنذاك حول قضايا اجتماعية وسياسية من قبيل‬ ‫قضية تسول رجال الدين‪ ،‬أو قضايا السلطة‪ ،‬وقضية فرض ضرائب من قبل الكنيسة‪.‬‬ ‫فأضاف هؤالء األساتذة إلى مهامهم "كمحاضرين" وباحثين‪ ،‬مهمة أخرى أضحت منذ‬

‫‪131‬‬

‫القرن التاسع عشر "من اختصاص" المثقفين عموما‪ .‬وهذا األمر بالذات هو الذي‬ ‫يدعو إلى نعت األساتذة الجامعيين "بمثقفي العصر الوسيط"‪.‬‬ ‫كان األساتذة الجامعيون يزاولون مهامهم تحت إشراف رؤساء الجامعات‬ ‫المنتخبين من قبل األساتذة أنفسهم‪ .‬وكان أساتذة كل مؤسسة جامعية يعملون تحت‬ ‫رقابة مستشار يعينه‪ ،‬في األغلب األعم‪ ،‬أسقف المدينة الذي تقع بها الجامعة‪.‬‬ ‫وتراجع‪ ،‬مع مرور الوقت‪ ،‬دور األساقفة‪ .،‬وأصبح األساتذة يعملون بشكل مستقل‬ ‫تقريبا عن سلطة األساقفة‪ ،‬وعن السلطات الحاكمة في المدن‪ ،‬وأيضا عن سلطات‬ ‫الممالك‪ .‬وبالمقابل ظلوا يخضعون لسلطات الكنائس على اعتبار أن الجامعات كانت‬ ‫تابعة للكنائس‪ .‬ولكن تلك السلطات كانت من وجهة نظر عملية ذات تأثير محدود بوجه‬ ‫عام‪ ،‬أو ذات تأثير نظري في أحسن األحوال‪ .‬كما تجلى ذلك مثال سنة ‪ 1270‬وسنة‬ ‫‪ ،1277‬حين حاول أسقف باريس معارضة توما األكويني (‪)Thomas d’Aquin‬‬ ‫الذي تبنى بعض األفكار التي تتضمنها نظرية الحقيقة المزدوجة التي صاغها ابن رشد‬ ‫من خالل قرائته ألرسطو‪ ،‬والتي تعني في سياق مسيحي بأن هناك حقيقة دوغمائية‬ ‫يمثلها الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة‪ ،‬وحقيقة منبثقة عن العقل يمكن أن تكون‬ ‫موضوع تدريس وبحث‪ ،‬رغم كونها متعارضة مع حقيقة الكنيسة‪.‬‬ ‫ال بأس من االشارة على هامش هذه المسألة الى أن أرسطو "كان رجل"‬ ‫الجامعات خالل القرن الثالث عشر‪ ،‬وخاصة في جامعة باريس‪ .‬ورغم أن مؤلفاته في‬ ‫المنطق كانت مترجمة إلى الالتينية منذ فترة طويلة‪ ،‬فإنها لم تحظ بأي اهتمام حتى‬ ‫القرن الثالث عشر‪ .‬وقد تم حظر تدريسها في الجامعات في بداية األمر‪ ،‬ولكن الطلبة‬ ‫أقبلوا‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬على تداولها‪ .‬وبعد منتصف القرن الثالث عشر غدت موضة‪ .‬فأفضى‬ ‫ذلك إلى ظهور ما يعرف باألرسطية الالتينية التي انتشرت في مختلف الجامعات لفترة‬ ‫تزيد عن العشر سنوات بفضل الجهود التي بذلها توما األكويني‪ .‬ثم تعرضت للحصار‬ ‫من قبل بعض األساتذة المتشبثين بالفكر التقليدي‪ ،‬واألساتذة "الحداثيين" المتشبثين‬ ‫بفكر أقل عقالنية‪ .‬وأخذ الفكر األرسطي في األخير في التراجع ألنه اعتبر عائقا أمام‬ ‫تطور العلم الذي أضحى تجريبيا أكثر‪ ،‬وقابال ألن يكون موضوع نقاش منفتح‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فبالعودة للحديث عن الجامعات‪ ،‬نقول بأنها كانت تتألف‪،‬‬ ‫تبعا للمواد المدرجة ضمن برامجها‪ ،‬من أربع كليات في األغلب األعم‪ .‬وقد يحدث أن‬ ‫تشتهر كلية بعينها من بين كليات الجامعة الواحدة‪ .‬فقد اشتهرت كلية الحقوق في‬ ‫جامعة بلونيا (‪ )Bologne‬على حساب الكليات األخرى ‪ .‬كما اشتهرت كلية الالهوت‬ ‫في باريس على حساب الكليات األخرى‪ .‬ونفس الشيء ينطبق على جامعة مونبوليي‬ ‫التي اشتهرت فيها كلية الطب دون غيرها من الكليات‪ .‬وقد أفضت شهرة إحدى كليات‬ ‫الجامعة على حساب الكليات األخرى إلى حدوث نوع من التدرج بين الكليات‪ ،‬زادت‬

‫‪132‬‬

‫من حدته طبيعة البرامج والمقررات المدرسة في كل كلية‪ .‬فكليات الفنون التي كانت‬ ‫تدرس فيها فنون "نظرية" كالنحو‪ ،‬بفروعه‪ ،‬والبالغة وفنون "عقلية" كالهندسة والفلك‬ ‫والموسيقى كانت أكثر اكتظاظا‪ .‬وكان يؤمها غالبا طلبة أقل ثراء وأكثر شغبا‪ .‬وتأتي‬ ‫في مرتبة أعلى منها نسبيا كلية الحقوق التي كان يتم فيها تدريس القانون بفرعيه ‪:‬‬ ‫القانون المدني والقانون الديني‪ .‬وفي مرتبة أعلى منها كلية الطب التي كان طلبتها‬ ‫يتلقون دروسا في علوم الطب غلب عليها آنذاك التعاطي مع المؤلفات‪ ،‬والطابع‬ ‫النظري أكثر من الطابع التطبيقي‪ .‬وتقع في الهرم كلية الالهوت المتخصصة في‬ ‫العلوم الدينية‪.‬‬ ‫كانت جامعة بلونيا )‪ )Bologne‬هي أول جامعة فتحت أبوابها أمام الطلبة‪ .‬وقد‬ ‫منح اإلمبراطور فردريك األول بربروسا أساتذتها وطلبتها امتيازات منذ سنة ‪،1154‬‬ ‫رغم أنها لم تتلق نص نظامها األساسي من البابا لتشتغل رسميا إال سنة ‪ .1252‬وعلى‬ ‫غرار جامعة بلونيا‪ ،‬لم تتوصل جامعة باريس بنص نظامها األساسي من البابوية إال‬ ‫سنة ‪ .1215‬وقد منح الملك فليب أغسطس ألساتذتها وطلبتها امتيازات سنة ‪ .1200‬ثم‬ ‫منحها البابا ﯕريﯕوار التاسع (‪ )Grégoire IX‬شهادة مختومة تشيد بها وبالمستوى‬ ‫الذي بلغته بها علوم الدين‪.‬‬ ‫أما جامعات أكسفورد وكامبريدج ومونبوليي‪ ،‬فقد تم تشييدها في السنوات‬ ‫األولى من القرن الثالث عشر‪ .‬بينما تم تشييد جامعة نابولي سنة ‪ ،1224‬وجامعة‬ ‫لشبونة سنة ‪ .1288‬وانخرطت البابوية بدورها في مسلسل تشييد الجامعات‪.‬‬ ‫فخصصت منشأة بحضيرة الفاتكان اتخذت كجامعة‪ .‬وفي نفس السياق تم تأسيس‬ ‫جامعة سلمانكا‪ ،‬ولكن ليس دفعة واحدة‪ ،‬وإنما عبر مراحل‪ .‬واستفاد أساتذتها وطلبتها‬ ‫بامتيازات من قبل الملك ألفونس العاشر‪ .‬وخصصت بها عدة كراسي علمية لتدريس‬ ‫القانون الديني والمنطق والنحو والفيزياء والطب‪.‬‬ ‫وتعتبر جامعة تولوز المؤسسة الوحيدة التي شدت عن المؤسسات الجامعية‬ ‫األخرى فيما يتعلق بحيثيات نشأتها‪ .‬فقد فرضت البابوية تشييدها في سياق حربها ضد‬ ‫الحركة النقطيرية التي سبق الحديث عنها‪ .‬وواكبت عملية تشييدها حملة دعائية واسعة‬ ‫في سائر أنحاء العالم المسيحي تشيد بها وبالمدينة التي أقيمت بها‪ .‬وقد أثارت تلك‬ ‫الحملة امتعاض سكان تولوز الذين رأوا بأن الجامعة ستتخذ كوسيلة لفرض هيمنة‬ ‫الشماليين على سكان جنوب فرنسا‪ .‬والغريب في األمر أن علوم الدين لم تجد لها مكانا‬ ‫في هذه المؤسسة التي تطورت فيها علوم القانون‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن أهم المستجدات التي شهدتها جامعات القرن الثالث‬ ‫عشر‪ ،‬والتي ورثتها جامعات أوربا خالل القرون الموالية‪ ،‬تمثلت في حق األساتذة‬ ‫والطلبة في خوض إضرابات‪ .‬ولعل أشهرتلك اإلضرابات ذلك الذي خاضه أساتذة‬

‫‪133‬‬

‫وطلبة جامعة باريس لمدة سنتين بين ‪ 1229‬و‪ .1231‬ويتمثل المستجد الثاني في‬ ‫استفادة األساتذة والطلبة من عطلة لمدة شهر في فصل الصيف‪ .‬ويمكن إدراج مستجد‬ ‫ثالث إلى هذه القائمة ويتمثل في حق األساتذة‪ ،‬والطلبة أيضا‪ ،‬في االنتقال من مؤسسة‬ ‫جامعية إلى مؤسسة أخرى قريبة أو بعيدة في سياق وحدة العالم المسيحي ووحدة‬ ‫المعرفة‪ .‬ويفيدنا المؤلف في هذا السياق بالذات بأن عددا من األساتذة األلمان‬ ‫وااليطاليين كانوا يدرسون بجامعة باريس‪.‬‬ ‫ويبدو أن أهم مستجد يستدعي التوقف‪ ،‬هو كون جامعات العصر الوسيط كانت‬ ‫تمنح طلبتها المتفوقين شواهد علمية موحدة شكلت قاعدة صلبة ألوربا المستقبل‪ .‬كان‬ ‫الطلبة يحصلون على عدة شواهد نظرا لطول مدة الدراسة الجامعية‪ ،‬التي كانت تنتهي‬ ‫مبدئيا بعد إحدى عشرة سنة من التحصيل بالحصول على شهادة المتريز في علوم‬ ‫الدين التي عدت وقتها أشهر الشهادات‪ .‬وكان من الممكن أن يحصل عليها أبناء‬ ‫النبالء‪ ،‬وأبناء الفقراء‪ .‬فكم من طالب ينحدر من أسرة فالحين أصبح بعد التحصيل‬ ‫أستاذا جامعيا‪ .‬ويسوق المؤلف في هذا الشأن نموذج روبيردوسوربون ( ‪Robert de‬‬ ‫‪ )Sorbon‬الذي كان ابن فالح اقتحم الجامعة وتخرج منها وغدا شهيرا في عصره‪.‬‬ ‫فكسب ود الملك سان لويس الذي أغدق عليه بسخاء‪ ،‬فأنفق جانبا من تلك األموال في‬ ‫تشييد كوليج السوربون الشهير الذي كان في البدء مؤسسة متواضعة‪.‬‬ ‫وإذ أمكن لصاحبنا إتمام دراسته رغم وضعيته المادية الصعبة‪ ،‬فكثير هم الطلبة‬ ‫الذين لم يستطيعوا القيام بذلك‪ ،‬أو غادروا الجامعة بعد سنة أو سنتين‪ .‬ألن مدة الدراسة‬ ‫كانت طويلة‪ ،‬وألن الجامعات كانت تقع في المدن حيث يضطر الطالب إلى صرف‬ ‫مبلغ مالي نظير إيجار غرفة‪ ،‬ونظير اقتناء ما يحتاج إليه من مأكل وغيره‪ .‬وكان هذا‬ ‫المبلغ يتزايد كل سنة بسبب ارتفاع األسعار‪.‬‬ ‫وكان من حسن حظ بعض الطلبة النجباء‪ ،‬المنحدرين من أوساط فقيرة‪ ،‬أنهم‬ ‫كانوا يجدون بعض المحسنين الذين يقدمون لهم يد المساعدة‪ .‬فكان هؤالء المحسنين‬ ‫يخصصون لهم إقامات ويقدمون لهم وجبات مجانا‪.‬‬ ‫وانخرطت بعض المؤسسات الجامعية في هذا العمل "الخيري" بشكل محدود‪.‬‬ ‫فكوليج السوربون‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬كان يخصص إقامات للطلبة الفقراء الذين‬ ‫يتابعون دراستهم في علوم الدين‪ .‬وعلى غراره كانت جامعة أكسفورد تخصص‬ ‫إقامات للطلبة الذين يتابعون دراستهم في حقل الرياضيات‪.‬‬ ‫‪ )1‬حضارة الكتاب‬ ‫تمثل النهضة التي شهدها الكتاب خالل القرن الثالث عشر امتدادا لتلك التي‬ ‫شهدها خالل القرن السابق‪ .‬والحقيقة أن األمر يتعلق فعال بنهضة‪ ،‬أو انبعاث‪ ،‬ألن‬

‫‪134‬‬

‫الكتاب كان قد شهد نهضة بين القرنين الرابع والسابع حينما أصبح عبارة عن كراس‬ ‫مؤلف من صفحات (‪ )le codex‬بدل كتاب العصر القديم الذي كان على شكل ورق‬ ‫ملفوف (‪ )rouleau‬تصعب قراءته‪ .‬كان الكتاب المؤلف من صفحات ذو قطع صغير‬ ‫نسبيا‪ ،‬سهل االستعمال‪ ،‬ويمكن حمله من مكان آلخر‪ .‬لكنه لم ينتشر على نطاق واسع‬ ‫لسببين ‪ :‬يتمثل السبب األول في قلة عدد القراء‪ .‬إذ وحدهم الرهبان هم الذين كانوا‬ ‫يعرفون القراءة ويتداولون عددا من الكتب المحفوظة في خزانات الموناستيرات‪.‬‬ ‫ويتمثل السبب الثاني في كون الكتب كانت تصنع من "البرشمان" (‪)le parchemin‬‬ ‫المؤلف من جلود العجول وجلود الخرفان بشكل خاص‪ .‬وكانت تتطلب عددا من جلود‬ ‫هذه الحيوانات‪ .‬وبالتالي‪ ،‬كانت تكلفة الكتاب الواحد مرتفعة‪ ،‬فيتعذر على أي كان‬ ‫اقتناؤه‪.‬‬ ‫ويبدو أن سوق الكتب انتعش بعد ظهور المؤسسات التعليمية في الوسط‬ ‫الحضري‪ ،‬ومنها الجامعات بشكل خاص‪ .‬وهذا ما يعبر عنه الباحث إيڤان إليش‬ ‫(‪ )Ivan Illich‬بقوله ‪" :‬تتميز حضارة الكتاب بكون سنة ‪ 1140‬طويت فيها الصفحة‬ ‫الرهبانية لتفتح الصفحة المدرسية"‪ .54‬ويبدو غريبا‪ ،‬إذا علمنا بأن عالم الالهوت هيوغ‬ ‫دو سان ڤيكتور (‪ 55)Hugues de Saint-Victor‬هو الذي أعطى بباريس انطالق‬ ‫الشرارة األولى لهذا "الفن الجديد"‪" ،‬فن قراءة الكتاب"‪.‬‬ ‫ومه ما يكن من أمر‪ ،‬فخالل القرن الثالث عشر اكتملت التعديالت المادية‬ ‫والتقنية التي أعطت للكتاب وجها جديدا وجعلته أكثر تداوال‪ .‬وبالمثل‪ ،‬تحسنت تقنيات‬ ‫وضع المتن وتوزيعه داخل الصفحة الواحدة وعبر صفحات الكتاب ككل‪ .‬إذ تحسنت‬ ‫عملية الوقف (‪ ،)la ponctuation‬وعملية وضع العناوين‪ ،‬وفهرس المحتويات‪.‬‬ ‫وشمل التطور أيضا طريقة القراءة‪ .‬فقد انتهى زمن قراءة الكتاب بصوت مرتفع‪ ،‬وحل‬ ‫زمن القراءة الصامتة‪ .‬فانبثقت تبعا لذلك أوربا الفرد القارئ‪.‬‬ ‫ويستفاد مما سبق أن انتشار المدارس والجامعات لم يكن العامل الوحيد الذي‬ ‫أدى إلى اإلقبال على قراءة الكتاب‪ ،‬وإنما هناك أيضا تزايد أعداد كتاب العقود (الذين‬ ‫ظهروا في سياق نشأة طوائف حرفية جديدة واالتجاه نحو التخصص)‪ ،‬وانخفاض‬ ‫نسبة األمية في أوساط النبالء والتجار والحرفيين‪ .‬فانعكس ذلك باإليجاب على صناعة‬ ‫الكتاب‪ .‬وهذا ما يؤكده الباحث دانييل بالو (‪ )Daniel Baloup‬الذي يذكر "بأن‬

‫‪ - 54‬أنظر كتابه ‪:‬‬ ‫‪Du lisible au visible. L’art de lire de Hugues de Saint-Victor, Paris, Les Editions du Cerf,‬‬ ‫‪1991.‬‬ ‫‪ - 55‬أنظر ما ذكرناه عنه في الهامش رقم ‪ 1‬صفحة ‪.87‬‬

‫‪135‬‬

‫الكتاب أضحى أداة للدراسة الدنيوية وللعمل‪ ،‬ولقضاء أوقات الفراغ‪ ،‬وأداة لتحقيق نوع‬ ‫من التفاني الشخصي"‪.‬‬ ‫وبقدر ما استمرت الكتب في التطور شكال‪ ،‬وفي التنوع مضمونا‪ ،‬بقدر ما‬ ‫ازدادت انفتاحا على أذواق القراء واهتماماتهم‪ .‬فالكتب الموجهة لطالب الجامعات‬ ‫على سبيل المثال‪ ،‬كان يتم إخراجها وفق مواصفات خاصة‪ .‬فكان واضعوها‬ ‫يحرصون على ترك هامش مهم نسبيا في كل صفحة يمأله الطالب بما عن له من‬ ‫مالحظات وتعقيبات‪ .‬ولذلك بدت صناعة الكتاب وكأنها تطورت في صلة بالجامعات‬ ‫في المقام األول‪ .‬ولهذا السبب ذاته ظهرت المكتبات‪ .‬وتزايد الطلب على الكراسات‬ ‫وعلى الناسخين‪ ،‬والمكلفين بعمليات التسفير‪ .‬وتبعا لذلك ظلت تكلفة الكتاب مرتفعة‪.‬‬ ‫ولم ينخفض سعر الكراس (بكرا) أو الكتاب مخطوطا إال بعد أن بدأ استعمال الورق‬ ‫تدريجيا في صناعته‪ .‬ولم يصبح هذا األمر حقيقة إال بعد مطلع القرن الخامس عشر‪،‬‬ ‫حيث انخفض سعر الكراس "البرشمان" بثالثة عشرة مرة عما كان عليه من قبل‪.‬‬ ‫ولعل أبرز تطور شهدته صناعة الكتاب خالل القرن الثالث عشر تمثل في‬ ‫استعمال تقنية "‪ "la pecia‬التي تقوم على نسخ صفحات الكتاب مستقلة الواحدة عن‬ ‫األخرى قبل شدها إلى بعضها‪ .‬ألن عملية استنساخ المخطوط قبل طبعه‪ ،‬كانت تطرح‬ ‫إشكاال عويصا حتى تم االهتداء في كل من بلونيا وباريس إلى التقنية السالف ذكرها‪.‬‬ ‫ويستفاد مما أورده الباحث لويس‪ -‬جاك بطايون ( ‪Louis-Jacques‬‬ ‫‪ ،)Bataillon‬بأن تقنية الوحدة (‪" )la pecia‬كانت تقتضي‪ ،‬بعد االنتهاء من تحرير‬ ‫المخطوط األصلي‪ ،‬أن يقوم ناسخ (‪ )un copiste‬بوضع نسخة منه على شكل كراس‬ ‫مرقم مكون من أوراق مزدوجة يسمى ‪ .pecie‬ويقوم الكاتب (‪ )le scribe‬بإعادة‬ ‫كتابة الوحدات (‪ )les pièces‬الواحدة تلو األخرى‪ .‬ويترك وحدات الكراس األخرى‬ ‫لكتاب آخرين يقومون بنفس العمل‪ .‬وعلى هذا المنوال يشتغل على نقل النص األصلي‬ ‫عدة كتاب في نفس الوقت‪ ،‬فيتم الحصول تبعا لذلك على نسخ كثيرة من المخطوط‬ ‫األصلي"‪ .‬وهكذا عرفت أوربا شيوع ظاهرة النساخ (النقالين) (‪ )les copistes‬سنتين‬ ‫قبل ظهور الطباعة‪ .‬ولكن هذه التقنية التي انتشرت كثيرا في مدن ايطاليا وفرنسا لم يتم‬ ‫تبنيها في أنجلترا وفي المدن األلمانية والسالڤية‪ .‬ولذلك ظلت العوائق التقنية تحول‬ ‫دون انتشار واسع للكتاب‪ .‬وكان يجب االنتظار حتى أواسط القرن الخامس عشر‬ ‫لتتحقق النهضة الكبرى‪.‬‬ ‫ولكن العوائق المشار إليها‪ ،‬لم تحل دون تداول الكتاب بين عدد كبير من قراء‬ ‫القرن الثالث عشر‪ ،‬كما سبقت اإلشارة إلى ذلك‪ .‬إذ فضال عن األساتذة والطلبة‪ ،‬انضم‬ ‫إلى صفوف متداولي الكتاب عدد من القراء الالئكيين (نبالء‪ ،‬تجار‪ ،‬حرفيون)‪ ،‬األمر‬

‫‪136‬‬

‫الذي يسمح بالقول بأن رياح العلمانية أصبحت تهب على المسيحية بفضل تطور‬ ‫صناعة الكتاب وتزايد أعداد القراء من مشارب مختلفة‪.‬‬ ‫والحقيقة أن الديانة‪ ،‬وقضايا الدين ظلت حاضرة في معظم المؤلفات المتداولة‪،‬‬ ‫ولكن إلى جانبها بدأت تظهر مؤلفات موجهة للنساء‪ .‬يمكن القول بأنها ساهمت‪ ،‬إلى‬ ‫جانب المدارس‪ ،‬في ترقية المرأة‪ .‬وعموما فإن صناعة الكتاب أخذت منحى ينسجم مع‬ ‫االتجاه السائد وهو رواج الكتب ذات الطابع النفعي التي أفضت إلى تراجع الكتاب‬ ‫الذي يروم أن يجعل من الكتاب ذاته عمال فنيا‪.‬‬ ‫‪ )2‬اإلنتاج الموسوعي‬ ‫تمثل الكتب ذات الطابع الموسوعي نموذجا جديدا من الكتب ظهر خالل القرن‬ ‫الثاني عشر‪ ،‬وانتشر خالل القرن الموالي‪ .‬وأتى هذا النموذج ليعزز االتجاه نحو‬ ‫العلمانية الذي بدأت تأخذه المعرفة‪ .‬كما أتى لتلبية طلب شريحة من القراء‪ ،‬وفي ذات‬ ‫الوقت لإلحاطة قدراالمكان بالمعرفة التي اتسعت مجاالتها‪.‬‬ ‫كانت هذه الموسوعات تتناول فعال علوما نقلية‪ ،‬وعقلية‪ ،‬كعلوم الدين والفلسفة‬ ‫والميتافيزيقا‪ .‬فكانت بذلك تقدم للقراء معارف شاملة تهم الطبيعة والمجتمع‪ .‬ويعتبر‬ ‫عالم الالهوت هيوغ‪ ،‬الذي سبق ذكره‪،‬أول من وضع أسس وقواعد التأليف الموسوعي‬ ‫حين نشر حوالي سنة ‪ 1135‬كتابا يتضمن معارف دينية وأخرى دنيوية‪ .‬فوضع الفنون‬ ‫والفلسفة في المقام األول‪ .‬ووضع علم التفسير (الهرمنوطيقا) والتاريخ في المقام‬ ‫الثاني‪.‬‬ ‫وأنجز بعده غليوم دو كنش (‪ )Guillaume de Conches‬موسوعة تناول‬ ‫فيها معارف شتى تتصل بالفلسفية وعلوم الطبيعية‪ .‬وعلى غراره وضع االسكندر نيكام‬ ‫(‪ )Alexandre Neckam‬موسوعة مماثلة‪ ،‬ولكن تغلب عليها النفحة األرسطية‪ .‬ثم‬ ‫جاء دور العالم برطليمي األنجليزي (‪ )Barthèlemy l’Anglais‬الذي ألف بين‬ ‫سنتي ‪ 1230‬و‪ 1240‬موسوعة "طبائع األشياء" (‪)De propretatibus rerum‬‬ ‫التي انطلق فيها من طروحات ايزيدور االشبيلي وأرسطو‪ .‬وقد حظيت بإقبال القراء‪،‬‬ ‫فغدت أكثر الموسوعات شعبية خالل النصف الثاني من القرن الثاني عشر‪ .‬وتمت‬ ‫ترجمتها من الالتينية إلى اللغات األنجليزية والفرنسية واالسبانية والفالمانية‬ ‫والبروڤنسالية‪ .‬وأمر ملك فرنسا شارل السادس بإعادة ترجمتها إلى الفرنسية سنة‬ ‫‪ .1372‬وقام عالم الالهوت توما دو كنتمبري (‪ )Thomas de Cantimpré‬بدوره‬ ‫بإنجاز موسوعة "كتاب الطبيعة" (‪ )Liber de natura rerum‬خالل فترة تأليف‬ ‫موسوعة برطليمي األنجليزي‪ .‬وحاول فيها اإلحاطة بمختلف معارف عصره في‬ ‫مجال علوم الطبيعة‪ ،‬وجعلها مدخال لتناول علوم الدين‪ .‬وقد تفطن بأن موسوعته غلبت‬

‫‪137‬‬

‫عليها العلوم الدنيوية‪ ،‬فكرس ما تبقى من عمره في التأليف في أمور الدين‪ .‬ومن ضمن‬ ‫ما كتبه في هذا الشأن كتاب " الخير الكلي للنحل" ( ‪Bonum universale de‬‬ ‫‪ ) opibus‬الذي ضمنه الكتاب التاسع من موسوعته السالفة الذكر بعد أن أعاد‬ ‫صياغتها في قالب جديد‪ ،‬بحيث شبه فيها المجتمع بخلية نحل‪.‬‬ ‫ويعتبرالعالم ڤانسون دو بوڤي (‪ )Vincent de Beauvais‬ثالث الموسوعيين‬ ‫شهرة بعد برطليمي األنجليزي وتوما دو كنتمبري‪ .‬وقد وضع هو اآلخر موسوعة‪،‬‬ ‫بإيعاز من طائفة "الفقراء" التي كان ينتمي إليها‪ ،‬تتضمن مختلف المعارف والعلوم‬ ‫التي يحتاج إليها "اإلخوان" الذين لم تتح لهم إمكانية ولوج الجامعات‪ .‬ويتميز هذا‬ ‫الموسوعي بكونه تبنى طريقة جديدة في انجاز الموسوعة تمثلت في تكوين فريق عمل‬ ‫من رجال الدين‪ ،‬ساعدوه في جمع النصوص واستقراء المادة الضرورية قبل الشروع‬ ‫في التحرير‪ .‬فقام هو بتوزيع تلك المادة على ثالثة أبواب كبرى ارتأى أن تتألف منها‬ ‫الموسوعة‪.‬‬ ‫وظهرت في حقل التأليف الموسوعي موسوعات من نمط آخر‪ .‬تميزت عن‬ ‫"الجيل األول" من الموسوعات بكونها لم تكن عامة وجامعة مانعة لمختلف العلوم‪ ،‬بل‬ ‫كانت عبارة عن موسوعات مجزءة‪ ،‬كل واحدة (أو جزء منها) اقتصرت على علم‬ ‫بعينه‪ .‬وقد برز من بين واضعي هذا الصنف كل من األلماني ألبير األكبر ( ‪Albert le‬‬ ‫‪ )Grand‬واألنجليزي روجي باكون (‪ .)Roger Bacon‬وانضم إليهم القطالوني‬ ‫رايموند لول (‪ )Raymond Lulle‬الذي تميز بكونه كان مفكرا علمانيا جمع بين‬ ‫تدريس اللغات القديمة واللغات الحية والتأليف‪ .‬وقد وضع عدة مؤلفات في مجال علم‬ ‫الالهوت والفلسفة والبيداغوجيا والقانون والسياسة والفيزياء‪ .‬كما نظم الشعر‪ ،‬وكتب‬ ‫الروايات‪.‬‬ ‫‪ )3‬المدرسية‬ ‫لعل أهم إرث ثقافي‪ ،‬جامعي بصفة خاصة‪ ،‬ورثه القرن الثالث عشر‪ ،‬هو‬ ‫مجموع المناهج والمؤلفات التي تندرج في خانة ما يسمى بالمدرسية ( ‪la‬‬ ‫‪ .)scolastique‬وتطلق هذه التسمية على اإلنتاج الثقافي المرتبط بالمدارس عموما‬ ‫وبالجامعات بشكل خاص‪ .‬وقد انبثقت المدرسية عن تطور الجدل الذي كان يكون أحد‬ ‫العلوم الثالثة (‪ ،)le trivium‬وهي علم النحو والبالغة والجدل‪ .‬والجدل هو فن‬ ‫التبرير واإلفناع باألسئلة واألجوبة في إطار وضعية حوار ثنائي‪.‬‬ ‫‪56‬‬ ‫ويعتبر أنسلم الكنتربيري (‪ ، )Anselme de Cantorbéry‬األب الروحي‬ ‫للمدرسية‪ .‬وهو القائل ‪" :‬بأن الجدل هو المنهج القاعدي في التفكير اإليديولوجي‪ .‬وإن‬ ‫‪ - 56‬أنظر ما ذكرناه عنه في الهامش رقم ‪ ،1‬صفحة ‪.86‬‬

‫‪138‬‬

‫الهدف األعلى الذي يروم تحقيقه هو ذكاء‪ ،‬أو مهارة‪ ،‬االعتقاد"‪ .‬وقد ظلت هذه القولة‬ ‫خالدة منذ العصر الوسيط‪ .‬ويمكن اعتبار المدرسية تصورا مبنيا على التوافق ما بين‬ ‫هللا واإلنسان‪ .‬وقد كانت إسهامات أنسلم كبرى في هذا االتجاه‪ ،‬حيث قدم الدالئل على‬ ‫وجود هللا باعتماد طريقة عقالنية‪.‬‬ ‫ومن المفيد التذكير في هذا المقام بأن اعتماد طريقة جديدة في التفكير وفي‬ ‫التدريس خالل القرن الثاني عشر مهد المجال أمام تبني االتجاه المدرسي‪ .‬وكانت هذه‬ ‫تقوم على بناء إشكال في البدء ثم طرح سؤال للنقاش بين األستاذ وتالمذته‪ .‬ويقدم‬ ‫األستاذ في نهاية المناقشة حال لإلشكال المطروح‪ .‬وكان برنامج الجامعات يتضمن كل‬ ‫سنة تمرينين رئيسيين تتجلى فيهما كفاءة األساتذة في اإلجابة على األسئلة المختلفة‬ ‫التي يطرحها الطلبة‪ .‬وكانت سمعة األساتذة تقوم على أساس مدى قدرتهم على اإلجابة‬ ‫عن تلك األسئلة‪.‬‬ ‫والجدير باإلشارة أن التدريس الجامعي كان مناسبة للتأليف في مختلف أصناف‬ ‫العلوم المدرسة‪ ،‬وهذا ما يفسر أهمية الجامعات في مجال صناعة ونشر الكتاب‪ .‬وإن‬ ‫أهم المؤلفات المدرسية (الجامعية) التي صدرت خالل القرن الثاني عشر كانت عبارة‬ ‫عن مجاميع تتضمن نصوصا‪ ،‬أو أقواال‪ ،‬منتقاة من الكتاب المقدس‪ ،‬ومن مصنفات‬ ‫أباء الكنيسة‪ ،‬ومذيلة بتعقيبات األساتذة واضعي هذه المؤلفات‪ ،‬وتعكس الرؤى‬ ‫و التوجهات المدرسية‪ .‬وظهر إلى جانب هذا النوع من المؤلفات نوع آخر‪ ،‬تمثل في‬ ‫مجاميع تتضمن‪ ،‬هذه المرة‪ ،‬نصوص المناقشات التي دارت حول قضية‪ ،‬أو قضايا‪،‬‬ ‫باإلضافة إلى األحكام‪ ،‬أو األجوبة التي يقدمها األستاذ واضع المجموع عن مختلف‬ ‫األسئلة التي طرحت عليه‪ .‬وكان من بين أبرز من اشتهروا في هذا النوع من التآليف‬ ‫أسقف باريس بطرس اللومباردي الذي وضع بين سنتي ‪ 1155‬و‪" 1157‬كتابا في‬ ‫األحكام"‪ .‬أصبح من أهم المؤلفات المعتمدة في التدريس في كليات علوم الدين خالل‬ ‫القرن الثالث عشر‪ .‬وظهرت إلى جانب هذه المؤلفات كتب الحواشي التي عني‬ ‫أصحابها بوضع شروح وتفاسير لبعض الكلمات الواردة في متون النصوص‪ .‬ويمثل‬ ‫هذا النوع من التآليف تطورا لكتب التفاسير التي اهتمت بشرح الكلمات الواردة في‬ ‫الكتاب المقدس‪ .‬والجدير بالذكر أن التفسير انتهى بدوره خالل القرن الثالث عشر‬ ‫بظهور كتاب جامعي جديد عرف "بكتاب التفسير العادي"‪.‬‬ ‫وعلى كل‪ ،‬تجلت اإلنتاجات المدرسية خالل القرن الثالث عشر في شكلين ‪:‬‬ ‫تمثل الشكل األول في كتب التعاليق التي كانت تضاف للمناقشات‪ .‬وقد ساهمت هذه‬ ‫المؤلفات كثيرا في تطور المعرفة خالل الفترة المذكورة ألنها اكتست طابع الجدة‬ ‫لكونها كانت تعكس اهتمامات اللحظة التي كتبت فيها‪ ،‬وإن راعى واضعوها‪ ،‬من‬ ‫األساتذة الجامعيين‪ ،‬تقليدا سابقا في وضع هذه المؤلفات‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬ال بأس من‬

‫‪139‬‬

‫االقرار بأن هذا الشكل من المؤلفات أرسى دعائم تطور ثقافي في ربوع أوربا‪ ،‬دون‬ ‫إحداث قطيعة مع ماضيها الثقافي والفكري‪ .‬ويمكن االستدالل في هذا الصدد بما أورده‬ ‫الباحث أالن ليبيرا (‪ )Alain Libera‬حين كتب يوما بأن "تاريخ التأليف في التعاليق‬ ‫هو تاريخ التحرر التدريجي للفكر الفلسفي من معطيات التقليد"‪.‬‬ ‫وتمثل الشكل الثاني في كتب المجموعات‪ ،‬أو الخالصات‪ ،‬التي يعكس اسمها‬ ‫رغبة مثقفي القرن الثالث عشر في وضع‪ ،‬رهن إشارة القراء‪ ،‬مؤلفات في الفلسفة ذات‬ ‫طابع تركيبي‪ ،‬موثقة ومعللة؛ في وقت كانت فيه الفلسفة ال زالت متصلة بالالهوت‪.‬‬ ‫وهذا ما يبرر بالذات ما ذهب إليه رجل الدين وعالم الالهوت األب شوني ( ‪le Père‬‬ ‫‪ )Chenu‬حين أكد بأن الالهوت ارتقى خالل القرن الثالث عشر إلى مصاف العلوم‪.‬‬ ‫ومن بين أهم العلماء المدرسيين الذين برزت أسماؤهم خالل القرن الثالث‬ ‫عشر‪ ،‬يمكن ذكر األنجليزي اإلسكندر دي هاليس (‪)Alexandre de Halès‬‬ ‫واأللماني ألبير األكبر (‪ )Albert le Grand‬الذي حمل لقب األستاذ بجامعة باريس‬ ‫سنة ‪ .1248‬فقد كان واسع المعارف‪ ،‬بحيث ألف في مجاالت علمية وفنية لم تكن‬ ‫تدرس في الجامعة‪ .‬كما استفاد كثيرا من مؤلفات الفالسفة العرب كالفارابي وابن سينا‬ ‫وابن رشد‪ .‬ويعزى اليه الفضل في محاولة إحداث نوع من التوازن بين الفلسفة‬ ‫والالهوت‪ .‬وبرز كذلك توما األكويني (‪ )Thomas d’Aquin‬تلميذ ألبير السالف‬ ‫الذكر‪ .‬اشتهر بكونه من أكثر علماء العصر الوسيط الذين بصموا الفكر األوربي‬ ‫وأثروا في العامة وفي الخاصة من رجال الدين ومن الالئكيين‪ .‬ترك عدة مؤلفات من‬ ‫بينها كتاب "خالصة الرد على األمم" (‪ )la Somme contre les gentils‬الذي‬ ‫وضعه بين سنتي ‪ 1259‬و‪ ،1265‬وكتاب "الخالصة الالهوتية" الذي شرع في‬ ‫وضعه سنوات قبل وفاته سنة ‪ .1274‬وقد سعى توما األكويني في هذين المؤلفين‪،‬‬ ‫وفي غيرهما‪ ،‬إلى تبيان سلطة العقل التي تمكن الفرد من معرفة هللا‪ ،‬ومن معرفة كنه‬ ‫العالم والكشف عن الحقيقة‪ .‬ولم يكن روجي باكون )‪ )Roger Bacon‬أقل حظوة من‬ ‫العلماء المدرسيين اآلخرين‪ .‬فقد ذاع صيته في جامعة أكسفورد‪ .‬وألف كغيره في حقلي‬ ‫الالهوت والفلسفة‪ .‬وزاد عن بعض أقرانه في كونه ألف في حقل الفلك‪ ،‬فعد ليوناردو‬ ‫دافنتشي زمانه‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن المدرسية تعد مرحلة من مراحل النشاط الفكري في‬ ‫أوربا‪ .‬وإن الحديث السالف عن المؤلفات المدرسية وعن واضعيها ال يكتسي أهمية إال‬ ‫بإبداء المالحظات التالية ‪ :‬أول هذه المالحظات‪ ،‬هي أن أبيالر‪ ،‬أحد أقطاب الفكر في‬ ‫القرن الثاني عشر‪ ،‬أشاع‪ ،‬قبل المدرسيين‪ ،‬في أوساط المفكرين فكرة قال بها أرسطو‬ ‫وهي ضرورة الشك في كل شيء‪ ،‬ألن اإلنسان الذي ينطلق من مبدإ الشك يصل إلى‬ ‫الحقيقة‪ .‬وقد عبر أبيالر عن هذا المبدإ بقوله ‪" :‬مهما كان موضوع الحوار بين‬

‫‪140‬‬

‫شخصين‪ ،‬فإن التحليل العقالني تكون له سلطة على أي شيء آخر"‪ .‬وقد انتقل مبدأ‬ ‫الشك من أبيالر الى أقطاب المدرسية وتبناه عموم المثقفين‪ ،‬فكان هذا االنتقال بمثابة‬ ‫عودة إلى الفكر النقدي الذي أرسى دعائمه اإلغريق وال زال إلى يومنا هذا أساس‬ ‫الفكر األوربي‪ .‬وثاني هذه المالحظات هي أن المدرسية حررت الفكر األوربي‪ ،‬كما‬ ‫قال بذلك أالن ليبيرا‪ ،‬وأرست تقليدا فكريا يقوم على فكرة مفادها أن المعرفة هي نوع‬ ‫من التحرر‪ .‬وثالث هذه المالحظات هي أن أقطاب المدرسية سعوا إلى عرض أفكارهم‬ ‫بصيغة واضحة ومنظمة‪ .‬وبذلك رسخوا في أوساط المثقفين‪ ،‬وعموم الناس المتعلمين‬ ‫وغيرهم‪ ،‬تقليدا يقضي بالتفكير بشكل واضح ومنظم‪ .‬وقد سبقوا كثيرا في هذا األمر ما‬ ‫قال به روني ديكارت‪ ،‬الذي يربط كثير من الباحثين ثورة الفكر األوربي بشخصه‪ ،‬مع‬ ‫أنه يعتبر في واقع األمر تلميذا المعا لمدرسية (‪ )scolastique‬العصر الوسيط‪.‬‬ ‫‪ )4‬أوربا الﻠغة ‪ :‬الالتينية والﻠهجات المحﻠية‬ ‫كانت الالتينية هي لغة التعليم الجامعي‪ .‬وقد ظلت لغة العلم والمعرفة خالل‬ ‫العصر الوسيط‪ .‬وزاد من تفوقها كون الطقوس والشعائر الدينية كانت تقام بها‪ .‬ولكنها‬ ‫لم تكن اللغة المستعملة من قبل جميع أفراد المجتمع‪ .‬إذ منذ القرن الرابع أخذ بعض‬ ‫المتعلمين‪ ،‬وجمهور عريض من الالئكيين‪ ،‬يتحدثون لغة التينية رديئة كانت تبتعد يوما‬ ‫بعد يوم عن أصول الالتينية‪ .‬وهو األمر الذي جعل المؤرخين يالقون صعوبة في‬ ‫تحديد تاريخ بداية استعمال هذه اللهجات المحلية‪ ،‬خاصة وأن تلك البداية تزامنت مع‬ ‫انتشار لهجات الشعوب الغازية التي استقرت بربوع أوربا‪.‬‬ ‫وعموما‪ ،‬فإن رجال الدين وحدهم هم الذين ظلوا يتحدثون الالتينية منذ مطلع‬ ‫القرن التاسع‪ .‬أما عموم الالئكيين فأخذوا يستعملون لغة غير التينية‪ .‬ويميل معظم‬ ‫الباحثين إلى ربط نشأة اللهجات المحلية بالنص الشهير" قسم ستراسبورغ" ( ‪les‬‬ ‫)‪ Serments de Strasbourg‬الذي يتضمن صيغتي اليمين‪ ،‬أو القسم‪ ،‬الذي أداه‪،‬‬ ‫سنة ‪ ،842‬كل من شارل األصلع ولويس الجرماني إبنا اإلمبراطور لويس التقي‪ .‬فقد‬ ‫أدى أحد اإلخوة القسم بلغة ستصبح فيما بعد هي اللغة الفرنسية‪ ،‬بينما أدى اآلخر القسم‬ ‫باللغة التي ستتطور لتصبح اللغة األلمانية‪ .‬وبذلك بدا وكأن النظام السياسي في أوربا‬ ‫تشكل تحت تأثير البنيات العشائرية التي كانت تتضمن في كنهها بنيات وطنية‪.‬‬ ‫ويفي د تصرف الملكين على هذا النحو بوجود إشكاالت لغوية كانت مطروحة‬ ‫بحدة على القادة العسكريين‪ ،‬وكذلك على رجال الدين قبل هذا التاريخ بفترة طويلة‪.‬‬ ‫ولذلك كانوا مضطرين إلى اتخاذ إجراءات لحل هذه اإلشكاالت‪ ،‬انطلقوا فيها من مبدأ‬ ‫أن التقرب من هللا ال يتم فقط باستعمال الالتينية واإلغريقية والعبرية‪ ،‬بل يمكن أن يتم‬ ‫كذلك باستعمال أية لغة‪ .‬وكانت سنة ‪ 813‬حاسمة في هذا االتجاه حين أقر المجمع‬

‫‪141‬‬

‫الديني المنعقد بمدينة تور بجواز استعمال اللهجات المحلية في التراتيل وغيرها‬ ‫لتقريب محتواها من عموم المسيحيين‪ .‬ولذلك ذهب بعض الباحثين إلى اعتبار‬ ‫مقررات هذا المجمع بمثابة تاريخ حاسم في ميالد اللغات الوطنية‪.‬‬ ‫وقد تطورت اللهجات المحلية خالل القرن الثالث عشر‪ .‬واستمرت في التطور‬ ‫في نهاية العصر الوسيط‪ .‬ولم تعد مجرد لهجات منطوقة‪ ،‬بل أضحت كذلك لغات‬ ‫تستعمل في التعبير الكتابي‪ .‬فنشأ تبعا لذلك أدب مكتوب بهذه اللغات‪ ،‬اشتهرت في‬ ‫إطاره أعمال خالدة من قبيل القصائد التي تتغنى ببطوالت الفرسان ( ‪les chansons‬‬ ‫‪ ،)de geste‬والنصوص التي تطفح بالحب والهيام (‪.)les romans courtois‬‬ ‫ولم تكن اللغة الشفوية والكتابية التي كان يستعملها مدرسيو القرن الثالث عشر‪،‬‬ ‫هي اللغة الالتينية الكالسيكية‪ ،‬كما لم تكن أيضا لغة أخرى متكاملة البنية‪ .‬لقد كانت لغة‬ ‫مصطنعة استعملت في تحرير جميع األعمال الجامعية سواء في حقل الالهوت أو في‬ ‫حقل الفلسفة‪.‬‬ ‫وعلى كل‪ ،‬فقد تشكلت اللغات المحلية من مجموعات يمكن التمييز فيها بين‬ ‫مجموعة اللغات التي انبثقت عن الالتينية وظلت‪ ،‬مع ذلك قريبة من اللغة األم‪ .‬وتظم‬ ‫هذه المجموعة الفرنسية واللغات األيبيرية وااليطالية‪.‬‬ ‫سادت في غالة اللغة الفرنسية‪ .‬وهي خليط من الالتينية ومن لغة جرمانية‪ ،‬هي‬ ‫لغة الفرنجة‪ .‬وحدث أن انصهرت اللهجات المنطوقة في غالة‪ .‬فترتب عن هذا‬ ‫االنصهار ظهور لهجتين هما ‪ :‬األوك (‪ )la langue d’oc‬التي كانت مستعملة في‬ ‫مناطق الجنوب‪ .‬واألويل (‪ )la langue d’oïl‬التي كانت مستعملة في مناطق الشمال‪.‬‬ ‫وقد كان يتحدث بها ملوك غالة بوصفهم قادة سياسيين‪ ،‬ورعاة الثقافة والفكر‪ .‬وقدر‬ ‫لهذه اللهجة أن تنتشر في جميع مناطق البالد تحت تأثير االنتصارات‪ ،‬ونجاح‬ ‫الشماليين في السيطرة على مناطق الجنوب‪.‬‬ ‫وفي أنجلترا‪ ،‬تميز الوضع اللغوي بهيمنة ثالث لغات حتى مطلع القرن الخامس‬ ‫عشر‪ .‬تمثلت في اللغة الالتينية‪ ،‬واللغة الفرنسية في صيغة لهجة أنجلو‪ -‬نورمانية‬ ‫باإلضافة إلى اللغة األنجليزية القديمة التي كان يتحدثها األنجلو‪ -‬سكسونيون‪ .‬وقد قدر‬ ‫لهذه اللغة أن تهيمن على المشهد اللغوي‪ ،‬فأصبحت لغة أنجلترا‪ .‬وكان الملك إدوارد‬ ‫األول (الذي حكم بين سنتي ‪ 1272‬و‪ )1307‬أول ملك أنجليزي تحدث بها‪ .‬ورغم‬ ‫ذلك‪ ،‬ظلت الفرنسية حتى مطلع القرن الخامس عشر لغة اإلدارة‪ ،‬ولغة التخاطب في‬ ‫أوساط األسر النبيلة واألرستقراطية‪ ،‬حتى أن بعض هذه األسر كانت تبعث أبناءها إلى‬ ‫نورمانديا ليتعلموا اللغة الفرنسية‪.‬‬ ‫أما في ألمانيا‪ ،‬فظل المشهد اللغوي متجزئا كتجزئة البالد التي كانت تتكون من‬ ‫عدة وحدات أهمها ألمانيا السفلى وألمانيا الوسطى وألمانيا العليا‪.‬‬

‫‪142‬‬

‫وعلى غرار ألمانيا‪ ،‬كان المشهد اللغوي في شبه جزية أيبيريا غير واضح‬ ‫المعالم بالنظر إلى الوضع السياسي المضطرب‪ .‬ولكن بعد حروب االسترداد‪ ،‬وبداية‬ ‫تراجع لغة المستعربين‪ ،‬بدأت اللغة القشتالية تفرض نفسها على حساب االلغة الليونية‪،‬‬ ‫وكذلك على حساب اللغات الغاليسية والقطالنية والبرتغالية‪.‬‬ ‫وفي ايطاليا كان المشهد أكثر ضبابية وتعقيدا قبل القرن الثالث عشر‪ .‬وهذا ربما‬ ‫ما يفسر احتراز علماء اللغة واللسانيات من الحديث عن لغة ايطالية خالل هذه الفترة‪.‬‬ ‫وقد وضع دانتي اليغيري حوالي سنة ‪ 1303‬مؤلفا باللغة الالتينية يعرف ب"البالغة‬ ‫العامية" (‪ )De vulgari eloquentia‬وزع فيه اللغات المتداولة في ايطاليا إلى ثالث‬ ‫عشرة مجموعة‪ .‬واقترح فيه استعمال لهجة مركبة من جميع اللهجات‪.‬‬ ‫ومن نافلة القول أن التجزئة اللغوية في ايطاليا كانت انعكاسا للتجزئة السياسية‪.‬‬ ‫ورغم ان ايطاليا بدأت تعانق الوحدة السياسية مع مطلع القرن التاسع عشر‪ ،‬فإن‬ ‫الوحدة الثقافية ال زالت لم تكتمل فيها لحد اآلن‪.‬‬ ‫ويكاد المشهد اللغوي المتحدث عنه في هذه المجاالت الجغرافية ينسحب على‬ ‫مجموع أقاليم أوربا‪ .‬فقد سادت فيها زدواجية لغوية تمثلت في الالتينية واللغات‬ ‫المحلية‪ .‬وكان لهذه األخيرة ثقل‪ ،‬ولذلك اضطرت النخبة االجتماعية والطبقة السياسية‬ ‫إلى تعلمها والتعامل بها أيضا‪.‬‬ ‫ومن المؤكد أن رجاالت السياسة في العصر الوسيط‪ ،‬كانوا واعين بأن التعدد‬ ‫اللغوي كان يعيق عمليات التواصل في أوربا‪ ،‬وخاصة في مجال المعامالت‬ ‫االقتصادية‪ ،‬حيث بدت الالتينية غير قادرة على استمرار ضمان وحدة المعامالت‪ .‬وقد‬ ‫اجتهدوا في تدليل العقبات اللغوية بموازاة اجتهادهم في إرساء دعائم الدول المركزية‪.‬‬ ‫ويبدو أن األمر لم يكن سهال‪ ،‬ولذلك ظلت المسألة اللغوية في أوربا أحد أهم‬ ‫العوائق التي اعترضت طريق الوحدة‪ .‬والزالت تمثل عائقا إلى يومنا هذا‪ .‬وقد قدم‬ ‫العصر الوسيط درسا لهؤالء الساسة مفاده أن تعددا لغويا محدودا يمكن أن يكون‬ ‫وظيفيا في أوربا الموحدة‪ ،‬بل يمكن أن يكون هذا التعدد أفضل من تبني لغة واحدة‬ ‫ليست نابعة من التقاليد الثقافية والسياسية‪ .‬وكان من الممكن أن ينطبق هذا األمر على‬ ‫اللغة األنجليزية لو اختيرت كلغة لمجموع أوربا‪.‬‬ ‫وبما أن اللغة هي األداة التي كتبت بها المؤلفات األدبية التي وضعت خالل‬ ‫القرن الثالث عشر‪ ،‬فقد كان لهذه المؤلفات دور كبير في ارتسام معالم مستقبل أوربا‪.‬‬ ‫ألن أوربا هي في نهاية المطاف عبارة عن باقة من اإلبداعات واألجناس األدبية التي‬ ‫دعمت وآزرت نجاح اللغات الوطنية‪.‬‬ ‫‪ )5‬إبداعات أدبية كبرى وأعمال خالدة‬

‫‪143‬‬

‫فرضت اللغة الفرنسية نفسها منذ نهاية القرن الحادي عشر حين كتبت بها‬ ‫القصائد التي تمجد بطوالت الفرسان‪ ،‬ومن ضمنها أنشودة روالن‪ .‬وقد كان تأثير‬ ‫الفرنسية واضحا حتى على المؤلفات التي وضعت باللغة األلمانية‪ ،‬أو التي ترجمت‬ ‫إلى األلمانية مثل قصص الحب‪ ،‬والروايات التي تتحدث عن خوارق األبطال‬ ‫األسطوريين كأرثور (‪ )Arthur‬األنجلو‪ -‬سكسوني‪.‬‬ ‫وأهم ما في األمر‪ ،‬هو أن هذه المؤلفات ألهمت أجياال الحقة من األدباء أبدعوا‬ ‫في تأليف جنس أدبي‪ ،‬الزالت له مكانة مرموقة في حقل اآلداب‪ ،‬وهو الرواية بشقيها ‪:‬‬ ‫الرواية التاريخية‪ ،‬و رواية الحب التي تروي قصة حب فرد‪ ،‬أو قصة حب ثنائي‬ ‫تنتهي غالبا بوفاة بطليها أو بوفاة أحدهما‪.‬‬ ‫وسجلت اللغة القشتالية بدورها حضورا ملفتا تجسد بشكل خاص في "ملحمة‬ ‫السيد" التي تتغنى ببطوالت نبيل مسيحي مغامر جعل من المناطق الواقعة حوالي‬ ‫مدينة بلنسية‪ ،‬أول مملكة مسيحية في مجال إسالمي‪ .‬وكان بطل هذه الملحمة "مغامر‬ ‫ينشط في مجال حدودي"‪ ،‬ويخدم الملوك المسيحيين والملوك المسلمين أيضا‪ .‬ومن هنا‬ ‫أتاه لقب السيد (‪.)le Cid‬‬ ‫‪ )6‬انتشار النثر‬ ‫شهد القرن الثالث عشر حدثا بارزا في حقل اآلداب كان له أبلغ األثر في الحياة‬ ‫الثقافية في أوربا بأكملها‪ .‬يتمثل هذا الحدث في نشأة النثر األدبي‪.‬‬ ‫ومن المعروف أن األعمال التي كانت تتغنى ببطوالت الفرسان كان يحكمها‬ ‫النظم واإليقاع‪ ،‬فحل محلها النثر الذي ال يحتكم لهذه القواعد ويعبر عن الحقيقة أكثر‪.‬‬ ‫ولذلك لجأ واضعو "شعر الغزل" (‪ ،)la poésie courtoise‬منذ القرن الثالث عشر‪،‬‬ ‫إلى الكتابة النثرية‪ .‬وحدث أن قام خالل نفس الحقبة رجل السياسة‪ ،‬واألديب اإلسالندي‬ ‫سنوري ستورلزون (‪( )Snoori Sturluson‬المتوفى سنة ‪ )1241‬بتحويل المجموع‬ ‫الذي يتضمن مجموعة قصائد قديمة العهد تحت إسم إيدا (‪ )Edda‬إلى نص نثري‪.‬‬ ‫وشهد القرن الثالث عشر أيضا تطور نصوص نثرية ذات صبغة تاريخية‪،‬‬ ‫رغم أن التا ريخ لم يكن يندرج ضمن برامج التدريس خالل الفترة المذكورة‪ ،‬كما لم‬ ‫يكن موضوع مؤلفات خاصة‪ .‬ولكن سلطة الماضي كانت تفرض نفسها كقيمة‬ ‫إيديولوجية‪ ،‬في انتظار أن يحتل التاريخ فيما بعد موقعا متميزا في حقل اآلداب وفي‬ ‫الذاكرة الجماعية‪.‬‬ ‫وال بد من االشارة إلى أن كتابات العصر الوسيط‪ ،‬التي يدرجها الباحثون اليوم‬ ‫ضمن خانة المؤلفات التاريخية‪ ،‬كانت تتمثل في كتب اإلخباريات العامة‪ ،‬وكتب‬ ‫التراجم التي تعرض لسير القديسين والقديسات‪.‬‬

‫‪144‬‬

‫وتطورت بموازاة اإلخباريات العامة‪ ،‬إخباريات يمكن نعتها بالخاصة‪ ،‬كانت‬ ‫تعرض ألخباروأحداث الموناستيرات‪،‬أواألسقفيات‪ .‬وظهرت إلى جانبها‪ ،‬منذ منتصف‬ ‫القرن الثاني عشر إخباريات تعرض ألحداث وأخبار الممالك التي كانت آخذة في‬ ‫التطور في اتجاه أن تصبح دوال مركزية‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن الماضي الذي كان يطغى عليه‬ ‫الطابع الميثولوجي سابقا‪ ،‬أضحى من بين الدعامات التي تستند عليها السلطة السياسية‪.‬‬ ‫فكان ذلك إيذانا بميالد أوربا سياسية‪ ،‬أوربا الذاكرة والتاريخ‪.‬‬ ‫ويبدو أن اإلخباريات الخاصة بالممالك لقيت حظوة في أنجلترا‪ .‬فقد انتشرت بها‬ ‫عدة مؤلفات من هذا الصنف‪ .‬وذاع صيت بعضها مثل كتاب "أعمال (أو أفعال) ملوك‬ ‫أنجلترا" (‪ )Gesta regum Anglorum‬للراهب البندكتي واألديب غليوم دي‬ ‫مالمسبوري (‪( )Guillaume de Malmesbury‬المتوفى سنة ‪ ،)1143‬وكتاب‬ ‫"تاريخ ملوك بريطانيا" (‪ )Historia regum Britanniae‬لألسقف واإلخباري‬ ‫جوفروا دي منموث (‪( )Geoffroy de Monmouth‬المتوفى سنة ‪.)1155‬‬ ‫حاول المؤلفان في كتابيهما الترويج لمنظور تاريخي يقوم على فكرة‬ ‫االستمرارية بين الملوك السلتيين واألنجلو‪ -‬سكسونيين والنورمان‪ .‬ودعمت هذا النوع‬ ‫من التصانيف مؤلفات أخرى تمحورت حول شخص بروت (‪ )Brut‬أول ملوك‬ ‫بريطانيا العظمى‪ ،‬الذي جعل اإلخباريون‪ ،‬وعلى رأسهم جوفروا السالف الذكر‪،‬‬ ‫صورته تكاد تتطابق وصورة أرثور (‪ )Arthur‬لتمرير فكرة مفادها أن مملكة أنجلترا‬ ‫ذات أصول طروادية‪.‬‬ ‫والجدير بالذكر أن فكرة األصول الطروادية وجدت من ينتصر لها في فرنسا‬ ‫منذ وقت مبكر حين قال البعض باألصول الطروادية للفرنجة‪ .‬ولقيت الفكرة رواجا‬ ‫كبيرا من قبل رهبان دير سان دوني في دعمهم للملوك المنحدرين من أسرة كابيت‪.‬‬ ‫وحدث سنة ‪ 1274‬أن انتهى الراهب بريما (‪ )Primat‬من انجاز مؤلف ضخم‬ ‫حول تاريخ ملوك غالة أمر بوضعه الملك سان لويس‪ .‬ولكن لم يقدر لهذا الملك أن‬ ‫يطلع عليه‪ ،‬فقدمه الراهب للملك فليب الثالث ابن الملك الراحل‪ .‬وتكمن أهمية الحدث‬ ‫في كون هذا المؤلف يمثل أصل المؤلفات اإلخبارية الكبرى التي أنجزت بعد هذا‬ ‫التاريخ‪.‬‬ ‫ومما ال شك فيه‪ ،‬أن مسألة األصول تفصح عن رغبة هؤالء اإلخباريين في‬ ‫االلتفاف حول أصل موحد في مقابل اإلخباريين اإلغريقيين القدامى‪ ،‬وعلى رأسهم‬ ‫ڤرجيل (‪ )Virgile‬الذي جعل الرومانيين من األبطال الذين نجوا من معركة طروادة‬ ‫ولجئوا في أوربا‪ .‬ولذلك ظل االيطاليون يروجون لهذه الفكرة خالل العصر الوسيط‪.‬‬ ‫رابعا ‪ :‬نجاح اإلخوان الفقراء‬

‫‪145‬‬

‫ال بد من التذكير مجددا بأن القرن الثالث عشر‪ ،‬الذي كان قرن المدن والتجار‬ ‫والجامعات واللغات المحلية والمؤلفات األدبية‪ ،‬شهد أيضا حدثا دينيا كانت له تبعات‬ ‫على المدى البعيد يتمثل في نشأة طوائف الفقراء التي كانت مؤلفة من طائفة الدعاة‬ ‫(الوعاظ) الدومينيكان‪ ،‬وطائفة المتواضعين‪ ،‬أوالصغار (‪،)mineurs( )minorum‬‬ ‫من الفرانسيسكان‪.‬‬ ‫لم يكن أعضاء هاته الطوائف نساكا يعيشون حياة العزلة الجماعية والتعبد في‬ ‫موناستيرات منعزلة‪ ،‬بل كانوا رجال دين منخرطين في تنظيمات‪ ،‬ويعيشون في المدن‬ ‫وسط عموم الناس‪ .‬كانوا يقومون بالوعظ واإلرشاد في سياق مسيحية متجددة كانت‬ ‫تقتضي " أقلمة" رجال الدين وعموم الالئكيين مع التحوالت الكبرى التي كان يشهدها‬ ‫العالم المسيحي‪.‬‬ ‫وتجدر االشارة الى أن الكنيسة كانت تتخبط في مشاكل مستعصية في سياق هذه‬ ‫التحوالت‪ ،‬من بينها عدم اكتمال اإلصالح الﯕريﯕوري الذي كان قد انطلق منذ مدة‪،‬‬ ‫وانتشار حركات الهرطقة‪ ،‬وظهور اختالالت بين الفئات االجتماعية بفعل شيوع‬ ‫استعمال النقد‪ ،‬وتحول الغنى إلى قيمة‪ ،‬وعدم قدرة الثقافة الدينية المرتبطة بالعالم‬ ‫الريفي عن اإلجابة على التساؤالت التي أصبح يطرحها المسيحيون في ضوء الواقع‬ ‫الجديد‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فان تأسيس هذه التنظيمات الدينية الجديدة أتى كجواب من قبل بعض‬ ‫رجال الدين‪ ،‬وبعض الالئكيين‪ ،‬على التساؤالت المطروحة‪.‬‬ ‫وقد ارتأى مؤسسو هذه التنظيمات نعتها "بطوائف الفقراء" للسمو بالفقر الذي‬ ‫جعلوه شعارا لهم ونمطا لحياتهم‪ .‬بل إن رواد وأتباع طائفة المتواضعين (مينوروم)‬ ‫التي أسسها فرانسيس األسيزي (‪ )François d’Assise‬ذهبوا بعيدا في هذا االتجاه‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فقد لقيت هذه الطوائف قبوال حسنا في أوساط العامة‪،‬‬ ‫ولذلك تضاعفت أعدادها‪ .‬فارتأى رجال الدين المجتمعين في المجمع الديني الثاني‬ ‫الذي احتضنته مدينة ليون سنة ‪ 1274‬تقليص عددها إلى أربعة وهي ‪ :‬طائفة الدعاة‪،‬‬ ‫التي تعرف اختزاال بالدومينيكان‪ ،‬وطائفة "المينوروم" التي تعرف بالفرانسيسكان‪،‬‬ ‫وطائفة النساك (‪ )ordo Eremitarum ou Ermites‬الذين تبنوا مبادئ سبق أن‬ ‫سطرها القديس أوغسطين‪ ،‬وطائفة الكرمليين )‪( )les Carmels ou Carmes‬نسبة‬ ‫إلى جبل الكرمل بفلسطين)‪ .‬وقامت البابوية بعد ذلك بفترة وجيزة بإضافة تنظيم‬ ‫خامس للقائمة وهو طائفة خدام مريم العذراء ( ‪Ordo Servorum Beatae‬‬ ‫‪ )Virginis Mariae‬الذي أنشأه مجموعة من التجار الفلورنسيين الذين رغبوا في‬ ‫التكفير عن ذنوبهم‪ ،‬فانقطعوا عن مزاولة التجارة وشيدوا إقامة خارج أسوار المدينة‬ ‫تخليدا لروح مريم العذراء‪ ،‬اعتكفوا فيها على العبادة‪.‬‬

‫‪146‬‬

‫ويبدو أن هذه الطائفة لم تستقطب كثيرا من األتباع‪ .‬كما أن تأثيرها كان محدودا‪،‬‬ ‫بحيث انحصر في مناطق ايطاليا الشمالية‪ .‬وهذا ما يفسر كون بعض الباحثين لم‬ ‫يدرجوها ضمن حديثهم عن تراتبات وتنظيمات اإلخوان الفقراء‪.‬‬ ‫وخالفا لهذا التنظيم الديني‪ ،‬اكتسبت كل من طائفة الدومينيكان وطائفة‬ ‫الفرانسيسكان شهرة كاسحة تعزى في جانب منها إلى شخصية مؤسسيهما سان‬ ‫دومينيك دو ﯕوزمان (‪ )Saint Dominique de Guzmán‬وفرنسيس األسيزي‬ ‫(‪.)François d’Assise‬‬ ‫فقد ولد األول في مقاطعة كلرويغا (‪ )Caleruega‬بقشتالة حوالي سنة ‪1170‬‬ ‫في أحضان أسرة ثرية‪ .‬وأصبح كاهنا سنة ‪ .1196‬وحدث أن سافر في مهمة إلى‬ ‫منطقة الالنﯕدوك بجنوب غالة‪ ،‬فراعه النجاح الباهر الذي حققه الهراطقة في هذه‬ ‫الربوع‪ ،‬فقرر خوض الحرب ضدهم في عقر ديارهم‪ ،‬وبنفس أسلحتهم‪ .‬فآثر العيش‬ ‫فقيرا‪ .‬وهدر حياته للدعوة والوعظ في أوساط العامة من المسيحيين المقيمين بين‬ ‫قرقشونة (‪ )Carcassonne‬وطلوشة (‪ .)Toulouse‬فالتف حوله ثلة من رجال الدين‪.‬‬ ‫وسرعان ما تكاثر أتباعهم‪ .‬فأقر البابا إنوسنت الثالث (‪ )Innocent III‬تنظيمه سنة‬ ‫‪ .1215‬وحمل سنتين بعد ذلك إسم "طائفة الدعاة"‪ .‬فتزايد أعداد "اإلخوان" المنضوين‬ ‫في الطائفة‪ .‬وشرع "المتفقهون" منهم في التنقل بين كبريات المدن مثل باريس وبلوني‬ ‫(‪ )Bologne‬للدعوة واالستقطاب‪ .‬وشاركهم سان دومينيك هذا الجهد الحثيث حتى‬ ‫وفاته في بلوني سنة ‪ .1221‬وتم تكريمه بعد ذلك بأن لقب قديسا سنة ‪.1234‬‬ ‫أما الثاني‪ ،‬فكان ابن تاجر أقمشة‪ .‬حاول في مقتبل العمر االنخراط في سلك‬ ‫الفرسان‪ .‬ثم عدل عن ذلك فجأة‪ ،‬وتخلى عن الدنيا وانبرى لخدمة المسيحية والسيد‬ ‫المسيح‪ .‬وكون بمعية بعض رفقائه‪ ،‬من رجال الدين ومن الالئكيين‪ ،‬فريقا من الوعاظ‬ ‫المتج ولين حصل على ترخيص مبدئي من البابا إنوسنت الثالث بعد جهد جهيد‪ .‬ثم‬ ‫حصل التنظيم على موافقة نهائية من قبل البابا هنوريوس الثالث سنة ‪ 1223‬بعد أن‬ ‫قام زعيمه بتعديل بعض البنود التي تتضمنها "ورقة عمل" التنظيم‪ .‬وواصل‬ ‫"اإلخوان" حركة الوعظ واإلرشاد تحت اسم "طائفة الفرانسيسكان"‪ .‬وخالفا لطائفة‬ ‫الدومينيكان‪ ،‬التي كان أقطابها يتنقلون باستمرار بين كبريات المدن‪ ،‬ويقيمون ردحا‬ ‫من الزمن في بعضها‪ ،‬فإن زعماء طائفة الفرانسيسكان حبذوا التجوال في مجال‬ ‫محدود‪ ،‬ومزاولة نشاطهم في المدن الصغرى والمتوسطة‪.‬‬ ‫وفي ضوء هذه المعطيات‪ ،‬يتضح أن أهم ما ميز هذه التنظيمات الدينية الجديدة‬ ‫هو كونها اتخذت من الحواضر مجاال ألنشطتها الدعوية‪ ،‬وان كان بعض أعضائها‬ ‫يقومونن‪ ،‬بين الفينة واألخرى‪ ،‬بالدعوة واإلرشاد على طرقات الحجاج والتجار‪ ،‬وفي‬ ‫بعض المناطق النائية الوعرة‪ .‬وباإلضافة إلى ذلك‪ ،‬كانت مصادر عيشهم مختلفة تماما‬

‫‪147‬‬

‫عن مصادر عيش الرهبان‪ ،‬ألنهم لم يكونوا يملكون ضياعا أو غالال أو دخال قارا‪ ،‬بل‬ ‫كانوا يعيشون على الصدقات وعلى األعطيات التي كانت أحيانا طائلة تسمح لهم‬ ‫بتشييد بعض الكنائس البسيطة‪.‬‬ ‫وعموما‪ ،‬فقد كانوا يحرصون على جعل المسيح والكتاب المقدس في قلب‬ ‫اهتمامات رجال الدين والالئكيين على السواء‪ .‬ومن المفيد التأكيد في هذا المقام بأن‬ ‫أتباع فرنسيس األسيزي ذهبوا بعيدا في هذا االتجاه‪ ،‬حيث أشاعوا في أوساط عامة‬ ‫الناس أن فرنسيس رأى في واضحة النهار‪ ،‬وهو في خلوة بجبل ألبرن (‪،)Alverne‬‬ ‫واحدا من السيرافين (مالك طائر) على جسده آثار الجروح التي أصيب بها السيد‬ ‫المسيح وهو مربوط إلى الصليب‪ .‬وال غرو في ذلك‪ ،‬فقد اشتهر فرنسيس األسيزي‬ ‫بتفانيه في حب هللا‪ .‬وله ابتهاالت يعبر فيها عن هذا التفاني‪ ،‬لعل أبرزها ابتهال‬ ‫"‪."Laudes Creaturarum‬‬ ‫والحقيقة‪ ،‬أن أتباع طائفتي الدومينيكان والفرانسيسكان‪ ،‬لم يألوا جهدا في وعظ‬ ‫عامة الناس‪ ،‬و"تفقيههم" في أمور دينهم ودنياهم من خالل التواصل المباشر والدائم‪.‬‬ ‫وعلى هذا المنوال‪ ،‬أفضى نشاطهم إلى ميالد أوربا "الوعظ المنطوق" الذي مهد‬ ‫الطريق أمام الخطب الرنانة على المنابر والمنصات‪ ،‬والخطب الملتزمة "المناضلة"‪.‬‬ ‫والمالحظ أن هذه التنظيمات الدينية‪ ،‬التي قامت منذ البدء على التجوال والقرب‬ ‫من العامة‪ ،‬اضطرت مع مرور الزمن إلى تعديل مواقفها تحت ضغط البابوية التي‬ ‫نجحت في توجيه أنشطتها‪ ،‬فأخذت تقوم بمهام أخرى‪ ،‬من بينها "التفتيش" للكشف عن‬ ‫معتنقي الفكر الهرطقي‪ .‬بل إن البابوية انتزعت هذه المهمة من محاكم التفتيش‬ ‫وأسندتها لطوائف اإلخوان الفقراء‪ .‬ولذلك انقسم الناس بين مساندين لهم ومعارضين‪.‬‬ ‫وبلغت هذه المعارضة أحيانا درجات من الحدة‪ ،‬تحولت فيها إلى كراهية واعتراض‬ ‫لسبيل بعض الدعاة كما حدث مثال سنة ‪ 1252‬حين انتهت مشادة بين "الداعية"‬ ‫الدومينيكاني بطرس الشهيد وبعض المعارضين باغتيال "الداعية"‪ .‬ويجسد هذا الحدث‬ ‫عمق الفجوة التي أحدثتها مسألة التفتيش بين الكنيسة وطوائف الفقراء من جهة وبين‬ ‫عموم المسيحيين من جهة أخرى‪.‬‬ ‫وفضال عن هذا االصطدام مع عموم المسيحيين‪ ،‬فإن زعماء طوائف الفقراء‬ ‫وجدوا أنفسهم في أكثر من مرة في مواجهة مع بعض "العلماء" من رجال الدين حول‬ ‫مسألة اإلرشاد والمعرفة الدينية وقضايا نظرية أخرى‪ .‬وكانت الجامعات تشكل أحيانا‬ ‫ميدانا لبعض فصول تلك المواجهات‪ ،‬ألن عددا من األساتذة الغير منضوين في‬ ‫تنظيمات دينية (‪ )les maîtres séculiers‬كانوا ينتقدون هذه الطوائف‪ ،‬ويسائلون‬ ‫أقطابها حول دالالت مبدئي الفقر والتسول اللذين قامت على أساسهما‪ ،‬وحول جواز أو‬ ‫عدم جواز أن يعيش المرء على الصدقة وعلى ما يجود به عليه المحسنون‪ ،‬وحول‬

‫‪148‬‬

‫مدى سالمة مواقفهم من سبل تحصيل المعاش ومن العمل‪ .‬وتكتسي التساؤالت‬ ‫بخصوص العمل أهمية قصوى في ضوء القيمة الكبرى التي أضحى يكتسيها في أوربا‬ ‫آنذاك‪.‬‬ ‫ومما زاد من حدة المواجهات في الجامعات‪ ،‬وخاصة في جامعة باريس‪ ،‬هو أن‬ ‫عددا من "العلماء" المنتمين لتلك الطوائف استغلوا فرصة خوض األساتذة الغير‬ ‫منتمين لتنظيمات دينية إلضراب مطول بين سنتي ‪ 1229‬وز‪ ،1231‬فانشأوا كراسي‬ ‫علمية لحسابهم‪ .‬فلم يرق األساتذة مثل هذا التصرف الذي رأوا فيه إجهاضا لإلضراب‪.‬‬ ‫واستمر شد الحبل بين الجانبين لعدة سنوات حتى اضطرت البابوية للتدخل منتصرة‬ ‫لألساتذة "الفقراء" طبعا‪ ،‬مما أجج الصراع وزاد في أمده‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن هذه األحداث وغيرها تثري ملف الباحث في نشأة‬ ‫وتطور طوائف الفقراء التي تمثل محطة بالغة القيمة في تاريخ الفقر بأوربا؛ وهو‬ ‫تاريخ ال زالت لم تكتمل بعد جميع مراحله‪.‬‬ ‫‪ )1‬أوربا العمل الخيري‬ ‫كانت طوائف الفقراء وراء شيوع العمل الخيري في أوربا‪ .‬ومثل نشاطهم في‬ ‫هذا المجال لبنة نحو إنشاء ما يعرف بنظام الضمان االجتماعي‪ .‬وقد بدأ هذا النظام‬ ‫يأخذ مكانه تحت مسمى "أعمال البر واإلحسان" التي تأخذ مرجعيتها من نص تتضمنه‬ ‫نسخة اإلنجيل التي وضعها القديس ماثيو (‪ )Saint Matthieu‬ورد فيه "أن ابن‬ ‫اإلنسان سيقوم يوم القيامة بتقسيم الرجال إلى مجوعتين‪ ،‬واحدة على يمينه واألخرى‬ ‫على يساره‪ .‬وسيقول للواقفين على يمينه بأنهم سيدخلون مملكة هللا جزاء ألعمال البر‬ ‫واإلحسان التي قاموا بها في حقه خالل حياته الدنيوية‪ .‬ألنه كان جائعا فأطعموه‪ ،‬وألنه‬ ‫كان ظمئا فرووا عطشه‪ ،‬وألنه كان غريبا فآووه‪ ،‬وألنه كان عريانا فكسوه‪ ،‬وألنه كان‬ ‫مريضا فعادوه‪ ،‬وألنه كان حبيسا فزاروه"‪.‬‬ ‫وانطالقا من هذه المعطيات‪ ،‬يمكن القول بأن اإلخوان الفقراء كانوا أكثر‬ ‫التنظيمات الدينية والفئات االجتماعية نشاطا في مجال البر واإلحسان‪ ،‬وكفالة‬ ‫المعوزين‪ ،‬وعيادة المرضى‪ ،‬والتكفل بأوضاعهم‪ .‬وأقر أيضا في هذا السياق‪ ،‬بأن‬ ‫كثيرا من المراكز الصحية رأت النور في الحواضر بفضل جهود اإلخوان الفقراء‪.‬‬ ‫ولذلك يحق القول‪ ،‬في نظره‪ ،‬بأن الفضل يعزى إليهم في ميالد أوربا المستشفيات‪.‬‬ ‫‪ )2‬الطوائف "الثالثية" بين رجال الدين والالئكيين‬ ‫كانت أنشطة اإلخوان الفقراء متنوعة كما يتضح من خالل ما تقدم‪ .‬ومن بين‬ ‫األنشطة التي قاموا بها إشرافهم على إنشاء تنظيمات ضمت أعدادا من عامة الناس‬

‫‪149‬‬

‫الالئكيين‪ ،‬أي مسيحيين غير منتمين ألية مؤسسة أو تنظيم دينيين‪ .‬وقد كانت تلك‬ ‫التنظيمات بدورها عبارة عن طوائف عرفت باسم "الطوائف الثالثية" ( ‪les Tiers‬‬ ‫‪ .)Ordres‬وكان المبدأ يقضي بإمكانية انخراط جميع الناس‪ ،‬من مختلف الفئات‪ ،‬في‬ ‫تلك الطوائف‪ .‬ولكن البحث يفيد بأن األفراد الميسورين نسبيا هم الذين شكلوا أغلبية‬ ‫أعضائها‪ .‬ويجب التذكير هنا بأن طوائف الفقراء كانت موزعة في حقيقة األمر‪ ،‬تبعا‬ ‫لرغبات مؤسسيها التنظيمية‪ ،‬إلى ثالث مجموعات هي ‪ :‬طائفة الرجال (رجال الدين‬ ‫"النظاميين")‪ ،‬وطائفة النساء (نساء الدين "النظاميات")‪ ،‬وطائفة المسيحيين‬ ‫والمسيحيات من سكان الحواضر الغير منتمين إلى تنظيمات دينية كما تمت اإلشارة‬ ‫إلى ذلك سلفا‪.‬‬ ‫ويسمح ما تقدم‪ ،‬بالقول بأن جميع الفئات االجتماعية بدت وكأنها كانت مؤطرة‬ ‫في هذه التنظيمات‪ ،‬رغم أن طوائف الرجال هي التي كانت تعد أكثر الطوائف ثقال‪.‬‬ ‫كما يسمح بالقول أيضا بأن انخراط الالئكيين بدورهم في إحدى تلك الطوائف‪ ،‬لم‬ ‫يفض إلى انقالب موازين القوى لتنحو أوربا نحو الالئكية‪ .‬وعليه‪ ،‬فإن القرن الثالث‬ ‫عشر يمثل لحظة فشل في بناء أوربا الئكية‪.‬‬ ‫‪ )3‬أوربا القوطية‬ ‫يمثل القرن الثالث عشر لحظة كبرى بالنسبة للفن الذي انتعش كثيرا‪ ،‬وخاصة‬ ‫فن المعمار الذي ساهم في التحام جميع مناطق أوربا خالفا لآلداب ألنها كانت تكتب‬ ‫بلغات محلية‪ .‬كانت لغة اآلداب متنوعة‪ ،‬بينما كانت لغة الفن واحدة‪ .‬فقد انتشر الفن‬ ‫الروماني القديم في معظم مناطق أوربا‪ ،‬رغم بعض الخصوصيات التي اتخذها هنا‬ ‫وهناك‪ .‬كما حمل تسمية واحدة هي "الفن الروماني" (‪ .)l’art romain‬وكذلك ظهر‬ ‫الفن القوطي في شمال غالة‪ .‬وتبلور ثم غمر معظم مناطق أوربا المسيحية خالل القرن‬ ‫الثالث عشر‪.‬‬ ‫كان هذا الفن مختلفا عن الفن الروماني‪ .‬وكان فنا مواكبا للنمو الديموغرافي‬ ‫الهائل الذي شهدته أوربا منذ مطلع القرن الحادي عشر‪ ،‬والذي أصبح يقتضي بناء‬ ‫مؤسسات دينية فسيحة‪ .‬وجاء الفن القوطي منسجما مع الكنائس الكبرى الفسيحة‪ .‬كما‬ ‫كان يعكس ذوقا مختلفا عما كان عليه األمر فيما مضى‪ .‬وبمقتضاه تغيرت اتجاهات‬ ‫األضواء واأللوان التي أصبحت تنساب بشكل عمودي‪ ،‬ألنه فن حضري تجسد إبداع‬ ‫"مهندسيه" في الكاتدرائيات‪ .‬ولذلك نعت جورج دوبي فترة سيادة الفن القوطي بكونها‬ ‫"فترة الكاتدرائيات"‪ .57‬وقد كان محقا فيما ذهب إليه‪ ،‬ألن الفن القوطي تجسد فعال‬ ‫‪ - 57‬أنظر كتابه ‪:‬‬ ‫‪Le temps des cathédrales. L’art et la société (980-1420), Paris, Gallimard, 1976.‬‬

‫‪150‬‬

‫خالل هذه الفترة في كاتدرائيات بناياتها فسيحة‪ ،‬ضخمة وشاهقة مثل كاتدرائية‬ ‫"سيدتنا" (‪ )Notre Dame‬بباريس‪ ،‬وكاتدرائية مدينة أميان (‪ )Amiens‬التي‬ ‫استغرق تشييدها فترة طويلة امتدت بين سنتي ‪ 1220‬و‪ .1270‬أي أن بناءها استغرق‬ ‫كل فترة حكم سان لويس‪ .‬وقد انتهى البناءون من تشييد المكان المخصص "لجوقة"‬ ‫رجال الدين (‪ )le chœur‬بهذه الكاتدرائية سنة ‪ .1256‬وقدر للملك سان لويس أن‬ ‫يقف بذات المكان ويلقي منه "تصريح أميان" الشهير الذي تم بمقتضاه فض النزاع‬ ‫الدائر بين ملك أنجلترا هنري الثالث وبعض بارونات مملكته الثائرين‪.‬‬ ‫وقد شيدت هذه الكاتدرائية على بقعة مساحتها حوالي ‪ 200 000‬متر مربع‪.‬‬ ‫وبلغ طولها ‪ 145‬مترا‪ ،‬بينما بلغ ارتفاعها ‪ 42‬مترا ونصف المتر‪ .‬وإن أقصى ارتفاع‬ ‫بلغته كاتدرائيات القرن الثالث عشر تجسد في كاتدرائية مدينة بوڤي (‪،)Beauvais‬‬ ‫التي تم االنتهاء من تشييدها سنة ‪ .1272‬وبلغ علوها ‪ 47‬مترا‪ .‬وقد انهارت سنة‬ ‫‪.1284‬‬ ‫اكتنف عملية انسياب األضواء بعد روحي‪ .‬وإن هذا البعد هو الذي كان وراء‬ ‫اختيار وضع نوافذ الكاتدرائيات القوطية في الجزء األعلى من الجدران‪ .‬وكان وراء‬ ‫هذا االقتراح رجل الدولة وراهب كنيسة سان دوني سوجر (‪ .)Suger‬وهو الذي‬ ‫أشرف شخصيا‪ ،‬وفق هذا المنظور الالهوتي‪ -‬الجمالي‪ ،‬على عملية تشييد كنيسة الدير‪.‬‬ ‫وخالفا أيضا لزجاج نوافذ الكنائس المشيدة وفق المعمار الروماني الذي كان زجاجا‬ ‫أبيضا‪ ،‬وأحيا نا ذي لون رمادي‪ ،‬فإن زجاج نوافذ الكاتدرائيات القوطية كان متعدد‬ ‫األلوان‪ .‬وأتى هذا التعدد انعكاسا لتطور الثقافة‪ ،‬وتوفر النباتات التي تدخل في صناعة‬ ‫الصباغة‪ ،‬وتقدم تقنيات الصباغة‪ .‬وصاحبت الزجاج المتعدد األلوان‪ ،‬نحوتات متعددة‬ ‫األلوان على الجدران وعلى الواجهات التي شكلت فضاء أبان فيه النحاتون عن إبداع‬ ‫قل نظيره‪ .‬وقد جمعت تلك النحوت بين النقوش والزخارف والمجسمات‪.‬‬ ‫تجلى الزجاج المتعدد األلوان في كاتدرائية مدينة شارتر التي وضعت بها نوافذ‬ ‫كثيرة من الزجاج المختلف األلوان‪ ،‬وإن غلب عليها اللون األزرق‪ .‬وقد تم تقليد هذه‬ ‫الكاتدرائية‪ ،‬وغيرها من كاتدرائيات فرنسا‪ ،‬في سائر أنحاء أوربا‪ .‬ولعل أجمل‬ ‫الكاتدرائيات التي حاكت كاتدرائيات فرنسا تلك التي شيدت في اسبانيا بكل من مدينتي‬ ‫برغس وطليطلة‪ .‬أما في أنجلترا‪ ،‬فاتخذ المعمار القوطي صبغة خاصة نسبيا‪ .‬وانتشر‬ ‫في ربوعها انطالقا من منطقة نورمانديا‪ ،‬وبلغ الذروة خالل القرنين الرابع عشر‬ ‫والخامس عشر من خالل بعض المنشآت التي تجسد فيها ما يعرف "بالمعمار القوطي‬ ‫البراق"‪ .‬أما في ايطاليا‪ ،‬فلم ينتشر المعمار القوطي إال في مناطق محدودة كانت‬ ‫خاضعة لتأثير تنظيمات الفقراء المنضوين في طائفة فرنسيس األسيزي‪ .‬فبدا وكأنه‬

‫‪151‬‬

‫حوصر من قبل الفن الروماني الذي ظل قوي الحضور‪ ،‬وفن عصر النهضة الذي‬ ‫الحت مقدماته في األفق‪ .‬وفي جرمانيا كان األمر كذلك‪ ،‬حيث انتشر في المجاالت‬ ‫الهنسية نوع من المعمار القوطي تمثل في بعض الكنائس‪ ،‬ذات الردهات الفسيحة‪،‬‬ ‫شيدها مجموعة من التجار‪.‬‬ ‫يظهر بأن عالقة األوربيين بالفن القوطي ال زالت لم تنته بعد‪ .‬ويؤكد صدق ما‬ ‫أذهب إليه درس افتتاحي ألقاه روالن ريخت (‪ )Roland Recht‬بالكوليج دو فرانس‬ ‫ورد فيه‪ ،‬أن نظرة إلى المنشآت الحديثة تفيد باستمرارية الفن القوطي‪ ،‬إذ أن‬ ‫المهندسين المحدثين استلهموا الكثير من المنجزات التي تحققت بين سنتي ‪1140‬‬ ‫و‪ .1350‬فقاموا بمحاكاتها وإثرائها‪ ،‬ألن المعمار القوطي بلغ القمة‪ .‬وزادته روعة‬ ‫واكتماال األلوان الزاهية التي طليت بها الجدران والرسومات واألشكال المنحوتة التي‬ ‫زينت الواجهات‪ .‬ولذلك يحق القول بأن المعمار القوطي أثرى بشكل فريد أوربا‬ ‫األشكال والصور‪.‬‬ ‫‪ )4‬أوربا أدب المجامالت‬ ‫تميز القرن الثالث عشربكونه شكل الحيز الزمني الذي تأكدت فيه "أوربا‬ ‫السلوكات والطبائع الجميلة" التي يدرجها المؤرخون وعلماء االجتماع المحدثون‬ ‫والمعاصرون ضمن ما ينعتونه بمظاهر الحضارة‪ .‬وقد كان مسيحيو الفترة المذكورة‬ ‫ينعتون هذه المظاهر"بالمجاملة" (‪ .)la courtoisie‬وبعد مضي فترة من الزمن‬ ‫شاعت في األوساط الحضرية كلمات مثل التحضر‪ ،‬والتمدن‪ ،‬وأدب المعاملة للداللة‬ ‫على تلك األحاسيس والسلوكات والطبائع التي شاعت في القرن الثالث عشر‪.‬‬ ‫وقد قدر لهذه المظاهر أن تحظى سنة ‪ 1939‬بعناية عالم االجتماع األلماني‬ ‫نوربرت إلياس (‪ )Norbert Elias‬الذي خصها ببحث مستفيض تحت عنوان‬ ‫"حضارة الطبائع" أوضح فيه بأن األحاسيس والسلوكات التي تندرج تحت اسم‬ ‫المجاملة ذات أصلين اجتماعيين ‪ :‬القصور والمدن‪ .‬وبناء عليه‪ ،‬فهي تمثل حصيلة‬ ‫ا نصهار سلوكات النبالء وسلوكات أفراد البورجوازية التي شكلت موضوع مؤلفات‬ ‫كثيرة تم انجاز بعضها بالالتينية‪ ،‬وبعضها اآلخر باللغات المحلية‪ .‬منها ما كتب نثرا‬ ‫ومنها ما صيغ نظما‪ .‬ومن بينها ما اتخذ طابع المؤلفات التربوية‪ ،‬من قبيل مؤلف‬ ‫األديب والمربي االيطالي بيونڤشينو (‪ )Bonvesin( ou )Buonvicino‬الذي‬ ‫استعرض في مؤلفه كثيرا من مظاهر أدب السلوك‪ ،‬مثل آداب الجلوس إلى المائدة‪،‬‬ ‫وكيفية تناول الطعام‪ ،‬وكيفية التعامل بين الناس‪ ،‬وطرق تعامل الرجل مع المرأة‪،‬‬ ‫وكيفية تلطيف التعامل‪ ،‬والتخفيف من حدة الطبع‪ .‬ومن جملة ما أورده في هذا المؤلف‬ ‫قوله ‪" :‬ال يجب أبدا الشرب (أو االحتساء) من القدر مباشرة‪ .‬بل يجب استعمال ملعقة‬

‫‪152‬‬

‫للقيام بذلك‪ ،‬فهذا أفضل"‪ .‬وقوله ‪" :‬إن من ينحني على القدر وهو متسخ‪ ،‬يسيل لعابه‪،‬‬ ‫كأنه خنزير‪ .‬فمن األفضل له أن ينضم إلى الحيوانات والبهائم"‪.‬‬ ‫ورغم هذه التوصيات‪ ،‬فيبدو أن اإلقبال على استعمال بعض أدوات األكل كان‬ ‫على مضض‪ .‬فالشوكة‪ ،‬مثال‪ ،‬انتقلت من بيزنطة إلى ايطاليا في وقت مبكر‪ ،‬ورغم‬ ‫ذلك لم يقيل أفراد المجتمع على استعمالها إال منذ مطلع القرن الرابع عشر‪.‬‬ ‫وال شك‪ ،‬أن جميع ما كتب في هذا المضمار شكل تراكما استفاد منه ايراسموس‬ ‫(‪ )Erasme‬في تحرير مؤلفه الشهير"في كياسة طبائع األطفال" ( ‪De civilitate‬‬ ‫‪ ،)morum puerilium‬الذي وضعه باللغة الالتينية سنة ‪ ،1530‬وتمت ترجمته بعد‬ ‫ذلك إلى اللغات المحلية‪.‬‬ ‫وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول بأن القرن الثالث عشر شكل الحيز الذي ولدت‬ ‫فيه أوربا "آداب الطبائع و قواعد العيش الجيد"‪.‬‬ ‫‪ )5‬االرتقاء المبهم لﻠعمل‬ ‫أعتقد بأن الذهنيات ومنظومة القيم‪ ،‬شهدت تحوال خالل القرن الثالث عشر فيما‬ ‫يتعلق بالموقف من العمل‪ .‬وتتجلى أهمية هذه التحوالت إذا علمنا بأن ذات الموقف ال‬ ‫زالت له امتدادات في أوربا المعاصرة‪.‬‬ ‫لقد اكتسى الموقف من العمل في العصر الوسيط األعلى طابعا مبهما‪ ،‬وخاصة‬ ‫في أوساط رجال الدين المنتمين للمؤسسات الديرية؛ حيث إن قواعد القديس بينوا‬ ‫(‪ )Saint Benoît‬التي كانت تنظم أنشطتهم كانت تقتضي أن يزاولوا نشاطا مزدوجا‬ ‫يتمثل في استنساخ المخطوطات وعمارة األرض للحصول على ما يسد حاجياتهم‪.‬‬ ‫وكان الخضوع لهذا اإللزام بمثابة تكفير عن الذنب‪ ،‬مصداقا لما ورد في كتاب "أصل‬ ‫الخليقة" الذي ينص على أن هللا عاقب آدم وحواء على ارتكابهما للخطيئة بأن حكم‬ ‫عليهما بمزاولة العمل‪.‬‬ ‫كان عمل رجال األديرة اذن سبيال للتكفير عن الذنب‪ ،‬كما كان أيضا نوعا من‬ ‫المقابل يقدم لشراء المغفرة‪ .‬وساهم هذا األمر في حد ذاته في تثمين العمل‪ ،‬ولذلك‬ ‫اكتسب قيمة في األوساط االجتماعية‪ ،‬خاصة وأن الرهبان كانوا يحظون بمكانة‬ ‫مرموقة‪.‬‬ ‫وتسارعت وتيرة تثمين العمل بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر‪.‬‬ ‫وساهمت في ذلك عدة معطيات‪ ،‬من بينها التقدم التقني الذي واكب النشاط الزراعي‬ ‫في األرياف‪ ،‬وتطور العمل الحرفي في الحواضر والبحث عن الغنى والرقي‬ ‫االجتماعي اللذان لم يكن من الممكن تحقيقهما إال عن طريق العمل‪.‬‬

‫‪153‬‬

‫ويجب التذكير في هذا المضمار بما قيل عن التجار وعن األساتذة الجامعيين‬ ‫الذين أضحت أنشطتهم مشروعة‪ ،‬وأصبحت لهم حظوة‪ ،‬بفعل العمل‪ .‬وبالمقابل تعرض‬ ‫اإلخوان الفقراء النتقادات الذعة نظرا لموقفهم السلبي من العمل‪.‬‬ ‫ويبدو أن جميع الفئات االجتماعية التي كانت تتباهى بتفوقها‪ ،‬من دون أن تسند‬ ‫ذلك التفوق إلى عمل معين‪ ،‬كفئة النساك العباد وفئة الفرسان وفئة النبالء‪ ،‬وجدت‬ ‫نفسها تفقد الكثير من الهيبة بفعل المكانة المرموقة التي أخذ يكتسبها العمل في األوساط‬ ‫االجتماعية وفي أذهان الناس‪ .‬والمالحظ أن النشاط الحربي‪ ،‬الذي كان فيما مضى من‬ ‫األولويات‪ ،‬أضحى في أعين الناس مجرد عمل نافع تقوم به فئة معينة من أجل حماية‬ ‫الضعفاء‪ .‬وفي هذا السياق بالذات ظهرت القولة المأثورة ‪" :‬العمل أفضل من‬ ‫الشجاعة"‪.‬‬ ‫ولكن رغم كل ما تحقق‪ ،‬ظلت صورة العمل تشوبها نقائص كثيرة‪ .‬منها مثال أن‬ ‫قاموس المصطلحات المتداولة لم يكن يتضمن مصطلح "العمل"‪ .‬وإن كلمة "‪"labor‬‬ ‫المتداولة كانت تعني "الجهد" في المقام األول‪ .‬ومنها تم اشتقاق الكلمة الفرنسية‬ ‫"‪ ،"laboureur‬التي تطلق على الحراث (القائم بعملية الحرث)‪ .‬كما أن كلمة‬ ‫"‪( "opera‬أوبرا) كانت تعني الناتج الحاصل عن العمل (‪)le produit du travail‬‬ ‫الذي يمكن التعبير عنه أيضا في اللغة الفرنسية بكلمة "‪ ،"œuvre‬ومنها كلمة‬ ‫"‪ ." ouvrier‬وفضال عن كل هذا وذاك‪ ،‬ظل هناك تمييز‪ ،‬بل تناقض‪ ،‬بين العمل‬ ‫اليدوي‪ ،‬الذي ظل ممقوتا‪ ،‬وأشكال العمل األخرى‪ ،‬التي كانت تحظى بالقبول‬ ‫واالحترام‪ .‬وهذا ما عبر عنه أحد الشعراء بفخر واعتزاز قائال ‪ ":‬لست عامال‬ ‫باليدين"‪.‬‬ ‫وفي ضوء ما تقدم‪ ،‬سيتخلص بأن المعطيات السابق ذكرها كانت وراء ميالد‬ ‫مفهوم العمل الذي ظل مبهما ومحاصرا بين الكرامة ونقيضها‪ .‬ومما الشك فيه أن‬ ‫الكنيسة‪ ،‬وبمعيتها األغنياء واألقوياء‪ ،‬ساهموا جميعا في تمجيد العمل لكي يظل العمال‬ ‫ع بيدا تحت رحمة مشغليهم‪ .‬وهذا ما يفسر استمرارية النقاش إلى اليوم حول مفهوم‬ ‫العمل‪ .‬وإن التحوالت الكبرى التي يشهدها سوق الشغل تمثل منعطفا مهما في أقطار‬ ‫أوربا‪ ،‬وفي باقي األقطار التي تنعت بكونها متقدمة‪.‬‬ ‫‪ )6‬أوربا والمغول والشرق‬ ‫شهد القرن الثالث عشر تطورا حاسما ذا صلة وثيقة بتكوين أوربا‪ .‬وال بأس من‬ ‫التذكير‪ ،‬قبل الحديث عن طبيعة هذا التطور‪ ،‬وعن األسباب الكامنة وراءه‪ ،‬بأن هوية‬ ‫أوربا تشكلت دوما خالل فترات مواجهة األعداء أو "اآلخرين"‪ .‬وأعني باألعداء‬ ‫واآلخرين الفرس في العصر القديم‪ ،‬ثم الشعوب المتبربرة‪ ،‬والوثنيين‪ ،‬والمسلمين‬

‫‪154‬‬

‫أخيرا‪ .‬وأتى المغول في القرن الثالث عشر ليضيفوا بدورهم لمسة أخرى في عملية‬ ‫التكوين وهي في طور األجرأة‪.‬‬ ‫تمثلت هذه اللمسة في الغزو الذي قاموا به سنة ‪ ،1241‬والذي قادهم إلى بعض‬ ‫مناطق الغرب حتى مشارف سيليزيا (‪ .)la Silésie‬ثم انكمش بعد ذلك وأصبح‬ ‫منحصرا في مناطق الشرق‪ .‬وغني عن البيان‪ ،‬أن هذا الغزو أثار الفزع والرعب في‬ ‫أوساط المسيحيين وأثر في أذهانهم‪ .‬ولذلك قرر ملك فرنسا سان لويس تقديم روحه‬ ‫قربانا لحسم هذا الوضع‪ ،‬وآثر أن يموت شهيدا‪ .‬ولم يتوان فعال‪ ،‬وهو يخوض حملة‬ ‫صليبية في المشرق‪ ،‬عن القيام بكل ما من شأنه احتواء خطر هؤالء المغول‪ ،‬ألنهم‬ ‫يمكن أن يكونوا أعداء شرسين‪ ،‬كما يمكن أن يكونوا حلفاء في حربه ضد المسلمين‪.‬‬ ‫وحدث أن ساهم الخوف من المغول في إذكاء تطور المواقف الذهنية التي كانت‬ ‫آخذة أصال في التطور‪ ،‬كما ساهم في التخلي عن الحمالت الصليبية‪ .‬ذلك أن اهتمام‬ ‫المسيحيين المتزايد بأراضيهم وبممتلكاتهم وبقضايا الغرب األوربي‪ ،‬حد من وتيرة‬ ‫االهتمام بالحمالت الصليبية‪ .‬وأفضى الخوف من الغزو المغولي الى توحيد االتجاه‬ ‫لدى جميع الفعاليات بعدم جدوى مواصلة االهتمام باألرض المقدسة‪.‬‬ ‫وظهرت في سياق هذه األحداث حدود في المناطق الشرقية من المجال‬ ‫األوربي‪ .‬وقد ارتسمت هذه الحدود في سياق عملية وضع الحدود التي كانت تتجسد‬ ‫آنذاك في مجاالت ترابية وليس في خطوط ثابتة من وضع الدول كما سيحدث الحقا‪.‬‬ ‫ويبدو أن هنغاريا‪ ،‬وبعدها بولندا‪ ،‬كانتا من بين أولى كيانات العالم المسيحي التي تبنت‬ ‫هذا التصور الجديد للحدود‪ ،‬ألن القائمين على األمر فيهما كانوا يرون بأن كيانيهما‬ ‫يعتبران بمثابة ثغرين في مواجهة المتبربرين الوثنيين ممثلين في المغول في المقام‬ ‫األول‪.‬‬ ‫ويبدو أن أول تعبير جسدته الوضعية الجديدة‪ ،‬والتصورات الجديدة للحدود‪،‬‬ ‫تمثل في رسالة بعث بها ملك هنغاريا بيال الرابع (‪ )Bella IV‬للبابا اينوسنت الرابع‪،‬‬ ‫أحاطه فيها علما بأن "التاتار"‪ ،‬أي المغول‪ ،‬يستعدون بشكل حثيث للهجوم في أقرب‬ ‫وقت على جميع مناطق أوربا‪ .‬وأضاف قائال في ذات الرسالة ‪" :‬وقد يحدث ال قدر هللا‬ ‫أن تسقط في حوزتهم إمبراطورية القسطنطينية‪ ،‬والمناطق المسيحية الواقعة فيما وراء‬ ‫البحار‪ .‬وستكون الخسارة كبيرة بالنسبة "لسكان أوربا" إذا ما احتل التاتار مملكتنا "‪.‬‬ ‫وشكل المجمع الديني الذي انعقد بمدينة ليون سنة ‪ 1274‬مناسبة أخرى أكد فيها‬ ‫أسقف موراڤيا أن الحروب الصليبية تصرف نظر المسيحيين عن االهتمام بالحدود‬ ‫الحقيقية للعالم المسيحي على نهر الدانوب الذي يقبع بالقرب منه الوثنيون‪ .‬ومما الشك‬ ‫فيه أن هذا التصور الجديد السياسي‪ -‬الجغرافي ألوربا كان عبارة عن تصور جديد‬

‫‪155‬‬

‫ترابي ألوربا‪ .‬وإن الذين كانوا يتبنونه لم يكونوا يأخذون بعين االعتبار مناطق‬ ‫الكاربات أو جبال األورال كحدود ألوربا‪.‬‬ ‫والشك أن األمر يتعلق بأوربا "جديدة" أتت كمحصلة لالزدهار الكبير الذي‬ ‫شهده العالم المسيحي منذ منصف القرن الحادي عشر حتى أواسط القرن الثالث عشر‪.‬‬ ‫ورغم صعوبة ضبط تواريخ بداية ونهاية التحوالت الكبرى في التاريخ‪ ،‬أعتقد بأن‬ ‫الحيز الزمني الممتد بين أواسط القرن الثاني عشر وأواسط القرن الموالي‪ ،‬شهد تحوال‬ ‫عميقا شمل مجموعة كبيرة من القيم األساسية التي كان يتبناها المجتمع المسيحي في‬ ‫أوربا‪ .‬وال شك‪ ،‬أن األمر يتعلق بمنعطف حاسم حدث نتيجة وعي انتشر في أوساط‬ ‫فئات عر يضة من الرجال ومن النساء الذين عايشوا ذلك االزدهار الذي حدث هنا‬ ‫وهناك بأشكال مختلفة وفي فترات متفاوتة نسبيا‪ .‬وقد شمل هذا االزدهار‪ ،‬كما هو‬ ‫معروف‪ ،‬جميع المجاالت التي تهم حياة الناس االقتصادية والتقنية واالجتماعية‬ ‫والفكرية والفنية والدينية والسياسية‪ .‬وبما أن القيم التي كان يتبناها أفراد المجتمع‪،‬‬ ‫كانت ذات صلة وثيقة بجميع هذه المجاالت‪،‬كما كانت تتفاعل فيما بينها بشكل معقد‪،‬‬ ‫فإن أي مجال من المجاالت السالف ذكرها كان يقوم بدور في تسريع الوتيرة (أو‬ ‫اإليقاع) خالل مجريات ذلك المنعطف‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن النمو المطرد لحركة التمدين‪ ،‬هو‬ ‫الذي قام بدور تسريع الوتيرة‪ .‬وأحيانا أخرى كانت الثورة الزراعية وراء هذا الدور‪،‬‬ ‫وأحيانا أخرى كان النمو الديموغرافي‪ .‬وفي أحايين أخرى كان ظهور المناهج‬ ‫المدرسية‪ ،‬وطوائف الفقراء‪ ،‬أو ظهور الدول المركزية‪ ،‬أو التحوالت في أوساط طبقة‬ ‫الفالحين‪ ،‬أو ظهور فئات اجتماعية مدينية جديدة كفئة البورجوازية‪.‬‬ ‫‪ )7‬نزول القيم من السماء عﻠى األرض‬ ‫أرى بأن الفترة الممتدة بين أواسط القرن الثاني عشر وأواسط القرن الموالي‪،‬‬ ‫التي استشاط فيها الوعي باإلقالع الكبير الذي تحقق في أوربا‪ ،‬والتي شهدت أيضا‬ ‫تحوال في منظومة القيم‪ ،‬تمثل فترة نزول القيم من السماء على األرض‪ .‬وأعتقد فعال‬ ‫بأن اإلقالع الكبير فرض تحديا على منظومة القيم التقليدية الموروثة عن العصر‬ ‫الوسيط األعلى‪ .‬ومن بين جميع الحلول الفكرية المتاحة التي كان من الممكن اللجوء‬ ‫إليها لرفع ذلك التحدي‪ ،‬فإن المسيحية الالتينية ارتأت اختيار العودة إلى العالم‬ ‫األرضي (الواقعي) في حدود ما يتطابق مع ما تقره العقيدة المسيحية طبعا‪ .‬وتجلت‬ ‫أولى عالمات تحول منظومة القيم في كون المستجدات التي كانت تحدث في سياق‬ ‫ذلك اإلقالع كان يتم لفها في ثوب التقليد الموروث عن العصر القديم الوثني‬ ‫والمسيحي‪ .‬ويمكن التذكير في هذا الشأن بالعبارة اللغز التي فاه بها مرة األسقف‬

‫‪156‬‬

‫بيرنار دو شارتر (‪" : )Bernard de Chartres‬نحن أقزام محمولة على أكتاف‬ ‫عمالقة"‪.‬‬ ‫وبناء عليه‪ ،‬فإن أول تحول شهدته القيم تمثل في التخلي عن اإلدانة القديمة التي‬ ‫كان يتم اللجوء إليها عند ظهور كل جديد‪ .‬وفي نفس السياق‪ ،‬يندرج موقف كاتب سيرة‬ ‫القديس دومينيك (‪ )Saint Dominique‬الذي عاش في النصف األول من القرن‬ ‫الثالث عشر‪ .‬فقد أثنى كثيرا في تلك السيرة على "دومينيك الرجل الجديد" وعلى‬ ‫طائفة الدعاة "الجديدة" التي أنشأها‪.‬‬ ‫ومما ال شك فيه‪ ،‬أن أفراد مجتمع العصر الوسيط األعلى كانوا يعملون‬ ‫ويكابدون من أجل حياة أرضية (دنيوية)‪ ،‬أي من أجل ممارسة السلطة الدنيوية‪ ،‬ولكن‬ ‫القيم التي كانوا يحيون باسمها أو يتصارعون باسمها كانت قيما ما فوق طبيعية‬ ‫تلخصها جملة مصطلحات‪ ،‬من قبيل هللا‪ ،‬مدينة هللا‪ ،‬الجنة‪ ،‬الخلود‪ ،‬كراهية العالم‪،‬‬ ‫الردة‪ .‬وتجسدت أيضا تلك القيم (الما فوق طبيعية) في نموذج أيوب اإلنسان الذي ال‬ ‫وجود له أمام قدرة هللا‪ .‬وخالصة القول هي أن السماء مثل األفق الثقافي واإليديولوجي‬ ‫والوجودي بالنسبة لجميع الناس‪.‬‬ ‫وقد ظل الناس مسيحيين منذ مطلع القرن الثالث عشر‪ .‬كما ظلوا منشغلين‪ ،‬أشد‬ ‫االنشغال‪ ،‬بخالصهم‪ ،‬ولكن الخالص أصبح يتحقق منذ هذه الفترة عن طريق استثمار‬ ‫مزدوج على األرض وفي السماء‪ .‬فكان ذلك يعني انبثاق قيم أرضية (دنيوية)‬ ‫مشروعة ومفضية إلى الخالص‪ .‬ويمكن تشبيه األمر بتحول عمل سلبي مفضي إلى‬ ‫الكفارة إلى عمل ذي قيمة ايجابية موهوب هلل‪ .‬وفي ضوء هذا التحول لم تعد عمليات‬ ‫اإلبداع واالختراع‪ ،‬وكذلك اإلسهامات في مجال التطور التقني والفكري‪ ،‬تعتبر‬ ‫خطايا‪ .‬كما أن التمتع بجمال وخيرات الجنة في الحياة األخرى‪ ،‬كان يبدأ التحضير له‬ ‫من األرض‪ .‬ويتطابق هذا التصور مع المبدإ القائل بأن اإلنسان خلق في صورة مماثلة‬ ‫هلل ليخلق على األرض الظروف االيجابية المفضية للخالص‪ ،‬وليس فقط الظروف‬ ‫السلبية‪ .‬ويمكن التأكيد في هذا الشأن بأن المسيح هو الذي أنقذ آدم وحواء من الجحيم‪.‬‬ ‫وبناء عليه‪ ،‬فإن التاريخ ليس دائما انحدارا نحو نهاية العالم‪ ،‬ولكنه أيضا صعود نحو‬ ‫األعلى‪ ،‬نحو اكتمال العالم‪ .‬وبالمثل‪ ،‬فإن التيار الذي أشاع في أوساط فئة قليلة من‬ ‫الناس اإلحساس بنهاية العالم في حدود األلفية‪ ،‬ضخ في نفوس فئات عريضة منهم‬ ‫معنى ايجابيا لمفهوم التاريخ‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فقد ظهرت إلى جانب ما يمكن نعته "بالسلطات" الفكرية‬ ‫األصيلة (‪ ،)les authentica‬التي كانت مصدر القيم‪ ،‬سلطات فكرية جديدة تمثلت في‬ ‫أساتذة الجامعات (‪ .)les majistralia‬أما في المجال االقتصادي‪ ،‬فظهرت للوجود‬ ‫فكرة "النمو" (‪ )la croissance‬التي ستحل بدلها منذ نهاية القرن السابع عشر فكرة‬

‫‪157‬‬

‫التقدم (‪ .)le progrès‬وفي مجال التقنيات شاع استعمال الطاحونة‪ ،‬وتنوعت تطبيقاتها‬ ‫تبعا ألغراض مختلفة‪ ،‬وتم استبدال طريقة النسج العمودية بأخرى أفقية‪ ،‬وظهر نظام‬ ‫عمود الكامات (‪ )l’arbre à cames‬الذي أصبح يستعمل في الطاحونات‪،‬‬ ‫و"المحركات"‪ ،‬فجعل دورتها ترددية بعد أن كانت متواصلة‪ .‬وقد أفضت هذه التقنيات‬ ‫إلى ظهور قيمة جديدة هي اإلنتاجية (‪ .)la productivité‬وفي المجال الزراعي‪،‬‬ ‫يبدو أن هللا أرسل منة إلى عباده‪ .‬فقد نزلت الوفرة من السماء على األرض‪ ،‬حيث تم‬ ‫الشروع في استعمال نظام الدورات الثالث بدل نظام الدورتين في المناطق التي تسمح‬ ‫فيها التربة والمناخ والنظام الزراعي بذلك‪ ،‬فانضاف سدس إلى مساحة األراضي التي‬ ‫كانت مستثمرة مما ساعد على تنوع المنتوجات وفق الفصول‪ .‬فظهرت تبعا لذلك قيم‬ ‫النمو والمردود‪ .‬وغدا علم الفالحة جديرا بأن يتم التأليف فيه‪ ،‬كما كان األمر في‬ ‫المراحل المتأخرة من العصر القديم‪ .‬فوضع األنجليزي وولتير دو هنلي ( ‪Walter de‬‬ ‫‪ )Henley‬حوالي سنة ‪ 1280‬مؤلفه "‪ ."Hosebonderie‬ثم وضع االيطالي‬ ‫بيتروس دو كرسنتيوس (‪ )Petrus de Crescentius‬بين سنتي ‪ 1304‬و‪1306‬‬ ‫مؤلفه "‪( "Ruralium commodorum opus‬فوائد العمل في الوسط الريفي) الذي‬ ‫أمر ملك فرنسا شارل الخامس بترجمته إلى الفرنسية في أواسط القرن الرابع عشر‪.‬‬ ‫ورغم وجوب عدم المبالغة عند الحديث عن هذه التحوالت‪ ،‬فأقر بأنها كانت‬ ‫مؤشرا على العودة إلى األرض‪ .‬فقد انتهى زمن كان فيه العار يلف بمصطلح الكسب‬ ‫ويعيق سعي المتعاملين لتحقيق الربح أو جني فوائد‪ .‬وقد تغيرت المواقف من الربح‬ ‫والكسب المشروع تحت تأثير بعض الفعاليات‪ ،‬وأبرزها طوائف اإلخوان الفقراء‪،‬‬ ‫الذين أصدروا ما يشبه مجموعة "فتاوى" ذات صلة بالحياة االقتصادية‪ ،‬بعضها يهم‬ ‫التجارالذين رأوا بأنهم يمارسون نشاطا مشروعا ينتفع منه عدد كبير من الناس‪ ،‬طالما‬ ‫أنهم يضعون رهن إشارة هؤالء الناس خيرات وهبها هللا لهم‪.‬‬ ‫وكان انتشار القيم الجديدة يتم في إطار لجوء متزايد للعقل وللحساب‪ .‬وهذا‬ ‫بالذات ما يفيد به المصطلح الالتيني المتداول "‪( "ratio‬نسبة)‪ .‬وقد تجلت العقالنية في‬ ‫طريقة استثمار االستغالليات الزراعية‪ ،‬وكذلك في عملية جمع المحاصيل التي كانت‬ ‫تجود بها‪ .‬وال شك أن العقالنية هي التي أملت على ملك أنجلترا وليام الفاتح‬ ‫(‪ )Guillaume le Conquérant‬القيام بتلك العملية التي كانت سابقة في التاريخ‬ ‫وتمثلت في القيام بجرد كامل لمختلف االستغالليات الزراعية التي تقع في حوزة‬ ‫األسرة المالكة‪ ،‬وجرد لمختلف منتوجاتها‪ .‬وحصل ذلك الجرد سنة ‪ .1085‬وتضمنه‬ ‫الكتاب الشهير باسم "‪."Domesday Book‬‬ ‫ويمكن تأكيد صحة وجهة نظري القائلة بحدوث عملية تحويل (‪)un transfert‬‬ ‫من السماء إلى األرض بالتذكير بالعملية التي قام بها قمط الفالندر (‪ )la Flandre‬سنة‬

‫‪158‬‬

‫‪ .1187‬وتمثل امتدادا إلى حد ما لما قام به ملك أنجلترا‪ ،‬حيث أنجز هو اآلخر جردا‬ ‫مدعما باألرقام لمختلف مداخيله‪ .‬وعلى غراره كان يقوم فليب أغسطس في فرنسا‬ ‫بنفس العملية بصورة منتظمة‪ .‬وال زالت الخزائن تحتفظ بنسخة جرد يغطي الفترة بين‬ ‫سنتي ‪ 1202‬و‪ .1203‬ورغم أن الحقيقة التي تفصح عنها مثل هذه العمليات حقيقة‬ ‫بسيطة في حد ذاتها‪ ،‬فإنها تسمح بالحديث عن ميالد أوربا الميزانية‪ .‬وكأن "هوس‬ ‫الحساب" أخذ يستبد بمجتمع غرب أوربا ابتداء من حوالي سنة ‪ .1200‬فأصبح الناس‬ ‫يحصون كل شيء‪ ،‬حتى السنوات التي سيقضونها في المطهر‪ .‬وهذا ما عبر عنه جاك‬ ‫شيفولو (‪ )Jacques Chiffoleau‬بصيغة جميلة ‪" :‬المحاسبة في العالم اآلخر" ( ‪la‬‬ ‫‪ .)comptabilité de l’au delà‬فقد بدا فعال وكأن رجال ونساء ما بعد القرن الثالث‬ ‫عشر‪ ،‬من منتمين للمؤسسات الدينية‪ ،‬ومن الئكيين‪ ،‬تجاوزوا حدودهم وتعدوا على‬ ‫مجال من مجاالت هللا تحذوهم الرغبة في التحكم أكثر في الزمن الذي يحيونه في‬ ‫يومهم‪ .‬ومن هنا ظهرت في سائر أنحاء أوربا الساعة الميكانيكية‪ .‬وحتى الجامعيون‬ ‫أنزلوا على كراسيهم العلمية جزءا من المعرفة التي كان هللا وحده يقوم بتوزيعها‪.‬‬ ‫فمعرفة هللا غدت بدورها معرفة إنسانية‪ .‬فقد استعمل عالم الالهوت والفيلسوف أبيالر‬ ‫مفهوم "الثيولوجيا" ألول مرة في مطلع القرن الثاني عشر‪ .‬ووضح األب شوني ( ‪le‬‬ ‫‪ )Père Chenu‬كيف تحولت تلك "الثيولوجيا" إلى علم خالل القرن الثالث عشر‪.‬‬ ‫وفي نفس السياق‪ ،‬يندرج الحديث عن "البورﯕتوريوم" (المطهر) الذي ابتدعته الكنيسة‬ ‫عند نهاية القرن الثاني عشر‪ .‬فقد كان استحداثه نوعا من التعدي على حق هللا على‬ ‫األموات‪ .‬ألن الكنيسة أرست من خالله نظاما جديدا لتسليم أرواح اآلدميين‪ .‬إذ في‬ ‫المطهر كان يتم فرز (أو انتخاب) أرواح األموات قبل تسليمهم هلل‪.‬‬ ‫وال شك أن هذا األمر‪ ،‬وغيره من األمور‪ ،‬يفيد بأن المنظومة الفكرية والذهنية‬ ‫شهدت تطورا‪ .‬وقد سمح تطورها للناس بالتحكم في أدوات المعرفة بصورة أفضل‪.‬‬ ‫وفي هذا السياق‪ ،‬لم يعد الكتاب تحفة فنية يقتنى للزينة كما كان األمر سابقا‪ ،‬وإنما‬ ‫أصبح يقرأ لصقل المعرفة‪ .‬وعلى غرار القراءة انتشرت الكتابة في أوساط التجار‬ ‫ورجال القانون‪ .‬كما غدت أداة للتعليم في الدارس‪ .‬وهكذا انتفى الطابع القدسي الذي‬ ‫كان يلف هذه األداة‪ ،‬أو باألحرى أضحت قوتها تفتعل على األرض بعد أن كانت تفتعل‬ ‫في السماء‪ .‬وغدا جسد اإلنسان موضوع عالج وتطبيب بدل أن يكون شيئا يدفع إلى‬ ‫النفور‪ .‬ويتضح ذلك‪ ،‬إذا علمنا بأن البابا بنديتو كايتاني (‪)Benedetto Caetani‬‬ ‫بونيفاس الثامن‪ ،‬أصدر سنة ‪ 1299‬أمرا بمنع عملية تقطيع جثة الميت إلى أجزاء ( ‪le‬‬ ‫‪ .)dépeçage‬ولم تعد ظاهرة النهم تندرج ضمن الخطايا المرتبطة بالبذخ‪ ،‬بل ظاهرة‬ ‫مقبولة بالنظر للتطور الحاصل في مجال التغذية وفن الطبيخ‪ .‬ويندرج‪ ،‬في هذا السياق‬ ‫بالذات‪ ،‬ظهور أول مصنف في فن الطبيخ أمر األسقف ورجل الدولة الدانمركي‬

‫‪159‬‬

‫أبسلون (‪ )Absalon‬بوضعه حوالي سنة ‪ .1200‬فكان ذلك إيذانا بميالد أوربا الطبيخ‬ ‫واألكل‪ .‬وعلى غرار النهم‪ ،‬كان الضحك ظاهرة غير محمودة وفق تعاليم بعض‬ ‫التنظيمات الديرية المتشددة‪ ،‬فغدا بعد القرن الثالث عشر من مظاهر نقاوة الروح‪،‬‬ ‫وصفاء السريرة‪ ،‬كما أخذ يقول بذلك أعضاء طائفة فرنسيس األسيزي‪ .‬وقد يفهم من‬ ‫هذه اإلباحة‪ ،‬بأن الضحك يطيل العمر‪ .‬ولذلك أخذ يسود شيئا فشيئا في أوساط الناس‬ ‫اتجاه نحو الرغبة في العيش لمدة أطول‪ .‬فكأنهم لم يعودوا في عجلة من أمرهم‪ .‬وهذا‬ ‫ما أكده أحد الباحثين االيطاليين حين أوضح بأن رجل الدين والعالم والفيلسوف روجي‬ ‫باكون (‪ )Roger Bacon‬لم يكن يخفي رغبته في أن يعمر اإلنسان طويال على وجه‬ ‫األرض‪.‬‬ ‫وكما اشتهر باكون بالبحث في مجال الفلسفة والعلم‪ ،‬فقد اشتهر غيره بالبحث في‬ ‫مجاالت أخرى كالبحث الخرائطي الذي ارتقى إلى مصاف العلوم وقطع مع الفكر‬ ‫اإليديولوجي الذي كان يلفه خالل العصر الوسيط األعلى‪ .‬فأضحت معرفة العالم تبعا‬ ‫لذلك قائمة على أسس علمية‪.‬‬ ‫تجدر اإلشارة في األخير إلى أن القرنين الثاني عشر والثالث عشر شهدا تكون‬ ‫نموذجين من المثل اإلنسانية (‪ )deux types d’idéal humain‬التي كانت تهدف‬ ‫إلى تحقيق نجاح دنيوي في المقام األول‪ ،‬وان كانت تروم أيضا االستعداد للخالص‪.‬‬ ‫يتمثل النموذج األول في ظاهرة المجاملة التي غدت في القرن الثالث عشر تعني أدب‬ ‫السلوك والخلق الحميد‪ ،‬وتختزل الحضارة ككل‪ .‬ويتمثل النموذج الثاني في السلوك‬ ‫المتزن القائم على الروية (‪ .)la prud’homie‬ويتضمن هذا النموذج معنى الحكمة‪،‬‬ ‫واالعتدال‪ .‬أي يفيد بنوع من التوافق بين الشجاعة والتواضع‪ ،‬بين اإلقدام والعقل‪ ،‬أو‬ ‫النظرة الثاقبة‪ .‬وغني عن البيان أن هذا المثل (‪ )un idéal‬ذو مسحة الئكية بالدرجة‬ ‫األولى‪.‬‬ ‫وعلى العموم‪ ،‬فإن معاني النموذجين تجسدت بصورة جلية في شخصين تدور‬ ‫حولهما أحداث الكتاب الموسوم "أنشودة روالن"‪ .‬الشخص األول هو الفارس روالن‬ ‫الذي يبدو في الكتاب رجال باسال‪ ،‬وفي نفس الوقت حكيما‪ .‬والشخص الثاني هو ملك‬ ‫غالة لويس التاسع‪ ،‬الذي يبدو رجال حكيما متزنا أكثر من كونه قديسا‪ .‬ومعنى ذلك‪ ،‬أن‬ ‫الخالص غدا يتحقق‪ ،‬ابتداء من القرن الثالث عشر‪ ،‬على األرض كما في السماء‪.‬‬ ‫ولكن يجب التنبيه بأن الحديث عن هذين النموذجين‪ ،‬ال يعني البتة‪ ،‬انتفاء المثل‬ ‫ذات الصبغة الجماعية من قبيل االنتماء "للعصبية"‪ ،‬أو االنتماء لطائفة معينة‪ .‬ولكن‬ ‫الم الحظ أن فئة قليلة من رجال ونساء القرن الثالث عشر كانوا يجتهدون قدر اإلمكان‬ ‫إلبراز ذواتهم‪ .‬وكانت "باحة التطهير والفرز" (البورﯕتوار) تستقبلهم عند نهاية‬ ‫حياتهم الدنيوية‪ .‬والجدير بالذكر أن هذه "الباحة" كانت عالما أخرويا فرديا في الطريق‬

‫‪160‬‬

‫نحو العالم األخروي الجماعي الذي ينتظم بعد يوم القيامة‪ .‬ولعل ظاهرة الفردانية‬ ‫المشار إليها هي التي تحدث عنها الباحث ميشال زانك (‪ 58)Michel Zink‬من خالل‬ ‫مالحظته لالستعمال المتكرر لضمير المتكلم "أنا" (‪ ) je‬في كثير من المصنفات‬ ‫األدبية‪ .‬ومعنى ذلك أن الذاتية أخذت تحتل موقعا متميزا في أوربا القرن الثالث عشر‪.‬‬

‫‪ - 58‬أستاذ باحث فرنسي‪ ،‬ولد سنة ‪ .1945‬وهو متخصص في فقه اللغة‪ .‬حاضر في جامعتي تولوز والسوربون‪ ،‬وفي‬ ‫الكوليج دو فرانس‪ .‬أصدر عددا من الدراسات واألبحاث تهم األدب الفرنسي في العصر الوسيط‪ .‬من بينها ‪:‬‬ ‫‪- Littérature française du Moyen Age, Paris, P.U.F., 1992.‬‬ ‫‪- Les troubadours. Une histoire poétique, Paris, Perrin, 2013.‬‬

‫‪161‬‬

‫الفصل السادس‬ ‫خريف العصر الوسيط‬ ‫أم ربيع األزمنة الجديدة‬

‫أستهل هذا الفصل بتنبيه القارئ الى أن عبارة "خريف العصر الوسيط" الواردة‬ ‫أعاله‪ ،‬هي عنوان كتاب أصدره فليب ڤولف سنة ‪ .1980‬ويعتبر في األصل عنوان‬ ‫كتاب مشهور ألفه المؤرخ الهولندي يوهان هويزينكا (‪ )Johan Huizinga‬سنة‬ ‫‪ .1919‬وعبارة "خريف العصر الوسيط" تتضمن توصيفا درج الباحثون في تاريخ‬ ‫هذه الحقبة على إطالقه على القرنين الرابع عشر والخامس عشر اللذين جرت العادة‬ ‫على اعتبارهما يمثالن نهاية العصر الوسيط‪ .‬وخاللهما شهدت أوربا أزمة بعد‬ ‫االستقرار واالزدهار النسبيين اللذين عرفتهما في القرن الثالث عشر‪.‬‬ ‫وقد اقترح الباحث ﯕي بوا (‪ )Guy Bois‬مؤخرا إعادة النظر في هذا التوجه‪.‬‬ ‫وذهب إلى اعتبار ما حدث من مصاعب خالل القرنين الرابع عشر والخامس عشر‬ ‫مجرد أزمة عابرة شهدها النظام الفيودالي‪ .‬وقد سعى إلى تبيان صحة وجهة نظره‬ ‫باختيار منطقة نورمانديا (‪ )la Normandie‬كمجال جغرافي لبحثه‪ .59‬وأرى من‬ ‫ج انبي أن هذا االختيار قلل نسبيا من قيمة وجهة نظرالباحث‪ .‬وأعتقد على غرار كثير‬ ‫من الباحثين‪ ،‬بأن تلك المصاعب تفيد بأن األمر يتعلق بأزمة بنيات‪ ،‬وبأزمة نمو عام‬ ‫للمجتمع األوربي وظهور كارثي لمآسي جديدة‪ .‬فرجال ونساء القرن الرابع عشر‪،‬‬ ‫الذين كانت تطغى على رؤاهم فكرة نهاية العالم وقيام القيامة‪ ،‬التي نزلت هي األخرى‬ ‫‪ - 59‬يمثل هذا البحث في األصل أطروحة جامعية أنجزها لنيل دكتوراه الدولة‪ .‬وكان موضوعها ‪:‬‬ ‫‪Recherches sur l’économie rurale et la démographie en Normandie orientale du début du‬‬ ‫‪XIVe siècle au milieu du XVIe siècle.‬‬ ‫ونشرها بباريس سنة ‪ 1976‬تحت عنوان ‪ Crise du féodalisme :‬ضمن منشورات‬ ‫‪la Fondation Nationale des Sciences Politiques.‬‬

‫‪162‬‬

‫من السماء على األرض‪ ،‬لخصوا الكوارث التي واجهوها في صورة الفرسان الثالثة‬ ‫أبطال يوم القيامة ‪ :‬المجاعة‪ ،‬والحرب‪ ،‬والوباء‪ ،‬مع العلم أن هذه الكوارث كانت‬ ‫معروفة خالل القرون السابقة‪ ،‬ولكن حدتها هي التي أذهلتهم أكثر‪.‬‬ ‫‪ )1‬المجاعة والحرب‬ ‫يبدو أن المجاعة كانت ظاهرة مرعبة‪ ،‬ألن المؤرخين الذين اهتموا بدراسة‬ ‫المتغيرات المناخية‪ ،‬أمثال إيمانويل لو روا الدوري‪ 60‬وبيير اإلسكندر ( ‪Pierre‬‬ ‫‪ 61)Alexandre‬خلصوا من خالل بعض المؤشرات إلى القول بأن مناخ أوربا شهد‬ ‫تحوال‪ ،‬وخاصة في المناطق الشمالية‪ ،‬ترتب عن انخفاض درجة الحرارة وزيادة في‬ ‫التساقطات المطرية على شكل موجات متتالية‪ .‬وقد أفضت البرودة واألمطار إلى‬ ‫حدوث مجاعة كبرى بين سنتي ‪ 1315‬و‪.1322‬‬ ‫وكانت الحرب في العصر الوسيط‪ ،‬كما هو معروف‪ ،‬ظاهرة تكاد تكون مزمنة‪،‬‬ ‫رغم أن الكنيسة‪ ،‬وبعض الملوك‪ ،‬اجتهدوا من أجل إقرار السلم وخلق الظروف‬ ‫المالئمة للعيش الكريم‪ .‬كما بذل حكام الممالك الناشئة بدورهم جهودا للحد من الحروب‬ ‫الفيودالية التي كانت تستعر بين األسر األرستقراطية‪ .‬وقد أدت جميع هذه المساعي‬ ‫إلى تراجع نسبي للعمليات الحربية‪.‬‬ ‫ويتفق المؤرخون على أن الحرب عادت أدراجها خالل القرن الرابع عشر بشكل‬ ‫قوي‪ .‬وإن ما شد انتباه المعاصرين لمختلف فصولها‪ ،‬هو كون الظاهرة الحربية اتخذت‬ ‫أشكاال مختلفة عما كان عليه األمر من قبل‪ .‬ذلك أن الدول المركزية‪ ،‬التي كانت آخذة‬ ‫في النمو شيئا فشيئا نجحت في الحد نسبيا من الحروب الفيودالية الخاصة‪ ،‬ولكنها‬ ‫دخلت فيما بينها في حروب ذات صبغة "وطنية"‪ .‬ومن أبرزها حرب المائة سنة بين‬ ‫فرنسا وأنجلترا التي أعادت للواجهة الصراع الذي كان محتدما بينهما خالل القرنين‬ ‫الثاني عشر والثالث عشر‪.‬‬ ‫وال شك أن ما أضفى شكال جديدا على الحرب هو التطور التكنولوجي‪ ،‬الذي‬ ‫كان بطيئا‪ ،‬ولكنه كان خارقا‪ .‬وتجسد في ظهور المدفع (‪ ،)le canon‬والبارود‪،‬‬ ‫‪ - 60‬مؤرخ فرنسي شهير سبق أن أحالنا على أحد مؤلفاته في الهامش رقم ‪ ،1‬ص‪ .86.‬أما دراسته حول المتغيرات‬ ‫المناخية‪ ،‬والتي يشير اليها لو ﯕوف دون االحالة عليها‪ ،‬فصدرت بباريس سنة ‪ ،1967‬ضمن منشورات "فالماريون"‬ ‫تحت عنوان ‪:‬‬ ‫‪Histoire du climat depuis l’an mil.‬‬ ‫‪ - 61‬باحث بلجيكي متخصص في تاريخ أوربا الوسيط‪ .‬ناقش بجامعة لييج اطروحة جامعية لنيل الدكتوراه في موضوع‬ ‫المتغيرات المناخية في العصر الوسيط‪ .‬ونشرها سنة ‪ 1987‬تحت عنوان ‪:‬‬ ‫‪Le climat en Europe au Moyen Age, contribution à l’histoire des variations climatiques de‬‬ ‫‪1000 à 1420, d’après les sources narratives de l’Europe occidentale, Paris, les Editions de‬‬ ‫‪l’Ecole des Hautes Etudes en Sciences Sociales.‬‬

‫‪163‬‬

‫باإلضافة إلى تطور تقنيات الحصار‪ .‬وقد أدت هذه المستجدات إلى تراجع تدريجي‬ ‫لدور القصور المحصنة (‪ )les châteaux forts‬لصالح نوعين من اإلقامات (أو‬ ‫المنشآت) وهما القصور األرستقراطية المخصصة للقامة واالستجمام‪ ،‬والقالع الواقعة‬ ‫في ملكية الملوك أو األمراء‪ .‬وتميزت هاته المنشآت بقدرتها على الصمود أمام قصف‬ ‫المدافع‪.‬‬ ‫ويظهر أن الحروب أصبحت مهنية أكثر‪ .‬كما أن األزمة االقتصادية‬ ‫واالجتماعية ساهمت بدورها في تزايد عدد المشردين‪ ،‬الذين كلما وجدت مجموعة‬ ‫منهم من يقودها‪ ،‬تحولت إلى فرقة مسلحة‪ ،‬أو تنظيم عسكري‪ ،‬يقوم بعمليات سلب‬ ‫ونهب أكثر حدة من العمليات التي كان يقوم بها المحاربون النظاميون‪ .‬ففي ايطاليا‪،‬‬ ‫على سبيل المثال‪ ،‬كان "رؤساء" الحرب كثيري العدد وأقوياء إلى درجة أنهم كانوا‬ ‫"يمنحون" خدماتهم العسكرية للمدن وللحكام‪ .‬وأحيانا كانوا يتحولون الى قادة‬ ‫سياسيين‪.‬‬ ‫وفي هذا السياق المشحون بالصراع‪ ،‬لجأت بعض الدول‪ ،‬مثل فرنسا‪ ،‬إلى إنشاء‬ ‫فرق من المحاربين النظاميين كانوا يخوضون الحروب مقابل أجر‪ .‬بينما استعانت‬ ‫المدن‪ -‬الدول في ايطاليا بخدمات فرق المرتزقة الذين أضحوا أكثر تنظيما وأكثر‬ ‫جاهزية‪ .‬وكان السويسريون على رأس األوربيين الذين اشتهروا بانتمائهم لفرق‬ ‫المرتزقة‪.‬‬ ‫ومن المفيد التذكير بأن الباحث ويليام شيستر جوردان ( ‪William Chester‬‬ ‫‪ )Jordan‬خص المجاعة الكبرى التي شهدتها أوربا في مطلع القرن الرابع عشر‬ ‫ببحث ممتا ز‪ 62‬أوضح فيه كيف أن األوربيين الذين عاينوا تلك المجاعة عن كثب‪ ،‬ولم‬ ‫يذهبوا ضحيتها‪ ،‬اعتبروها فريدة من نوعها‪ .‬كما نقل بعض شهاداتهم التي تسلط‬ ‫الضوء على األسباب الطبيعية والبشرية و"اإللهية" التي كانت وراءها‪ .‬فقد رأوا بأن‬ ‫المناخ‪ ،‬والتساقطات المطرية‪ ،‬والحرب‪ ،‬وغضب هللا كانت وراء حدوثها‪ .‬والظاهر أن‬ ‫عواقبها كانت جد وخيمة‪ .‬فقد أدت إلى تراجع مهول لمحاصيل الحبوب‪ ،‬وأودت بحياة‬ ‫عدد كبير من الحيوانات والدواب‪ .‬فارتفعت األسعار التي زادت بدورها في مضاعفة‬ ‫عدد الفقراء والمعوزين‪ .‬ولم ترتفع األجور قط لمواكبة ارتفاع األسعار‪ .‬ويبدو أن‬ ‫ضعف أنظمة ومؤسسات الممالك الناشئة‪ ،‬وضعف إمكانيات تخزين المؤن‪ ،‬ونقص‬ ‫وسائل النقل‪ ،‬عوامل زادت من صعوبة الوضع وحدت أيضا من إمكانية التخفيف من‬ ‫‪ - 62‬مؤرخ أمريكي ولد سنة ‪ .1948‬يحاضر منذ سنوات بجامعة برنستون (‪ .)Princeton‬أصدر مجموعة دراسات‬ ‫وأبحاث حول الحرب الصليبية‪ ،‬وحول نظم الحكم في أنجلترا وفرنسا العصر الوسيط‪ .‬كما أنجز بحثا حول المجاعة‬ ‫الكبرى بعنوان ‪:‬‬ ‫‪The Great Famine: Northern Europe in the Early Fourteenth Century, Princeton, Princeton‬‬ ‫‪University Press, 1996.‬‬

‫‪164‬‬

‫النتائج المترتبة عن المجاعة‪ .‬ولم تكن ثمة وسيلة بديلة للتخفيف من حدة معاناة الناس‬ ‫ألن أوربا التضامن‪ ،‬في الوسط الريفي‪ ،‬كانت ال زالت لم تنشأ بعد‪.‬‬ ‫وكما خص ويليام شيستر جوردان المجاعة الكبرى ببحث ممتاز‪ ،‬خص الباحث‬ ‫فليب كونتمين (‪ )Philippe Contamine‬بدوره الظاهرة الحربية خالل القرنين‬ ‫الرابع عشر والخامس عشر ببحث ممتاز‪ 63‬تطرق فيه إلى عدة جوانب من بينها تطور‬ ‫التأليف في علوم الحرب‪ .‬وهكذا ظهرت‪ ،‬على غرار كتب الفالحة التي تم الحديث‬ ‫عنها فيما مضى‪ ،‬كتب اهتمت بكل ما له صلة بالحرب وفنون القتال‪ .‬وقد تم نقل بعض‬ ‫من تلك المؤلفات إلى اللغة الالتينية من لغات أخرى أجنبية‪ .‬كما أن نماذج منها تم نقلها‬ ‫إلى اللغات المحلية المتداولة‪ .‬كما هو الشأن مثال بالنسبة لكتاب ثيودور باليولوﯕ‬ ‫(‪ ،)Théodore Paléologue‬أحد أبناء اإلمبراطور البيزنطي أندرونيكوس الثاني‬ ‫(‪ ،)Andronic II‬الذي أمر فليب الجريء (‪ )Philippe le Hardi‬دوق بورغونديا‬ ‫(‪ )la Bourgogne‬بنقله إلى اللغة الفرنسية‪ .‬وقام رجل الدين البندكتي هنوري بوڤي‬ ‫(‪ )Honoré Bovet‬بوضع مؤلف يتناول الجوانب القانونية واألخالقية في الحرب‪.‬‬ ‫اختزله من كتاب أحد رجال القانون االيطاليين وأهداه لملك فرنسا شارل السادس‪.‬‬ ‫وعلى غراره وضعت االيطالية المدعوة كريستين دي بيزا (‪،)Christine de Pisan‬‬ ‫التي كانت تعيش في البالط الفرنسي‪ ،‬مؤلفا حول الحرب والفروسية‪ ،‬أهدته للملك‬ ‫شارل السالف الذكر‪ .‬ثم وضع االيطالي ماريانو دي جاكوبو طاكوال ( ‪Mariano di‬‬ ‫‪ )Jacopo Taccola‬كتابا خصه لألدوات واآلليات المستعملة في المعارك‪ .‬وتناسلت‬ ‫المؤلفات بعد ذلك في مختلف أنحاء أوربا‪ .‬وقام عدد من الباحثين المحدثين‬ ‫والمعاصرين بتحقيق معظم تلك المؤلفات وترجمتها ونشرها‪.‬‬ ‫وانضم المختصون في البحث األثري الى هذه الجهود‪ .‬فقاموا بالكشف عن عدد‬ ‫من اللقى والمخلفات التي أثرت المصادر الخطية‪ ،‬من قبيل سلسلة حفر منتظمة في‬ ‫هيئة لوحة شطرنج تم الكشف عنها في البرتغال‪ .‬يحتمل أن يكون األنجليز قد قاموا‬ ‫بحفرها حوالي سنة ‪ 1358‬لصد هجمات الفرسان القشتاليين‪ .‬كذلك تم الكشف عن حفر‬ ‫مماثلة لها في جزيرة جوتالند‪ .‬وقد أفادت هذه الحفريات‪ ،‬ودراسات أخرى همت عددا‬ ‫من القصور والحصون‪ ،‬في التعرف على نماذج من التنظيمات الدفاعية التي كان يتم‬ ‫اللجوء إليها لصد الغرات‪ .‬وباإلضافة إلى ذلك‪ ،‬تحتفظ مجموعة متاحف‪ ،‬في فرنسا‬ ‫وبلجيكا وايطاليا واسبانيا‪ ،‬بعدد من األسلحة واألدوات التي كانت تستعمل في الوقائع‪.‬‬ ‫ويمكن أيضا من خالل معاينتها تكوين فكرة عن عالم الحروب في أوربا القرنين‬ ‫الرابع عشر والخامس عشر‪.‬‬ ‫‪ - 63‬يتعلق األمر ببحثه الموسوم ب ‪:‬‬ ‫‪La guerre au Moyen Age, Paris, P.U.F., 1980.‬‬

‫‪165‬‬

‫وقد توقف فليب كونتمين في مؤلفه عند نماذج كثيرة من الحمالت والوقائع التي‬ ‫دارت رحاها في فرنسا وايطاليا واسبانيا وأنجلترا‪ ،‬كحرب المائة سنة‪ ،‬وحرب الوراثة‬ ‫المتصلة بها‪ ،‬وحرب الوردتين في أنجلترا‪ ،‬والحرب البحرية بين جنوة والبندقية‪،‬‬ ‫وغيرها من الوقائع التي دارت في أنحاء أوربا‪.‬‬ ‫وقد سمحت دراسة الرسومات واألشكال والصور‪ ،‬فضال عن اللقى األثرية‪،‬‬ ‫بالقول بأن القرنين الرابع عشر والخامس عشر يمثالن فترة "ارتقاء" فصيل من‬ ‫الدواب‪ ،‬ونعني هنا الخيول المخصصة للقتال‪ .‬وبالمثل‪ ،‬تميزت الفترة ذاتها بتراجع‬ ‫دور المشاة‪ .‬وكان من الممكن أن يستمر دورهم في التراجع‪ ،‬لوال أن أعددا غفيرة من‬ ‫المقاتلين الجرمان والسويسريين انخرطوا في سلك المشاة كمرتزقة‪ ،‬ابتداء من‬ ‫منتصف القرن الخامس عشر‪ ،‬فأعادوا للمشاة بعض الهيبة‪.‬‬ ‫ولعل أهم تحول سجلته الفترة المذكورة‪ ،‬هو ظهور المدفعية والبارود اللذين‬ ‫سبقت اإلشارة إليهما‪ .‬وقد انتقال من الصين والعالم اإلسالمي إلى أوربا عبر ايطاليا‬ ‫بين سنتي ‪ 1325‬و‪ .1345‬ولكن استعمالهما لم يفض إلى حدوث ثورة في مجال‬ ‫تقنيات الحرب إال في نطاق محدود‪ ،‬ألن فعاليتهما تجلت في تدمير الحصون واألسوار‬ ‫بشكل خاص‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن إقبال الممالك على استعمال وحدات من المدفعية كان من‬ ‫باب إظهار الهيبة وإفزاع الخصم‪ ،‬وليس من باب الفعالية‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬تواصل اإلقبال‬ ‫على استعمال المدفعية بعد منتصف القرن الخامس عشر‪ ،‬األمر الذي يسمح بالحديث‬ ‫عن ميالد أوربا القصف‪ .‬وكان من جراء ذلك أن ارتفعت تكاليف الحروب ألنه‬ ‫أضحى لزاما على الملوك‪ ،‬وعلى حكام المدن‪ -‬الدول‪ ،‬تخصيص مبالغ إضافية ضمن‬ ‫الميزانية العامة القتناء المدافع والبارود‪ .‬فتطورت الصناعة المعدنية‪ -‬العسكرية لتلبية‬ ‫الحاجيات‪ .‬ونشأت عدة ورشات مختصة في هذا النوع من الصناعة في ايطاليا‬ ‫وفرنسا‪.‬‬ ‫وتأكد االتجاه نحو العسكرة في أوربا من خالل التحول العميق الذي طرا على‬ ‫الخدمة العسكرية‪ .‬فقد اختفت الخدمة الفيودالية في أنجلترا في بحر القرن الرابع عشر‪.‬‬ ‫وحل محلها نظام المليشيات الوطنية‪ ،‬التي كان يتم تعزيز المنخرطين فيها ببعض‬ ‫المحاربين المتطوعين‪ .‬أما في مملكة فرنسا‪ ،‬فتم اعتماد عقد االلتزام خالل نفس الفترة‪.‬‬ ‫وبعد مضي فترة قصيرة غدت كل كومينوطة (‪ ،)communauté‬وكل أبرشية‪ ،‬تقع‬ ‫ضمن دائرة نفوذ المملكة‪ ،‬ملزمة باستنفار عدد من الرماة وعدد من قاذفي األسهم‬ ‫بواسطة "األركوبالستا"‪ ،‬أي القوس المستعرض (‪ ،)l’arbalète‬عند كل نداء لخوض‬ ‫حرب من الحروب‪ .‬أما في ايطاليا‪ ،‬التي صرف حكام المدن‪ -‬الدول فيها أنظارهم عن‬ ‫الحرب‪ ،‬فكان يتم االعتماد على المرتزقة بصورة خاصة‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬ظل دور النبالء‬

‫‪166‬‬

‫حاسما في الحروب‪ .‬فهم الذين كانوا يستنفرون العدد األكبر من الفرسان‪ .‬ومعنى ذلك‬ ‫أن أوربا النبالء ظلت متشبثة بتقاليدها الحربية‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن االتجاه الذي أضحى سائدا في أوربا هو أن القائمين‬ ‫على األمر في كل كيان سياسي أصبحوا حريصين خالل القرن الخامس عشر على‬ ‫التوفر على قوات قارة دائمة‪ .‬عكس ما كان يجري به العمل من قبل‪ ،‬حيث كان‬ ‫المحاربون يستنفرون عند كل وقعة‪ .‬وغالبا ما كان ذلك يتم في فصل الربيع ولمدة‬ ‫محددة تنتهي بانتهاء الوقعة‪ .‬بمعنى أن السنة الحربية في أوربا الفيودالية كانت تعتريها‬ ‫ثغرة‪ .‬أما في أوربا الحديثة‪ ،‬فقد غدا النظام العسكري عبارة عن نسيج متصل‪ .‬وحتى‬ ‫حكام المدن‪ -‬الدول في ايطاليا اضطروا لالنخراط بدورهم في هذا النظام نظرا‬ ‫لحاجتهم لمحاربين نظاميين‪ .‬وهذا ما يوضحه بيان صدر عن مجلس شيوخ البندقية‬ ‫سنة ‪ 1421‬ورد فيه ‪" :‬تقضي سياستنا دوما بأن يكون رهن اشارتنا رجال ذوو قيمة‬ ‫أيام السلم‪ ،‬كما في أيام الحرب"‪.‬‬ ‫ولكن الملفت لالنتباه هو أن اتجاه أوربا نحو إضفاء الطابع المؤسساتي على‬ ‫عنف المحاربين‪ ،‬لم ينس القائمين على األمر فيها هاجس الجنوح نحو السلم الذي كان‬ ‫يجسد أحد المثل العليا بالنسبة للمجتمع وللكنيسة‪.‬‬ ‫وهذا ما عبر عنه رجل الدين البندكتي هنوري بوڤي (‪ )Honoré Bovet‬بنوع‬ ‫من الحرقة حين كتب في مؤلفه "شجرة الوقائع" (‪" : 64)l’arbre des batailles‬إني‬ ‫أرى جميع أنحاء المسيحية المقدسة تئن تحت وطأة الحروب‪ ،‬والكراهية‪ ،‬والسلب‬ ‫والخالفات‪ ،‬إلى درجة أنه يصعب ذكر اسم بلد صغير واحد‪ ،‬أو دوقية واحدة‪ ،‬أو‬ ‫قمطية واحدة تنعم بالسلم"‪ .‬ويتجلى هاجس إقرار السلم أيضا فيما قام به جورج‬ ‫بوديبراد (‪ )Georges Podiebrad‬ملك بوهيميا حين وضع سنة ‪ 1464‬مشروعا‬ ‫إلقرار األمن والسلم في ربوع أوربا‪ ،‬صاغه باللغة الالتينية والتمس من جميع حكام‬ ‫الممالك االلتزام به‪" .‬وعبر فيه عن أمله في أن يستتب األمن وينتهي العنف الذي أباد‬ ‫العباد وأفسد البالد‪ .‬وتغدو أوربا موطن الرأفة‪ ،‬والتكافل واألخوة عن طريق‬ ‫االتحاد"‪.65‬‬ ‫ومما ال شك فيه أن الملك بوديبراد (الذي حكم في القرن الخامس عشر) منح‬ ‫لألوربيين أجمل مشروع‪ ،‬وأحسن مبرر من أجل قيام وحدة اعترضت سبيل تحقيقها‬ ‫صعوبات جمة طيلة ستة قرون بعد ذلك‪.‬‬

‫‪ - 64‬وضع هنوري بوڤي هذا الكتاب بين سنتي ‪ 1382‬و‪ .1387‬وتمت ترجمته الى الفرنسية سنة ‪ .1493‬ثم أعاد تحقيقه‬ ‫الباحث البلجيكي ارنست نيس (‪ )Ernest Nys‬ونشره سنة ‪ .1883‬كما تمت ترجمته الى األنجليزية‪.‬‬ ‫‪ - 65‬يعتبر عدد من الباحثين نص مشروع جورج بوديبراد أول وثيقة تتضمن أسس الوحدة األوربية‪.‬‬

‫‪167‬‬

‫‪ )2‬الطاعون األسود‬ ‫عرفت أوربا حدثا كارثيا بامتياز في أواسط القرن الرابع عشر تمثل في‬ ‫الطاعون األسود‪ .‬وقد نعت بهذا االسم بالنظر إلى مضاعفاته التي اتخذت مظهرين ‪:‬‬ ‫واحد تنفسي‪ -‬رئوي‪ ،‬والثاني عضوي تجلى في عدة غدد كانت تظهر في أعلى الفخذ‬ ‫(عند التقاء أسفل البطن بالفخذ)‪ ،‬وتأخذ لونا أسود بفعل الدم المحتقن فيها‪ .‬وكان لون‬ ‫هذا الدم يحدد لوحده طبيعة الداء الوباء‪.‬‬ ‫والجدير بالذكر أن الطاعون ذي المضاعفات الرئوية سبق أن اجتاح مناطق‬ ‫الشرق والغرب منذ القرن السادس على عهد اإلمبراطور جوستنيان‪ .‬ثم اختفى من‬ ‫مناطق الغرب‪ ،‬ولكنه ظل يستوطن مناطق آسيا الوسطى‪ ،‬وربما أيضا في منطقة‬ ‫القرن اإلفريقي‪ .‬ويبدو أنه "استجمع قواه" وعاد ليبيد ساكنة أوربا سنتي ‪-1347‬‬ ‫‪.1348‬‬ ‫أصبح باإلمكان اليوم تحديد أصل الوباء وتاريخ بداية انتشاره‪ .‬فقد حدث أن‬ ‫حاصر محاربون أسيويون حامية جنوية في كافا (‪ )Caffa‬بشبه جزيرة القرم‪ .‬وكان‬ ‫المهاجمون يلقون من على األسوار جثث قتلى أودى بهم الطاعون‪ .‬فانتقلت جرثومة‬ ‫الوباء عن طريق البراغيث والفئران‪ ،‬وربما عن طريق االحتكاك بين الناس كما يعتقد‬ ‫ذلك اليوم بعض الباحثين المعاصرين‪ ،‬إلى أوربا على متن المراكب القادمة من كافا‪.‬‬ ‫وانتشر الوباء بسرعة بعد سنة ‪ 1348‬في مختلف مناطق أوربا‪ .‬وأضحى الطاعون‬ ‫األسود ظاهرة كارثية تواصل تأثيرها في أوربا حتى حوالي سنة ‪ ،1720‬حيث حدث‬ ‫آخر طاعون في مرسيليا‪ ،‬قدم بدوره من الشرق‪.‬‬ ‫وال شك أن الطابع المرعب الذي ميز المرض هو الذي جعل الوباء يكتسي‬ ‫صبغة كارثية‪ .‬فقد كان المصابون يلقون حتفهم بعد مرور وقت وجيز ال يتجاوز في‬ ‫أحسن األحوال ‪ 36‬ساعة‪ .‬وفضال عن ذلك‪ ،‬شاعت بين الناس حقيقة االنتقال السريع‬ ‫للعدوى مما ساهم في انتشار الرعب والفزع‪ .‬والواقع أن األوربيين ساد بينهم اعتقاد‬ ‫بأن مرض الجذري‪ ،‬مرض ينتقل من شخص آلخر‪ ،‬وهو ما اتضح في نهاية المطاف‬ ‫بأنه اعتقاد خاطئ‪ ،‬ولكنهم تقاسموا حقيقة ال يرقى اليها الشك‪ ،‬وهي أن الطاعون معد‬ ‫جدا‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فقد رافقت الطاعون أعراض فيزيولوجية وظواهر‬ ‫اجتماعية مرعبة‪ ،‬حيث كانت تنتاب المصابين تشنجات عصبية قوية‪ .‬ومما زاد‬ ‫الوضع استفحاال عجزاألسر والمؤسسات العمومية عن مجابهة الوضع الذي ترتبت‬ ‫عنه خسائر بشرية فادحة‪ .‬ألن أفراد مجتمع أوربا كانوا يعيشون في إطار‬ ‫كومينوطات‪ ،‬وأبرشيات‪ ،‬وتنظيمات‪ ،‬وطوائف‪ ،‬وغيرها‪ ،‬مما سهل انتشار العدوى‬ ‫وسقوط عدد كبير من الضحايا‪ ،‬حتى أن عددا منهم لم يحضوا بالمراسيم الدينية‬

‫‪168‬‬

‫الواجب القيام بها قبل عمليات الدفن‪ .‬بل األدهى من ذلك‪ ،‬أن عددا من الجثامين تمت‬ ‫مواراتها في مقابر جماعية‪ .‬والحصيلة هي أن الخسائر المترتبة عن الطاعون األسود‬ ‫كانت فادحة‪ .‬ومن الصعب تحديد عدد الضحايا‪ ،‬ألن المصادر الخطية المعتمدة ال‬ ‫تتضمن معطيات رقمية تتيح هذه اإلمكانية‪ .‬ورغم أن نسبة الوفيات اختلفت بين منطقة‬ ‫وأخرى‪ ،‬فاألكيد أن الخسائر لم تنزل عن مستوى ثلث عدد السكان في أي مكان‪ .‬وال‬ ‫يختلف الباحثون في القول بأن أوربا فقدت ما يناهز النصف‪ ،‬أو الثلثين‪ ،‬من ساكنتها‬ ‫بسبب هذه الكارثة‪ .‬وبناء عليه‪ ،‬فإن نسبة التراجع الديموغرافي بلغت في أنجلترا‬ ‫‪ ،%70‬بحيث لم يعد سكانها يتجاوزون حوالي المليونين سنة ‪ 1400‬بعد أن كانوا‬ ‫حوالي ‪ 7‬ماليين‪ .‬ولم تكن الساكنة تستطيع استرجاع أنفاسها ألن سلسلة طواعين كانت‬ ‫تأتي كل مرة‪ ،‬بصورة تكاد تكون منتظمة‪ ،‬لحصد عدد من الضحايا كما حدث بين‬ ‫سنتي ‪ 1360‬و‪ ،1362‬وبين سنتي ‪ 1366‬و‪ ،1369‬وبين سنتي ‪ 1374‬و‪ ،1375‬وسنة‬ ‫‪ ،1400‬وسنة ‪ ،1407‬وبين سنتي ‪ 1414‬و‪ ،1417‬وسنة ‪ ،1424‬وسنة ‪ ،1427‬وبين‬ ‫سنتي ‪ 1432‬و‪ ،1435‬وبين سنتي ‪ 1438‬و‪ ،1439‬وسنة ‪ ،1445‬ثم سنة ‪.1464‬‬ ‫والجدير بالذكر أن الطواعين لم تكن وحدها وراء الوفيات‪ ،‬بل كانت تتظافر‬ ‫معها في معظم الحاالت آفات أخرى من بينها األمراض‪ ،‬كالدفتريا (الخناق)‪،‬‬ ‫والحصبة‪ ،‬والتيفويد‪ ،‬والحمى‪ ،‬والجذري‪ ،‬والسعال الديكي وغيرها من األمراض‪.‬‬ ‫وكانت تنضاف أحيانا إلى الطاعون‪ ،‬الحروب والمجاعة‪ .‬وكان مجرد ذكر هذا‬ ‫الثالوث يثير الرعب في نفوس الناس‪.‬‬ ‫وقد وقف األطباء الذين عاينوا الطاعون األسود‪ ،‬وغيره من اآلفات‪ ،‬مكتوفي‬ ‫األيدي‪ ،‬حيث عجزوا عن إيجاد األسباب الطبيعية المسببة لتلك اآلفات‪ ،‬رغم قناعتهم‬ ‫بضرورة التصدي للعدوى‪ .‬وكانت محاوالتهم في هذا الصدد ردا على وجهة النظر‬ ‫السائدة بأن تلك اآلفات تعني غضب هللا على خلقه‪.‬‬ ‫ورغم عدم وجود معرفة طبية مالئمة‪ ،‬انتهى األطباء إلى مالحظات وخالصات‬ ‫قيمة وفعالة من قبيل حظر التجمهر‪ ،‬وتحذير األسر من التجمع حول الفرد المصاب‬ ‫منهم‪ ،‬ومنع الحضور الجماعي لمراسيم دفن من لقي حتفه‪ ،‬ومنع ارتداء مالبس‬ ‫المصاب بالداء من قبل شخص آخر‪ .‬ورغم كل هذه اإلجراءات‪ ،‬فيبدو أن الفرار بعيدا‬ ‫كان الحل األمثل في أعين كثير من الناس‪ .‬ولذلك كان يلجأعدد من الناس إلى البوادي‪.‬‬ ‫وتتضمن مقدمة كتاب "ديكاميرون" (‪ ،)Décaméron‬الذي وضعه جيوڤاني بوكاشيو‬ ‫(‪ ،)Giovanni Boccaccio‬فقرات تتحدث عن فرار أغنياء فلورنسا إلى البوادي‬ ‫الم جاورة لالحتماء بقصورهم‪ .‬وغني عن البيان أن هذا النوع من التصدي للوباء لم‬ ‫يكن متاحا سوى للنخب‪ .‬ولذلك‪ ،‬زاد الطاعون من مصاعب وبؤس المعوزين‪ .‬كما زاد‬

‫‪169‬‬

‫من حدة الصراع االجتماعي‪ .‬فعد واحدا من بين األسباب التي أذكت العنف االجتماعي‬ ‫كما سيأتي الحديث عن ذلك في الصفحات الموالية‪.‬‬ ‫وال بأس من اإلشارة إلى أن المؤسسات العمومية حاولت القيام بما يمكن القيام‬ ‫به للحد من العدوى أو لتخفيف الجلل‪ .‬وبرزت في هذا المضمار المدن‪ -‬الدول‬ ‫االيطالية التي اتخذ حكامها عدة إجراءات من قبيل الحرص على نظافة الفضاءات‬ ‫العمومية‪ ،‬والدعوة للوقاية‪ ،‬وردع األغنياء عن التباهي بالثراء الذي كان يستفز‬ ‫الفقراء‪.‬‬ ‫وفي هذا السياق‪ ،‬ظهرت بعض األشكال الجديدة من التفاني والتقديس في أوساط‬ ‫المسيحيين‪ .‬فعادوا إلى تقديس سان سبستيان (‪ )Saint Sébastien‬الذي استشهد في‬ ‫مطلع القرن الرابع في سياق حمالت اإلمبراطور دقلديانوس ضد معتنقي المسيحية‪.‬‬ ‫كما قدس مسيحيو الجنوب القديس روك (‪ ،)Saint Roch‬الراهب‪ ،‬الجراح والمختص‬ ‫في مداواة المصابين بأمراض جلدية‪.‬‬ ‫‪ )3‬الموت والجثة ورقصة الموت‬ ‫ساهم الطاعون في تغذية حساسية ذهنية ودينية جديدة‪ .‬فقد كان الرجال والنساء‬ ‫حتى ب داية تفشي الطاعون األسود ال يخشون الموت بقدر ما كانوا يخشون جهنم‪ .‬وبعد‬ ‫تفشي هذا الوباء وتراكم الجثث هنا وهناك‪ ،‬عاين الناس الموت عن كثب‪ .‬فرأوا أنه‬ ‫جحيم من نوع آخر ال يمكن‪ ،‬في اعتقادهم‪ ،‬مقارنته بأي جحيم آخر‪.‬‬ ‫والحقيقة أن الكثير من رسومات ما بعد سنة ‪ ،1348‬والخالصات التي توصل‬ ‫إليها بعض الذين بحثوا في ظاهرة الموت‪ ،‬تفيد بأن الخوف من جهنم ظل حاضرا في‬ ‫أذهان الناس‪ ،‬حين يستحضرون جحيمها في مقابل نعيم الجنة‪ ،‬ولكن تفشي الموت‬ ‫أرسى دعائم تلك الحساسية الجديدة‪ .‬وكان المستفيد األكبر من هذا التوجه هو الجثة‪.‬‬ ‫فقد أفضت معاينة األحياء للجثث صباح مساء إلى ظهور موضوع‬ ‫ايكونوغرافي جديد حقق نجاحا كبيرا هو التقاء األحياء الثالثة باألموات الثالثة‪.‬‬ ‫ويجسد هذا الرسم ثالثة شبان‪ ،‬خلقتهم جميلة‪ ،‬تبدو على محياهم عالمات االبتهاج‬ ‫وعدم االكتراث‪ ،‬مقابل ثالث جثث (تظهر الجثث في نماذج من تلك الرسومات‬ ‫مسجات في توابيت)‪ .‬وانتشرت بموازاة هذا الرسم المقولة المأثورة ‪" :‬تذكر بأنك‬ ‫ستموت" (‪ )memento mori‬التي أدت بكثير من الناس إلى مراجعة نمط حياتهم‬ ‫وأسلوب تفكيرهم‪ .‬ووجدت المقولة أيضا من أسالوا حولها المداد‪ .‬فظهرت مؤلفات‬ ‫مزدانة بالصور حول "فن الموت" (‪ )les artes moriendi‬انكب على دراستها عدد‬ ‫من الباحثين المحدثين والمعاصرين‪ ،‬من بينهم الفرنسي‪ -‬االيطالي ألبيرتو تنينتي‬ ‫(‪ .)Alberto Tenenti‬وتطور التفكير في الموت‪ ،‬واالحتضار‪ ،‬ليغدو فيما بعد‬

‫‪170‬‬

‫إحساسا وفلسفة‪ .‬كما اتخذ هذا التفكير تجليات أخرى من بينها الرسومات الكثيرة‬ ‫المختلفة التي تم انجازها هنا وهناك‪ .‬فكانت‪ ،‬إما عبارة عن هياكل كاملة مرسومة على‬ ‫جدران بعض األضرحة والكنائس‪ ،‬وإما عبارة عن جمجمة لوحدها‪ ،‬وإما مشهدا يمثل‬ ‫مجموعة أفراد يراقصون هياكل فيما يعرف "برقصة الموت" ( ‪la danse‬‬ ‫‪.)macabre‬‬ ‫تعتبر هذه الرقصة تعبيرا عجيبا لمجموعة أفراد في حركة جماعية انسيابية‪.‬‬ ‫ويحمل مشهد الراقصين عدة دالالت‪ .‬فكل راقص يمثل أحد أفراد المجتمع‪ .‬وتختزل‬ ‫المجموعة كلها سائر فئات المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم االجتماعية أو‬ ‫العمرية‪.‬‬ ‫يبدو البابا واإلمبراطور قائدان للمجموعة الراقصة‪ .‬ومعنى ذلك أن الموت‬ ‫"يراقص" جميع الناس دون تمييز بين حاكم أو محكوم‪ ،‬أو بين نبيل وفالح‪ ،‬أو بين‬ ‫غني وفقير‪.‬‬ ‫والغريب في األمر‪ ،‬أن الرقص الذي كانت الكنيسة تحضر تعاطيه ألنه تعبير‬ ‫ماجن ينتمي لعهود الوثنية‪ ،‬أضحت تجسده هذه اللوحات‪ .‬وسيغدو بعد القرن السادس‬ ‫عشر من التعابير الجسدية المباحة في البالطات‪ .‬وتعد رقصة الموت‪ ،‬من هذه‬ ‫الوجهة‪ ،‬تعبيرا "انتقاليا" جمع بين الثقافة الالئكية (العلمانية) والنظرة الدينية‪ ،‬ألنها‬ ‫كانت تعني نوعا من المرح البريء‪ .‬كما كانت تعني بأن المجتمع ذاهب لمالقاة‬ ‫مصيره في رقصة ال حاجة له فيها إلى الشيطان ليقوده‪.‬‬ ‫وخالصة القول هي أن المجموعة المشاركة في رقصة الموت تمثل أوربا التي‬ ‫فقدت عقلها‪ .‬وبذلك أخذ يتموضع في تاريخ أوربا الطويل الخط األحمر الذي يجسد‬ ‫سنوات "الحماقة" وفقدان العقل‪.‬‬ ‫ومن المفيد التذكير بأن اللوحات التي اتخذت من رقصة الموت موضوعا لها‬ ‫اكتسحت جدران أوربا المسيحية خالل القرن الخامس عشر‪ .‬وكانت أول لوحة مثلتها‬ ‫قد رسمت سنة ‪ 1425‬على أحد جدران مقبرة "القديسين األبرياء (‪les Saints-‬‬ ‫‪ )Innocents‬بباريس‪ .‬وبعد سنة ‪ 1440‬بقليل‪ ،‬تم رسم لوحة مماثلة للوحة مقبرة‬ ‫القديسين األبرياء على أحد جدران مقبرة القديس بولس بلندن‪ .‬ثم توالت اللوحات هنا‬ ‫وهناك في عدة مدن أوربية‪.‬‬ ‫وكان الملفت لالنتباه‪ ،‬هو أن نماذج من هذه اللوحات أصبحت ترسم على‬ ‫جدران بعض الكنائس الصغرى الموجودة في المدن الصغرى‪ ،‬أو في بعض القرى‬ ‫كما هو الشأن في كنيسة كرنسكليدن (‪ )Kernescleden‬بمنطقة بروطاني ( ‪la‬‬ ‫‪ )Bretagne‬بفرنسا‪ ،‬وكنيسة القديس نيكوال ببلدة تلين (‪ )Tallinn‬اإلستونية‪.‬‬

‫‪171‬‬

‫‪ )4‬أوربا العنف‬ ‫شهدت أوربا خالل القرنين الرابع عشر والخامس عشر أعمال عنف ترافقت‬ ‫مع الطاعون والمجاعة والحرب‪ .‬وبغض النظر عن تلك األعمال‪ ،‬فقد شهدت‬ ‫اصطدامات وحاالت عنف أخرى أسهمت بدورها في إضفاء شيء من القتامة على‬ ‫صورة أوربا عند نهاية العصر الوسيط‪ .‬كما كانت تهدد أيضا مسيرة القارة نحو‬ ‫الوحدة‪.‬‬ ‫وقد ذهب المؤرخون مذاهب شتى في تأويلهم لتلك األحداث‪ .‬ومن بين هؤالء‬ ‫المؤرخين‪ ،‬التشيكي فرانتيسك ﯕروس (‪ 66)Frantisek Graus‬الذي توقف في أحد‬ ‫أبحاثه عند أعمال العنف والشغب‪ ،‬المعروفة باسم "البوﯕروم" (‪،)les pogroms‬‬ ‫والتي انطلقت منذ سنة ‪ ،1320‬واشتد أجيجها بعد سنة ‪ .1348‬وقد استهدفت بعض‬ ‫فصولها اليهود الذين اتهموا بتسميم اآلبار‪.‬‬ ‫واألهم‪ ،‬هو أن الباحث المذكور اقترح تفسيران للظاهرة‪ .‬يتمثل التفسير األول‪،‬‬ ‫الذي سبق أن اقترحه باحثون آخرون‪ ،‬في كون العنف الذي استهدف اليهود يعكس‬ ‫كراهية فئات عريضة من المجتمع المسيحي لليهود‪ .‬أما التفسير الثاني‪ ،‬فيفيد بأن‬ ‫أعمال العنف اندلعت في سياق األزمة البنيوية التي كان يتخبط فيها االقتصاد‬ ‫األوربي‪ ،‬والتي أثرت سلبا في أوضاع فئات اجتماعية عريضة‪ .‬فأججت الصراع بين‬ ‫الفالحين واألرستقراطية‪ ،‬وبين الحرفيين والتجار‪ .‬وفضال عن ذلك اندلعت تلك‬ ‫األعمال في ظرفية تميزت فيها الممالك بضعف في التدبير وانغماس في صراعات‬ ‫عقيمة‪.‬‬ ‫‪67‬‬ ‫وتناولت الفرنسية كلود ﯕوڤار(‪ )Claude Gauvard‬بدورها بعض فصول‬ ‫هذه األحداث في فرنسا‪ .‬فاقترحت بأن أعمال العنف والشغب تلك تعكس ظهور نوع‬ ‫جديد من السلوك‪ ،‬هو "سلوك إجرامي" مختلف تماما عما ألفته أوربا الفيودالية‪ .‬تزامن‬ ‫ظهوره مع تطور أجهزة الشرطة التابعة للممالك‪ .‬ويمكن تفسير هذا السلوك عموما‬ ‫بكونه يمثل ردة فعل إزاء تشكل الدول المركزية الحديثة‪ .‬وكان من الطبيعي أن‬ ‫تتصدى الدول لهذا اإلجرام‪ ،‬فتضاعفت تبعا لذلك الوثائق التي يمكن اعتمادها اليوم‬ ‫لتكوين فكرة عن الجريمة واإلجرام‪ ،‬وعن أعمال العنف عموما‪ .‬وتترك عملية تصفح‬ ‫‪ - 66‬ولد سنة ‪ 1921‬وتوفي سنة ‪ .1989‬اختص بالبحث في الظواهر االجتماعية في العصر الوسيط‪ ،‬وفي أوضاع‬ ‫األقليات‪ .‬وقد خصص لألحداث التي يشير اليها جاك لو ﯕوف صفحات مطولة في كتاب أصدره سنة قبل وفاته هو ‪:‬‬ ‫‪Pest-Geissler-Judenmorde, das 14 Jahrhundert als Krisenzeit.‬‬ ‫‪ - 67‬ولدت سنة ‪ .1942‬تشتغل حاليا أستاذة باحثة بجامعة السوربون‪ .‬أنجزت عددا من األبحاث تتناول قضايا مختلفة تهم‬ ‫العصر األوربي الوسيط‪ .‬من بينها كتابين خصصتهما لظاهرتي العنف والجريمة هما ‪:‬‬ ‫‪- " De grace especial" . Crime, Etat et société en France à la fin du Moyen Age, Paris,‬‬ ‫‪Publications de la Sorbonne, 1991.‬‬ ‫‪- Violence et ordre public au Moyen Age, Paris, Picard, 2005.‬‬

‫‪172‬‬

‫تلك الوثائق لدى الباحث انطباعا بأن أعمال العنف تضاعفت‪ ،‬وبأن عمليات قمعها‪،‬‬ ‫والوثائق التي تعنيها‪ ،‬حققت تقدما ملحوظا‪ .‬ومن ثم‪ ،‬يمكن التساؤل عما اذا كانت‬ ‫تتوفر في هذا الرصيد عناصر يمكن اعتمادها لتفسير أعمال العنف التي تشهدها أوربا‬ ‫اليوم‪.‬‬ ‫وعلى كل‪ ،‬فقد توقفت كلود ﯕوفار مطوال في بحثها عند بعض القيم التي ظل‬ ‫مجتمع العصر الوسيط متشبثا بها مثل الشرف‪ .‬كما توقفت عند مجموعة ظواهر ذات‬ ‫صلة بالسلطة‪ ،‬من بينها ظاهرة سايرت التاريخ في مداه الطويل‪ ،‬وهي وظيفة العقاب‬ ‫التي تلجا إليها السلطات السياسية اليوم‪ ،‬كما لجأت إليها باألمس القريب والبعيد‪ .‬ولكن‬ ‫ال بد من اإلشارة‪ ،‬بأن ظاهرة العقاب قابلتها دوما ظاهرة العفو‪ .‬ففي فرنسا القرنين‬ ‫الرابع عشر والخامس عشر تصدى القائمون باألمر بقسوة لظاهرة العنف‪ ،‬ولكنهم‬ ‫كانوا يمنحون العفو أيضا في بعض الحاالت لبعض المتهمين‪ .‬وكانوا يجسدون ذلك‬ ‫بمنح المعفى عنهم "رسائل عفو" (‪ .)des lettres de rémission‬والظاهر أن ذلك‬ ‫العفو السياسي كان يحمل بعض دالالت الغفران اإللهي‪.‬‬ ‫وال شك أن الحديث عن هاتين الظاهرتين‪ ،‬في هذا الوقت المبكر‪ ،‬يفيد بأن‬ ‫أوربا العقاب والعفو كانت ترتسم في األفق‪.‬‬ ‫وبالعودة الى وجهات نظر بعض الباحثين في تفسيرهم لظاهرة العنف في‬ ‫أوربا‪ ،‬ال بأس من االشارة هذه المرة بأن األمريكي داڤيد نيرنبرﯕ ( ‪David‬‬ ‫‪ )Nirenberg‬شكك مؤخرا فيما ذهب إليه المؤرخ التشيكي السالف الذكر بخصوص‬ ‫البوﯕروم‪ .‬إذ أوضح‪ ،‬وهو يبحث في أشكال العنف الذي طال األقليات المسلمة‬ ‫واليهودية في مملكة أرغون في نهاية القرن الرابع عشر‪" ،‬بأن العنف ظاهرة مركزية‬ ‫ذات صلة بكنه التواجد في [مجال واحد] بين أغلبية وأقلية"‪ .68‬ومعنى ذلك اذن‪ ،‬أن‬ ‫تواجد أغلبية وأقلية في شبه جزيرة أيبيريا‪ ،‬وفي مناطق عدة من أوربا قد يكون وراء‬ ‫تصاعد أعمال العنف هنا وهناك‪ .‬وكان من الممكن أن يفضي ذلك العنف إلى نهاية‬ ‫تماسك أوربا‪ .‬وعلى كل‪ ،‬فهذا األمر يستدعي إبداء مالحظتين ‪ :‬األولى هي أن الحديث‬ ‫عن التسامح والالتسامح في أوربا‪ ،‬القرنين الرابع عشر والخامس عشر‪ ،‬حديث ال‬ ‫معنى له‪ .‬وحتى إذا جاز هذا الحديث‪ ،‬فيمكن القول بأن التسامح حقق تطورا مهما‪،‬‬ ‫ولك نه يحتاج اليوم إلى أن يولد من جديد‪ .‬والمالحظة الثانية‪ ،‬هي أن اليهود طردوا من‬ ‫جهات كثيرة في أوربا‪ .‬فقد طردوا من أنجلترا منذ نهاية القرن الثالث عشر‪ .‬وطردوا‬ ‫من فرنسا في نهاية القرن الموالي‪ .‬ثم طردوا من اسبانيا بعد سنة ‪ .1492‬ومن ثم‪ ،‬فال‬ ‫‪ - 68‬عبر نيرنبرﯕ عن وجهة نظره هاته في كتاب أصدره سنة ‪ 1996‬تحت عنوان ‪:‬‬ ‫‪Communities of Violence: Persecution of Minorities in the Middle Ages, Princeton Univer‬‬‫‪sity Press.‬‬

‫‪173‬‬

‫يتعلق األمر‪ ،‬بأي حال من األحوال‪ ،‬بمبرر ديني‪ .‬فمعاداة اليهودية‪ ،‬التي يضعها‬ ‫البعض في الواجهة‪ ،‬هي تبرير عنصري‪ .‬وخالفا لما تم القيام به تجاه اليهود في غرب‬ ‫أوربا‪ ،‬ففي جهاتها الوسطى والشرقية تم تبني حلين ‪ :‬إما التسامح تجاههم كما حدث‬ ‫في بولندا‪ ،‬وهذا ما لم يتم التعبيرعنه بصريح العبارة‪ ،‬وإما "الزج" بهم في "ﯕيتوهات"‬ ‫تحت الحماية كما حدث في ايطاليا وألمانيا‪ .‬ولكن ما يمكن تأكيده هو أن أوربا نهاية‬ ‫العصر الوسيط‪ ،‬هي "قارة" قامت بطرد اليهود‪.‬‬ ‫أ) اضطهاد الساحرة‬ ‫ظهر شكل من العنف خالل القرن الرابع عشر وتأكد خالل القرن الموالي‪.‬‬ ‫تمثل هذا العنف في محاربة الشعوذة والسحر‪.‬‬ ‫والجدير بالذكر أن الكنيسة حاربت دوما جميع أشكال المعتقدات والممارسات‬ ‫السحرية‪ ،‬والقائمين بها‪ .‬ولكن حربها هاته‪ ،‬غدت ثانوية حين تفرغت لمحاربة‬ ‫الهرطقة‪ .‬وقد استهدفت عمليات التفتيش في القرن الثالث عشر الهرطقة في المقام‬ ‫األول كما تم توضيح ذلك في صفحات سابقة‪ .‬ولكن بعد ذلك أضحت الشعوذة والسحر‬ ‫ضمن أهداف الكنيسة‪ .‬وهذا ما تفصح عنه نماذج من المؤلفات الموجهة "للمحققين"‪،‬‬ ‫كما هو الشأن مثال بالنسبة لمصنفي كل من رجل الدين الالنﯕدوكي بيرنار ﯕي‬ ‫(‪ ،)Bernard Gui‬ورجل الدين الكطالني نيكوال أيمريك (‪.)Nicolas Eymeric‬‬ ‫وقد أكد بعض الباحثين المعاصرين‪ ،‬أمثال نورمان كوهن (‪،)Norman Cohn‬‬ ‫بدورهم اتجاه الكنيسة خالل القرن الخامس عشر نحو تشديد قبضتها في مواجهة‬ ‫السحرة والمشعوذين‪.‬‬ ‫ويعد جول ميشلي (‪ )Jules Michelet‬واحدا من بين الباحثين الذين تناولوا‬ ‫ظاهرة الشعودة التي شهدها القرن الرابع عشر‪ .‬وأعتقد أنه كان مفرط الذكاء والحس‬ ‫حين تنبه‪ ،‬إلى غلبة التأنيث على تلك الظاهرة‪ ،‬رغم أنه استند فيما ذهب إليه على نص‬ ‫اتضح فيما بعد أنه نص ملفق‪ .‬وبغض النظر عن طبيعة النص‪ ،‬فإن الداللة‬ ‫المستخلصة منه‪ ،‬والتي أكدتها األحداث‪ ،‬هي أن المشعوذة (أو الساحرة) احتلت واجهة‬ ‫األحداث في أوربا منذ هذه الفترة‪ ،‬وظلت كذلك حتى القرن السابع عشر‪ .‬ومن المفيد‬ ‫القول أيضا بأنها ستغدو ضحية عدة محارق‪ .‬وقد تضمن كتاب (ملوس ملفيكاروم)‬ ‫"‪( "Malleus Maleficarum‬مطرقة الساحرات) الذي وضعه الراهبان الدومنيكيان‬ ‫هنريخ كرامر )‪ )Heinrich Kramer‬وجاك سبرينجر (‪ )Jacques Sprenger‬سنة‬ ‫‪ 1486‬عدة مشاهد من مسلسل مطاردة المشعوذات‪ .‬ومن المفيد التذكير بأن واضعي‬ ‫الكتاب نقال تلك المشاهد في أجواء دراماتيكية قل نظيرها‪ ،‬تنوعت فيها ضروب‬ ‫العسف التي طالت المشعوذات‪ .‬وهذا ما دعا جون ديليمو )‪ (Jean Delumeau‬إلى‬

‫‪174‬‬

‫وسم المسيحية التي اتخذتها الكنيسة شعارا لمالحقة المشعوذات بكونها "مسيحية‬ ‫التخويف"‪ .‬وكان هذا الترهيب الذي رام اسئصال اعتقاد تبناه نفر من األشخاص‬ ‫موضوع كثير من الرسومات واللوحات‪ .‬وإن أقل ما يمكن أن يقال في الموضوع‪ ،‬هو‬ ‫أن ظاهرة مالحقة المشعوذات أعطيت لها إشارة االنطالقة في أوربا‪.‬‬ ‫ب) حركات الفالحين‬ ‫شكلت انتفاضات الشغيلة‪ ،‬من فالحين وعمال وحرفيين‪ ،‬مظهرا آخر من‬ ‫مظاهر العنف التي ميزت نهاية العصر الوسيط‪ .‬وقد نعت الفرنسي روبير فوصيي‬ ‫(‪ )Robert Fossier‬هذه االنتفاضات بكونها تمثل "طفرة جديدة في الصراع بين‬ ‫الطبقات"‪ .‬وكان البريطاني رودني هلتون (‪ )Rodney Hilton‬جريئا أكثر حين تبنى‬ ‫رؤية ماركسية في تناول هذه االنتفاضات‪ .‬وأعتقد أنه ال سبيل لإلنكار بأن هذه الرؤية‬ ‫تجد ما يبررها‪ ،‬ألن التطور االقتصادي أفضى فعال إلى إفقار عدد كبيرمن الفالحين‪،‬‬ ‫ولكنه أغنى في الوقت ذاته آخرين‪.‬‬ ‫والمالحظ‪ ،‬أن ثورات الفالحين في فرنسا‪ ،‬لم يكن يتصدرها دوما فالحون‬ ‫فقراء‪ .‬بل على العكس من ذلك‪ ،‬كان يقوم بها في كثير من األحيان فالحون أثرياء‬ ‫يخشون ضياع ما يحظون به من امتيازات‪ .‬والدليل على ذلك هو أن كثيرا من الثورات‬ ‫التي شهدتها فرنسا‪ ،‬اندلعت في مناطق خصبة مثل بوڤيزي (‪ )le Beauvaisis‬وڤالوا‬ ‫(‪ .)le Valois‬وكما اندلعت في جهات أوربية أخرى‪ ،‬في مناطق كانت تحتضن‬ ‫تجمعات كبيرة‪ .‬كما حدث مثال في قطلونيا والفالندر‪ .‬وقامت نماذج منها في المناطق‬ ‫المحاذية لطرق التجارة المهمة على طول نهري الراين واإللب مثال‪.‬‬ ‫وعموما‪ ،‬فإن أهم ثورة قام بها فالحو فرنسا‪ ،‬تمثلت في ثورة ماي ‪ 1358‬التي‬ ‫اندلعت في منطقة بوفيزي السالفة الذكر‪ .‬واتسع نطاقها بسرعة ليشمل مناطق‬ ‫السواسوني (‪ )le Soissonnais‬وبري (‪ )la Brie‬و ڤالوا‪.‬‬ ‫تميزت هاته الحركة بلجوء الذين قاموا بها إلى السلب والنهب‪ ،‬وإضرام‬ ‫النيران في القصور دون أن يلقوا من يتعاطف معهم في المدينة‪ .‬كما لم يجدوا من بينهم‬ ‫قائدا محنكا يتزعم حركتهم‪ .‬كما لم يعبروا عن أي مذهب واضح‪ .‬وكان مآلها الفشل‬ ‫بعد أن تصدى السنايير للمنتفضين بعنف وشراسة‪.‬‬ ‫وشهدت منطقة الالنﯕدوك حركة مماثلة اندلعت سنة ‪ 1378‬على اثر موجة‬ ‫كساد وفقرعمت المنطقة وتزامنت مع نشاط غير مسبوق لفرق من اللصوص وقطاع‬ ‫الطرق (‪ .)des brigands‬ونظرا لكثرة أعداد هؤالء‪ ،‬فقد نعت الفالحون الذين قاموا‬ ‫بالثورة باسم (التوشان) "‪ ،"les Tuchins‬وهو االسم الذي كان يطلق وقتها على‬

‫‪175‬‬

‫اللصوص الذين يتخذون الغابات مالذا لهم‪ .‬وانتهت هذه الحركة بدورها إلى الفشل بعد‬ ‫أن تصدى لها السنايير‪.‬‬ ‫والجدير بالذكر‪ ،‬أن االنتفاضات من هذا القبيل‪ ،‬كانت قليلة وضعيفة في ايطاليا‬ ‫نظرا لثقل الحواضر‪.‬‬ ‫وانطال قا مما تقدم‪ ،‬يمكن القول بأنه ال مجال للحديث عن "مسألة فالحية" في‬ ‫أوربا القرنين الرابع عشر والخامس عشر‪ .‬وإن أكبر وأهم حركة قام بها فالحو أوربا‬ ‫هي تلك التي حدثت في ألمانيا عند مطلع القرن السادس عشر‪ .‬وهي الحركة المشهورة‬ ‫باسم "حرب الفالحين"‪.‬‬ ‫ج) االنتفاضات في الحواضر‬ ‫خالفا لعالم األرياف‪ ،‬يمكن‪ ،‬عند التطرق لالنتفاضات التي شهدتها الحواضر‪،‬‬ ‫الحديث عن "مسألة حضرية"‪ .‬ذلك أن الحواضر التي شهدت تطورا متواصال منذ‬ ‫مطلع القرن الحادي عشر‪ ،‬دخلت مرحلة تدهور بعد حوالي سنة ‪ .1260‬تجلت‬ ‫مظاهره في البطالة‪ ،‬وتدني األجور‪ ،‬وتزايد أعداد الفقراء والمهمشين‪ .‬فترتب عن ذلك‬ ‫ظهور حركات احتجاج وانتفاضات تصدرتها الفئات الدنيا التي كانت تعيش أوضاعا‬ ‫صعبة‪ .‬فكانت هذه الفئات توجه غضبها أحيانا ضد اليهود‪ .‬ولكن كانت في معظم‬ ‫األحيان تنتفض ضد ممثلي السلطات الحاكمة نظرا لالشتطاط الذي كانت عرضة له‬ ‫من قبل الجباة‪ ،‬والتعنيف الذي كان يطالها من قبل أجهزة الشرطة‪.‬‬ ‫وانخرط عدد من الحرفيين في تلك الحركات‪ ،‬ألنهم كانوا هم اآلخرين يئنون‬ ‫تحت سلطة رؤساء الطوائف الحرفية‪ .‬ونظرا الشتراك هؤالء وأولئك في نفس‬ ‫المصير‪ ،‬فقد حاولوا تنظيم صفوفهم منذ وقت مبكر‪ .‬وقد أورد رجل القانون الفرنسي‬ ‫بومانوار (‪ )Beaumanoir‬في مؤلف أصدره سنة‪ 1285‬بأنه "كان يحدث تحالف‬ ‫ضد االستغالل‪ ،‬حين كان مجموعة من الناس يتعهدون‪ ،‬أو يتوافقون‪ ،‬على عدم‬ ‫االستمرار في العمل بأجور متدنية عن السابق"‪.‬‬ ‫والجدير بالذكر أنه حدث قبل ذلك بسنوات‪ ،‬وبالضبط سنة ‪ 1255‬أن كون‬ ‫حرفيو مدينة فيجاك (‪ )Figeac‬ما يشبه تنظيما نقابيا (‪ )colligatio‬لتحديد مطالبهم‬ ‫ومشاريعهم‪ .‬وكانوا يطالبون‪ ،‬عموما‪ ،‬بتخفيض ساعات العمل‪ .‬كما اتضح ذلك جليا‬ ‫في انتفاضة مدينة ﯕاند (‪ )Gand‬سنة ‪ ،1337‬التي نادى فيها العمال بضرورة تحسين‬ ‫ظروف العمل‪ ،‬وبمزيد من الحرية‪.‬‬ ‫وإذا كان الفالحون قد القوا صعوبات في إيجاد من يتزعم حركاتهم‪ ،‬فإن‬ ‫المنتفضين في الحواضر لم يفتقدوا للزعامات‪ .‬وقد أورد روبير فوصيي أسماء عدد‬ ‫منهم من أمثال برنﯕير أولير (‪ )Berenguer Oller‬في مدينة برشلونة‪ ،‬وجون كبوس‬

‫‪176‬‬

‫(‪ )Jean Cabos‬في مدينة كان‪ ،‬وبيير ديكونانك (‪ )Pierre Deconinck‬في مدينة‬ ‫بروج‪ ،‬وميشيل دو الندو (‪ )Michel de Lando‬في مدينة فلورنسا‪ ،‬وسيمون كبوش‬ ‫(‪ )Simon Caboche‬في مدينة باريس‪ ،‬وهنري دو دينان (‪)Henri de Dinant‬‬ ‫في مدينة لييج‪ ،‬الذي تفرد عن غيره‪ ،‬في نظر المؤلف‪ ،‬بكونه كان زعيما محنكا‪،‬‬ ‫ناضل من أجل مجتمع بدون طبقات‪ .‬واستطاع قيادة عمال المدينة المذكورة لمدة أربع‬ ‫سنوات بين سنتي ‪ 1352‬و‪.1356‬‬ ‫وباإلضافة إلى مدينة لييج‪ ،‬شهدت ثالث مدن أخرى‪ ،‬هي باريس ولندن‬ ‫وفلورنسا‪ ،‬حركات "حضرية" في النصف الثاني من القرن الرابع عشر‪ .‬كانت عنيفة‬ ‫وذات طابع ثوري‬ ‫ففي باريس اندلعت حركة اجتماعية قوية سنة ‪ ،1358‬شارك فيها عدد كبير من‬ ‫سكان المدينة‪ ،‬على اثر هزيمة تلقتها الجيوش الفرنسية على يد األنجليز في وقعة‬ ‫بضواحي بواتيي سنة ‪ .1356‬ووجد المنتفضون في شخص إيتيان مارسيل ( ‪Etienne‬‬ ‫‪ )Marcel‬من قاد حركتهم‪ .‬وكان هذا األخير "عميد" التجار‪ ،‬وأحد أكبر بورجوازيي‬ ‫المدينة‪ .‬ولم يكن قط ثوريا‪ ،‬ولكنه كان يسعى للحد من سلطة الملكية‪ ،‬التي كان يرى‬ ‫بأنها كانت تنحو في اتجاه أن تصبح مطلقة‪ .‬وبعد كر وفر ومحاوالت إلقحام فالحي‬ ‫الضواحي في الحركة‪ ،‬انتهت انتفاضة الباريسيين باغتيال زعيمها في يوليوز ‪،1358‬‬ ‫واستئصال شأفة المشاركين فيها‪.‬‬ ‫واندلعت حركة أخرى قصيرة المدى‪ ،‬ولكنها عنيفة جدا‪ ،‬سنة ‪ 1382‬بعد أن‬ ‫أعادت السلطة الحاكمة إقرار مجموعة ضرائب كان قد أسقطها الملك شارل الخامس‬ ‫وهو يحتضر في شبنبر ‪ .1380‬فعمد المنتفضون إلى تسليح أنفسهم بأعداد من‬ ‫المطارق الكبيرة الحجم (‪ )des maillets‬سطوا عليها من "قصر البلدية" ( ‪l’Hôtel‬‬ ‫‪ ،) de ville‬حيث كانت مودعة استعدادا لرد هجوم كان يحتمل أن يقوم به األنجليز‪.‬‬ ‫ولذلك نعتت هذه الحركة باسم انتفاضة "المطرقيين" (‪.)les Maillotins‬‬ ‫واندلعت شرارة حركة ثالثة في سياق صراع مسلح نشب بين األرمنياكيين‬ ‫(‪ )les Armagnacs‬والبورﯕينيين (‪ )les Bourguignons‬وتزامن مع مجريات‬ ‫حرب المائة سنة‪ .‬وكسب المنتفضون‪ ،‬بقيادة جزار يدعى كبوش (‪ ،)Caboche‬تأييد‬ ‫ومساندة البورﯕينيين‪ .‬وتمكنوا من الضغط على أعضاء البرلمان الستصدار قانون‬ ‫إصالح سنة ‪ .1413‬ولكن استعادة األرمنياكيين لزمام المبادرة حال دون نجاح الحركة‬ ‫فيما كانت تروم تحقيقه‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن أهم ما يجب استخالصه من خالل استعراض بعض‬ ‫االنتفاضات التي شهدتها باريس‪ ،‬هو أن هذه الحركات تفيد‪ ،‬من جهة‪ ،‬بظهور‬ ‫محاوالت إصالح في فرنسا‪ ،‬وفي جميع أنحاء أوربا‪ ،‬تم إجهاضها‪ .‬وتفيد‪ ،‬من جهة‬

‫‪177‬‬

‫أخرى‪ ،‬بانطالق زمن الحركات االجتماعية في الحواضر‪ ،‬وهو الزمن الذي تواصل‬ ‫حتى اندالع الثورة الفرنسية‪.‬‬ ‫وعلى غرار باريس‪ ،‬انطلق مسلسل االنتفاضات االجتماعية في لندن بحركة‬ ‫عمالية اندلعت سنة ‪ 1381‬احتجاجا على طبيعة قانون الشغل الضاغط على العمال‪،‬‬ ‫واحتجاجا على إقرار ضريبة جديدة تدعى "البول‪ -‬طاكس" (الضريبة على الرأس)‪.‬‬ ‫وخالفا لمنتفضي باريس‪،‬الذين لم تلق حركتهم صدى في األرياف‪ ،‬فإن حرفيي وعمال‬ ‫لندن وجدوا من يتآزر معهم في األرياف مما أكسب انتفاضتهم زخما قويا‪ .‬كما وجدت‬ ‫االنتفاضة في شخص وات تايلر (‪ )Wat Tyler‬زعيما محنكا آزره رجل الدين جون‬ ‫بال (‪ ،)John Ball‬الشهير بقولته ‪" :‬حين كان آدم يقلب التربة‪ ،‬وكانت حواء تنسج‪،‬‬ ‫أين كان الجنتلمان ؟ "‪.‬‬ ‫وقد كانت االنتفاضة عارمة‪ ،‬حيث تمكن القائمون بها من السيطرة على لندن‬ ‫لفترة وجيزة‪ .‬ولكنهم فشلوا في مواصلة السيطرة على المدينة نظرا للقمع العنيف الذي‬ ‫جوبهوا به‪ ،‬ونظرا الغتيال زعيمهم‪.‬‬ ‫أما في فلورنسا‪ ،‬فقد اتخذت االنتفاضات منحى آخر ألن المدينة كانت مركزا‬ ‫انتشرت فيه وحدات صناعة النسيج‪ .‬كما كان األغنياء وكبار التجار هم المسيطرين‬ ‫على طوائف العمال في هذه الوحدات‪ .‬ولذلك شكل العمال غالبية متصدري حركة‬ ‫‪ .1378‬وتمكنوا من السيطرة على المدينة لفترة تزيد عن الثالث سنوات‪ .‬بل استطاعوا‬ ‫أن يجعلوا لهيب حركتهم يمتد خارج فلورنسا‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬آلت االنتفاضة إلى الفشل‪.‬‬ ‫وتمكن أغنياء المدينة من السيطرة على الوضع‪ ،‬ومن تثبيت نفوذهم‪ .‬فأضحت فلورنسا‬ ‫خالل القرن الخامس عشر تحت سيطرة أسرة الميدتشي (‪.)les Médicis‬‬ ‫وال بأس من االشارة بمناسبة استعراض أبرز االنتفاضات‪ ،‬الى أن مدن أوربا‬ ‫شهدت أيضا حركات اجتماعية أخرى قام بها عاطلون عن العمل ومهمشون‪ .‬كانوا‬ ‫يتجمعون في بعض الضواحي التي غدت مناطق خطيرة‪ .‬وقد حدث أن اندلعت في‬ ‫وقت مبكرحركات مماثلة لها في مدن أوربا‪ ،‬من قبيل تلك التي قام بها العاطلون‬ ‫والمهمشون بين سنتي ‪ 1280‬و‪ 1310‬في كل من دواي (‪ ،)Douai‬وإيبر (‪)Ypres‬‬ ‫وبروج‪ ،‬ولييج‪ ،‬وبيزيي‪ ،‬وتولوز‪ ،‬وريمس‪ ،‬وباريس‪ ،‬وفلورنسا‪ .‬ثم اندلعت انتفاضات‬ ‫مماثلة لها بين سنتي ‪ 1360‬و‪ .1410‬انخرط فيها العمال كذلك‪ .‬ووقعت أعنفها في‬ ‫مدن شمال غرب أوربا‪ .‬ثم اندلعت موجة ثالثة من هذه االنتفاضات بين سنتي ‪1440‬‬ ‫و‪ 1460‬في بعض مدن ألمانيا‪ ،‬ومدن منطقة الفالندر‪ ،‬وفي باريس أيضا‪ .‬ولكنها كانت‬ ‫انتفاضات قصيرة المدى وأقل حدة من سابقاتها‪ .‬وال بأس من اإلشارة في هذا الصدد‬ ‫بأن الباحث بيير موني (‪ )Pierre Monnet‬خص هذا الموضوع ببحث‪ .‬وأحصى ما‬

‫‪178‬‬

‫يناهز ‪ 250‬حركة اندلعت في حوالي ‪ 100‬مركز حضري بألمانيا بين سنتي ‪1300‬‬ ‫و‪.1350‬‬ ‫وعلى العموم‪ ،‬لم تفض هذه االنتفاضات إلى إرساء أنظمة طاغية كما حدث في‬ ‫ايطاليا‪ .‬كما لم تترتب عنها "دمقرطة" الحرف‪ .‬وإن العودة إلى السلم ظلت دوما من‬ ‫اهتمامات النخب التي نجحت في الحفاظ على سلطاتها‪.‬‬ ‫د) الصراعات في أوربا الشمالية‬ ‫اكتست الحركات االجتماعية في مناطق أوربا اإلسكندناڤية طابع التعقيد بسبب‬ ‫تعدد أطراف الصراع بين حرفيين وفالحين‪ ،‬واختالطه بالنزاع المحتدم بين التجار‬ ‫الهانسيين‪ ،‬وبالتجاذبات بين ممالك الشمال الدنمركية والنرويجية والسويدية‪.‬‬ ‫فقد سبق لهذه الممالك أن انخرطت تحت قيادة سياسية موحدة سنة ‪.1397‬‬ ‫ولكن النبالء والفالحين انتفضوا في السويد سنة ‪ .1434‬ثم اندلعت انتفاضة في مدينة‬ ‫بيرجن (‪ )Bergen‬النرويجية سنة ‪ 1455‬بإيعاز من بعض األطراف الهانسية‪.‬‬ ‫وانتهت بإعدام أسقف المدينة وستين شخصا من بين متزعميها والمشاركين فيها‬ ‫وظل سكان العالم اإلسكندناڤي منقسمين على أنفسهم‪ ،‬ولكنهم مشتركين في‬ ‫كراهية التجار األلمان والهولنديين‪ .‬وبذلك بدا هذا العالم متفردا بعدم استقراره مقارنة‬ ‫مع باقي مناطق أوربا‪ .‬وحدث سنة ‪ 1478‬أن سيطر أمير موسكوڤيا على نوڤﯕرود‪،‬‬ ‫فاختفت التجارة الهانسية‪ .‬وظهرت بموازاة ذلك روسيا التي كانت قوتها في تنامي‬ ‫متواصل‪ .‬فأخذت تنتفي تبعا لذلك العناصر التي كانت تربط روسيا بأوربا‪.‬‬ ‫‪ )5‬انفراط وحدة الكنيسة وظهور الشقاق‬ ‫ساهم حدث آخر‪ ،‬ال يقل أهمية عن الطاعون وعن االنتفاضات‪ ،‬في خلق البلبلة‬ ‫واالضطراب في أوربا المسيحية‪ .‬يتمثل هذا الحدث في التطورات التي شهدتها‬ ‫البابوية‪ .‬وقد تجسدت مقدماتها في اضطرابات هزت سكان مدينة روما بعد الحفل‬ ‫الديني الذي نظمته البابوية سنة ‪ .1300‬وتفاديا الندالع موجة جديدة من هذه‬ ‫االضطرابات‪ ،‬تقرر اجراء عملية انتخاب البابا سنة ‪ 1305‬بمدينة ليون‪ .‬كما وضع‬ ‫التاج البابوي على رأس البابا المنتخب الفرنسي كليمون الخامس (‪)Clément V‬‬ ‫بنفس المدينة‪ .‬ومكث بها حتى سنة ‪ ،1309‬ثم انتقل إلى مدينة أڤنيون (‪.)Avignon‬‬ ‫وظل الباباوات‪ ،‬الذين تعاقبوا على كرسي البابوية بعد كليمون الخامس‪ ،‬مستقرين‬ ‫بالمدينة ذاتها التي شيد بها قصر فخم‪ ،‬ومرافق دينية‪ ،‬وإدارية أنفقت فيها أموال طائلة‪،‬‬ ‫من حصيلة الضرائب المستخلصة‪ ،‬حتى أضحت المدينة مقرا ألكثر الحكومات نجاحا‬ ‫خالل القرن الرابع عشر‪ .‬وال شك أن موقع المدينة في قلب العالم المسيحي ساعد‬

‫‪179‬‬

‫كثيرا على تحقيق هذا النجاح‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬لم تنس هذه النجاحات المسيحيين في مدينة‬ ‫روما نظرا لقدسيتها ومكانتها في القلوب‪ ،‬ولذلك ظل كثير من رجال الدين‪ ،‬ومن‬ ‫الالئكيين أيضا‪ ،‬يطالبون بعودة البابوية إلى مدينة روما‪.‬‬ ‫وقد استجاب البابا أوربان الخامس (‪ )Urbain V‬لهذه النداءات‪ ،‬فغادر أفنيون‬ ‫إلى روما سنة ‪ .1367‬ولكنه سرعان ما عاد إلى أڤنيون‪ ،‬بعد أقل من ثالث سنوات‪،‬‬ ‫نظرا لعدم استتباب الوضع في روما‪ .‬وفي سنة ‪ 1378‬قرر ﯕريﯕوار الحادي عشر‪،‬‬ ‫الذي كان يعتلي كرسي البابوية آنذاك‪ ،‬العودة نهائيا إلى روما‪.‬‬ ‫ومن المفيد التذكير بأن الصراع كان على أشده بين األسر األرستقراطية في‬ ‫روما خالل فترة وجود مقر البابوية بمدينة أڤنيون‪ .‬وكان سكان المدينة منقسمين‬ ‫بدورهم بين فريق مؤيد لهذه األسرة وفريق مؤيد لتلك األسرة‪ .‬مما خلق المناخ المالئم‬ ‫لظهور بعض الزعامات‪ .‬فحالف الحظ المدعو كوال دي ريينزو ( ‪Colla di‬‬ ‫‪ ،)Rienzo‬الذي استطاع بفضل حنكته وفصاحته وكراهيته لألسر األرستقراطية‬ ‫وللبابوية استقطاب جمهور غفير من سكان المدينة‪ .‬فقادهم سنة ‪ 1347‬للسيطرة على‬ ‫مقر البلدية‪ ،‬وإعالن نفسه حاكما للمدينة‪ .‬ورد عليه البابا إينوسنت السابع بأن أرسل‬ ‫إليه فيلقا من المحاربين تحت إمرة الكاردينال ألبرنز (‪ ،)Albornoz‬فاضطر كوال‬ ‫إلى اختيار المنفى‪ .‬ثم سرعان ما عاد إلى المدينة التي ثار فيها ضده بعض أنصار‬ ‫األمس‪ ،‬فانقضوا عليه وأردوه قتيال‪.‬‬ ‫هز هذا الحدث مشاعر كثير من مسيحيي روما ومسيحيي أوربا‪ ،‬وخاصة منهم‬ ‫أوالئك الذين ظلوا يحنون أليام مجد روما زمن األباطرة الرومان‪.‬ولم تفض عودة‬ ‫البابا ﯕريﯕوار الحادي عشر إلى روما في تهدئة الخواطر‪ ،‬بل زادت من تفاقم الوضع‪.‬‬ ‫وحدث أن توفي هذا البابا فجأة فعقد كبار الكرادلة مجمعا تحول إلى فوضى عارمة‪.‬‬ ‫فاعتلى عرش البابوية في هذه الظروف أوربان السادس (‪ )Urbain VI‬الذي عارض‬ ‫عملية انتخابه عدد من رجال الدين آثروا عليه كليمون السابع (‪.)Clément VII‬‬ ‫ولكن أوربان ظل متمسكا بأحقيته في تولي المنصب‪ .‬فأضحى على رأس البابوية‬ ‫رجالن ‪ :‬االيطالي أوربان في روما والسويسري كليمون في أڤنيون‪ .‬فانقسم‬ ‫المسيحيون بين مؤيد لاليطالي ومؤيد للسويسري‪ .‬فكان في صف االيطالي مسيحيو‬ ‫ايطاليا‪ ،‬وأنجلترا‪ ،‬واإلمبراطورية الجرمانية‪ ،‬وممالك أوربا الشرقية والشمالية‪ .‬وكان‬ ‫في صف السويسري مسيحيو فرنسا‪ ،‬وقشتالة‪ ،‬وأرغونة‪ ،‬وإيكوسيا‪.‬‬ ‫وأحاط كل بابا نفسه بنفر من الكارديناالت ورجال الدين والمساعدين‪ .‬وعند‬ ‫وفاة البابا أوربان السادس سنة ‪ 1389‬عقد كارديناالت روما مجمعا انتخبوا فيه‬ ‫بونيفاس التاسع الذي شغل منصب البابوية حتى سنة ‪ .1404‬وكذلك عند وفاة كليمون‬ ‫سنة ‪ 1394‬خلفه بينوا الثالث عشر على كرسي البابوية في أڤنيون‪.‬‬

‫‪180‬‬

‫والجدير بالمالحظة‪ ،‬أن أمرا حدث خالل هاته الفترة وسيتأكد خالل القرن‬ ‫السادس عشر في سياق اإلصالح الديني‪ ،‬وهو أن الكنائس الوطنية أصبحت تأتمر‬ ‫بأمر الملوك والساسة المحليين (الوطنيين)‪ .‬وقد أثارت هذه المسألة حفيظة كثير من‬ ‫المسيحيين المنتمين لتلك الكنائس والمسيحيين من عامة المجتمع‪ .‬فحاول ساسة فرنسا‬ ‫رأب الصدع‪ ،‬واقترحوا سنة ‪ 1395‬انسحاب الباباوين بينوا الثالث عشر وﯕريﯕوار‬ ‫الثاني عشر‪ .‬غير أن البابا بينوا رفض المقترح وظل الوضع يراوح مكانه حتى سنة‬ ‫‪ 1409‬حيث انعقد مجمع ديني ضم كرادلة المعسكرين‪ ،‬وانتهى بعزل الباباوين وتعيين‬ ‫بابا آخرمكانهما‪ ،‬هواإلسكندر الخامس (‪ )Alexandre V‬الذي اعتلى كرسي البابوية‬ ‫بين يونيو ‪ 1409‬ومارس ‪ .1410‬وبما أن البابا بينوا والبابا ﯕريﯕوار لم يمتثال لقرار‬ ‫العزل‪ ،‬فقد أضحى على رأس البابوية ثالثة باباوات‪ .‬وظل المنصب موضوع تجاذبات‬ ‫حتى شهر نونبر ‪ 1417‬تاريخ انعقاد مجمع ديني انتهى بتعيين بابا واحد حصل حوله‬ ‫التوافق هو مارتان الخامس (‪.)Martin V‬‬ ‫ورغم حصول هذا التوافق‪ ،‬ظل االنقسام بين المسيحيين الكاثوليك ساري‬ ‫المفعول‪ ،‬ولكن بدرجة أقل حدة عما كان عليه األمر في الماضي‪ .‬وفي سنة ‪1449‬‬ ‫انعقد مجمع ديني آخر بمدينة فلورنسا تم خالله تعيين أوجين الرابع (‪)Eugène IV‬‬ ‫بابا جديدا‪ .‬فعمل هذا الخير بشكل دؤوب على تحقيق المصالحة بين المسيحيين‬ ‫الكاثوليك‪ .‬بل سعى إلى تحقيق الوئام بين الكنائس الكاثوليكية والكنائس األرثوذوكسية‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن الخالصة التي يمكن استخالصها هي أن الشقاق‬ ‫الكبير كان امتحانا عسيرا بالنسبة للمسيحيين‪ .‬وكان من الممكن أن يستشري وتترتب‬ ‫عنه نتائج وخيمة بالنسبة لوحدة المسيحية والمسيحيين‪ ،‬ألن الكنائس الوطنية بدأت‬ ‫فعال‪ ،‬في ضوء ذلك االنقسام تبتعد عن روما‪ .‬كما شرع ملوك الممالك في إبرام‬ ‫اتفاقيات ثنائية مع البابوية‪.‬‬ ‫‪ )6‬الهراطقة الجدد ‪ :‬الوايكﻠيفيون والهوسيون‬ ‫تميزالقرنان لرابع عشر والخامس عشر‪ ،‬باختفاء حركات الهرطقة التي‬ ‫شهدتها أوربا خالل القرون السابقة باستثناء بعض بقاياها التي انحصرت في مناطق‬ ‫جبلية وعرة‪ .‬وبالمقابل‪ ،‬ظهرت حركات "حداثية" تبشر بانبثاق حركة اإلصالح‬ ‫البروتستانتي التي ستشهدها أوربا في القرن السادس عشر‪ .‬تمثلت هذه الحركات بشكل‬ ‫خاص في حركة جون وايكليف (‪ )John Wyclif‬واللوالرديين (‪)les Lollards‬‬ ‫بأنجلترا‪ ،‬وحركة جون هوس (‪ )Jean Hus‬والهوسيين (‪ )les Hussites‬في‬ ‫بوهيميا‪.‬‬

‫‪181‬‬

‫كان جون وايكليف‪ ،‬المتوفى سنة ‪ ،1384‬أستاذا لعلم الالهوت بجامعة‬ ‫أكسفورد‪ .‬انطلق في موقفه من المسألة الدينية من فكرة قديمة وهي أن صالحية‬ ‫األسرار المقدسة )‪ (les sacrements‬ليست متصلة بوظيفة أوالئك الذين يقدمونها‪،‬‬ ‫ولكنها متصلة بمسألة كونهم في حالة خالص‪ .‬ومن ثم‪ ،‬تبطل‪ ،‬في نطره‪ ،‬صالحية‬ ‫األسرار التي يقدمها الرهبان الغير جديرين بمناصبهم‪ .‬وفي هذا السياق‪ ،‬رأى بأن‬ ‫الطقوس والشعائر‪ ،‬وعموم مكونات الدين‪ ،‬الموثوق بها هي تلك التي يتضمنها الكتاب‬ ‫المقدس وحده‪ .‬وبذلك أنكر ضمنيا صحة القرارات التي تتخذها الكنيسة‪ ،‬والتي ال يتم‬ ‫فيها االنطالق من النص المقدس‪ .‬كما انتقد إباحة الكنيسة استعمال الصور وتشجيع‬ ‫الحج‪ ،‬ومنح الغفران لألموات‪ .‬وتطورت مواقفه‪ ،‬قبيل وفاته‪ ،‬لتنحو منحى راديكاليا‪.‬‬ ‫فقد انتقد ما يعرف بالقربان المقدس‪ ،‬وانتقد كذلك الطوائف الدينية‪ ،‬التي اعتبرها شكال‬ ‫من أشكال "خوصصة الدين"‪ ،‬ألنها تنشر في أوساط المسيحيين "ديانات خاصة"‪.‬‬ ‫وكان من المنتظر أن تدين الكنيسة مواقف وايكليف‪ .‬وذلك ما حدث في‬ ‫أكسفورد سنة ‪ ،1380‬وفي لندن سنة ‪ .1382‬وبدأت مقدمات اإلجراءات التي ستتخذ‬ ‫ضده بنشر شائعات تفيد بمساندته للعمال المشاركين في انتفاضة ‪ .1381‬وانتهى‬ ‫األمر فعال بأن صدرت في حقه اإلدانة‪.‬‬ ‫ولعل أهم تأثير مارسه وايكليف على المدى البعيد تجلى في كونه حاول تعميم‬ ‫الكتاب المقدس حين قام بترجمته إلى اللغة األنجليزية‪ .‬وسيقدر لهاته النسخة المترجمة‬ ‫أن تنتشر فيما بعد‪ .‬ولكن هذا ال يمنع من القول بأن أفكاره كان لها صدى على المديين‬ ‫القريب والمتوسط‪ .‬فقد وجدت من ينتصر لها في أكسفورد بعد وفاته‪ .‬بل استمرت‬ ‫مؤثرة بعد ذلك حتى قيام حركة اإلصالح الديني التي تبنى أقطابها بعض وجهات‬ ‫نظره‪.‬‬ ‫وقبل أن ينتقل إرث وايكليف إلى مصلحي القرن السادس عشر‪ ،‬فقد ألهم بعض‬ ‫"مصلحي" نهاية القرن الرابع عشر‪ ،‬ومن ضمنهم "اللوالرديين" الذين يمكن‬ ‫اعتبارهم من أتباعه‪ .‬كان هؤالء عبارة عن تنظيم شبيه بطوائف الفقراء‪ .‬ينتمي معظم‬ ‫أعض اءه لمدينة أكسفورد‪ ،‬وانضم إليهم عدد من "الرهبان الفقراء'‪ .‬وتكاد التسمية التي‬ ‫أطلقت عليهم ترادف كلمة "فقراء"‪ .‬كما أنها تعني من منظور قدحي "رجال الدين‬ ‫المهمشين"‪.‬‬ ‫عمل اللوالرديون على نشر نسخة اإلنجيل األنجليزية التي أنجزها وايكليف‪.‬‬ ‫واستطاعوا كسب تأييد عدد من رجال السياسة ومن علية القوم‪ .‬كما كسبوا عطف‬ ‫جمهور من عامة البسطاء‪ .‬وأشاعوا في أوساطهم رغبتهم في إسقاط الطابع الديني عن‬ ‫ثروات المؤسسات الدينية وثروات رجال الدين‪ .‬وقد وجدت رغبتهم هاته صدى لدى‬

‫‪182‬‬

‫عدد من البرلمانيين الذين فكروا سنة ‪ 1410‬في تقديم مقترح لمصادرة ثروات‬ ‫األسقفيات واألديرة‪.‬‬ ‫ورغم هذا النجاح‪ ،‬لم يكن القائمون على األمر في أنجلترا ينظرون بعين الرضا‬ ‫إلى هاته الحركة‪ .‬فالحقوا أعضاءها ونكلوا بهم‪ ،‬خاصة بعد حركة احتجاج قاموا بها‬ ‫سنة ‪ .1414‬فاضطر اللوالردييون للجوء للعمل السري‪ .‬واستمرت كثير من أفكارهم‬ ‫خالل القرن السادس عشر‪ ،‬حيث تبناها متزعمو حركة اإلصالح البروتستانتي‪.‬‬ ‫وعلى غرار حركة وايكليف‪ ،‬اكتست حركة جون هوس زخما قويا منذ شبابه‪.‬‬ ‫فقد انخرط في الجدل الدائر حول القضايا الدينية والسياسية حين كان طالبا بجامعة‬ ‫براغ‪ ،‬التي كانت حديثة النشأة‪ .‬ثم اشتغل أستاذا بنفس المؤسسة‪ ،‬فعميدا لكلية الفلسفة‪،‬‬ ‫فرئيسا للجامعة سنة ‪ .1410‬وشرع في نشر أفكاره التي اتسمت بكونها كانت ذات‬ ‫صبغة راديكالية وواقعية في ذات الوقت‪ .‬وتقوم على أساس وجود كليات في الذكاء‬ ‫اإللهي‪ ،‬ألن األفكار هي عبارة عن وقائع تتميز بالسمو‪.‬‬ ‫وتجاوزت أفكاره حدود الحرم الجامعي لتنتشر في مدينة براغ حين شرع‪،‬‬ ‫ابتداء من سنة ‪ 1402‬في الوعظ باللغة التشيكية في كنيسة المدينة‪ .‬ولم يتردد في‬ ‫المطالبة بإصالح الجوانب األخالقية للقائمين بأمور الكنيسة المسيحية‪ ،‬وبضرورة‬ ‫طاعتهم لكالم هللا‪ .‬فكان ذلك يعني دخوله في مواجهة مباشرة مع رجال الدين الذين‬ ‫نجحوا في استصدار قرار من البابوية‪ ،‬في دجنبر ‪ ،1410‬قضى بحرمانه وبإحراق‬ ‫كتبه أمام المإل‪ .‬فاضطر جون هوس إلى مغادرة براغ واللجوء إلى أحد القصور‬ ‫بجنوب بوهيميا‪ ،‬حيث عكف على التأمل وتحرير مؤلفات أثارت الجدل بين متداوليها‪.‬‬ ‫ومن بينها كتاب "‪( "De ecclesia‬الكنيسة) الذي رأى فيه بأن هذه المؤسسة الدينية‬ ‫شبيهة بالجمعية زمن اإلغريق‪ ،‬ينتمي إليها قدريون‪ ،‬وعلى رأسها شخص (أي البابا)‬ ‫ال يجب اإلقرار بسموه‪.‬‬ ‫وكان على جون هوس أن يخرج من عزلته في نونبر ‪ 1414‬ليمثل أمام‬ ‫المحققين في المجمع الذي التأم بمدينة كونستانس (‪ )Constance‬األلمانية‪ .‬ورغم‬ ‫دفاعه عن وجهة نظره‪ ،‬فقد اتهم بكونه هرطيق‪ .‬وصدر في حقه حكم باإلعدام‪ ،‬وألقي‬ ‫به في السجن حتى يوم ‪ 6‬يوليوز من السنة الموالية‪ ،‬حيث تم اعدامه حرقا‪.‬‬ ‫رفض معظم التشيكيين الحكم الصادر في حق جون هوس‪ ،‬فانتفضوا وعملوا‬ ‫على نشر أفكاره‪ .‬فنشأ تبعا لذلك أول انقسام مذهبي بين المسيحيين‪ .‬ثم أعلن الهوسيون‬ ‫الثورة على اإلمبراطور‪ ،‬وأحكموا قبضتهم على مدينة براغ‪ .‬وتأجج لهيب الثورة‬ ‫عندما سيطر عليها الطابوريون‪ ،‬المشهورين بكونهم كانوا أكثر الهوسيين تطرفا‪.‬‬ ‫والجدير بالمالحظة أن هذه الثورة كانت تحمل عدة دالالت‪ .‬فهي تعني‪ ،‬من‬ ‫وجهة نظر دينية‪ ،‬انفصال التشيكيين عن الكنيسة الرومانية‪ .‬بينما كانت تعني‪ ،‬من‬

‫‪183‬‬

‫وجهة نظر وطنية‪ ،‬اعتزاز التشيكيين بهويتهم اللغوية وبقيمهم وثقافتهم‪ ،‬ورفضهم لما‬ ‫هو دخيل‪ ،‬خاصة من جهة األلمان‪ .‬وكانت تعني‪ ،‬من وجهة نظر اجتماعية‪ ،‬إعادة‬ ‫االعتبار للفالحين‪ ،‬ورفض البنيات والمؤسسات الفيودالية‪.‬‬ ‫وأخذت الثورة منحى دراماتيكيا حين تحولت إلى حرب مفتوحة بين الهوسيين‬ ‫من جهة‪ ،‬والكنيسة واأللمان من جهة ثانية‪ .‬وبما أن موضوعها كان الخالف الديني‪،‬‬ ‫فقد أخذت طابع الحرب الصليبية‪ .‬وشنت خاللها الكنيسة واأللمان أربع حمالت على‬ ‫الهوسيين بين سنتي ‪ 1421‬و‪ .1432‬ورغم أن معظم المحاربين الهوسيين كانوا في‬ ‫األصل فالحين يحاربون "على األقدام"‪ ،‬فقد زرعوا الرعب في صفوف الفرسان‬ ‫األعداء‪ .‬ونقلوا الحرب إلى عدة مناطق ألمانية خربوها وأفنوا أهلها‪ .‬وبذلك يمكن‬ ‫اعتبار حركة الهوسيين أول حركة ثورية أوربية عظيمة أذهلت األوربيين‪ .‬فاضطر‬ ‫اإلمبراطور سجيسموند (‪ ،)Sigismond‬تحت وقع األحداث‪ ،‬إلى إعالن الهدنة‬ ‫وإبرام اتفاق مع الهوسيين المعتدلين‪ .‬فوافق هؤالء على المقترح‪ ،‬وعينوا على رأسهم‬ ‫جورج بوديبراد (‪ )Georges Podiebrad‬الذي كان زعيم حرب‪ ،‬ثم ملكا لبوهيميا‬ ‫بين سنتي ‪ 1458‬و‪ .1471‬وقد اشتهر بكونه أثار الرعب في أمراء اللوكسمبورغ‪،‬‬ ‫ودمر مواقع األلمان في بوهيميا‪.‬‬ ‫‪ )7‬التفاني العصري‬ ‫ال يمكن أن يكتمل الحديث عن الحركات الدينية السالف ذكرها‪ ،‬وعن المشاكل‬ ‫الد ينية التي أثارتها في أوربا بدون الحديث عن ذلك التيار الروحي الذي تطور في‬ ‫هدوء‪ .‬والمقصود هنا ما يسمى بالتفاني العصري (‪.)la devotio moderna‬‬ ‫تعود نشأة هذا التيار للمسيحي (الغير نظامي) الى جيرارد ﯕروت ( ‪Gérard‬‬ ‫‪ )Grote‬أحد أبناء تاجر أقمشة هولندي‪ .‬ترك الدنيا سنة ‪ 1374‬وآثر التفرغ للدين‪.‬‬ ‫واعتكف في إحدى المؤسسات الدينية‪ ،‬ثم تحول للدعوة‪ .‬فكون تنظيما دينيا ضم رجال‬ ‫دين و"إخوانا" الئكيين‪ .‬كما كون بموازاته تنظيما آخر نسويا‪ .‬اجتهد ﯕروت وأتباعه‬ ‫في دعوة عموم المسيحيين إلى مراجعة سلوكهم‪ ،‬واجتناب الغنى الفاحش واكتناز‬ ‫الثروات‪ ،‬واالمتناع عن شراء المناصب الكهنوتية‪ .‬وحث رجال الدين على السلوك‬ ‫القويم والتخلي عن معاشرة النساء‪.‬‬ ‫والمالحظ أن تيار التفاني العصري لم يكن قائما على ذلك العمق الروحي أو‬ ‫"الصوفي" الذي قامت عليه بعض التيارات الدينية التي ظهرت في القرن الثالث‬ ‫عشر‪ ،‬أو تلك التي ظهرت في النصف األول من القرن الرابع عشر‪ .‬فقد أراد متزعمه‬ ‫وأتباعه التركيز على جوانب من واقع المسيحيين في حياتهم اليومية‪ .‬ومعنى ذلك أن‬ ‫حركته كانت تقترح إصالحا بسيطا وسهل التحقيق مستمدا من الجانب اإلنساني‬

‫‪184‬‬

‫والسلوكي في حياة السيد المسيح‪ .‬وهذا ما أوضحه توما كامبيس ( ‪Thomas a‬‬ ‫‪ ،)Kampis‬أحد أقطاب التيار‪ ،‬في مؤلفه "االقتداء بيسوع المسيح" الذي اتخذه كثير‬ ‫من مسيحيي ومسيحيات أوربا نبراسا لهم في حياتهم‪.‬‬ ‫وعلى كل‪ ،‬فإذا كان تيار ﯕروت ضعيف الحضور في حركات اإلصالح‬ ‫البروتستانتي التي ظهرت في القرن السادس عشر‪ ،‬فقد شكل مصدر الهام بالنسبة‬ ‫لحركة اإلصالح اليسوعي التي سيتزعمها اينياس دي ليوال (‪)Ignace de Loyola‬‬ ‫في اسبانيا‪.‬‬ ‫‪ )8‬ميالد المشاعر الوطنية‬ ‫نشأت ظاهرة بسيكولوجية في أوربا‪ ،‬وقد تكون‪ ،‬في اعتقاد بعض المؤرخين‪،‬‬ ‫السبب الذي غذى الصراعات الدامية التي شهدتها القارة خالل القرنين الرابع عشر‬ ‫والخامس عشر‪ .‬ويتعلق األمر بالشعور الوطني‪ ،‬رغم أن مؤرخين آخرين شككوا في‬ ‫وجود مثل هذا الشعور في هذه الفترة‪ .‬ويعتقد الفرنسي بيرنار ﯕني ( ‪Bernard‬‬ ‫‪ 69)Guenée‬أن السؤال حول وجود‪ ،‬أو عدم وجود‪ ،‬شعور وطني طرح بشكل‬ ‫خاطئ‪ .‬وعليه‪ ،‬فيجب التساؤل على لسان أحد أوربيي‪ ،‬نهاية العصر الوسيط ماذا‬ ‫كانت تعني بالنسبة إليه "األمة" في دولة معينة؟ وهل كان ُينظر إلى السكان آنذاك‬ ‫كأمة؟ وما هو مكون الشعور الوطني‪ ،‬وما هي حدته؟ وما هي القوة‪ ،‬وما هو التجانس‪،‬‬ ‫الذي كانت تجنيه تلك الدولة من الشعور الوطني؟‬ ‫يجيب بيرنار ﯕني على هذه األسئلة المتصلة بأن كلمة "أمة" لم تأخذ معناها‬ ‫الحديث إال في القرن الثامن عشر‪ .‬أما في نهاية العصر الوسيط‪ ،‬فكانت كل من كلمات‬ ‫"جنس" (أو عرق)‪ ،‬و"دولة"‪ ،‬و"مملكة" كلمات مرادفة لكلمة "أمة"‪ .‬وبناء عليه‪ ،‬فإن‬ ‫حديث البعض عن األمة في نهاية العصرالوسيط كان مرتبطا بالوعي الوطني‬ ‫الحديث‪ ،‬وتم إسقاط هذا الحديث على حقائق لم تكن لها صالت بكلمة أمة‪ .‬كما حدث‬ ‫مثال في ألمانيا حين تم تبني فكرة اإلمبراطورية التي لم تكن متطابقة قط مع فكرة‬ ‫ألمانيا‪ ،‬كما لم تكن متطابقة أيضا مع فكرة جرمانيا‪ .‬وقد حدث في فرنسا أن ربط بعض‬ ‫الباحثين بين نشأة الشعور الوطني وحرب المائة سنة‪.‬‬ ‫ويؤكد بيرنار ﯕني في نهاية المطاف بأن للشعور الوطني أصول قديمة تعود‬ ‫للقرن الثالث عشر‪ .‬ويبدو أن هذا الشعور تأكد في انجلترا في وقت مبكر نسبيا‪ .‬وهذا‬ ‫‪ - 69‬مؤرخ باحث في التاريخ األوربي الوسيط‪ .‬كان يحاضر قبل وفاته سنة ‪ 2010‬بجامعة السوربون‪ .‬انصب اهتمامه‬ ‫على القرنين الرابع عشر والخامس عشر الذين خص قضاياهما بعدة مؤلفات من بينها كتاب ‪:‬‬ ‫‪L'Occident aux XIVe et XVe siècles : Les États, Paris, P.U.F., 1971.‬‬ ‫الذي يتضمن المعلومات التي أوردها جاك لو ﯕوف‪.‬‬

‫‪185‬‬

‫ما يميل إليه أيضا الباحث اوليڤيي دو البردري (‪ )Olivier de Laborderie‬الذي‬ ‫أوضح في أحد أبحاثه بأن بعض تراجم الملوك األنجليز‪ ،‬التي تعود لنهاية القرن الثالث‬ ‫عشر ومطلع القرن الرابع عشر‪ ،‬ال يمكن فهم مضامينها إال بالنظر إليها من منظور‬ ‫الشعور الوطني‪ .70‬وتأكد هذا الشعور في انجلترا بمناسبة حرب المائة سنة‪ .‬وحتى إن‬ ‫افترضنا بأن تلك الحرب لم تكن أصل شعور وطني حقيقي‪ ،‬فقد كان ال بد أن تفضي‬ ‫في انجلترا إلى تحول عميق ينشأ عنه شعور وطني‪ .‬وربما كان من تجليات هذا‬ ‫الشعور الوطني أن األنجليز تخلوا عن الفرنسية‪ ،‬ألنها أضحت لغة العدو‪ ،‬واستبدلوها‬ ‫باإلنجليزية ل غة الشعب‪ .‬وهكذا‪ ،‬فرغم أن االنسجام اللغوي ليس دائما مرتبطا بالشعور‬ ‫الوطني‪ ،‬ففي أنجلترا عمل على تقوية هذا الشعور‪ .‬ونجد كذلك تعبيرا صريحا عن هذا‬ ‫الشعور الوطني األنجليزي في المسرحية التاريخية "ريتشارد الثاني" التي وضعها‬ ‫ويليام شكسبير سنة ‪ .1595‬ويمكن كذلك النظرفي ذات السياق إلى مسألة اتخاذ كلمة‬ ‫فرنسا كمرجعية في المؤلفات التي أنجزت في دير سان دوني‪ ،‬ابتداء من سنة ‪،1274‬‬ ‫تحت عنوان ‪" :‬اإلخباريات الكبرى لفرنسا" ( ‪les Grandes Chroniques de‬‬ ‫‪.)France‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن الخالصة التي يمكن استخالصها من وراء استعراض‬ ‫وجهتي نظر الباحثين السالفي الذكر هي وجود روابط متينة بين "الشعورالوطني"‬ ‫والممالك‪ .‬وتتأكد هذه الروابط عند الحديث عن جان دارك )‪ .(Jeanne d’Arc‬ورغم‬ ‫أن هذا الحديث يحيل إلى موقف "شعبي"‪ ،‬فهو يفيد بأن االتجاه نحو تبلور شعور‬ ‫وطني ارتبط بما قامت به نخبة محدودة العدد‪ .‬كما أن هذا الشعور لم يكن قد اتخذ بعد‬ ‫ذلك المحتوى الغني الذي سيأخذه فيما بعد‪ .‬فهل يجب في هاته الحالة الحديث عن‬ ‫"روح وطنية"؟ يبدو هذا ممكنا بالعودة إلى ما أورده المؤرخ األلماني‪ -‬األمريكي‬ ‫إرنست كانتوروفيتش (‪ )Ernst Kantorovicz‬في الموضوع‪ .‬فقد أوضح كيف‬ ‫انتشرت في نهاية العصر الوسيط القولة المأثورة ‪" :‬الموت من أجل الوطن"‬ ‫(‪.71)Propatria mori‬‬ ‫وبالرغم مما قيل‪ ،‬فيجب مع ذلك االحتراس عند الحديث عن الشعور الوطني‬ ‫في أوربا القرنين الرابع عشر والخامس عشر‪ .‬كما أن البحث عن بدايات تكون األمة‬ ‫يجب أن يتم في نطاق أوسع يتجاوز الشعور والبسيكولوجيا‪.‬‬ ‫‪ - 70‬ال بأس من االشارة الى أن البردري (‪ )Laborderie‬عاد للتعبير عن هذا الموقف بشكل مستفيض في كتابه ‪:‬‬ ‫‪Histoire, mémoire et pouvoir. Les généalogies à rouleau des rois d’Angleterre (1250-1422),‬‬ ‫‪Paris, Garnier, 2013.‬‬ ‫‪ - 71‬نشير الى أن الصيغة الفرنسية لهذه العبارة وهي "‪ "mourir pour la patrie‬تمثل عنوان كتاب أصدره بباريس‬ ‫سنة ‪ 1984‬ضمن منشورات المطابع الجامعية الفرنسية (‪.)P.U.F.‬‬

‫‪186‬‬

‫ويجب التذكير في هذا المضمار بأن مجاالت استعمال كلمات مثل أمة ووطن‪،‬‬ ‫خالل القرن الخامس عشر‪ ،‬كانت مجاالت خاصة‪ .‬فقد كانت هذه الكلمات تستعمل في‬ ‫الجامعات وفي المجامع الدينية على وجه الخصوص‪.‬‬ ‫ففي الجامعات كانت "األمم" (‪ )les nations‬تضم طلبة من مختلف‬ ‫"الجنسيات" بهدف تحقيق سير جيد للمؤسسة‪ .‬وقد ظهرت نماذج من هذه "األمم" في‬ ‫وقت مبكر بجامعة بلوني (‪ .)Bologne‬وبمقتضاها تم توزيع الطلبة على مجموعتين‬ ‫حسب انتماءاتهم الجغرافية‪ .‬وظهر هذا "التنظيم األممي" في باريس سنة ‪،1222‬‬ ‫وانحصر العمل به في كلية الفنون التي توزع طلبتها على أربع "أمم" هي ‪:‬‬ ‫نورمانديا‪ ،‬وبيكارديا‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬وأنجلترا‪ -‬ألمانيا‪ .‬ويوضح هذا المثل‪ ،‬كيف أنه ال يمكن‬ ‫إطالقا إيجاد أي تطابق بين "األمة الجامعية" واألصل المشترك ألعضائها‪ .‬ويتضح‬ ‫هذا األمر جليا في "أمة فرنسا" التي كانت تضم طلبة وأساتذة ينتمون لدول متوسطية‪.‬‬ ‫أما "أمة أنجلترا‪ -‬ألمانيا" فكانت خليطا هجينا يتنافى في حقيقة األمر مع التقاليد‬ ‫الجامعية المعمول بها آنذاك‪.‬‬ ‫وخالفا لما قيل عن "أمم" كلية الفنون الباريسية‪ ،‬نجد أن األمة التشيكية‪ ،‬وكذلك‬ ‫األمة األلمانية‪ ،‬اللتين تم الحديث عنهما بمناسبة أحداث براغ‪ ،‬كانتا تقومان على أسس‬ ‫إثنية خالصة‪ .‬وهذا ما أفضى إلى اندالع ذلك الصراع العنيف الذي انتهى بإقصاء‬ ‫األمة األلمانية‪.‬‬ ‫أما في المجامع الدينية الكبرى التي انعقدت في بداية القرن الخامس عشر‪،‬‬ ‫وأهمها مجمع كونستانس‪ ،‬فقد جرى العمل بنظام األمم‪ .‬وبمقتضاه‪ ،‬كانت كل "أمة"‬ ‫مشاركة في أشغال المجمع تضم مجموعة دول متجانسة‪ ،‬كثيرا أو قليال‪ ،‬من الناحية‬ ‫الجغرافية والتاريخية واللغوية‪.‬‬ ‫وخالصة القول‪ ،‬هي أن األمة بالمعنى القديم كانت شكال أصيال من أشكال‬ ‫تنظيم المجال والمجتمع األوربيين‪ .‬ومن هذا المنطلق نجد أن التجار األوربيين‬ ‫المقيمين في مرافئ ومراكز تجارية خارج أوربا‪ ،‬بعد عمليات التوسع‪ ،‬كانوا ينتظمون‬ ‫في "أمم"‪ .‬وكل واحدة من تلك األمم كانت تضم التجار المنحدرين من نفس المدينة‪ ،‬أو‬ ‫المنحدرين من نفس الجهة‪ .‬وكانت هذه األمم بمثابة تمثيليات‪ ،‬أو مؤسسات مساعدة‪.‬‬ ‫‪ )9‬النبوءة السياسية‬ ‫نشأت خالل القرنين الرابع عشر والخامس عشرظاهرة جديدة عبرت عن نفسها‬ ‫بقوة ‪ :‬إنها ظاهرة النبوءة السياسية‪ .‬فقد جعلت قراءة كتاب العهد القديم‪ ،‬والتدبر في‬ ‫معانيه‪ ،‬رجال االكليروس يولون أهمية كبرى لألنبياء‪ ،‬وللمظاهر السياسية التي تجلت‬

‫‪187‬‬

‫فيها نبوءاتهم‪ .‬وتعد الباحثة كوليت بون (‪ 72)Colette Beaune‬أبرز من توقف عند‬ ‫هذه المسألة‪ .‬فقد أوضحت بأن معظم ممالك أوربا‪ ،‬والمدن الدول االيطالية كانت‬ ‫تصنع خالل القرن الرابع عشر نبوءات خاصة بها‪.‬‬ ‫ففي فرنسا مثال‪ ،‬تم الترويج آنذاك لنبوءة جعلت الملك شارل يعتلي سدة الحكم‬ ‫وهو في سن الثالثة عشرة‪ ،‬ويتفوق على المنتفضين‪ ،‬ثم على األنجليز‪ ،‬ويوضع فوق‬ ‫رأسه تاج امبراطوري في روما وآخر في بيت المقدس‪ ،‬ثم يقوم بغزو األرض‬ ‫المقدسة ويتوفى في القدس‪.‬‬ ‫وفي اسبانيا ارتأى مروجو النبوءة أن يكون فردناند ملك أرغونة البطل الذي‬ ‫بشر المسيحيين بالنصر النهائي على المسلمين‪ ،‬ويقيادتهم إلقامة عالم جديد‪.‬‬ ‫والمحصلة كما توضح ذلك الباحثة كوليت بون هي أن "النبوءة أضحت عند‬ ‫نهاية القرن الخامس عشر عملة متداولة في جميع أنحاء أوربا‪ .‬وقد استعملت لتبرير‬ ‫الحروب االيطالية‪ .‬وهذه النبوءة بالذات هي التي كانت وراء خوض كريستوف‬ ‫كولومبس لغمار المحيطات‪ .‬وبما أن األفراد والمجتمع كانوا يالقون صعوبات في‬ ‫تمثل فكرة التقدم‪ ،‬فإن النبوءة كانت من الوسائل القليلة التي لجأوا إليها لتمثل مستقبل‬ ‫كان مسطرا من قبل"‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن أوربا النبوءة‪ ،‬تحيل‪ ،‬في نهاية المطاف‪ ،‬إلى أوربا‬ ‫المنتصرة والمهيمنة‪ ،‬أوربا األزمنة الحديثة‪.‬‬ ‫‪ )10‬الطباعة‬ ‫في الوقت الذي كانت فيه أوربا القرن الخامس عشر تحلم بغد مجيد‪ ،‬كانت‬ ‫تنفتح على حضارة جد سعيدة‪ .‬فقد اتسع نطاق القراءة‪ ،‬كما حققت الكتابة والكتاب‬ ‫نجاحا بفضل اكتشاف الطباعة‪.‬‬ ‫ظهرت أولى أشكال الطباعة في الغرب حوالي سنة ‪ 1400‬فيما يبدو‪ .‬وكانت‬ ‫عبارة عن لوحات من خشب تحمل نقوشا بارزة‪ ،‬استعملت إلعادة إنتاج نصوص‬ ‫على الورق تسمى كسيلوغرافيا (‪ .)xylographies‬ولم تكن هذه التقنية فعالة‬ ‫بالمقارنة مع تقنية النسخ اليدوي للمخطوطات والوثائق التي كانت تتم في ورشات‬ ‫متخصصة‪ .‬كان عشرات الخطاطين في هذه الورشات يقومون بنسخ ما يمليه عليهم‬ ‫أحد األساتذة‪.‬‬

‫‪ - 72‬مؤرخة فرنسية من مواليد ‪ .1943‬تحاضر في التاريخ األوربي الوسيط بجامعة نانتير‪ .‬ناقشت سنة ‪ 1984‬أطروحة‬ ‫جامعية لنيل دكتوراه الدولة في موضوع "نشأة أمة فرنسا" نشرتها خالل السنة الموالية‪ .‬وأنجزت بحثان تناولت فيهما‬ ‫ظاهرة النبوءة السياسية في أوربا‪.‬‬

‫‪188‬‬

‫وقد سهل استعمال الورق إمكانية الطبع‪ ،‬قبل أن يتم الشروع في استعمال تقنية‬ ‫الحروف المعدنية المتحركة حوالي سنة ‪ .1450‬وكان لأللماني يوهان ﯕتنبرﯕ‬ ‫(‪ )Johannes Gutenberg‬الفضل في اختراع هذه التقنية‪ ،‬أو باألحرى الفضل في‬ ‫ضبط استعمالها وإشاعتها‪ .‬ولذلك اشتهر بكونه كان وراء ظهور الطباعة‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فقد تم الشروع في استعمال تقنية الحروف في صناعة‬ ‫الكتب بمدينة مايونس (‪ )Mayence‬األلمانية منذ سنة ‪ 1457‬في ورشات كان‬ ‫الساهرون عليها يصنعون الحروف المعدنية المتحركة بواسطة قوالب مجوفة تحتوي‬ ‫على قطع نحاسية داعمة لشكل الحرف‪.‬‬ ‫ويبدو أن تقنيات الطبع تطورت بإيقاع سريع‪ ،‬إذ أن تلك الورشات أصدرت‬ ‫خالل نفس السنة أول سفر باللونين األحمر واألزرق باإلضافة إلى اللون األسود‪ .‬وما‬ ‫كاد القرن الخامس عشر يشرف على النهاية حتى كانت الطباعة منتشرة في معظم‬ ‫أنحاء أوربا‪ .‬كما أدرجت الطباعة ضمن برامج المؤسسات الجامعية‪ ،‬حيث تم‬ ‫تخصيص كرسي علمي لتدريسها بجامعة باريس سنة ‪ .1466‬وبعد مضي أربع‬ ‫سنوات ظهرت أول مطبعة بباريس‪ .‬ثم ظهرت مطابع في كل من أنڤير (‪،)Anvers‬‬ ‫والبندقية‪ ،‬فاقت مطبعة باريس‪ ،‬فغدت المدينتان منارتين في مجال صناعة ونشر‬ ‫الكتاب‪.‬‬ ‫ورغم ذلك‪ ،‬فإن هذه التطورات المتالحقة ال تعني بأن ثورة تحققت في مجال‬ ‫الطباعة‪ .‬فقد كان يجب العمل بشكل حثيث لتجاوز كثير من النقائص‪ .‬وفي انتظار‬ ‫تحقيق هذا المسعى‪ ،‬ظلت الكتب التي أمكن للمطابع وضعها رهن إشارة عموم القراء‬ ‫متدنية الجودة‪ ،‬ومرتفعة الثمن‪ .‬وتمثلت هذه الكتب في الكتاب المقدس‪ ،‬الذي اهتمت‬ ‫المطابع بتوفير عدة نسخ منه‪ ،‬وفي كتب دينية أخرى‪ .‬وكان يجب انتظار حلول القرن‬ ‫السادس عشر ليتغير مضمون الكتب المطبوعة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقد أثر الكتاب في طبيعة‬ ‫المعرفة وفي عملية القراءة‪ ،‬مما مهد الطريق أمام ظهور أجيال جديدة من القراء في‬ ‫أوربا‪.‬‬ ‫‪ )11‬اقتصاد –عالم‬ ‫مثل القرن الخامس عشر فترة انفتاح كبير بالنسبة القتصاد أوربا‪ .‬وقد وجد هذا‬ ‫االنفتاح االقتصادي في شخص فرنان بروديل مؤرخا كبيرا رسم خطوطه وشرح‬ ‫تفاصيله من خالل مفهوم ‪" :‬اقتصاد‪-‬عالم" (‪ )l’économie-monde‬الذي استحدثه‪.‬‬ ‫ويفيد هذا المفهوم بأن مجاال اقتصاديا تشكل‪ .‬وكانت تتم فيه مبادالت اقتصادية‬ ‫منتظمة موجهة من طرف مدينة أو جهة مركزية‪ .‬وفي ضوء هذا التعريف‪ ،‬يمكن‬ ‫القول بأن عالقات اقتصادية منتظمة قامت خالل القرن الرابع عشر بين أوربا‬

‫‪189‬‬

‫الشمالية‪ ،‬ومنطقة الفالندر‪ ،‬والعالم األسيوي‪ ،‬والمرافئ االيطالية الكبرى كجنوة‬ ‫والبندقية‪ .‬فتشكل تبعا لذلك اقتصاد‪-‬عالم أوربي أضحت مدينة أنفير تمثل مركزه‬ ‫خالل القرن الخامس عشر‪.73‬‬ ‫ويتضح جليا بأن هذا التنظيم االقتصادي‪ ،‬الذي أعقب العولمة الرومانية التي‬ ‫انحصرت في العالم المتوسطي‪ ،‬مثل أول عولمة كبرى حديثة‪ .‬وكان واضحا أن تعمل‬ ‫هذه العولمة على اغتناء المدن‪ ،‬والجهات‪ ،‬والفئات االجتماعية‪ ،‬والعائالت التي‬ ‫ساهمت فيها‪ .‬وبالمقابل‪ ،‬كان واضحا أيضا أن يكون هذا الغنى على حساب ضحايا لم‬ ‫تنصفهم تلك المبادالت‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإن مدنا كثيرة تزايد عدد فقرائها‪ ،‬وأضحت فيها فئات‬ ‫عديدة تعيش على الهامش‪.‬‬ ‫وقد وضح فرنان بروديل بأن عولمة من هذا القبيل ال تنحصر فقط في الميدان‬ ‫االقتصادي‪ ،‬ولكنها تتجلى أيضا على مستوى النظام السياسي والحياة الثقافية‪ .‬وهكذا‬ ‫فإن اقتصاد‪-‬العالم أدى على المستوى السياسي إلى حدوث‪ ،‬ما يمكن تسميته "بالتوازن‬ ‫األوربي"‪ .‬وباختصار‪ ،‬فإذا كانت المبادالت االقتصادية قد اتجهت في أوربا نحو‬ ‫العولمة‪ ،‬فإن هذا االتجاه أفضى إلى تفاقم الالمساواة االجتماعية واالختالالت‬ ‫السياسية‪.‬‬ ‫‪ )12‬أوربا تنفتح وتتفتح‬ ‫وجد هذا التطور الذي حدث في أوربا‪ ،‬والذي غلب عليه النمو واالنفتاح‪،‬‬ ‫مجاال لإلخصاب تجلى فيما يصطلح على تسميته بالنهضة التي ظهرت معالمها بجالء‬ ‫منذ القرنين الرابع عشر والخامس عشر‪ .‬وأذكر القارئ هنا بأنني توقفت مليا في‬ ‫كتاب "عصر وسيط بالصور" (‪ 74)Un Moyen Age en images‬عند التعابير‬ ‫االيكونوغرافية لهذا االنفتاح‪ .‬وأعود للتأكيد مرة أخرى بدون تردد بأن معظم الرسوم‬ ‫واللوحات تركز أوال‪ ،‬وقبل كل شيئ‪ ،‬على الطفل المقدم كقربان‪ ،‬أي المضحى به‪،‬‬ ‫ليس في الحياة اليومية حيث كان يحظى بحب والديه‪ ،‬ولكن بوصفه قيمة كما وضح‬ ‫ذلك فليب آرييس )‪ )Philippe Ariès‬بدوره‪.‬‬ ‫‪ - 73‬لمزيد من التفاصيل بخصوص دالالت مفهوم "اقتصاد‪-‬عالم" يمكن العودة لمؤلفي فرنان بروديل ‪:‬‬ ‫‪- Civilisation matérielle, économie et capitalisme (XVe - XVIIIe siècle) Paris, Armand‬‬ ‫‪Colin, 1967, 3 tomes.‬‬ ‫تتوفر نسخة عربية من الكتاب وضعها مصطفى ماهر‪ ،‬وصدرت عن دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع بالقاهرة بين‬ ‫سنتي ‪ 1992‬و‪ 1995‬في ثالثة أجزاء‪ .‬وأعاد المركز القومي للترجمة بالقاهرة نشر األجزاء الثالثة سنة ‪.2013‬‬ ‫‪- La dynamique du capitalisme, Paris, Arthaud, 1985.‬‬ ‫يمكن االطالع على ترجمة عربية للكتاب أنجزها شفيق محسن‪ ،‬وصدرت عن دار الكتاب الجديد المتحدة ببيروت سنة‬ ‫‪.2008‬‬ ‫‪ - 74‬صدر هذا الكتاب بباريس سنة ‪. 2000‬‬

‫‪190‬‬

‫ومن نافلة القول‪ ،‬أن هذه القيمة ارتقت إلى هذا المستوى ألنها ارتبطت بمسألة‬ ‫المسيح الطفل التي شكلت موضوع بحث في نصوص األناجيل الغير األصيلة التي‬ ‫تزايدت أعداد نسخها المتداولة تحت تأثير عملية تقديس عيسى الطفل‪ .‬وقد غدا عيسى‬ ‫الطفل‪ ،‬في سياق هذا التقديس‪ ،‬طفال جميال يعرض لعبه‪ ،‬وهو في ذات الوقت طفل‬ ‫يهيمن على عالم األطفال المالئكة‪.‬‬ ‫وال بأس من التذكير بأن عملية تقديس عيسى الطفل تأكدت بموازاتها أهمية‬ ‫المرأة من خالل عملية تقديس مريم العذراء‪ ،‬التي غدت صورها‪،‬هي األخرى‪،‬‬ ‫منتشرة في كل مكان‪ .‬فكانت بعض الصور تظهرها امرأة باكية مثيرة للشفقة تضع‬ ‫ابنها على ركبتيها (‪ .)la Vierge de pitié ou pietà‬بينما كانت صور أخرى‬ ‫تظهرها في هيأة أنثى عذراء راعية للمستضعفين (‪.)la Vierge de miséricorde‬‬ ‫والمالحظ أن تلك الصور أزاحت من المشهد حواء المرأة الخطيرة‪ ،‬ووضعت في‬ ‫الواجهة حواء المثيرة للرغبة‪ ،‬أي حواء األرض التي يضاهي جمال وجهها (محياها)‬ ‫جمال وجه العذراء‪.‬‬ ‫وقد ظهر شكل فني جديد في مطلع القرن الرابع عشرسيحقق نجاحا خارقا فيما‬ ‫بعد‪ .‬تمثل هذا الشكل الفني فيما يعرف بالبورتري (‪ )le portrait‬الذي هو عبارة عن‬ ‫منتوج يؤكد حضور الشخص ويجسد االتجاه نحو الواقعية‪ ،‬سواء كان الشخص‬ ‫موضوع الصورة حيا أو ميتا‪ .‬كما أن صور وجوه األشخاص‪ ،‬الذين كانت ترسم لهم‬ ‫صور أو توضع لهم تماثيل وهم ممتدون (‪ ،)des gisants‬أضحت حقيقية أكثر من‬ ‫أي وقت مضى‪ .‬والمالحظ أن أقوياء زمانهم‪ ،‬من باباوات‪ ،‬وملوك‪ ،‬وسنايير‪،‬‬ ‫وأغنياء‪ ،‬هم الذين كانوا موضوع "البورترهات" القديمة األولى‪ .‬ثم بعد ذلك بدأت‬ ‫"تهب رياح الديمقراطية" على هذه المنتوجات الفنية‪.‬‬ ‫واستفاد واضعو البورترهات‪ ،‬في انجاز أعمالهم‪ ،‬من اكتشاف الصباغة‬ ‫الزيتية في القرن الخامس عشر‪ .‬كما استفادوا من تطور فن الرسم على الدعامات‪.‬‬ ‫ولذلك ظلت للبورترهات حظوة طيلة فترة من الزمن‪ ،‬يحق معها القول بأن "أوربا‬ ‫البورترهات" قد ولدت‪ .‬وستستمر هذه األشكال الفنية في التطور والتوهج حتى القرن‬ ‫التاسع عشر لتتسلم منها الصورة (‪ )la photographie‬المشعل‪.‬‬ ‫وأعتقد بأن تفتح أوربا تأكد أيضا بتطور فن الطبيخ‪ .‬فقد تحسن كثيرا‪ .‬وتزايدت‬ ‫أعداد الوالئم والمآدب الفاخرة التي أقبل األكابر على تنظيمها مثل مأدبة ‪1445‬‬ ‫الشهيرة التي أقامها دوق بورﯕونيا‪.‬‬ ‫وقدمت األلعاب بدورها إضافة نوعية في عملية التفتح‪ .‬وقد أقبل عليها األفراد‬ ‫من مختلف الفئات االجتماعية‪ ،‬وتنوعت بين ألعاب الورق‪ ،‬وألعاب الرهان‪ ،‬التي‬ ‫انتشرت في أنجلترا بشكل خاص‪ .‬وكأن الناس الذين أقبلوا على تلك األلعاب حاولوا‬

‫‪191‬‬

‫العودة إلى عالم الفرسان والفروسية لمداراة مضاعفات الطاعون‪ .‬وهذا ما تحدث عنه‬ ‫المؤرخ الهولندي يوهان هويزينﯕا باستعماله لمجموعة عبارات من قبيل "نكهة الحياة‬ ‫الصعبة"‪ ،‬و"تطلع األفراد نحو حياة أفضل"‪ ،‬و"الحلم بالبطولة والحب"‪ ،‬و"الحلم‬ ‫بحياة شاعرية"‪ .‬ويمكن االضافة في ذات السياق بأن األوربيين لم يعودوا يرقصون‬ ‫فقط "رقصة الموت" التي سبق الحديث عنها‪ ،‬بل انخرطوا كذلك في رقصات‬ ‫جماعية بمناسبة الحفالت والمناسبات‪ ،‬كانت تتم على إيقاع موسيقى آخذة في التجدد‬ ‫منذ القرن الرابع عشر في سياق النمط الموسيقي المعروف باآلرس نوڤا ( ‪l’ars‬‬ ‫‪ )nova‬الذي كان يسمح آنذاك باستغالل كل الطاقات الصوتية‪ ،‬واستعمال جميع‬ ‫اآلالت الموسيقية المتوفرة‪.‬‬ ‫ومما ال شك فيه‪ ،‬أن اللحظة كانت غنية بالدالالت‪ .‬فخاللها أكدت أوربا ذاتها‬ ‫عن طريق الرقص‪ ،‬والغناء‪ ،‬واللعب‪ ،‬والموسيقى‪.‬‬ ‫‪ )13‬فﻠورنسا زهرة أوربا ؟‬ ‫اجتمعت جميع تعابير التفتح‪ ،‬الذي سبق الحديث عنه‪ ،‬في فلورنسا القرن‬ ‫الخامس عشر‪ .‬فمظاهر ما يسمى بالنهضة تجلت في هذه المدينة التي غدت في القرن‬ ‫الخامس عشر أفضل نموذج يجسد تطور المدينة‪ -‬الدولة نحو نظام االستبداد المستنير‪.‬‬ ‫وحصل هذا التطور نتيجة جهود عائالت كبرى جمع أفرادها بين التجارة واألعمال‬ ‫البنكية‪ ،‬وعلى رأسهم عائلة المديتشي‪ .‬والمالحظ أن التطور في هذه المدينة‪ ،‬لم يكن‬ ‫يسير في نفس االتجاه الذي كان يسير فيه مستقبل أوربا السياسي‪ ،‬ألن ذلك المستقبل‬ ‫كانت موعودة به دول مثل فرنسا‪ ،‬وأنجلترا‪ ،‬أو قشتالة‪ .‬ولكن األنظمة الحضرية‬ ‫المستبدة كانت خادمة للفن‪ .‬ومن هذا المنطلق‪ ،‬فإن العائالت التي حكمت المدن‪،‬‬ ‫والمدن‪-‬الدول في ايطاليا كانت راعية للفن‪.‬‬ ‫ويعد لورينزو الرائع (‪ ،)Lorenzo il Magnifico‬أحد أفراد عائلة‬ ‫المديتشي‪ ،‬واحدا من بين أبرز رعاة الفن المشار إليهم‪ .‬وكان هو نفسه شاعرا رقيق‬ ‫اإلحساس‪ .‬ورث السلطة عن أبيه كوزيمو (كوسم) (‪ (Cosme‬الذي حكم فلورنسا بين‬ ‫سنتي ‪ 1434‬و‪ .1464‬واشتهر هذا األخير بكونه كان مولعا باقتناء وجمع التماثيل‬ ‫الرومانية‪ ،‬واألحجار الكريمة‪ ،‬وقطع النقود القديمة‪ ،‬والميداليات‪ .‬كما اشتهر‬ ‫تيشجيعه‪ ،‬لعموم الناس عامة وللمثقفين بوجه خاص‪ ،‬على إقامة خزانات الكتب‪ .‬وكان‬ ‫يتوفرعلى خزانة شخصية تضم ما ينيف عن ‪ 400‬مجلد‪ ،‬بعضها ال يتوفر في ايطاليا‪،‬‬ ‫اشتراها من أوربا ومن الشرق‪ ،‬أو أمر باستنساخ ما لم يتمكن من شرائه منها‪ .‬وكان‬ ‫جناح من إحدى إقاماته بمثابة صالون أدبي‪ .‬تحول بعد ذلك إلى أكاديمية أفالطونية‬ ‫يديرها مارسيليو فشينو (‪ )Marsilio Ficino‬أحد أبناء طبيب كوزيمو الذي درس‬

‫‪192‬‬

‫وتكون على نفقة هذا األخير‪ .‬ولم يكن فشينو العالم الوحيد الذي "احتضنه" كوزيمو‪،‬‬ ‫فقد احتضن ورعى عددا آخر من أهل العلم والفن‪ .‬وباإلضافة إلى ذلك اشتهر كوزيمو‬ ‫بتشييد عدة منشآت دينية ودنيوية‪ .‬تراوحت بين قصور‪ ،‬ومؤسسات تعليمية‪ ،‬ومراكز‬ ‫صحية‪ ،‬وكنائس‪ ،‬وأديرة‪ ،‬وموناستيرات وغيرها‪.‬‬ ‫وعلى كل‪ ،‬اشتهرت فلورنسا باحتضانها ألروع المنشآت التي تجلى فيها إبداع‬ ‫أكبر الفنانين من رسامين ونحاتين‪ .‬وبها تقع أبواب البابتستير ( ‪les portes du‬‬ ‫‪ )Baptistère‬التي تجسد أفضل ما تم إبداعه في مجال النحت‪ ،‬وأحدث ما تم التوصل‬ ‫إليه في مجال الرسم عند مطلع القرن الخامس عشر‪ .‬ولم يتجل االبداع في هذه البواب‬ ‫فقط‪ ،‬بل تجلى أيضا في منشآت أخرى‪ ،‬من بينها قبة كاتدرائية المدينة‪.‬‬ ‫وأكتفي بما استعرضته من نمادج تجلى فيها ابداع فن مطلع القرن الخامس عشر‬ ‫ألنني ال أنوي هنا الحديث عن تاريخ الفن بفلورنسا‪ .‬أضيف فقط بأن الفنانين‬ ‫والعلماء وجدوا في عائلة المديتشي من رعاهم وشجعهم على االبداع كما سبق القول‪.‬‬ ‫وال شك أن هذه الرعاية وهذا التشجيع‪ ،‬كانا وراء مقدم العديد من علماء وفناني‬ ‫بيزنطة إلى فلورنسا بعد سقوط القسطنطينية في حوزة األتراك العثمانيين‪ .‬فأسهموا‬ ‫بقسط في نهضة المدينة‪.‬‬ ‫ولعل أبرز مظاهر التجديد في تلك النهضة تجلت في انبثاق تيار األفالطونية‬ ‫الجديدة حول مارسيليو فشينو ورواد األكاديمية التي كان يشرف عليها‪ .‬والحقيقة أن‬ ‫هذا التجديد في حد ذاته‪ ،‬كان يمثل امتدادا لذلك الموقف الفكري الذي ميز العصر‬ ‫الوسيط‪ ،‬وهو وضع ثياب قديمة على األفكار الجديدة‪ ،‬حتى غدا هذا الموقف تقليدا‬ ‫أوربيا ميز جميع النهضات منذ الفترة الكارولنجية حتى نهاية القرن الثامن عشر‪.‬‬ ‫‪ )14‬من أقطاب الفكر المنفتح في القرن الخامس عشر‬ ‫برز جمهور كبير من العلماء والفنانين في القرن الخامس عشر‪ .‬وقد قام عدد‬ ‫من الباحثين بالتعريف بهم وبتسليط الضوء على أعمالهم‪ .‬ولكن ثلة منهم ظلت‬ ‫مغمورة‪ ،‬ومن بينهم األلماني نيكوال دي كوزا (‪ ،)Nicolas de Cuesa‬والبولندي‬ ‫باويل ڤلودكوڤيتش (‪( )Pawel Wlodkowic‬أو باولوس فالديميري)‪.‬‬

‫أ) األلماني نيكوال دي كوزا‬ ‫ولد سنة ‪ 1401‬في قرية صغيرة تدعى كوزا (‪ )Cusa‬تقع على ضفاف نهر‬ ‫الموزيل‪ .‬ثم تنقل بين عدة مدن أوربية درس بها الفنون والقانون والالهوت‪ .‬وشارك‬

‫‪193‬‬

‫في أشغال المجمع الديني الذي انعقد ببال سنة ‪ .1432‬ثم ارتقى إلى مصاف‬ ‫الكارديناالت‪ ،‬واشتغل لحساب عدد من الباباوات‪ ،‬أمثال البابا أوجين الرابع‬ ‫(‪ )Eugène IV‬واينيا سلڤيو (‪( )Enia Silvio‬أو بيوس الثاني)‪ ،‬الذين أناطوه بمهام‬ ‫إدارية وسياسية أبان فيها عن مقدرة عالية‪ .‬ولكن تلك المهام لم تصرفه عن البحث‬ ‫والتأليف في مجال األدب والالهوت‪ .‬فوضع سنة ‪ 1440‬كتاب "العالم الجاهل" ‪(De‬‬ ‫)‪ docta ignorancia‬المؤلف من ثالثة أجزاء ‪ :‬جزء أول عرف فيه باهلل‪ ،‬وجزء ثان‬ ‫خصصه للكون‪ ،‬وجزء ثالث للمسيح‪ .‬انطلق في هذا الكتاب من فكرة مفادها أن المرء‬ ‫غير قادر على بلوغ الكمال في معرفة هللا مهما اتسعت معارفه‪ .‬ولكن هاته المعرفة‪،‬‬ ‫الضرورية كأداة في التعرف على هللا‪ ،‬تسمح للمتسلح بها من التعرف على الكون‬ ‫بصورة أفضل‪ .‬وأنكر بالمناسبة على أرسطو وبطوليمي قولهما بثبات األرض وسط‬ ‫العالم‪ ،‬رغم أن وجهة نظره هاته ال تفيد بكونه مهد الطريق لما سيقول به كوبيرنيكوس‬ ‫في هذا الشأن‪ .‬وكان يرى بأن الكون ال متناهي‪ ،‬ويقع مركزه في كل مكان‪ ،‬كما يقع‬ ‫محيطه في كل مكان‪ .‬وبما أن تأكيد مثل هذه القضايا يحتاج إلى شروح‪ ،‬فقد وجد نفسه‬ ‫يخوض في علوم الرياضيات‪ ،‬عامة وفيما له صلة بمسألة التربيع بوجه خاص‪ ،‬قصد‬ ‫التمكن من حل اإلشكاالت الرياضية‪ .‬ولكن استمراره في البحث أوصله إلى قناعة‬ ‫وهي أن الرياضيات العقالنية غير كافية لبلوغ المراد‪ ،‬وال بد من إيجاد فرع مكمل لها‬ ‫يتمثل في "رياضيات عليا" أو "رياضيات فكرية"‪ .‬فوجد نفسه يضع لبنات ما سيعرف‬ ‫على يد ليبنيز ونيوتن بحساب التفاضل‪.‬‬ ‫وبما أن صلة نيكوال دي كوزا بالباباوات ظلت قائمة‪ ،‬وخاصة مع البابا اينيا‬ ‫سلڤيو الذي كان من مقربيه‪ ،‬فقد شاركهم انشغاالتهم بأمور العقيدة وبضغط األتراك‬ ‫العثمانيين على العالم المسيحي‪ ،‬ففكر في إقرار نوع من "هدنة العقيدة" بين‬ ‫المسيحيين‪ .‬وكان يرى في هذا المجال بأن القائمين على الديانات في العالم مطالبين‬ ‫بتجاوز حدود كل عقيدة على حدة واإلقرار بأن جميع الديانات تقوم في األساس على‬ ‫نفس الثوابت‪ ،‬وأن االختالفات المذهبية (بين األديان) ليست اختالفات حول الثوابت‬ ‫بقدر ما هي اختالفات في الشعائر‪ .‬ورغم أنه كان يرى بأن العقيدة واحدة مشتركة بين‬ ‫األديان‪ ،‬فقد كان يميل في قرارة نفسه إلى تفضيل المسيحية‪.‬‬ ‫وعلى كل ‪ ،‬رغم أن نيكوالس لم يذهب بعيدا في هذا االتجاه فقد نال شرف السبق‬ ‫إلى طرح مسالة التعدد الديني بكل وضوح وشفافية‪ .‬وهو بذلك لم يكن أول من وضع‬ ‫أسس ما يعرف بالحوار المسكوني‪ ،‬وإنما كان أول من حاول وضع أسس التسامح‬ ‫الذي كان العصر الوسيط يفتقد إليه كثيرا‪.‬‬ ‫ب) البولندي باويل ﭬلودكوﭬيتش‬

‫‪194‬‬

‫ولد سنة ‪ 1350‬وتوفي سنة ‪ .1435‬درس في مدينة بادو (‪ .)Padoue‬وشغل‬ ‫منصب رئيس جامعة كراكوڤيا‪ .‬كما قام بدور بارز في أشغال المجمع الديني المنعقد‬ ‫بكونستانس‪ ،‬ورغم ذلك ظل شخصا مغمورا‪ ،‬ولكنه أنجز مؤلفا بالغ األهمية أغفل‬ ‫الحديث عنه المؤرخون‪ .‬وتكمن أهميته في كونه قدم إضافة في حقل الفكر السياسي‬ ‫األوربي‪.‬‬ ‫أصدر فلودكوفيتش هذا المؤلف سنة ‪ ،1410‬أربع سنوات بعد وقعة ﯕرونڤلد‬ ‫(‪ ) Grunwald‬التي دارت رحاها بين البولنديين والفرسان التوتونيين‪ .‬وقد توقف مليا‬ ‫عند الصراع بين الطرفين‪ ،‬الذي توج بتلك الوقعة‪ ،‬وارتأى معالجته من زاوية قانونية‬ ‫آخذا بعين االعتبار دور الكنيسة في حياة المجتمع المسيحي في العصر الوسيط‪ .‬فرأى‬ ‫أن هذا الصراع كان يمكن تجنبه لو كان غير المسيحيين يتمتعون بحقوق مدنية‬ ‫وسياسية‪ ،‬على غرار األقليات‪ ،‬كاليهود‪ .‬واقترح أن يطبق في حقهم القانون إذا كانوا‬ ‫يجنحون للسلم ويرغبون في العيش بين المسيحيين‪ .‬وسيرتكب أي ملك خطيئة إذا ما‬ ‫حاربهم دون مبرر أو صادر ممتلكاتهم‪ .‬ويمكن التعامل بذات الطريقة مع الطوائف‬ ‫المسيحية التي تتبنى أفكارا مناوئة للكنيسة‪ .‬وكأنه أراد أن يذكر الكنيسة بمقولة الدين‬ ‫هلل والوطن للجميع‪ .‬أما الوثنيون وغير المسيحيين الذين يعيشون في أوطانهم‪ ،‬فمن‬ ‫حقهم الوجود‪ ،‬وإتباع الدين الذي ارتضوه لهم‪ ،‬ألن وجودهم هو بأمر هللا‪ ،‬كأمره‬ ‫للشمس التي تشرق بأنوارها على الجيد والسيئ‪ ،‬على الخير وعلى الشر‪.‬‬ ‫ويبدو في ضوء ما تقدم أن فلودكوفيتش وضع‪ ،‬من خالل وجهة نظره‪ ،‬أسس‬ ‫القانون الدولي‪ ،‬وأن أوربا التي اقترحها ال تتطابق مع الحدود التي كانت تسود فيها‬ ‫المسيحية‪.‬‬ ‫‪ )15‬انمحاء اإلمبراطورية ؟‬ ‫رغم التحوالت التي شهدتها أوربا خالل القرنين الرابع عشر والخامس عشر‪،‬‬ ‫كان من الصعب أن يتخيل أحدهم اختفاء اإلمبراطورية كحقيقة ترابية وسياسية‪،‬‬ ‫وكمعطى يؤثث المخيال األوربي‪ .‬وكل ما تواترته النصوص في هذا الشأن هو تدهور‬ ‫اإلمبراطورية‪ ،‬أو تجزئة اإلمبراطورية‪ ،‬ألن هذا الكيان السياسي ‪ ،‬ظل تعبيرا رمزيا‬ ‫عن الوحدة األوربية رغم تبلور ممالك وطنية‪ ،‬كفرنسا وأنجلترا‪ ،‬وظهور مجموعة‬ ‫دول‪ -‬مدن في ألمانيا وايطاليا‪.‬‬ ‫وتجلت بعض جوانب هذه الحقيقة في الخامس والعشرين من شهر دجنبر‬ ‫‪ 1356‬حين أصدر شارل الرابع‪ ،‬الذي حكم اإلمبراطورية الرومانية الجرمانية‬ ‫المقدسة بين سنتي ‪ 1347‬و‪ ،1378‬مرسوما نص على إصالح بنية وطريقة عمل هيئة‬ ‫الناخبين لإلمبراطور‪ .‬فقد أصبح عددهم سبعة بموجب هذا المرسوم‪ .‬يتمثلون في‬

‫‪195‬‬

‫أساقفة كل من مدن مايونس (‪ )Mayence‬وكلوني (‪ )Cologne‬وتريڤ (‪،)Trêves‬‬ ‫وملك بوهيميا‪ ،‬وماركيز براندبورﯕ (‪ ،)Brandebourg‬ودوق دوقية ساكس‪ -‬ويتنبرﯕ‬ ‫(‪ ،)Saxe-Wittenberg‬والقمط البالطي (‪ )Comte palatin‬حاكم قمطية الراين‪.‬‬ ‫كما أضحى اإلمبراطور يحكم بمساعدة جمعية تشريعية (رايشتاغ)‪ ،‬كانت تتشكل منذ‬ ‫هذا التاريخ من "الدول"‪ ،‬يعني األمراء الالئكيين والدينيين‪ ،‬ومن مدن اإلمبراطورية‪.‬‬ ‫وبموازاة هذه اإلجراءات‪ ،‬حاول االمبراطور نشر ما يعرف بالسلم اإلمبراطوري‬ ‫(‪ )Reichslandfriede‬في ربوع اإلمبراطورية‪ .‬ولكن تأثيره بدا محدودا مقارنة مع‬ ‫تأثير سلم أمراء الجهات (‪ .)Landfrieden‬وكان هؤالء األمراء هم المشرفون أيضا‬ ‫على سير المؤسسات الدينية‪ ،‬ولذلك انتفى وجود كنيسة مركزية في اإلمبراطورية‪.‬‬ ‫ويبدو‪ ،‬أن انقسام اإلمبراطورية إلى جهات أمر أثر على الطابع األوربي أللمانيا‬ ‫منذ القرن الخامس عشر‪ ،‬ألن هذه األخيرة كانت مقسمة فعال إلى ‪ 350‬جهة (‪Land-‬‬ ‫‪ )schaften‬كان رؤساؤها هم المشرفين الفعليين على سير المؤسسات الدينية‪،‬‬ ‫والمؤسسات القضائية‪ ،‬وعلى جباية الضرائب‪ ،‬وتدبير الشؤون العسكرية‪.‬‬ ‫وال بأس من اإلشارة إلى أن قوة الجهات كانت متفاوتة‪ .‬وفي سياق هذا الجنوح‬ ‫نحو الجهوية ظهرت في ألمانيا‪ ،‬منذ القرن الخامس عشر‪ ،‬ثالث قوى اقتسمت النفوذ‬ ‫في المناطق الشرقية هي ‪ :‬البراندبورﯕ (‪ ،)le Brandebourg‬والساكس ( ‪la‬‬ ‫‪ ،)Saxe‬والنمسا (‪ .)l’Autriche‬وقد تمكن الهوهنزولرن (‪)les Hohenzollern‬‬ ‫ماركيزات الجهة األولى (أي البراندبورﯕ) منذ سنة ‪ 1442‬من بسط نفوذهم على‬ ‫كبريات المدن‪ ،‬وأهمها برلين‪ ،‬ومن استعادة ثغر كان تحت سيادة التوتونيين‪ .‬وتمكنوا‬ ‫أيضا من توسيع دائرة نفوذهم على حساب القوى المجاورة‪ .‬وأعادوا تنظيم المؤسسات‬ ‫القضائية والجبائية‪ .‬ونجحوا بذلك في إرساء دعائم ما يشبه مملكة وراثية‪ ،‬أصبح‬ ‫يعتلي عرشها الذكور البكر بمقتضى قانون منظم للحكم صدر سنة ‪.1473‬‬ ‫وخالفا لماركيزة البراندبورﯕ‪ ،،‬ظلت جهة الساكس دوقية متواضعة‪ .‬أما جهة‬ ‫النمسا‪ ،‬فقدر لها‪ ،‬بعد فترة مخاض وتجاذبات سياسية‪ ،‬أن تغدو كيانا قويا على يد‬ ‫مكسمليان النمساوي (‪ )Maximilien‬بعد اقترانه سنة ‪ 1477‬بماريا (‪ )Marie‬ابنة‬ ‫شارل الجريء )‪ (Charles le Téméraire‬دوق بورغونديا‪ .‬وبما أنها كانت الوريثة‬ ‫الوحيدة ألبيها‪ ،‬فقد آلت لمكسمليان دوقية بورغونديا‪ ،‬واألراضي المنخفضة التي كان‬ ‫يشملها حكم شارل‪.‬‬ ‫وابتداء من سنة ‪ ،1486‬تم انتخاب مكسمليان ملكا على الرومان‪ .‬ولم يؤل جهدا‬ ‫في توسيع مجال نفوذه‪ .‬فضم إلى سلطته فيينا‪ ،‬وتيرول‪ ،‬وبوهيميا‪ ،‬وهنغاريا‪ .‬وعند‬ ‫وفاة والده االمبراطور فردريك الثالث سنة ‪ 1493‬أصبح يحكم كيانا شاسع المساحة‬ ‫يمتد من ترييستي (‪ )Trieste‬بشمال شرق ايطاليا حتى أمستردام باألراضي‬

‫‪196‬‬

‫المنخفضة‪ .‬وقد احتلت النمسا موقعا متميزا في هذا الكيان‪ ،‬واستمرت قوتها في التنامي‬ ‫حتى غدت عشية انبثاق األزمنة الحديثة من أقوى الكيانات السياسية األوربية‪.‬‬ ‫‪ )16‬خارطة أوربية بسيطة‬ ‫تميزت خارطة أوربا السياسية خالل القرن الخامس عشر بكونها أخذت تتجه‬ ‫نحو البساطة باستثناء اإلمبراطورية‪ ،‬وما سيحدث في ألمانيا‪.‬‬ ‫ويجب التأكيد على أن هذا االتجاه نحو البساطة حدث دون "علم الناس" ألن‬ ‫الصراع بين فرنسا وأنجلترا كان يشغل العقول‪ .‬وانتهت فصول هذا الصراع بانتصار‬ ‫فرنسا‪ .‬حيث تمكن شارل السابع‪ ،‬المعروف بشارل المنتصر‪ ،‬من استعادة كثير من‬ ‫األراضي التي سبق أن فقدتها فرنسا‪ .‬إذ استعاد باريس سنة ‪ ،1436‬ثم نورمانديا سنة‬ ‫‪ ،1449‬وبعدها بايون سنة ‪ .1451‬وتأكد انتصار فرنسا في موقعة فورميني‬ ‫(‪ )Formigny‬في أبريل ‪ ،1450‬وفي موقعة كاستيون (‪ )Castillon‬في يوليوز‬ ‫‪ .1453‬ولم تتمكن أنجلترا من استعادة زمام المبادرة بعد فشل هنري السابع في حملة‬ ‫على منطقة بولوني (‪ .)la Boulogne‬فتخلت على اثر ذلك على جميع ممتلكاتها‬ ‫القارية باستثناء مدينة كالي (‪ .)Calais‬وبذلك انتهت فصول حرب المائة سنة‪.‬‬ ‫وحققت فرنسا نصرا آخر حين نجح ملوكها في إحباط محاولة قيام كيان سياسي‬ ‫في مناطقها الشرقية‪ .‬ورغم خسارتها لألراضي المنخفضة التي آل حكمها لمكسمليان‬ ‫بعد اقترانه بابنة شارل الجريء المتوفى سنة ‪ ،1477‬فقد عوضت تلك الخسارة‬ ‫باسترجاع كل من بيكارديا (‪ ،)la Picardie‬ومنطقة بولوني‪ ،‬ودوقية بورغونديا‪،‬‬ ‫ومنطقتا أرتوا (‪ )l’Artois‬وفرانش‪ -‬كونتي (‪ )la Franche-Comté‬بموجب‬ ‫معاهدة صلح آراس التي ابرمها لويس الحادي عشر (‪ )Louis XI‬مع مكسمليان في‬ ‫دجنبر ‪ .1482‬وعادت أيضا قمطية أنجو (‪ )Anjou‬لحظيرة المملكة سنة ‪ 1475‬بعد‬ ‫أن تعذر على ملكها روني (‪ ،)René‬سليل اآلسرة األنجولية‪ ،‬إيجاد خلف يرث عرشه‪.‬‬ ‫وقام بهذا التنازل نظير أن يظل أحد أصهاره محتفظا بحكم قمطيتي المين ( ‪le‬‬ ‫‪ )Maine‬وبروڤونس (‪ .)la Provence‬وظل هذا االتفاق ساري المفعول حتى‬ ‫سنة‪ ،1481‬حيث أضحت القمطيتان جزءا من المملكة الفرنسية‪ .‬فشكل هذا األمر‬ ‫مقدمة نحو تسوية وضعية ممتلكات التاج الفرنسي في الجنوب‪" ،‬ورسم الحدود" مع‬ ‫كل من ناڤار وأرغونة‪.‬‬ ‫ولم تبق خارج نفوذ التاج الفرنسي في أواخر القرن الخامس عشر سوى دوقية‬ ‫بروطاني )‪ )la Bretagne‬التي أصبحت بدورها تحت السيادة الفرنسية بعد زواج آن‬ ‫(‪ ،)Anne‬ابنة فرانسيس الثاني (‪ ،)François II‬ووريثة عرش الدوقية‪ ،‬من الملك‬

‫‪197‬‬

‫شارل السابع سنة ‪ .1491‬ثم تأكدت هذه العودة بصفة نهائية سنة ‪ 1499‬حين تزوجت‬ ‫آن للمرة الثانية بلويس الثاني عشر خليفة شارل‪.‬‬ ‫وعلى غرار خارطة فرنسا‪ ،‬اتجهت الخارطة السياسية في شبه جزيرة ايبيريا‬ ‫نحو البساطة‪ .‬فبعد فترة صراع وتجاذبات بين ملوك البرتغال وملوك كل من قشتالة‬ ‫وأرغونة هدأت األوضاع في شبه جزيرة ايبيريا‪ .‬وتخلى ملوك البرتغال عن رغبتهم‬ ‫في ضم قشتالة‪ .‬وقد حدثت التسوية بين مختلف قوى الصراع بمقتضى معاهدة ألكشوفا‬ ‫(‪ )Alcaçovas‬التي أبرمها ألفونسو الخامس ملك البرتغال مع الملوك الكاثوليك‬ ‫(إيزابيال األولى ملكة قشتالة وفرديناند الثاني ملك أرغونة) في شتنبر ‪ .1479‬وقد‬ ‫حدث قبل إبرام هذه المعاهدة أن انضمت قمطية قطلونيا إلى حضيرة مملكة أرغونة‪،‬‬ ‫بينما كان فرديناند ملك أرغونة قد تزوج إيزابيال ملكة قشتالة‪ .‬فسرعت هذه األحداث‬ ‫من وتيرة االتجاه نحو الوحدة في اسبانيا‪.‬‬ ‫ويبدو أن هذه األجواء ألهبت حماس الملوك الكاثوليك‪ ،‬فشنوا حربا صليبية‬ ‫جديدة على آخر مملكة إسالمية في شبه جزيرة ايبيريا وقاعدتها غرناطة‪ .‬ونجحوا في‬ ‫استرداد مالقة سنة ‪ ،1487‬ثم باجة‪ ،‬وألمرية سنة ‪ .1489‬وتمكنوا أخيرا من استرداد‬ ‫غرناطة يوم ثاني يناير ‪ 1492‬بعد أن شددوا عليها الحصار فترة طويلة‪.‬‬ ‫وشهدت السنة ذاتها طرد اليهود من قشتالة‪ ،‬واكتشاف كريستوف كلومبوس‪،‬‬ ‫العامل لحساب ملوك اسبانيا‪ ،‬ألرض جديدة ستحمل اسم أمريكا‪.‬‬ ‫‪ )17‬التهديد التركي‬ ‫تواصلت تهديدات األتراك العثمانيين لمناطق أوربا البلقانية منذ أواسط القرن‬ ‫الرابع عشر‪ .‬وقد أفضت الى سيطرتهم على مدينة كاليبولي )‪(Gallipoli‬‬ ‫)‪ .)Kallipolis‬ثم تقدموا نحو منطقة تراقيا بين سنتي ‪ 1353‬و‪ .1356‬وتمكنوا من‬ ‫ضم سلونيك سنة ‪ .1387‬وألحقوا بعدها بسنتين هزيمة نكراء بالصربيين في كسوڤو‪.‬‬ ‫وحاول األوربيون التصدي لهم في حرب صليبية‪ ،‬ولكنهم هزموا في وقعة نيكوبوليس‬ ‫سنة ‪ .1396‬فواصل األتراك العثمانيون‪ ،‬على اثر ذلك‪ ،‬زحفهم الذي توجوه بالسيطرة‬ ‫على القسطنطينية سنة ‪ .1453‬وخلف هذا الحادث صدى كبيرا في أوربا‪ ،‬ولكن الرد‬ ‫عليه كان ضعيفا‪ .‬ولذلك واصل األتراك العثمانيون إحكام سيطرتهم على مدن ومناطق‬ ‫أوربية مثل البوسنة‪ .‬وشرعوا في التوغل في مناطق أوربا الغربية‪ ،‬حيث نجحوا سنة‬ ‫‪ 1480‬في بسط سيادتهم على أوترانتي (‪ )Otrante‬بجنوب ايطاليا‪ .‬وهددوا ممتلكات‬ ‫إمبراطورية جنوة بسيطرتهم على كافا سنة ‪.1475‬‬ ‫خلف سقوط القسطنطينية صدى قويا في أنحاء أوربا حسبما يتضح من رسالة‬ ‫بعث بها البابا بيوس الثاني (‪ )Pius II‬إلى المفكر األلماني نيكوال دي كوزا‬

‫‪198‬‬

‫(‪ )Nicolas de Cues‬يوم ‪ 21‬يوليوز‪ 1453‬نبهه فيها بأن زحف األتراك العثمانيين‬ ‫على سواحل ايطاليا المشرفة على بحر األدرياتيكي‪ ،‬يشكل تهديدا حقيقيا للعالم‬ ‫المسيحي‪ .‬وعبر له بصريح العبارة بأن "السيف التركي يوجد اليوم معلقا فوق‬ ‫رؤوسنا‪ ،‬ونحن منشغلين في حروب عقيمة‪ .‬ونقوم بمطاردة إخواننا‪ ،‬ونترك أعداء‬ ‫الصليب ينقضون علينا"‪ .‬وعاد البابا ليذكر بانقسام العالم المسيحي‪ ،‬وعدم قدرته على‬ ‫التصدي للمد العثماني في رسالة بعث بها يوم ‪ 25‬شتنبر‪ 1453‬للمدعو ليوناردو‬ ‫بنفكلينتي (‪ )Leonardo Benvoglienti‬سفير سيينا (‪ )Siena‬في البندقية‪ .‬وأهم ما‬ ‫يالحظ في الرسالة هو أن البابا استعمل فيها كلمة "أوربا" في قوله ‪ " :‬وهذا هو وجه‬ ‫أوربا‪ ،‬وهذه هي وضعية الديانة المسيحية"‪.‬‬ ‫‪ )18‬المشروع األوربي لجورج بوديبراد‬ ‫تزامنت رسائل البابا‪ ،‬واألحداث العسكرية السالف ذكرها‪ ،‬مع محاوالت كان‬ ‫يقوم بها ملك بوهيميا‪ ،‬معتنق الهوسية المعتدلة‪ ،‬جورج بوديبراد ( ‪Georges‬‬ ‫‪ )Podiebrad‬الحتواء المد العثماني‪ .‬ولتحقيق هذا المسعى‪ ،‬اقترح إنشاء جمعية (لم‬ ‫ينعتها باألوربية) قوامها المسيحية الكاثوليكية‪ .‬وقد مثلت محاولة بوديبراد أول مشروع‬ ‫يروم قيام جامعة تلتئم فيها أوربا موحدة‪.‬‬ ‫وردت تفاصيل المشروع الجامع (‪ )l’Universitas‬في نص التيني يعود لسنة‬ ‫‪ .1464‬ارتأى قسطنطين جلينيك (‪ ،)Konstantin Gelinek‬الذي قام بترجمته‪ ،‬أن‬ ‫يختار له كعنوان ‪" :‬معاهدة من أجل أوربا" (‪ .)Tractatus pour l’Europe‬وقام‬ ‫جون‪ -‬بيير فاي (‪ )Jean-Pierre Faye‬بإصدار كتاب سنة ‪ 1992‬تحت عنوان ‪:‬‬ ‫"أوربا واحدة" تضمن هذا النص‪.75‬‬ ‫أقر ملك بوهيميا في مشروعه صراحة بأن تحقيق الوحدة يقتضي‪ ،‬قبل كل‬ ‫شيء‪ ،‬وضع حد للحروب بين الدول األوربية‪ .‬وبناء عليه‪ ،‬فإن السلم بين األوربيين‬ ‫يمثل المقصد واألداة‪ ،‬او بعبارة أخرى‪ ،‬السلم هو هدف الوحدة ووسيلة تحقيقها في‬ ‫ذات الوقت‪ .‬هكذا حصل منذ خمسة قرون أن رفع نداء من أجل أوربا مسالمة‪ .‬وشكل‬ ‫السلم مطلبا رئيسا من أجل وحدة أوربية‪.‬‬ ‫وتضمن المشروع جملة من المقترحات يمكن إجمالها في العناصر التالية ‪:‬‬ ‫‪ -75‬صدر هذا الكتاب تحت عنوان ‪ ،"L’Europe une. Les philosophes et l’Europe ":‬ضمن منشورات دار‬ ‫ﯕاليمار‪ .‬وقام بالتصدير له جاك دولور‪.‬‬ ‫كما أعادت الباحثة كوليت بون (‪ )Colette Beaune‬نشر نص مشروع جورج بوديبراد كملحق لمقال مطول تحت‬ ‫عنوان ‪:‬‬ ‫‪" Chrétienté et Europe : le projet de Georges Podiebrad au XVe siècle", Chrétiens et soci‬‬‫‪étés, 1994. (article en ligne) sur http://chrétenssociétés.revue.org/68‬‬

‫‪199‬‬

‫ تشكيل قوة أوربية مشتركة تتدخل كحكم ووسيط في حالة اندالع نزاع مسلح‬‫بين دولتين‪.‬‬ ‫ إقامة مؤسسات الجامعة في مكان "طاهر" محايد‪ .‬واتاحة الفرصة اللتحاق‬‫أعضاء مسيحيين جدد بالجامعة‪.‬‬ ‫ إقرار ضرائب جديدة‪ ،‬وإيجاد مصادر لتمويل نفقات الجامعة‪.‬‬‫ عقد لقاءات دورية (مؤتمرات قمة) كل خمس سنوات في إحدى مدن أوربا‪.‬‬‫واقترح بوديبراد أن ينعقد أول لقاء في مدينة بال (‪ ،)Bâle‬على أن ينعقد اللقاء الثاني‬ ‫في مدينة فرنسية‪ ،‬والثالث في مدينة ايطالية‪.‬‬ ‫ االتفاق على اتخاذ شعار ورموز موحدة للجامعة‪ ،‬وخاتم‪ ،‬ومصلحة لحفظ‬‫الوثائق والمستندات‪ ،‬وأمين مال‪ ،‬وأطقم من الموظفين الساهرين على سير مختلف‬ ‫المؤسسات والمصالح‪.‬‬ ‫ تمتيع كل دولة من دول أوربا (فرنسا‪ ،‬ألمانيا‪ ،‬ايطاليا‪ ،‬اسبانيا) بصوت في‬‫الجامعة‪.‬‬ ‫ المصادقة على القرارات باألغلبية‪ ،‬وفي حالة تعادل األصوات يتم الفصل‬‫باللجوء إلى أصوات المنتدبين الممثلين لكبار السنايير الممثلين في الجامعة‪ .‬أما الدول‬ ‫األخرى الموقعة على ميثاق الجامعة‪ ،‬فعلى كل واحدة منها االنضمام‪ ،‬عند اتخاذ‬ ‫القرارات‪ ،‬إلى طرف من األطراف‪.‬‬ ‫يتضح بجالء أن العناصر السالف ذكرها تمثل خالصة مشروع مدهش لم يتم‬ ‫تطبيقه أبدا مع األسف‪. .‬ويحق القول في ضوئه بأن أوربا الموحدة ولدت في وقت‬ ‫سابق ألوانه‪ ،‬أي منذ أواسط القرن الخامس عشر‪ .‬ومن المدهش أيضا أن أميرا تفرد‬ ‫عن نظرائه‪ ،‬فكان صاحب هذه الفكرة الخارقة بطابعها الحداثي‪.‬‬ ‫‪ )19‬ايطاليا منارة وفريسة أوربا‬ ‫تميزت ايطاليا‪ ،‬دون غيرها من دول أوربا‪ ،‬بكونها أثارت انتباه المعاصرين‪.‬‬ ‫ورغم عجزها عن تشكيل أمة‪ ،‬فقد ظلت مصدر إلهام العديد من المفكرين اإلنسيين‪.‬‬ ‫كما أيقظت الشعور الوطني عند بعضهم كماكياڤلي على سبيل المثال‪ .‬ولكن الواقع يفيد‬ ‫بأن ايطاليا كانت كيانا ممزقا ومتناقضا خالل القرن الخامس عشر‪ .‬وشكلت في ذات‬ ‫الوقت موطن حركة إنسية‪ ،‬كانت متوهجة منذ هذا الوقت المبكر‪ ،‬وموطن النهضة‬ ‫الكبرى التي ستأتي فيما بعد‪ .‬ولذلك كانت تستقطب أعدادا من األوربيين الذين كانوا‬ ‫يزورونها لدواعي دينية وللسياحة أيضا‪ .‬وكان عدد من الحجاج المتوافدين على مدينة‬ ‫البندقية في اتجاه مدينة القدس والبقاع المقدسة يقضون بهذه المدينة زهاء شهر قبل‬

‫‪200‬‬

‫اإلبحار إلى وجهتهم‪ .‬فكانوا يزورون خالل مقامهم بها ما تزخر به من مآثر عمرانية‪،‬‬ ‫ومراقد كبار القديسين‪.‬‬ ‫ويبدو أن ظاهرة التجزئة أخذت تخف تدريجيا‪ .‬فحكام فلورنسا‪ ،‬مثال‪،‬‬ ‫استطاعوا توحيد إقليم توسكانيا بضمهم لمدينتي بيزا وليڤورنو‪ ،‬فاستطاعوا بذلك أن‬ ‫يرتقوا بمدينتهم‪ -‬دولتهم إلى مصاف القوى البحرية الكبرى‪ .‬وبالمثل استطاع حكام‬ ‫البندقية تمتين سيطرتهم على معظم مناطق شمال شرق شبه الجزيرة االيطالية بضمهم‬ ‫لكل من بيرﯕامو (‪ ،)Bergame‬وبريشيا (‪ .)Brescia‬وعلى غرارهم استطاع حكام‬ ‫ميالنو ضم جنوة‪.‬‬ ‫كانت عمليات الضم تتم عبر حروب بين العائالت الحاكمة لهذه المدن‪ -‬الدول‪.‬‬ ‫وكثيرا ما استقوت بعض تلك العائالت بفرنسا‪ ،‬أو بأرغونة التي كانت لها ممتلكات‬ ‫بالجزر االيطالية‪ .‬واستمرت تلك الحروب حتى سنة ‪ ،1454‬تاريخ توقيع معاهدة بين‬ ‫الع ائالت تحت إشراف البابا‪ .‬وقد أحدثت تلك المعاهدة نوعا من التوازن بين مختلف‬ ‫القوى االيطالية‪ ،‬وجعلت السلم يسود بينها زهاء ربع قرن‪.‬‬ ‫كانت ايطاليا منقسمة على نفسها وبراقة في ذات الوقت كما سبق القول‪ ،‬ولذلك‬ ‫أثارت معظم األوربيين‪ .‬ولكن هذه اإلثارة ولدت في نفوس المعجبين نوعا من الشهوة‬ ‫جعلت ايطاليا المنارة تتحول إلى ايطاليا الفريسة كما وضح ذلك الباحث جيروالمو‬ ‫أرنلدي (‪ )Girolamo Arnaldi‬في بحثه "ايطاليا وغزاتها"‪ .76‬وقد تشكلت القوى‬ ‫الغازية من أرغونة واالمبراطورية المقدسة وفرنسا‪.‬‬ ‫ويظهر أن فرنسا كانت أبرز المفترسين‪ .‬وقد كشر ساستها عن أنيابهم منذ سنة‬ ‫‪ ،1489‬حين طلب البابا اينوسنت الثامن من شارل الثامن التدخل في جمهورية‬ ‫نابولي‪ .‬ثم أتى دور ليدوفتش حاكم ميالنو الذي إلتمس‪ ،‬سنة ‪ ،1494‬من شارل السالف‬ ‫الذكر التدخل في ميالنو‪ .‬وانطلقت الجيوش الفرنسية من مدينة ليون‪ ،‬يوم ‪ 22‬غشت‬ ‫‪ ، 1494‬بدعوى القيام بحرب صليبية ضد األتراك العثمانيين‪ ،‬لتتجه صوب نابولي‬ ‫التي حطت بها وطالبت حاكمها بالحقوق التي كان يستخلصها ملك فرنسا من عائلة‬ ‫أنجو‪ ،‬فكان هذا التحرك بداية اندالع الحروب االيطالية‪.‬‬ ‫‪ )20‬األوروبي فﻠيب دو كومين‬ ‫إن أوربا التي كانت تتشكل آنذاك في إطار منظومة إيديولوجية دينية واحدة‬ ‫تستند إلى حقائق وطنية واضحة‪ ،‬بدت وكأنها تفرض نفسها كهوية‪ .‬ومن ثم‪ ،‬كان على‬ ‫‪ - 76‬صدر كتاب "‪ "L’Italia e suoi invasori‬سنة ‪ .2004‬وصاحبه أستاذ باحث في التاريخ األوربي الوسيط‪.‬‬ ‫حاضر بجامعتي بولوني وروما‪.‬‬

‫‪201‬‬

‫المفكرين والمؤرخين ورجال السياسة‪ ،‬إعادة النظر في تمثالنهم‪ .‬فقد أخذوا ينظرون‬ ‫ألوربا كهوية‪ .‬وهذا ما تفصح عنه مؤلفات فليب دو كومين )‪Philippe de‬‬ ‫‪ )Commynes‬أحد أكبر مؤرخي القرن الخامس عشر‪ .77‬فقد قام في أحد تلك‬ ‫المؤلفات باستعراض ألوضاع العالم المسيحي في عصره‪ .‬وختم هذا االستعراض‬ ‫بقوله ‪" :‬لم أتحدث سوى عن أوربا ألنني ال أتوفر على معلومات تهم القسمين‬ ‫اآلخرين‪ ،‬أي آسيا وإفريقيا"‪ .‬واكتفى بخصوصهما بالقول ‪" :‬يبدو من خالل ما بلغني‬ ‫من معلومات‪ ،‬أنهما يشتركان مع أوربا في خاصيات سلبية هي الحروب‬ ‫واالنقسامات"‪ .‬وأضاف في موضع آخر" وفضال عن ذلك‪ ،‬فإن إفريقيا تشكو من بؤس‬ ‫آخر وهو أن أهلها يبيع بعضهم بعضا للمسيحيين‪ ،‬وإن البرتغاليين بدأوا من هنا تجارة‬ ‫يومية للسود"‪ .‬ويمكن القول في ضوء ما أورده دو كومين بأن مرحلة جديدة انبثقت‬ ‫في أوربا‪ ،‬مرحلة اكتشفت فيها أوربا إفريقيا‪ ،‬وستكتشف بعدها أمريكا‪ .‬ولكن بداية هذه‬ ‫المرحلة طبعها الخزي والعار بسبب قيام أوربا بتزويد العالم الجديد بعبيد كانوا‬ ‫يؤخذون من إفريقيا‪.‬‬ ‫‪ )21‬أوربا في مالقاة العالم الخارجي‬ ‫لعل أهم ما يثير االنتباه عند رصد تطور أوربا في نهاية القرن الخامس عشر‪،‬‬ ‫هو ظاهرة التوسع خارج أوربا‪ .‬ورغم أن أحد الباحثين خص المكتشفين في العصر‬ ‫الوسيط بدراسة قيمة‪ ،‬فالواقع أن مصطلح "مكتشف"‪ ،‬وكذلك الدور المنوط بهذا‬ ‫الشخص‪ ،‬لم يكونا معروفين خالل هذه الحقبة التاريخية‪ .‬وباإلضافة إلى ذلك فإن‬ ‫الرحالت القليلة التي قام بها مسيحيون خارج أوربا‪ ،‬كانت إما رحالت تبشيرية‪ ،‬أو‬ ‫رحالت تجارية‪.‬‬ ‫فقد رحل بعض المسيحيين من أجل التبشير‪ ،‬ومن بينهم‪ ،‬على سبيل المثال‪،‬‬ ‫الفرانسسكاني جون دي بالن كاربان (‪ )Jean de Plan Carpin‬الذي رحل خالل‬ ‫القرن الثالث عشر إلى المناطق التي كان أهاليها قد اعتنقوا المسيحية قبيل بداية‬ ‫رحلته‪ ،‬مثل العالم اإلسكندناڤي‪ ،‬وبوهيميا‪ ،‬وبولندا‪ ،‬وهنغاريا‪ .‬وقد حمل‪ ،‬زمن قيامه‬ ‫‪ - 77‬اخباري ورجل سياسة فرنسي ينحدر من أسرة نبيلة‪ .‬ولد سنة ‪ 1447‬وتوفي سنة ‪ .1511‬عاش طفولته يتيما في‬ ‫وضعية مادية مزرية بعد أن كان أبوه قد بدد ثروته قبيل وفاته‪ .‬قدر له أن يعود الى حياة النبالء منذ سنة ‪ 1464‬حين عينه‬ ‫الملك فليب الطيب (‪ )Philippe le Bon‬مرافقا عسكريا (‪ )écuyer‬البنه شارل‪ ،‬الذي سيعتلي العرش باسم شارل‬ ‫الجريئ‪.‬‬ ‫جمع فليب دو كومي ن بين العمل السياسي والفكري‪ ،‬حيث وضع بعض المؤلفات‪ ،‬أهمها الكتاب الضخم الذي يشير‬ ‫اليه جاك لو ﯕوف‪ .‬أنجز هذا الكتاب بين سنتي ‪ 1489‬و‪ .1498‬وقام بننشره المؤرخ والمترجم دوني سوڤاج (‪Denis‬‬ ‫)‪ Sauvage‬سنة ‪ .1552‬وأعيد تحقيق الكتاب ونشره تحت عنوان ‪Mémoires de Philippe de Commynes‬‬ ‫كما تمت ترجمته الى مختلف لغات أوربا والى الروسية أيضا‪.‬‬

‫‪202‬‬

‫بهذه الرحالت‪ ،‬رسائل من البابا اينوسنت الرابع إلى األمراء الروس والخانات‬ ‫المغول‪ ،‬يدعوهم فيها إلى إحداث نوع من التقارب بين دياناتهم والمسيحية الكاثوليكية‪.‬‬ ‫كما رحل بعض التجار من أجل التصدير واالستيراد‪ .‬وأبرزهم في هذا المجال‬ ‫أفراد عائلة بولو (‪ ،)Polo‬وصهرهم ماركو(‪ )Marco‬الذين اشتغلوا في التجارة‬ ‫بسيالن‪ .‬ودخلوا أيضا في خدمة المغول‪ .‬ويحتمل أن يكونوا قد وصلوا إلى الصين‪.‬‬ ‫وبغض النظر عن الكيانات المسيحية المؤقتة التي أقامها األوربيون بفلسطين‪،‬‬ ‫فإن أهم الحمالت الجماعية التي قاموا بها في العصر الوسيط‪ ،‬أفضت إلى تأسيس‬ ‫إمبراطورية تجارية‪ ،‬كانت أحيانا ترابية‪ ،‬وأخذت شكل استيطان‪ ،‬في بعض مناطق‬ ‫اإلمبراطورية البيزنطية والشرق األدنى‪ .‬وساهم التجار االيطاليون عامة‪ ،‬وتجار‬ ‫البندقية وجنوة بشكل خاص‪ ،‬بدور قيادي في هذا المجال‪ .‬ويبدو أن ما أثار اهتمام‬ ‫األوربيين بمناطق شرق البحر المتوسط هو غناها بالمنتجات‪ ،‬وأهمها العقاقير‬ ‫والتوابل‪ ،‬التي أقترح بعضهم أن عددها كان يقارب سنة ‪ 286 ،1340‬نوعا‪ .‬واألهم‬ ‫من الرقم‪ ،‬هو أن هذه األنواع كان بعضها يدخل في صناعة مواد الصيدلة‪ ،‬وبعضها‬ ‫في الصباغة‪ ،‬وبعضها في صناعة المواد العطرية‪ ،‬وبعضها اآلخر في تحضير‬ ‫الوجبات واألكالت‪ ،‬ألن الكثير من نساء ورجال العصر الوسيط لم يكونوا يخفون‬ ‫رغبتهم في تناول وجبات تتضمن كميات من التوابل‪ .‬وكان ربع كمية التوابل المتداولة‬ ‫في مدن أوربا يجلب من الهند‪ ،‬والصين‪ ،‬والشرق األقصى‪ .‬وقد كان سعرها مرتفعا‬ ‫ألن مسيحيي أوربا كانوا يقتنونها من التجار العرب المتواجدين بالشرق األوسط‪.‬‬ ‫وكانت هذه المواد تنتقل من موانئ عكا‪ ،‬وبيروت‪ ،‬واإلسكندرية في اتجاه موانئ‬ ‫أوربا‪.‬‬ ‫والجدير بالتذكير في هذا الصدد أن تجار البندقية كانوا يمثلون أكبر نسبة من‬ ‫بين التجار الذين تعاطوا لتجارة التوابل عند نهاية العصر الوسيط‪ .‬وتفيد بعض‬ ‫المعطيات بأنهم كانوا يستثمرون ‪ 400‬ألف دوقة سنويا في هذه التجارة‪ .‬وكانوا يبعثون‬ ‫من المرافئ السالف ذكرها إلى أوربا ما بين ثالثة وخمسة مراكب كل سنة‪ .‬ويعد هذا‬ ‫األمر مهما جدا بالنظر الرتفاع سعر التوابل‪ ،‬ولصغر حجمها‪.‬‬ ‫وانضم تجار جنوة‪ ،‬وقطالونيا‪ ،‬وأنكونا لهذه التجارة‪ .‬ولكن نصيبهم منها كان‬ ‫محدودا‪ ،‬بحيث لم يتجاوز مركبا أو مركبين في السنة‪.‬‬ ‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فالراجح أن رجال األعمال والمستهلكين األوربيين األغنياء‬ ‫انشغلوا كثيرا عند نهاية القرن الخامس عشر بإيجاد مصادر جديدة للتزود بالتوابل‪،‬‬ ‫والسكر‪ ،‬فضال عن الذهب والمعادن النفيسة التي تزايد عليها الطلب‪.‬‬ ‫‪ )22‬التوجه نحو المحيط األطﻠسي وإفريقيا‬

‫‪203‬‬

‫حاول األوربيون صرف أنظارهم قليال عن البحر المتوسط حين أخذت تعكر‬ ‫صفو مياهه قطع أسطول األتراك العثمانيين‪ .‬فأخذت أعناقهم تشرئب‪ ،‬منذ نهاية القرن‬ ‫الخامس عشر‪ ،‬نحو مياه المحيط األطلسي‪ .‬وبدأ هذا االهتمام باالتجاه أوال نحو إفريقيا‬ ‫الغربية‪.‬‬ ‫وال بد من االشارة في هذا المقام بأن نظرة األوربيين إلفريقيا كانت سيئة منذ‬ ‫العصر القديم‪ .‬ويبدو أنها ازدادت سوءا خالل العصر الوسيط‪ .‬فقد كان األوربيون‬ ‫ينعتون األفارقة "باإلثيوبيين"‪ ،‬كما كانوا يشمئزون منهم بسبب لون بشرتهم الداكن‪.‬‬ ‫أما إفريقيا‪ ،‬فكانوا يعتبرونها موطنا يعج بالثعابين والدواب الضخمة‪ .‬وعلى غرارها‬ ‫كان الشرق موطن الوحوش‪ ،‬ولكنه كان يحتوي‪ ،‬مقابل ذلك‪ ،‬على كثير من الغرائب‬ ‫والعجائب‪.‬‬ ‫ويمكن الوقوف على مثل هذه الصورة عند غوتيي أو غوسوان دو ميتز‬ ‫(‪ )Gautier ou Gossuin de Metz‬الذي نظم سنة ‪ 1245‬قصيدة مطولة باللغة‬ ‫اللورينية عرف فيها "إثيوب" (‪ ،)Ethyope‬أي إفريقيا‪ ،‬بكونها "موطن يقطن به‬ ‫أناس أكثر سودا من القطران‪ .‬تسود فيه حرارة مفرطة تبدو معها األرض وكأنها‬ ‫تحترق‪ .‬وباستثناء الشريط الشمالي‪ ،‬تبدو [إثيوب] عبارة عن صحاري مليئة‬ ‫بالحشرات والحيوانات المفترسة"‪ .78‬وبناء على هذه الصورة‪ ،‬يبدو أن التواصل‬ ‫الوحيد المثمر بين أوربا وإفريقيا كانت تقوم به مجموعة محدودة من التجار‬ ‫المختصين‪ ،‬كانوا يقتنون‪ ،‬عن طريق المقايضة‪ ،‬كميات من ذهب السودان من‬ ‫سجلماسة لعرضها على تجار الحلي والمجوهرات بأوربا‪.‬‬ ‫والراجح أن صورة األوربيين عن إفريقيا تغيرت بشكل ملحوظ منذ مطلع‬ ‫القرن الرابع عشر‪ .‬فغدت هذه القارة موضوع إثارة‪ .‬ولذلك توالت عليها الحمالت التي‬ ‫بدأت في أول األمر بمحاولة اقتحام فاشلة قام بها بعض التجار االيطاليين سنة ‪.1291‬‬ ‫ثم تلتها محاولة ثانية فاشلة قام بها البحار المايوركي خاييم فرير سنة ‪ .1346‬وتوالت‬ ‫المحاوالت الجادة منذ حملة غشت ‪ 1415‬التي تمكن البرتغاليون على إثرها من‬ ‫السيطرة على سبتة‪ ،‬المحطة الرابطة بين أوربا وذهب السودان‪ .‬فكانت تلك الحملة‬ ‫إيذانا ببداية التوسع البرتغالي‪ .‬كما كانت أيضا مقدمة في مسلسل الصراع بين‬ ‫البرتغاليين‪ ،‬الراغبين في السيطرة على المغرب‪ ،‬وقوى أوربية أخرى كانت تطمح في‬ ‫االتجاه بعيدا نحو مناطق غرب إفريقيا‪.‬‬

‫‪ - 78‬ترجم هذه القصيدة الى اللغة األنجليزية التاجر والمترجم "ورجل األعمال" األنجليزي وليام كاكستون ( ‪William‬‬ ‫‪ )Caxton‬سنة ‪ .1481‬كما اهتم بنشرها الباحثون الجامعيون‪ ،‬ومن بينهم أوليڤيي هربير بريور ( ‪Olivier Herbert‬‬ ‫‪ ) Prior‬الذي حققها في اطار أطروحة جامعية لنيل دكتوراه الدولة‪ ،‬ناقشها بجامعة لوزان ونشرها سنة ‪.1913‬‬

‫‪204‬‬

‫وال بأس من التذكير بأن تحركات البرتغاليين كان وراءها هنري المالح ابن‬ ‫الملك جواو األول ( ‪ ،)João I‬أحد أقطاب الكشوفات الجغرافية‪ ،‬وعمليات التوسع‬ ‫البرتغالي فيما وراء البحار‪.‬‬ ‫وقد بدأ البرتغاليون تلك العمليات باحتالل جزر ماديرا‪ ،‬وجزر اآلسور بين‬ ‫سنتي ‪ 1418‬و‪ .1433‬ثم واصلوا تحركاتهم في اتجاه الجنوب‪ ،‬حيث وصلوا إلى رأس‬ ‫بوجدورسنة ‪ .1435‬وبعده حطوا الرحال بجزر الرأس األخضر سنة ‪ .1444‬ووصلوا‬ ‫إلى مصب نهر السينغال سنة ‪ .1461‬ثم عبروا رأس الرجاء الصالح ووصلوا إلى‬ ‫الهند‪.‬‬ ‫ولكن البرتغاليين عادوا في عهد الملك ألفونسو الخامس إلى االتجاه القائل‬ ‫بالسيطرة على المغرب‪ ،‬فاحتلوا مدينة طنجة سنة ‪.1471‬‬ ‫ودون المضي قدما في تتبع مراحل التوسع البرتغالي‪ ،‬أميل لالعتقاد بوجوب‬ ‫اعتبار هذا التوسع أجرأة لعملية تحول أنظار األوربيين من البحر المتوسط إلى المحيط‬ ‫األطلسي‪ .‬وقد اختلطت في هذا التحول الرغبة في التوسع االقتصادي بالرغبة في نشر‬ ‫المسيحية‪ ،‬فضال عن حب المغامرة والرغبة في اكتشاف آفاق جديدة‪ .‬وفي إطار هذا‬ ‫التحول بالذات قدر للبرتغال والسبانيا أن تظهرا على واجهة األحداث‪ ،‬فأضحت كل‬ ‫من لشبونة واشبيلية مركزين قويين للتجارة واألعمال؛ اتجهت أنشطتهما نحو المحيط‬ ‫األطلسي وأوربا في ذات الوقت‪.‬‬ ‫‪ )23‬مظاهر العتاقة والتقدم في المراكب البحرية والمالحة‬ ‫لم يكن من الممكن أن يتم اهتمام األوربيين بالواجهة األطلسية لوال التقدم‬ ‫الذي حصل في مجال المالحة بشكل عام‪ ،‬وفي مجال صناعة المراكب البحرية بشكل‬ ‫خاص‪.‬‬ ‫ويمثل القرن الثالث عشر الحيز الزمني الذي تحقق فيه ذلك التقدم من خالل‬ ‫إقبال أهل البحر على استعمال دفة إيطومبو (‪ )le gouvernail d’étambot‬في‬ ‫مؤخرة المراكب بدل الدفة الجانبية‪ .‬فغدت المراكب أكثر استقرارا على سطح الماء‪،‬‬ ‫ومن السهل تحريكها في االتجاه المراد االبحار صوبه‪ .‬وكذلك من خالل إقبالهم على‬ ‫استعمال الشراع المربع‪ ،‬الذي أضحى من الممكن التحكم في مساحته بواسطة الحبال‪.‬‬ ‫وال بأس من التنبيه بأن األوربيين لم يقبلوا على استعمال هذه التقنيات بشكل‬ ‫مكثف إال في أواخر القرن الرابع عشر‪ .‬وكان ذلك يعكس رغبتهم األكيدة في تحسين‬ ‫إنتاجية النقل البحري كما وضح ذلك الباحث جون‪ -‬كلود هوكي ( ‪Jean-Claude‬‬

‫‪205‬‬

‫‪ .79)Hocquet‬وكانت عمليات تحسين اإلنتاجية تحدث كل ثالثين‪ ،‬أو أربعين سنة‪،‬‬ ‫وتشمل تقنيات المالحة‪ ،‬وأنواع المراكب‪ ،‬وحمولتها وما إلى ذلك‪ .‬ويكفي التذكير في‬ ‫هذا المقام بأن تحسين تقنية المزاوجة بين الشراع المربع‪ ،‬والشراع الالتيني القديم‬ ‫سمح للمالحين باإلبحار بمراكبهم كيفما كان اتجاه هبوب الرياح دون االضطرار إلى‬ ‫التوقف عن اإلبحار خالل فترات من فصل الشتاء‪ .‬وقد اجتمعت آخر التقنيات‬ ‫المستحدثة في المركب المعروف بالكرڤيال (‪ )la caravelle‬الذي طبقت شهرته‬ ‫اآلفاق‪ ،‬وترك بصمة في ذاكرة األوربيين‪ .‬كانت الكرڤيال مزودة بثالثة حصائر ( ‪des‬‬ ‫‪ ) mâts‬بدل حصير واحد‪ .‬كما كانت أخشابها الجانبية ملساء وغير متقابلة مما سهل‬ ‫عملية انسيابها في الماء‪ .‬وفضال عن ذلك‪ ،‬كانت تسع لما بين أربعين وستين برميال‪.‬‬ ‫كما تميزت بخاصية السرعة‪ ،‬فال غرو اذا وجدنا أن كريستوف كلومبوس اعتمد في‬ ‫الرحلة التي قادته الكتشاف أمريكا على مركبين من نوع الكرڤيال كانا من بين الثالث‬ ‫قطع التي تشكل منها أسطوله‪.‬‬ ‫قادت البرتغال واسبانيا األوربيين لالقتحام غمار مياه المحيط األطلسي‪ .‬وقد‬ ‫باركت البابوية تحركاتهما في هذا االتجاه‪ .‬بل إن البابا اإلسكندر السادس أصدر سنة‬ ‫‪ 1493‬مرسوما يقضي بأن األراضي التي وصلت إليها مراكب أوربية‪ ،‬وال يحكمها‬ ‫ملوك أو أمراء أوربيون تؤول ملكيتها للبرتغاليين واالسبانيين‪ .‬ووضع خط يمر غرب‬ ‫جزر اآلسور كحد فاصل بين ممتلكات الدولتين‪ .‬وفي السنة الموالية أبرمت اسبانيا‬ ‫والبرتغال معاهدة تورديسيسالس الشهيرة التي تم بموجبها تعديل هذا الخط‪ ،‬الذي‬ ‫أصبح يمر بالجزء الغربي من المحيط األطلسي‪ .‬فكانت تلك المعاهدة إيذانا ببداية‬ ‫اقتسام العالم بين األوربيين‪ .‬ويمكن بالمناسبة اعتبارها إيذانا ببداية األزمنة الحديثة‪.‬‬ ‫ولكن ال يجب أن يغرب عن بالنا أن األحداث السالف ذكرها كانت تتسارع في وقت‬ ‫ظلت فيه أفكار األوربيين عن العالم فضفاضة‪ ،‬وتشوبها نقائص كثيرة‪ .‬فقد كانوا‬ ‫يعتقدون‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬أن األراضي الواقعة وراء رأس الرجاء الصالح هي‬ ‫أراضي الراهب خوان‪ ،‬الرجل المدهش مالك عالم الغرائب‪ .‬كما كانوا يعتقدون بأن‬ ‫الصين تقع ما وراء المحيط األطلسي‪.‬‬ ‫ولم تكن هذه التصورات الخاطئة حكرا على عامة المسيحيين‪ ،‬بل حتى‬ ‫المتعلمين‪ ،‬وكثير من علماء العصر كانت معرفتهم عن العالم قاصرة‪ .‬فالخرائط‬ ‫المتداولة كانت مليئة باألخطاء‪ ،‬رغم التقدم الملحوظ الذي حصل‪ .‬كما أن رواد حركة‬ ‫الكشوفات الجغرافية لم يكونوا بدورهم يعرفون جيدا مواقع المناطق التي كانوا‬ ‫يتجهون إليها‪ .‬فهذا كريستوف كلومبوس‪ ،‬أبرزهم‪ ،‬كان يعتقد أن المسافة الفاصلة بين‬ ‫‪ - 79‬أستاذ باحث فرنسي من مواليد ‪ . 1936‬حاضر في التاريخ األوربي الوسيط بجامعتي البندقية وليل الثالثة‪ .‬ركز معظم‬ ‫األبحاث التي نشرها حول قضايا المالحة البحرية والملح وتجارته‪.‬‬

‫‪206‬‬

‫نهاية اليابس االسباني واليابس الهندي قصيرة جدا يمكن قطعها في بضعة أيام إذا‬ ‫كانت الرياح مساعدة‪ .‬كما كان يعتقد أن المسافة الفاصلة بين جزر الكناري والصين ال‬ ‫تتجاوز ‪ 5000‬ميل بحري‪ ،‬والواقع أنها تبلغ ‪ 11766‬ميل بحري‪.‬‬ ‫ومما ال شك فيه أن كريستوف كولومبوس يمثل نموذجا صارخا لتلك العقليات‬ ‫التي ظلت تنخرها تمثالت وتهيؤات العصر الوسيط ؛ وهاته األخيرة هي التي وجهت‬ ‫إلى حد بعيد حركة الكشوفات‪.‬‬ ‫وبناء عليه‪ ،‬فإن أوربا التي غامرت في مياه المحيط األطلسي‪ ،‬هي أوربا‬ ‫قروسطوية بكل تأكيد‪.‬‬

‫‪207‬‬

‫خاتمة‬

‫تبدو أوربا نهاية القرن الخامس عشر‪ ،‬إذا نظرنا إليها من "شرفة" مطلع القرن‬ ‫الواحد والعشرين‪ ،‬وكأنها مفصولة بصراع جديد يتموضع بين التمزقات الداخلية التي‬ ‫كانت القارة تستعد لها (الحروب االيطالية‪ ،‬حرب الفالحين في ألمانيا‪ ،‬وإصالحات كل‬ ‫من مارتن لوثر وجون كالڤن) من جهة وسراب اآلفاق البعيدة التي كانت تفتح إمكانات‬ ‫واعدة في كل من إفريقيا‪ ،‬والمحيط الهندي والعالم الجديد من جهة أخرى‪ .‬فهل كانت‬ ‫تلك اللحظة تتضمن بعض المستجدات‪ ،‬وبعض مظاهر القطيعة‪ ،‬التي تسمح بالحديث‬ ‫المشروع عن انتقال من حقبة تاريخية طويلة مرت بها اإلنسانية في أوربا إلى حقبة‬ ‫أخرى تفيد بأن العصر الوسيط قد انتهى؟‬ ‫يمكن اعتبار القرن الخامس عشر‪ ،‬من وجهة نظر تاريخية‪ ،‬بمثابة منطلق فعلي‬ ‫لحقبة تاريخية أخرى طويلة تسمى عادة "بالعصور الحديثة"‪ .‬ولكن يجب التساؤل قبل‬ ‫إنهاء التفكير حول السؤال العريض الذي يمثل عنوان هذا الكتاب هل يتعلق األمر حقا‬ ‫بنهاية العصر الوسيط ؟ وهل يمكن تقييم العالقات بين هذا العصر ومسألة تكوين‬ ‫أوربا؟‬ ‫جوابا على هذا السؤال‪ ،‬أذكر بأنه سبق لي أن اقترحت بأن مسألة "عصر وسيط‬ ‫طويل األمد" هي األقرب إلى الحقيقة التاريخية‪ .‬ولمزيد من التوضيح‪ ،‬ال بأس من‬ ‫االضافة بأنه "من المؤكد‪ ،‬حسب وجهة المؤرخ البولندي ويتولد كوال ( ‪Witold‬‬ ‫‪ ،80)Kula‬أن كل حقبة تاريخية تتضمن بعض خاصيات الالتزامن‪ ،‬أو التطور وفق‬ ‫‪ - 80‬مؤرخ بولندي ولد سنة ‪ 1916‬وتوفي سنة ‪ .1988‬اختص بالبحث في تاريخ بولندا االقتصادي‪ ،‬وفي مناهج البحث‬ ‫في التاريخ االقتصادي‪.‬‬ ‫أنجز عدة مؤلفات‪ ،‬أشهرها ذلك الذي حاول فيه شرح ميكانيزمات النظام الفيودالي في بولندا من خالل البحث في‬ ‫أوضاعها االقتصادية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر‪ .‬وصدرت نسخة فرنسية من الكتاب بتصدير فرنان‬ ‫بروديل تحت عنوان ‪:‬‬ ‫‪Théorie économique du système féodal. Pour un modèle de l’économie polonaise (XVIe‬‬‫‪XVIIIe siècles), Paris Mouton, 1970.‬‬

‫‪208‬‬

‫إيقاعات مختلفة‪ .‬ولهذا السبب فإنني ال أستعمل كثيرا عبارة األزمة التي تخفي غياب‬ ‫مجهود في تحليل التغيرات التي تحدث في مجتمع ما‪ .‬وأعتقد بالمقابل بوجود تحوالت‬ ‫(‪ )des mutations‬ومنعطفات"‪ .‬فهل حدث تحول أو منعطف عند نهاية القرن‬ ‫الخامس عشر؟ وفي سياق هذا السؤال بالذات يفرض مفهوم "النهضة" (االنبعاث)‬ ‫وجوده‪ .‬وهو مفهوم اقترحه‪ ،‬كما نعلم‪ ،‬المؤرخ السويسري بوركهارد‬ ‫)‪ )Burckhardt‬في نهاية القرن التاسع عشر‪ .‬ويجب التذكير في هذا المقام بإمكانية‬ ‫تطبيق هذا المفهوم على فترات أخرى من العصر الوسيط‪ .‬وقد طبقه فعال عدد من‬ ‫المؤرخين على الفترة الكارولنجية وعلى القرن الثاني عشركذلك‪.‬‬ ‫فلنر جميعا ما الذي يميز نهضة ما بعد نهاية القرن الخامس عشر‪ .‬لقد قام عدد‬ ‫من المؤرخين باستعراض مظاهر هذه النهضة‪ ،‬وإن ركزوا بشكل خاص على جانبيها‬ ‫الفني والفكري‪ .‬مما يستدعي طرح السؤال التالي ‪ :‬هل لم يكن الفن "ناهضا" في‬ ‫ايطاليا منذ القرن الثالث عشر؟ وهل لم تكن الحركة اإلنسية‪ ،‬بوصفها إحدى خاصيات‬ ‫النهضة‪ ،‬قد ابتدأت في البزوغ منذ القرن الرابع عشر؟ وأكثر من ذلك‪ ،‬يمكن التساؤل‬ ‫هل لم تكن الظواهر الكبرى ذات الصلة بمجتمع وحضارة أوربا "تمسك بفخذ" العقود‬ ‫األخيرة من القرن الخامس عشر؟ وعلى سبيل المثال‪ ،‬فقد ظهر الطاعون األسود في‬ ‫أوربا بين سنتي ‪ 1347‬و‪ 1348‬واستمر في تخريب مجتمعها حتى حدود سنة ‪.1720‬‬ ‫وفي نفس السياق‪ ،‬ال بأس من التذكير بأن المؤرخ مارك بلوك تناول بالبحث واحدا من‬ ‫الطقوس (‪ )un rite‬ذي صلة بالسلطة الملكية في العصر الوسيط‪ ،‬وهو قيام بعض‬ ‫الملوك‪ ،‬الموسومين بالملوك المتوفرين على كرامة المداواة ( ‪les rois‬‬ ‫‪ ،)thaumaturges‬بمالمسة المرضى وإشفائهم‪ .‬وقد ظهر هذا الطقس منذ القرن‬ ‫الحادي عشر‪ .‬واستمر في أنجلترا بعد القرن الثالث عشر حتى مطلع القرن الثامن‬ ‫عشر‪ .‬في حين استمر في فرنسا حتى حوالي سنة ‪ 1825‬رغم أنه كان يختفي من حين‬ ‫آلخر ليعاود الظهور‪.‬‬ ‫وبغض النظر عن هذا المثال‪ ،‬يمكن االستشهاد بأمثلة أخرى أكثر أهمية هذه‬ ‫المرة من بينها ازدهار حركة التمدين التي سبق التوقف عند مظاهرها وعند دالالتها‬ ‫األوربية‪ .‬فقد تناول الظاهرة بإسهاب الباحث برنار شوڤاليي (‪Bernard‬‬ ‫‪ )Chevalier‬واستعرض الئحة المدن الفرنسية التي ظلت تدين بالوالء للملوك‪ .‬وبين‬ ‫بأنها شكلت شبكة حضرية خالل القرن الثالث عشر‪ .‬ولم تعد لها أية داللة ابتداء من‬ ‫مطلع القرن السابع عشر‪.‬‬ ‫ويبدو أن أهم عملية تحقيب للتاريخ األوربي هي تلك التي اقترحها كارل‬ ‫ماركس‪ .‬وفيها جعل تطابقا بين العصر الوسيط والنظام الفيودالي‪ .‬فجعل فترة سيادته‬

‫‪209‬‬

‫تمتد من نهاية العصر القديم‪ ،‬الذي ساد فيه النظام العبودي‪ ،‬حتى بداية الثورة‬ ‫الصناعية‪.‬‬ ‫وبالمثل يمثل هذا العصر الوسيط الحقبة التاريخية التي ظهر فيها مخطط‬ ‫التراتبات الثالث ذي األصول الهندو‪-‬أوربية كما حدد معالمه جورج دوميزيل‬ ‫(‪ .)Georges Dumézil‬فقد ظهرت بوادره بأنجلترا في القرن التاسع‪ ،‬ثم أصبح‬ ‫المجتمع منظما وفق أسسه خالل القرن الحادي عشر فيما يعرف بالتراتبات الثالث‬ ‫الشهيرة ‪ :‬رجال الدين‪ ،‬المحاربون والفالحون‪ .‬وظل ساري المفعول في فرنسا إلى ما‬ ‫بعد الثورة‪ .‬وبموازاته ظهر عقب الثورة الصناعية مخطط الوظائف الثالث المختلف‬ ‫تماما‪ ،‬والذي ينص على تقسيم األنشطة االقتصادية إلى ثالثة قطاعات ‪ :‬قطاع أول‪،‬‬ ‫وقطاع ثان‪ ،‬وقطاع ثالث‪.‬‬ ‫وفي مجال التعليم‪ ،‬ال بأس من التذكير بظهور الجامعات منذ القرن الثاني عشر‪.‬‬ ‫وقد ظلت هذه المؤسسات على حالها في فرنسا منذ هذا التاريخ حتى الثورة‪ .‬أما على‬ ‫المستويين االبتدائي واالعدادي‪ ،‬فقد سمحت المؤسسات التربوية بظهور حركة تعليمية‬ ‫بطيئة االيقاع استمرت على نفس المنوال حتى بداية تعميم التمدرس في القرن التاسع‬ ‫عشر‪.‬‬ ‫هذا العصر الوسيط الطويل هو أيضا العصر الذي ظهرت فيه الثقافة الشعبية‬ ‫والفلكلور في سياق أوربي‪ .‬واستمرا حتى بداية هبوب رياح التجديد على الفلكلور في‬ ‫القرن التاسع عشر‪ .‬فال غرابة إذا رأينا بعض الحكايات‪ ،‬من قبيل تلك التي تهم‬ ‫موضوع المالك والناسك‪ ،‬تنتقل من خرافة تعود للقرن الثاني عشر إلى رواية (زاديﯕ)‬ ‫"‪ 81"Zadig‬التي وضعها ڤولتير‪ ،‬وتنتقل الى حكاة بروتانيا القرن التاسع عشر‪ .‬وكان‬ ‫العصر الوسيط أيضا عصر هيمنة المسيحية والكنيسة‪ ،‬كما رأينا‪ .‬وحدث منعطف أول‬ ‫خالل القرن السادس عشر تمثل في انقسام المسيحية بين كاثوليكية وبروتستانتية‪ .‬ولم‬ ‫تعد للديانة‪ ،‬منذ ذلك الوقت‪ ،‬والى يومنا هذا‪ ،‬نفس المكانة ونفس الدور في سائر دول‬ ‫أوربا‪ .‬ويمكن القول عموما‪ ،‬بأن هذه المواقف من الدين في سائر أنحاء أوربا تمثل‬ ‫تطورا له جذور في العصر الوسيط‪ .‬وفي ذات السياق حدت انفصال بين الكنيسة‬ ‫والدولة‪ .‬فرد المسيحي لقيصر ما له الحق في امتالكه‪ .‬وعلى خالف الوضع في بالد‬ ‫اإلسالم أو في بيزنطة‪ ،‬تم التخلي في أوربا عن الثيوقراطية‪ ،‬كما تمت ترقية األطفال‬ ‫والمرأة واألفراد الالئكيين‪ .‬وحدث نوع من التوازن بين العقيدة والعقل‪ .‬ولكن جميع‬

‫‪" - 81‬زاديﯕ أو المصير"‪،‬عنوان رواية ذات طابع فلسفي ألفها األديب الفرنسي فولتير سنة ‪.1747‬‬ ‫تدور أحداث هذه الرواية في المشرق (في بالد بابل بالتحديد)‪ .‬وبطلها رجل شاب يدعى زاديﯕ‪.‬‬

‫‪210‬‬

‫هذه الخاصيات ظلت محتجبة نوعا ما تحت تأثير السلطات الحاكمة والكنيسة حتى قيام‬ ‫الثورة الفرنسية‪.‬‬ ‫وانطالقا مما تقدم يمكن القول بأن أهم ما يجب استخالصه هو أن قطيعة ما‬ ‫يسمى بالنهضة ال وجود لها‪ .‬وأدعو قراء هذا الكتاب إلى اعتبار نهاية القرن الخامس‬ ‫عشر مجرد عملية توقف (‪ )une halte‬مهمة في مسيرة تاريخ أوربا العصر الوسيط‪.‬‬ ‫ومثل هذا االعتبار ال يسلب عنوان الكتاب أية مشروعية في نظري‪.‬‬ ‫إن المعطيات التي تم تناولها في الفصول السابقة تتعلق بمسألتي بناء وانفتاح‬ ‫عصر وسيط أوربي‪ .‬ومن ثم‪ ،‬كان من المشروع التوقف عند نهاية القرن الخامس‬ ‫عشر للقيام بعملية تقييم وللتساؤل عما إذا كان من الممكن تقديم جواب عن السؤال‬ ‫الذي يمثل عنوان هذا الكتاب‪.‬‬ ‫ويستدعي الحديث عن مظاهر العالقة بين أوربا والتاريخ التوقف عند مظهر‬ ‫أساسي هو المجال‪ ،‬بالنظر إلى كون مجريات أحداث التاريخ تتم دائما في مجال معين‪.‬‬ ‫كما أن الحضارة‪ ،‬بدورها‪ ،‬تتبلور في حدود رقعة ترابية معينة ثم تنتشر بعد ذلك‪.‬‬ ‫وتأسيسا على ذلك‪ ،‬فإن القرن الخامس عشر يمثل في حقيقة األمر منتهى النشأة‬ ‫القروسطوية لمجال أوربي كان قد بدأ في التكون منذ الغزوات الكبرى التي شهدها‬ ‫العصر الوسيط األعلى‪ .‬ففي القرن الخامس عشر لم يكن هناك وجود لوثنيين‪ ،‬كما كان‬ ‫من الممكن أال يكون هناك وجود لمسلمين لو لم تنطلق الحمالت التركية العثمانية‪ .‬لقد‬ ‫أفضت تلك الحمالت إلى نتيجتين متناقضتين‪ .‬فقد شكلت تهديدا ألوربا من جهة‪،‬‬ ‫وأدت‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬إلى نشأة هوية جماعية على حساب التناقضات الداخلية رغم‬ ‫أن مقاومة األوربيين لألتراك لم تكن بالشراسة التي كان يتمناها البابا بيوس الثاني‪.‬‬ ‫وبذلك ساهمت تلك الحمالت في رأب الصدع وتالحم األوربيين‪.‬‬ ‫بجدر الذكر أيضا بأن الجامعات كانت تقوم بنشر معرفة موحدة على طول‬ ‫المجال الممتد من البحر المتوسط حتى بحر البلطيق‪ .‬كما أن الحركة اإلنسية اخترقت‬ ‫بدورها الثقافة األوربية من السويد حتى جزيرة صقلية رغم التخلي عن الالتينية وتبني‬ ‫اللغات المحلية‪ .‬أما على صعيد الحياة االقتصادية فقد غدت مدينة أنڤير (‪)Anvers‬‬ ‫مركز اقتصاد‪ -‬عالم ظل لفترة طويلة اقتصادا أوربيا قبل أن يمسي اقتصادا عالميا‬ ‫وقعت في شركه جميع القوى العالمية كما أوضح ذلك فرنان بروديل‪.‬‬ ‫تبقت مسألة واحدة اكتنفها نوع من الغموض‪ ،‬رغم أن التساؤل حولها عند نهاية‬ ‫القرن الخامس عشر كان واضحا‪ .‬تتعلق هذه المسألة بحدود أوربا القارية في الجهة‬ ‫الشرقية خالل تلك الفترة التاريخية‪ .‬ويجب التنبيه في هذا المقام أن حدث سقوط‬ ‫القسطنطينية في حوزة األتراك العثمانيين سنة ‪ 1453‬كان له صدى قوي في أوساط‬ ‫األوربيين عامة وفي أوساط النخبة المثقفة بشكل خاص‪ .‬لم يكن ذلك الحدث يعني فقط‬

‫‪211‬‬

‫سقوط اإلمبراطورية البيزنطية بصورة كارثية كما تؤكد على ذلك اإلسطريوغرافيا‬ ‫التقليدية‪ ،‬وإنما كان‪ ،‬على المدى البعيد‪ ،‬يعني ارتفاع حاجز أمام وحدة أوربا‪ ،‬ألن‬ ‫الديانة األرثوذكسية التي استمرت حتى اليوم في شرق أوربا‪ ،‬لم تعد مرتبطة بذلك‬ ‫المركز السياسي والديني الذي كانت تمثله اإلمبراطورية البيزنطية‪ .‬ومعنى ذلك‪ ،‬مرة‬ ‫أخرى‪ ،‬أن حاجزا ارتفع منذ سنة ‪ 1453‬أمام وحدة أوربا المستقبلية‪.‬‬ ‫وقد قامت الدول السالڤية بتحديد سياساتها في مجال اإلدارة الترابية بشكل غير‬ ‫طبيعة مشاكل حدود أوربا في جهة الشرق‪ .‬فبولندا‪ ،‬الدولة األوربية بامتياز‪ ،‬والتي‬ ‫غدت موحدة في نهاية القرن الرابع عشر مع ليتوانيا بواسطة أسرة "الججوليين" ( ‪les‬‬ ‫‪ )Jagellons‬البولونية الليتوانية‪ ،‬نهجت سياسة توسعية في الشمال على حساب‬ ‫بروسيا‪ ،‬وكذلك في الشرق وفي الجنوب الشرقي‪ .‬فغدت حدودها تمتد في نهاية القرن‬ ‫الخامس عشر من بحر البلطيق حتى البحر األسود‪ .‬أما روسيا‪ ،‬التي تحررت من‬ ‫قبضة المغول‪ ،‬فقد تطورت في اتجاه أن تصبح دولة مركزية‪ .‬وقام ايڤان الثالث‬ ‫(‪ )Ivan III‬الذي حكمها بين سنتي ‪ 1462‬و‪ 1505‬بخوض سلسلة حروب مكنته من‬ ‫ضم مزيد من األراضي لحوزة الدولة من قبيل أراضي نوڤﯕرود (‪)Novgorod‬‬ ‫وتڤير (‪ .)Tver‬فوطد دعائمها وأصبح يحكم دولة مركزية متماسكة تتوفر على جهاز‬ ‫إداري قوي ومؤسسات قضائية أمدتها مدونة ‪ 1497‬بنفس جديد‪.‬‬ ‫وفي ضوء ما تقدم‪ ،‬يمكن التساؤل ‪ :‬هل يحق للمؤرخ أن يعتقد بأن كفة‬ ‫التهديدات كان بإمكانها أن تميل‪ ،‬عند نهاية القرن الخامس عشر‪ ،‬على حساب كفة‬ ‫المكتسبات التي تحققت خالل العصر الوسيط ؟ أو على حساب وعود "العصر الوسيط‬ ‫الطويل األمد" ألوربا؟ رغم بعض المتغيرات التاريخية‪ ،‬ورغم أهمية الصدفة ‪ ،‬فإنه‬ ‫باإلمكان استعراض حظوظ أوربا عند نهاية القرن الخامس عشر‪ ،‬ألنه لم يكن باديا‬ ‫بأن التهديدات ستأتي من جانب األمم الناشئة‪ ،‬وال من جانب الخالفات الدينية التي كان‬ ‫من الممكن أن تتحول إلى شقاق ال رجعة فيه‪.‬‬ ‫تكون أوربا قد بدأت تتبلور‬ ‫آمل أن يكون هذا الكتاب قد وضح للقارئ بأن عملية ّ‬ ‫في العصر الوسيط انطالقا من مصطلحات وحقائق الوحدة و"األمة"‪ ،‬رغم أن تطور‬ ‫مفهوم السيادة وتبلور تطبيقاته ابتداء من القرن الثالث عشر أفرزا مشكال بالنسبة‬ ‫لمستقبل هذا المفهوم‪.‬‬ ‫والجدير بالذكر‪ ،‬أن نهاية دور االحتكار الذي كانت تقوم به الكنيسة الكاثوليكية‬ ‫ال يعني نهاية الثقافة المسيحية المشتركة‪ .‬كما ال يعني نهاية حضارة وقيم كانت‬ ‫تتضمن جانبا من الالئكية سيغدو هو الوريث والمتمم للقيم المسيحية وليس خصما كما‬ ‫تجلى ذلك في الصراعات التي احتدمت في نهاية القرن الخامس عشر‪ .‬يبدو أن التهديد‬ ‫كان يأتي من الصراعات المسلحة بين األمم ومن الخصال الحربية التي تميز‬

‫‪212‬‬

‫األوربيين‪ ،‬والتي تحدث عنها أبقراط منذ العصر القديم‪ .‬وال شك أن التهديد كان‬ ‫مرتبطا أيضا باالتجاه الذي كانت ستأخذه حركة التوسع واالستعمار التي انطلقت منذ‬ ‫القرن الخامس عشر‪ .‬كما كان مرتبطا بالعالقة التي أضحت قائمة بين أوربا‬ ‫ومستعمراتها في مختلف أنحاء العالم‪.‬‬ ‫أعتقد أنه من المفيد التذكير بأن عالقة العصر الوسيط بالتقدم طبعها التشنج‪،‬‬ ‫حتى أن الصورة التي يمكن رسمها في هذا المجال‪ ،‬تبدو متناقضة المعالم‪.‬‬ ‫فا إليديولوجية المهيمنة‪ ،‬والمواقف الذهنية السائدة‪ ،‬كانت تدين كل جديد وتنعته‬ ‫بالخطيئة‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬كان العصر الوسيط عصر الخلق واإلبداع واالختراع في‬ ‫الميدان المادي وفي الميدانين الفكري والروحي‪ .‬وباختصار‪ ،‬كان عصر تقدم هائل‬ ‫نحو األمام‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن ما يجب التأكيد عليه واعتباره مكسبا لمجموع أوربا في‬ ‫اتجاهها نحو الوحدة‪ ،‬هو أن القدرات على التقدم تأكدت خالل العصر الوسيط‪ ،‬وتقوت‬ ‫أكثر خالل القرن الخامس عشر‪.‬‬ ‫ومما ال شك فيه‪ ،‬أن استعمال مفهوم التقدم بالنسبة لهذه الحقبة التاريخية قد يثير‬ ‫حفيظة البعض بالنظر إلى كون مسألة الوعي بالتقدم‪ ،‬والى كون مسألة السمو بالتقدم‬ ‫كمثل (‪ ) un idéal‬قضيتين حديثتي العهد‪ .‬إذ يعود تاريخهما إلى نهاية القرن السابع‬ ‫عشر‪ ،‬أو باألحرى إلى القرن الموالي‪ .‬هما من زهرات عصر األنوار‪ .‬ورغم ذلك‪،‬‬ ‫تحقق التقدم في العصر الوسيط‪ .‬ومن هذه الزاوية‪ ،‬فإن ما حققته أوربا خالل هذه‬ ‫الحقبة التاريخية‪ ،‬وشرعت في إظهاره للعالم يتناقض كثيرا مع ما سيحدث في العالم‬ ‫اإلسالمي عموما‪ ،‬وفي الصين بوجه خاص‪.‬‬ ‫ومن غريب الصدف أن الصين كانت خالل القرن الخامس عشر من أقوى‬ ‫الدول وأغناها وأكثرها تقدما في مختلف الميادين‪ ،‬ولكن ساستها ارتأوا جعلها منغلقة‬ ‫على نفسها‪ .‬وتركوا لألوربيين مسألة السيطرة على العالم‪ ،‬بما في ذلك بعض المناطق‬ ‫الواقعة في الشرق‪ .‬أما المسلمون‪ ،‬فقد فقدوا الدينامية التي كانت تميزهم في العصر‬ ‫الوسيط رغم نجاح األتراك العثمانيين في تكوين إمبراطورية‪ ،‬ورغم دخول اإلسالم‬ ‫إلى بعض مناطق إفريقيا وآسيا‪ .‬يبدو اذن‪ ،‬أنه مقابل إخفاقات الصينيين والمسلمين‪،‬‬ ‫امتلكت أوربا المسيحية األفكار والممارسات التي ستضمن لها توسعا ال نظير له ابتداء‬ ‫من القرن الخامس عشر‪ .‬وقد جعل األوربيون من هذا التوسع أهم أداة في تحقيق‬ ‫الوعي وتأكيد االتجاه نحو الوحدة‪ .‬وقد أوضح الباحث بيتر بيلر (‪)Peter Biller‬‬ ‫مؤخرا في أحد أبحاثه كيف أن ساسة أوربا القرن الرابع عشر أدرجوا في الحسبان‬ ‫العنصر البشري‪ ،‬وأدركوا أهمية دور السكان لقيادة قضايا العالم‪ ،‬بالرغم من كون هذا‬ ‫الحيز الزمني شهد أزمة زراعية وتفشي األوبئة التي أدت إلى تراجع ديموغرافي‬ ‫مهول‪.‬‬

‫‪213‬‬

‫وبناء عليه‪ ،‬فإن أوربا نهاية العصر الوسيط أصبحت تعير االهتمام لعدد‬ ‫السكان‪ ،‬وتهتم بطرق عيشهم‪ ،‬وبطرق توالدهم‪ ،‬ألن هذه العناصر تمثل عوامل قوة‪.‬‬ ‫وفي السياق ذاته‪ ،‬انكب مجموعة من الباحثين على دراسة دالالت ومظاهر "التقدم‬ ‫ورد الفعل والتراجع" في أوربا العصر الوسيط رغم كونه عصرا لم تكن فيه الذهنيات‬ ‫السائدة تستوعب "فكرة التقدم"‪ .‬وقد خلص هؤالء الباحثون إلى كون المسيحية كانت‬ ‫تعطي معنى للتاريخ‪ .‬وقد سبق أن أوضح األب شوني في هذا السياق بالذات كيف أن‬ ‫فكر العصر الوسيط أعاد إقالع التاريخ في القرن الثاني عشر‪ .‬فالبحث عن الخالص‪،‬‬ ‫على سبيل المثال‪ ،‬أصبح ينظر إليه كتقدم أخالقي طبعا‪ ،‬ولكنه تقدم مفيد على كل حال‪.‬‬ ‫ووجد خالل العصر الوسيط أيضا أناس روجوا "لفكرة كراهية العالم الدنيوي"‬ ‫وانتصروا لها وكتبوا عنها‪ ،‬ورغم ذلك لم يفض ما قاموا به إلى التخلي عن التقدم‬ ‫المادي‪.‬‬ ‫وخالصة األمر‪ ،‬هي أن دينامية العصر الوسط تأتت من تفاعل المتناقضات‬ ‫والتشنجات التي أسفرت عن تقدم على عدة مستويات دون أن تسمي ما حدث تقدما‪.‬‬ ‫وقد نجح الباحثون‪ ،‬المشار إليهم‪ ،‬في تسليط الضوء على المصطلحات والمفاهيم‬ ‫الثنائية التي كانت وراء دينامية العصر الوسيط من قبيل التقدم‪ -‬رد الفعل‪ ،‬التقدم‪-‬‬ ‫التراجع‪ ،‬الماضي‪ -‬الحاضر‪ ،‬القديم‪ -‬الحديث‪ .‬وقد سبق لي أن أوضحت كيف أن‬ ‫طوائف الفقراء أكدت وجودها بطريقة مستفزة كتنظيمات جديدة‪ .‬يعني كتنظيمات‬ ‫أحسن‪ .‬فرأى المعارضون في هذه التنظيمات "بدعة" وخطيئة‪.‬‬ ‫وعموما‪ ،‬فإن حضارة العصر الوسيط‪ ،‬وكذلك الذهنيات التي سادت خالل هذا‬ ‫العصر‪ ،‬لم تناوئ التقنيات المستحدثة التي أفضت إلى النمو في المجال االقتصادي‪.‬‬ ‫وما يؤكد ذلك هو أن مالكي الدومينات الكبرى‪ ،‬في بداية العصر الوسيط األعلى‪ ،‬كانوا‬ ‫يوقعون عقودا مع عدد من الفالحين األحرار الستثمار استغالليات يعهدون بها إليهم‪.‬‬ ‫وكان المستفيدون من تلك االستغالليات ملزمين بمقتضى تلك العقود بتحسين مردودها‪.‬‬ ‫ويمكن تذكير القارئ‪ ،‬في ذات السياق‪ ،‬بما قيل عن كتب الفالحة التي عادت‬ ‫للظهور مجددا في القرن الرابع عشر كدليل على تزايد االهتمام بمسألة التقدم في‬ ‫المجال الزراعي‪ .‬ونفس االهتمام يحيل عليه انتشار استعمال الطاحونة‪ ،‬وتنوع‬ ‫تطبيقاتها‪ ،‬باإلضافة إلى ظهور نظام عمود الكامات‪ ،‬وتحسن طرائق النسج‪ ،‬وغير‬ ‫ذلك من التطبيقات ومن االختراعات التي خصها مارك بلوك ببحث مستفيض‬ ‫وال مجال لالنكار بأن العصر الوسيط كان عصر سيادة الفكر الديني‪ ،‬كما سبق‬ ‫القول‪ ،‬إلى درجة أن كل شيء كان يبدو سابحا في الدين‪ ،‬بما في ذلك مظاهر الحضارة‬ ‫المادية‪ .‬غير أن هيمنة الدين أخذت في التراجع شيئا فشيئا‪ .‬كما كانت العوائق الفكرية‬ ‫المنتصبة أمام التقدم تنزاح هي األخرى شيئا فشيئا بموازاة عملية نزول القيم من‬

‫‪214‬‬

‫السماء على األرض‪ .‬كما أن العالقة بين العناية اإللهية والثروة أضحى فيها دور للفرد‬ ‫وللجماعة‪ ،‬بعد أن كان هذا الدور منتفيا إلى حد بعيد‪ .‬وتتضح أهمية هذا الدور بشكل‬ ‫خاص في مسألة الزمن التي تجلى فيها إبداع األوربيين كما تجلى فيها التقدم‪.‬‬ ‫ورغم أن الماضي لم يحظ بنظرة عقالنية‪ ،‬ولم يشكل موضوع علم تاريخ قائم‬ ‫بذاته إال في القرن الثامن عشر‪ ،‬فقد كان يستعمل في إطار ذاكرة أخذت أبعاد الثقافة‬ ‫السائدة‪ .‬ومعنى ذلك أن أوربيي العصر الوسيط استندوا على التاريخ ليتجهوا نحو‬ ‫األمام بشكل أفضل‪ .‬كما أن تحكمهم في قياس الزمن مكنهم من أدوات التقدم‪ .‬ورغم أن‬ ‫التقويم اليولياني (تقويم يوليوس قيصر) ظل هو التقويم المعمول به‪ ،‬فقد استحدثوا‬ ‫تقويما آخر مستمدا من العهد القديم‪ ،‬ومن الديانة اليهودية‪ ،‬وال زال معموال به إلى‬ ‫اليوم‪ ،‬وهو ما يعرف باألسبوع الذي أرسى العمل به عالقة جديدة بين وقت العمل‬ ‫ووقت الراحة‪ .‬وكان من تبعات ذلك أن حدث تغير في الزمن الديني بحدوث تغير في‬ ‫برنامج يوم األحد‪ .‬كما حدث تغير نحو األفضل فيما يتعلق باستغالل قوة اإلنسان‬ ‫وقدراته‪ .‬وباإلضافة إلى ذلك أدى تبني هذا التقويم إلى ظهور مناسبتين عظيمتين‬ ‫يحتفل بهما األوربيون‪ ،‬هما عيد بداية رأس السنة (الذي يخلد الميالد‪ .‬وقد حل محل‬ ‫عيد الهلوين الوثني الذي يرمز للموت)‪ ،‬وعيد الفصح (الذي يرمز لالنبعاث)‪،‬‬ ‫باإلضافة إلى أعياد أخرى ذات صبغة فيودالية‪.‬‬ ‫ومما ال شك فيه أن انتقال اإلنسان من القدرة على التحكم في حواسه‪ ،‬وفي‬ ‫جسده وفي ثروته‪ ،‬إلى القدرة على التحكم في الوقت أمر عظيم‪ .‬وهذا ما نجد تعبيرا‬ ‫عنه في حوار بين شخصين يتضمنه نص كوميدي وضعه المهندس والفيلسوف‬ ‫واألديب "اإلنسي" االيطالي الشهير ليون باتستا ألبيرتي (‪)Leon Battista Alberti‬‬ ‫(المتوفى سنة ‪ )1472‬جاء فيه ‪:‬‬ ‫ جيانوزو‪ :‬هناك ثالثة أشياء يستطيع اإلنسان أن يقول بأنه يملكها لنفسه ‪:‬‬‫الثروة والجسد و‪...‬‬ ‫ ليوناردو‪ :‬وما سيكون الشيء الثالث ؟‬‫ جيانوزو ‪ :‬آه‪ ،‬إنه شيء ثمين جدا‪ .‬هاتان اليدان وهاتان العينان ليستا لي تماما‪.‬‬‫ ليوناردو ‪ :‬عجيب ! ما هو ؟‬‫ جيانوزو ‪ :‬الوقت يا عزيزي ليوناردو‪ ،‬الوقت يا أبنائي‪.‬‬‫يبدو أن قيمة الوقت التي يمجدها الحوار هي قيمة اقتصادية‪ ،‬ألن الوقت هو‬ ‫النقود‪ .‬ولكنها أيضا قيمة ثقافية ووجودية‪ .‬ألن أوربا نهاية القرن الخامس عشر كانت‬ ‫أوربا الوقت الثمين‪ ،‬أي الوقت الذي امتلكه األفراد وامتلكته الجماعات المنشأة ألوربا‬ ‫اآلتية‪.‬‬

‫‪215‬‬

‫خرائط‬ ‫خريطة رقم ‪1‬‬ ‫مراحل تكون االتحاد األوربي‬

‫مصدر الخريطة ‪ :‬رشيد احمايمي موقع الخيمة "‪"www.khayma.com‬‬

‫‪216‬‬

‫خريطة رقم ‪2‬‬

‫االتحاد األوربي سنة ‪2007‬‬

‫مصدر الخريطة ‪ :‬موقع األستاذ حمادي "‪"www.imadhg.com‬‬

‫‪217‬‬

‫كرونولوجيا أبرز األحداث‬

‫أوال ‪ :‬أبرز األحداث في أوربا‬ ‫بداية الموجة األولى من غزوات القبائل الجرمانية‬ ‫‪276‬‬ ‫الرومانية‪.‬‬ ‫لإلمبراطورية‬ ‫صدور مرسوم ميالن الذي أتاح للمسيحيين حرية التعبد‪.‬‬ ‫‪313‬‬ ‫انعقاد مجمع نيقية الذي خرج فيه اإلمبراطور قسطنطين منتصرا‬ ‫‪325‬‬ ‫ضد اآلريوسية‪.‬‬ ‫اإلمبراطور قسطنطين يتخذ من القسطنطينية عاصمة‬ ‫‪330‬‬ ‫لالمبراطورية‪.‬‬ ‫اإلمبراطور ثيودوز األول يعترف بالمسيحية كديانة‬ ‫‪379-395‬‬ ‫ويقسم اإلمبراطورية قبيل وفاته إلى‬ ‫لإلمبراطورية‪،‬‬ ‫إمبراطوريتين غربية وشرقية‪.‬‬ ‫انطالق موجة أخرى من غزوات القبائل الجرمانية‪.‬‬ ‫‪407-429‬‬ ‫القوط الغربيون بزعامة ألريك يسيطرون على روما ويخربونها‪.‬‬ ‫‪410‬‬ ‫القوط الغربيون يستقرون باسبانيا‪.‬‬ ‫‪415‬‬ ‫القديس باتريك ينشر المسيحية بايرلندا‪.‬‬ ‫‪432-461‬‬ ‫استقرار األنجلز والجوت والسكسون ببريطانيا العظمى‪ ،‬وانطالق‬ ‫حوالي ‪440‬‬ ‫حملة البروطانيين في اتجاه القارة‪.‬‬ ‫نجاح القائد الروماني أكتيوس في وقف تقدم الهون بزعامة أتيال‬ ‫في ميادين كتالونيك‪.‬‬ ‫أدواكرالجرماني يطيح باإلمبراطوررومولوس أغوستول‬ ‫‪476‬‬ ‫ويبعث بشارات اإلمبراطورية الغربية إلى القسطنطينية‪.‬‬

‫‪218‬‬

‫فترة حكم ثيودوريك زعيم القوط الشرقيين براڤين‪.‬‬ ‫‪488-526‬‬ ‫بين ‪ 496‬و‪ 511‬تعميد كلوڤيس زعيم الفرنجة‪.‬‬ ‫اإلمبراطور البيزنطي جستنيان يقوم بحملة محدودة ومؤقتة في‬ ‫‪525-565‬‬ ‫مناطق الغرب (ايطاليا الجنوبية وإقليم األندلس)‪ .‬اجتياح‬ ‫الطاعون‪،‬المعروف بطاعون جستنيان‪ ،‬للمناطق الواقعة‬ ‫جبال األلب ونهر اللوار‪.‬‬ ‫جنوبي‬ ‫األسقف بينوا يشيد ديرا بجبل كاسان‪ ،‬ويقترح على الرهبان‬ ‫حوالي ‪529‬‬ ‫التابعين له طريقة أصبحوا بموجبها يشكلون طائفة البندكتيين‪.‬‬ ‫القوط الغربيون يتخذون من طليطلة عاصمة لهم بعد استعادتهم‬ ‫حوالي ‪555‬‬ ‫إلقليم األندلس‪.‬‬ ‫حوالي ‪ 636-570‬فترة حياة ايزيدوراالشبيلي (الذي يحتمل أن يكون قد ولد بين‬ ‫(‪ 560‬و‪.)570‬‬ ‫فترة اعتالء ﯕريﯕوار األكبرعرش البابوية‪.‬‬ ‫‪590-604‬‬ ‫حوالي ‪ 615-590‬الراهب االيرلندي سان كلومبان يؤسس مجموعة موناسترات‬ ‫بغاليا‪ ،‬وبجنوب جرمانيا‪ ،‬وبشمال ايطاليا‪.‬‬ ‫اللومبارديون يغزون شمال ايطاليا‪ ،‬وأجزاء من وسطها‪،‬‬ ‫ويؤسسون بها مملكةعاصمتها باڤيا‪.‬‬ ‫البربر المسلمون يقومون بغزو اسبانيا من الجنوب حتى مناطق‬ ‫‪711-719‬‬ ‫نهر ايبرو‪.‬‬ ‫شارل مارتل محافظ قصر أوسترازيا ينجح في وقف المد‬ ‫‪732‬‬ ‫اإلسالمي قرب بواتيي‪.‬‬ ‫بيبن القصير محافظ قصر أوسترازيا يتوج ملكا على الفرنجة‬ ‫‪757‬‬ ‫قبل البابا إتيان الثاني بعد أن دعمه في ايطاليا‪ ،‬وسانده في‬ ‫من‬ ‫كيان بابوي‪.‬‬ ‫إنشاء‬ ‫المسلمون يفقدون مدينة أربونة‪ ،‬آخر معاقلهم بغالة‪.‬‬ ‫‪759‬‬ ‫شارلمان الملك الوحيد على رأس فرنجة غاليا‪.‬‬ ‫‪771‬‬ ‫شارلمان ينادى به ملكا على اللومبارديين‪.‬‬ ‫‪774‬‬ ‫الباسكيون يباغتون بممر الروسنسفال مؤخرة جيش الفرنجة التي‬ ‫‪778‬‬ ‫كان على رأسها روالن صهر شارلمان‪.‬‬ ‫انعقاد المجمع الثاني بمدينة نيقية‪ ،‬وخالله أباح شارلمان التعاطي‬ ‫‪787‬‬ ‫للصور في الفن المسيحي‪.‬‬ ‫شارلمان ينجح في ضم بڤاريا لحضيرة مملكته‪.‬‬ ‫‪788‬‬

‫‪219‬‬

‫‪793-810‬‬ ‫‪796‬‬ ‫‪796-803‬‬ ‫‪800‬‬ ‫‪827‬‬ ‫حوالي ‪830‬‬ ‫‪842‬‬ ‫‪843‬‬ ‫النصف الثاني‬ ‫من القرن التاسع‬ ‫‪881‬‬ ‫‪885-886‬‬ ‫‪895‬‬ ‫‪910‬‬ ‫‪929‬‬ ‫‪948‬‬ ‫حوالي ‪950‬‬ ‫‪955‬‬ ‫‪960‬‬ ‫‪962‬‬ ‫‪967‬‬ ‫‪972‬‬ ‫‪985‬‬ ‫‪987‬‬ ‫‪989‬‬ ‫‪1000‬‬ ‫يسيطران‬ ‫الكنائس"‬ ‫كمركز‬

‫انطالق أولى الغارات النورمانية على بريطانيا العظمى وغالة‪.‬‬ ‫شارلمان ينتصر على المحاربين اآلڤار‪.‬‬ ‫شارلمان يشيد قصرا وكنيسة الشابيل بمدينة ايكس‪-‬الشابيل‪.‬‬ ‫شارلمان يتوج إمبراطورا في روما‪.‬‬ ‫بداية غزو المسلمين لجزيرة صقلية‪.‬‬ ‫"استحداث" جثمان القديس يقوب‪ ،‬واتخاذ ضريحه مزارا‪.‬‬ ‫تحرير يمين ستراسبورغ باللهجتين الفرنسية والجرمانية‪.‬‬ ‫معاهدة ڤردان وميالد ألمانيا وفرنسا‪.‬‬ ‫كلمة "مليش" (‪( )miles‬جندي وفارس) بدأت تعني الفصل‪.‬‬ ‫ظهور كلمة فيف "فيودوم" (‪.)feodum‬‬ ‫محاصرة النورمانديين لمدينة باريس‪.‬‬ ‫استقرار الهنغاريين بسهل الدانوب‪.‬‬ ‫تأسيس دير كلوني‪.‬‬ ‫قيام دولة الخالفة بقرطبة‪.‬‬ ‫تأسيس "أرشفكية" هامبورغ‪ ،‬واتخاذها مركزا دينيا لتنصير‬ ‫سكان العالم اإلسكندنافي‪.‬‬ ‫بداية عمليات االستصالح الكبرى‪ .‬وبداية استعمال المحراث‬ ‫بمناطق شمال نهراللوار‪.‬‬ ‫انتصار أتون األول على الهنغاريين في وقعة ليشفيلد‪.‬‬ ‫تشييد مسجد قرطبة‪.‬‬ ‫تتويج أتون األكبر إمبراطورا‪ ،‬وتأسيس اإلمبراطورية الرومانية‬ ‫الجرمانية المقدسة‪.‬‬ ‫تعميد ميزكو دوق بولندا‪.‬‬ ‫تأسيس "ايفيكية" براغ‪.‬‬ ‫تعميد الزعيم الهنغاري ڤايك‪.‬‬ ‫صعود األسرة الكابيتية إلى الحكم في غاليا‪.‬‬ ‫تعميد فالديمير أمير كييف من قبل أرثوذوكسيين بيزنطيين‪.‬‬ ‫الثنائي سيلفستر الثاني (جيربير اآلورياكي) وأتون الثالث‬ ‫على المسيحية الالتينية‪ .‬وبداية تشييد "معطف أبيض من‬ ‫حسب تعبير راوول كالبير‪.‬تأسيس "أرشفيكية" كنيزنو‬ ‫ديني باليابان‪.‬‬

‫‪220‬‬

‫‪1001‬‬ ‫‪1005-1006‬‬ ‫‪1015-1028‬‬ ‫‪1019-1035‬‬ ‫‪1023‬‬ ‫‪1028‬‬ ‫‪1029‬‬ ‫حوالي ‪1030‬‬ ‫‪1031‬‬ ‫‪1032-1033‬‬ ‫حوالي ‪1035‬‬ ‫‪1037‬‬ ‫‪1054‬‬ ‫‪1060-1091‬‬ ‫‪1066‬‬ ‫‪1071‬‬ ‫‪1073-1085‬‬ ‫‪1085‬‬ ‫الحادي عشر‬ ‫‪1095‬‬ ‫‪1098‬‬ ‫‪1099‬‬ ‫حوالي ‪1100‬‬ ‫‪1108‬‬ ‫‪1112‬‬

‫تتويج سان ايتيان ملكا على هنغاريا‪.‬‬ ‫حدوث مجاعة كبرى بأوربا الغربية‪.‬‬ ‫القديس أوالڤ الثاني يحاول فرض المسيحية بقوة في النرويج‪.‬‬ ‫كنوت األكبر يصبح ملكا على الدانمارك وأنجلترا‪.‬‬ ‫روبير التقي يقوم بطلب من الكنيسة بإحراق نفر من الهراطقة‬ ‫بأورليان‪.‬‬ ‫كنوت ملك الدانمارك يغزو النرويج وينتهي من غزو أنجلترا‪.‬‬ ‫تأسيس أول مملكة نورماندية بايطاليا الجنوبية‪.‬‬ ‫بداية حركة الكمونات في ايطاليا‪.‬‬ ‫نهاية عصر الخالفة في قرطبة‪.‬‬ ‫حدوث مجاعة بالغرب‪.‬‬ ‫تشييد قنطرة من الحجر ببلدة ألبي‪.‬‬ ‫اإلمبراطور كونراد يقر مبدأ وراثة األفياف في ايطاليا الشمالية‪.‬‬ ‫حدوث االنشقاق النهائي بين الكنيسة الرومانية الالتينية والكنيسة‬ ‫اإلغريقية‬ ‫األرثوذكسية‪.‬‬ ‫النورمانيون يقومون بغزو صقلية‪.‬‬ ‫غزو أنجلترا من قبل النورمان بزعامة غليوم الفاتح‪.‬‬ ‫نقل رفات القديس نيكوال من المشرق إلى مدينة باري‪.‬‬ ‫اعتالء غريغوري السابع كرسي البابوية‪ ،‬وبداية اإلصالح‬ ‫الغريغوري‪.‬‬ ‫استيالء ألفونسو السابع ملك قشتالة على طليطلة‪.‬‬ ‫نهاية القرن‬ ‫بداية استعمال الخيول في جر المحراث بدل الثيران في مناطق‬ ‫شمال غالية‪.‬‬ ‫البابا أوربان الثاني يحث المسيحيين في بلدة كليرمون على القيام‬ ‫بحرب صليبية‪.‬‬ ‫إنشاء طائفة السيرستيين من قبل روبير دي موليسم‪.‬‬ ‫تجار جنوة ينشؤون ما يشبه الشركة التجارية‪.‬‬ ‫بداية تجفيف مستنقعات منطقة الفالندر‪.‬‬ ‫تشييد دير سان فيكتور‪ ،‬أول مركز للفكر المدرسي بباريس‪.‬‬ ‫اندالع الثورة "الكمونية" بمدينة الوون‪ .‬مقتل القمط‪-‬األسقف‪.‬‬

‫‪221‬‬

‫‪1120-1150‬‬ ‫‪1126-1198‬‬ ‫ويتوفى‬ ‫‪1127‬‬ ‫‪1132-1144‬‬ ‫‪1135-1204‬‬ ‫‪1140‬‬ ‫‪1141‬‬ ‫‪1143‬‬ ‫‪1154‬‬ ‫‪1154-1224‬‬ ‫‪1176‬‬ ‫‪1180‬‬ ‫‪1183‬‬ ‫‪1204‬‬ ‫‪.)1260‬‬ ‫‪1207‬‬ ‫إطار‬ ‫‪1209‬‬ ‫‪1209-1229‬‬ ‫‪1212‬‬ ‫‪1214‬‬ ‫‪1215‬‬ ‫الرابع‬

‫ظهور أول مجموعة من القوانين المنظمة للحرف في الغرب‪.‬‬ ‫ابن رشد الفيلسوف العربي يناقش آراء أرسطو بقرطبة‪،‬‬ ‫بمراكش‪.‬‬ ‫مدن منطقة الفالندر تحصل على مواثيق التحرر‪.‬‬ ‫رجل الدين سوجر يعيد بناء سان دوني‪ .‬بداية عصر الفن‬ ‫القوطي‪.‬‬ ‫رجل الدين والفيلسوف ابن ميمون ينشر مؤلفاته باللغة العربية‬ ‫بقرطبة‪ ،‬ويتوفى بالقاهرة‪.‬‬ ‫نشأة مملكة البرتغال‪.‬‬ ‫بطرس المحترم يقوم بترجمة القرآن إلى اللغة الالتينية‪.‬‬ ‫تشييد مدينة لوبيك‪.‬‬ ‫فردريك بربروسا يمنح امتيازات ألساتذة وطلبة جامعة بلوني‪.‬‬ ‫فترة سيادة اإلمبراطورية األنجليزية‪ -‬الفرنسية التي شيدتها أسرة‬ ‫البالنطجونيين‪.‬‬ ‫تشييد منارة الخيرالدا بمدينة إشبيلية‪.‬‬ ‫وفاة األسقف خوانيس سرانسبيري سيد مدرسة المواثيق ( ‪les‬‬ ‫‪.)chartes‬‬ ‫هدنة كوستانس‪ .‬فردريك بربروسا يقر حرية المدن اللومباردية‪.‬‬ ‫المشاركون في الحملة الصليبية الرابعة يستولون على مدينة‬ ‫القسطنطينية ويقومون‬ ‫بنهبها‪ .‬تأسيس اإلمبراطورية الالتينية بالقسطنطينية (‪-1204‬‬ ‫سان دومينيك يتصل بمتزعمي حركة الهرطقة ببلدة ألبي في‬ ‫مهمة كلف بها‪.‬‬ ‫ظهور أول طائفة فرانسيسكانية‪.‬‬ ‫فصول الحرب الصليبية األلبيجية‪.‬‬ ‫انتصار مسيحيي شبه جزيرة أيبيريا على المسلمين في وقعة‬ ‫العقاب (الس نفاس‬ ‫دي طلوسا)‪.‬‬ ‫منح المجموعة األولى من االمتيازات لجامعة أكسفورد‪.‬‬ ‫إقرار النظام األساسي لجامعة باريس‪ .‬انعقاد المجمع الديني‬ ‫بمدينة التران‪:‬‬

‫‪222‬‬

‫‪1216‬‬ ‫‪1229-1231‬‬ ‫‪1231‬‬ ‫بعد ‪1232‬‬ ‫‪1238‬‬ ‫‪1241‬‬ ‫‪1248‬‬ ‫‪1258‬‬ ‫‪1252-1259‬‬ ‫‪1253‬‬ ‫‪1261‬‬ ‫‪1270‬‬ ‫‪1276‬‬ ‫‪1280‬‬ ‫‪1283‬‬ ‫‪1284‬‬ ‫‪1290‬‬ ‫‪1298‬‬ ‫مطلع القرن‬ ‫الرابع عشر‬ ‫‪1306‬‬ ‫‪1309‬‬ ‫‪1315-1317‬‬ ‫‪1321‬‬

‫تسوية مسألة الزواج ومسألة االعتراف‪ ،‬واتخاذ جملة إجراءات‬ ‫ضد العنصرية والهرطقة‪.‬‬ ‫تأسيس طائفة اإلخوان الدومينيكان‪.‬‬ ‫إعالن اإلضراب قي جامعة باريس‪.‬‬ ‫غريغوري التاسع ينظم حملة التفتيش‪.‬‬ ‫مسلمو األندلس يشيدون قصر الحمراء‪.‬‬ ‫مسيحيو أرغونة يستولون على مدينة بلنسية‪.‬‬ ‫المغول يغيرون على سليزيا وبولندا وهنغاريا‪.‬‬ ‫مسيحيو قشتالة يستولون على مدينة اشبيلية‪.‬‬ ‫بداية سك عملة ذهبية في جنوة وفلورنسا‪.‬‬ ‫توماس األكويني يلقي محاضراته بجامعة باريس‪.‬‬ ‫روبير دو سوربون يشيد "كوليجا" لتدريس الالهوت للطلبة‬ ‫الفقراء‪.‬‬ ‫سقوط اإلمبراطورية الالتينية بالقسطنطينية‪.‬‬ ‫ظهور أول إشارة تتعلق بخريطة بحرية خاصة بالبحر المتوسط‪.‬‬ ‫رايموند لول يشيد "كوليجا" لتدريس اللغة العربية ألعضاء‬ ‫البعثات التبشيرية‪.‬‬ ‫اندالع موجة إضرابات‪ ،‬وحركات احتجاج في مدن بروج ودواي‬ ‫وتورناي وروان‬ ‫وأورليان وبيزيي‪.‬‬ ‫الفرسان التوتونيون ينتهون من غزو بروسيا‪.‬‬ ‫بداية سك الدوقة الذهبية في البندقية‪.‬‬ ‫طرد اليهود من أنجلترا‪.‬‬ ‫بداية عملية الربط البحري بين جنوة وأنجلترا والفالندر‪.‬‬ ‫بداية انتشار سندات التبادل في ايطاليا‪.‬‬ ‫طرد اليهود من فرنسا‪.‬‬ ‫بداية فترة اتخاذ مدينة أفنيون مقرا للبابوية‪.‬‬ ‫حدوث مجاعة كبرى بأوربا وبداية ظهور مؤشرات أزمة القرن‬ ‫الرابع عشر‪.‬‬ ‫مقتل مجموعة من المصابين بداء الجذام‪ .‬مقتل عدد من اليهود‬ ‫المتهمين بتسميم اآلبار‪.‬‬

‫‪223‬‬

‫‪1337‬‬ ‫‪1347-1348‬‬ ‫سنة ‪.1720‬‬ ‫‪1348‬‬ ‫‪1353‬‬ ‫‪1358‬‬ ‫‪1378‬‬ ‫‪1381‬‬ ‫‪1382‬‬ ‫‪1389‬‬ ‫‪1397‬‬ ‫‪1414-1418‬‬ ‫‪1439-1443‬‬ ‫‪1450‬‬ ‫‪1453‬‬ ‫‪1458-1464‬‬ ‫‪1458-1471‬‬ ‫‪1469‬‬ ‫‪1475‬‬ ‫‪1476‬‬ ‫‪1492‬‬ ‫‪1494‬‬

‫بداية فصول حرب المائة سنة بين فرنسا وأنجلترا‪.‬‬ ‫بداية انتشار وباء الطاعون األسود الذي استمرت تداعياته حتى‬ ‫اندالع حركة "البروغوم" تحت تأثير الطاعون األسود‪.‬‬ ‫إقامة أول مركز تركي يغاليبولي االيطالية‪.‬‬ ‫انتفاضة سكان باريس ضد ممثل الملك‪ .‬مقتل اتيان مارسيل‪.‬‬ ‫اندالع انتفاضة الفالحين‬ ‫في مناطق شمال شرق غاليا‪.‬‬ ‫بداية الشقاق الديني الكبير‪ .‬اندالع انتفاضة "الشيامبي" في‬ ‫فلورنسا‪ .‬البابا أوربان‬ ‫السادس يعود إلى روما‪.‬‬ ‫انتفاضة وات تايلور وأتباعه بأنجلترا‪.‬‬ ‫إدانة جون وايكليف بتهمة الهرطقة‪.‬‬ ‫األتراك العثمانيون ينتصرون على الصربيين بكوسوڤو‪.‬‬ ‫الممالك اإلسكندناڤية تنجح في إقامة اتحاد الكلمار‪.‬‬ ‫انعقاد المجمع الديني بكونستانس‪ .‬إدانة يوهان هوس بتهمة‬ ‫الهرطقة وصدور حكم‬ ‫اإلعدام في حقه‪.‬‬ ‫نجاح المجمعين الدينيين المنعقدين بكل من روما وفلورنسا في‬ ‫وضع حد للشقاق الديني‪.‬‬ ‫ﯕوتنبرﯕ ينجح في اختراع الطباعة‪.‬‬ ‫استيالء األتراك العثمانيين على القسطنطينية‪.‬‬ ‫بيوس الثاني المتحمس "لوحدة" أوربا يعتلي كرسي البابوية‪.‬‬ ‫فترة حكم جورج بوديبراد لمملكة بوهيميا‪ ،‬وإعالنه عن مشروع‬ ‫وحدة أوربا‪.‬‬ ‫زواج ملوك اسبانيا الكاثوليك‪.‬‬ ‫توقيع معاهدة بكيني ونهاية حرب المائة سنة‪.‬‬ ‫زواج مكسمليان ملك النمسا بماري حاكمة بورغونديا‪.‬‬ ‫استيالء الملوك الكاثوليك على غرناطة‪ ،‬ونهابة الوجود اإلسالمي‬ ‫بشبه جزيرة أيبيريا‪.‬‬ ‫االسبانيون والبرتغاليون يقتسمون العالم بموجب معاهدة‬ ‫تورديسيالس‪.‬‬

‫‪224‬‬

‫‪1495‬‬

‫شارل الثامن ملك فرنسا يغزو مملكة نابولي‪ ،‬واندالع الحروب‬ ‫االيطالية‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬أبرز األحداث خارج أوربا‬ ‫أ) األحداث في أمريكا‬ ‫‪700-800‬‬ ‫‪800-925‬‬ ‫‪1000-1200‬‬ ‫‪1370‬‬ ‫القرن الخامس‬ ‫عشر‬ ‫‪1492‬‬

‫فترة أوج حضارة المايا في أمريكا الوسطى‪.‬‬ ‫انهيار حضارة المايا‪.‬‬ ‫فترة أوج ثقافة التولتيك بالمكسيك‪.‬‬ ‫األزتيك يشيدون مدينة تيوتيهواكان بالمكسيك‪.‬‬ ‫تعاقب الكنفدراليات األزتيكية بالمكسيك‪.‬‬ ‫كريستوف كلومبوس يكتشف أمريكا‪.‬‬

‫ب) األحداث في إفريقيا‬ ‫بين القرنين‬ ‫السادس والثامن‬

‫فترة أوج مملكة الزولو في زمبابوي‪ .‬العرب يقومون بفتح مصر‬ ‫ويشيدون مدينة‬ ‫الفسطاط (القاهرة) التي اتخذها الفاطميون فيما بعد عاصمة لهم‪.‬‬ ‫العرب ينتهون من فتح مناطق إفريقيا الشمالية‪.‬‬ ‫‪709‬‬ ‫حوالي سنة ‪ 800‬قيام مملكة كانيم في منطقة بحيرة التشاد‪.‬‬ ‫عرب بني هالل يقومون بغزو وتخريب القيروان عاصمة‬ ‫‪1057‬‬ ‫األغالبة‪.‬‬ ‫المرابطون يشيدون مدينة مراكش ويقومون بالجواز نحو‬ ‫‪1062‬‬ ‫األندلس‪.‬‬ ‫السلطان صالح الدين يعيد إقرار المذهب السني بمصر‪ ،‬ويؤسس‬ ‫‪1171‬‬ ‫مملكة األيوبيين‪.‬‬ ‫مطلع القرن‬ ‫الملك الليبيال حاكم إثيوبيا يضطر تحت ضغط المسلمين إلى نقل‬ ‫الثالث عشر‬ ‫عاصمة مملكته من أكسوم إلى مدينة روحا‪.‬‬

‫‪225‬‬

‫‪1250‬‬ ‫القرن الرابع‬ ‫عشر‬ ‫‪1312-1337‬‬ ‫‪1415‬‬ ‫‪1418‬‬ ‫‪1477‬‬ ‫‪1488‬‬

‫نجاح المماليك في االنفراد بحكم مصر‪.‬‬ ‫قيام مملكة بورنو في المناطق الواقعة غربي بحيرة تشاد‪.‬‬ ‫فترة أوج مملكة مالي المسلمة‪.‬‬ ‫غزو البرتغاليين لمدينة سبتة‪.‬‬ ‫استقرار البرتغاليين بجزر ماديرا‪.‬‬ ‫االسبانيون ينجحون في االستيالء على جزر الكناري‪.‬‬ ‫برطلومي دياز يكتشف رأس الرجاء الصالح‪.‬‬

‫ج) األحداث في الشرق األقصى‬ ‫‪320-480‬‬ ‫‪581-618‬‬

‫‪618-907‬‬ ‫‪710‬‬ ‫‪777‬‬ ‫‪794‬‬ ‫‪858‬‬ ‫‪907‬‬ ‫بسط‬ ‫‪960-1279‬‬ ‫‪1024‬‬ ‫‪1181-1218‬‬ ‫‪1192‬‬ ‫‪1206-1526‬‬ ‫‪1206-1279‬‬

‫فترة سيادة أسرة الﯕوبطا في مناطق شمال الهند‪.‬‬ ‫يانغ كين ينجح في تحقيق وحدة الصين‪ ،‬ويتخذ عاصمة جديدة‪،‬‬ ‫ويشرع في مد القنوات‬ ‫وبناء األسوار‪.‬‬ ‫فترة حكم أسرة تانك‪ .‬تقوية اإلدارة المركزية‪ .‬انتصارات في‬ ‫كوريا‪ .‬االعتراف‬ ‫باستقالل إقليم التيبت‪ .‬انتشار الديانة البوذية‪.‬‬ ‫مدينة نارا تتخذ عاصمة جديدة في اليابان‪.‬‬ ‫اتخاذ البوذية كديانة رسمية في اليابان‪.‬‬ ‫مدينة هيان (كيوطو) تتخذ كعاصمة جديدة في اإلمبراطورية‬ ‫اليابانية‪.‬‬ ‫بداية هيمنة الفوجيوارا في اليابان‪.‬‬ ‫أسرة الكوال تحل محل أسرة البالفا في حكم الهند‪ ،‬وتنجح في‬ ‫سيطرتها على سيالن وماليزيا‪.‬‬ ‫فترة الفوضى في عهد حكم "األسر الخمس" في الصين‪.‬‬ ‫سك المجموعة األولى من النقود الورقية في الصين‪.‬‬ ‫فترة أوج إمبراطورية الخمير تحت حكم جيافارمان السابع‪.‬‬ ‫المسلمون يبسطون سيطرتهم على مناطق شمال الهند‪.‬‬ ‫فترة سيادة السلطنات اإلسالمية بدلهي‪.‬‬ ‫نشأة إمبراطورية المغول‪.‬‬

‫‪226‬‬

‫‪1245-1254‬‬ ‫بعض‬ ‫‪1279-1368‬‬ ‫‪1314-1330‬‬ ‫‪1371‬‬ ‫‪1400-1700‬‬ ‫‪1470-1480‬‬

‫سفر أفراد تجار من أسرتي بولو وماركو إلى الصين‪ ،‬والى‬ ‫مناطق جنوب شرق آسيا‪.‬‬ ‫فترة سيادة أسرة إيوان المغولية في الصين‪ .‬اتخاذ بكين عاصمة‬ ‫منذ سنة ‪.1264‬‬ ‫سفر رجل الدين الفرنسسكاني أدوريك إلى بعض مناطق الهند‬ ‫والصين‪.‬‬ ‫حكام الصين يصدرون قرارا يمنع الصينيين من السفر خارج‬ ‫الصين‪.‬‬ ‫فترة حكم أسرة المينج للصين‪.‬‬ ‫فترة تشييد أسوار شاهقة وطويلة في مناطق شمال الصين‪.‬‬

‫د) األحداث في الشرق األدنى اإلسالمي‬ ‫‪622‬‬ ‫‪630‬‬ ‫‪632‬‬ ‫‪634‬‬ ‫‪636-724‬‬ ‫‪638‬‬ ‫‪661‬‬ ‫‪680‬‬ ‫‪762‬‬ ‫‪1055‬‬ ‫‪1071‬‬ ‫‪1099‬‬ ‫‪1148‬‬ ‫‪1187‬‬

‫هجرة الرسول (ص) من مكة إلى المدينة‪.‬‬ ‫اإلمبراطور البيزنطي هركليوس ينتصر على الفرس‪ ،‬ويعيد‬ ‫"الصليب الحقيقي" إلى القدس‪.‬‬ ‫وفاة الرسول محمد‪( .‬ص)‪.‬‬ ‫المسلمون يخرجون من الجزيرة العربية في سياق عمليات الفتح‪.‬‬ ‫بداية عمليات فتح‬ ‫مناطق شمال إفريقيا‪.‬‬ ‫عصر الخالفة األموية‪.‬‬ ‫سيطرة المسلمين على القدس‪.‬‬ ‫مقتل على بن أبي طالب‪.‬‬ ‫مقتل الحسين بن علي في كربالء‪ ،‬وظهور التشيع‪.‬‬ ‫بداية عصر الخالفة العباسية ببغداد‪.‬‬ ‫السالجقة األتراك يستولون على بغداد ويعيدون إقرار المذهب‬ ‫السني‪.‬‬ ‫انتصار السالجقة األتراك على البيزنطيين في وقعة مالذ كرد‪.‬‬ ‫استيالء الصليبيين على القدس‪.‬‬ ‫فشل الحملة الصليبية الثانية‪.‬‬ ‫انتصار صالح الدين األيوبي على المسيحيين في وقعة حطين‬ ‫واستعادته للقدس‪.‬‬

‫‪227‬‬

‫‪1191‬‬ ‫‪1250-1254‬‬ ‫‪1291‬‬ ‫‪1354-1403‬‬

‫فشل الحملة الصليبية الثالثة‪ ،‬ونجاح الصليبيين في االستقرار‬ ‫بقبرص لفترة محدودة‪.‬‬ ‫فترة إقامة الملك سان لويس باألرض المقدسة‪ .‬فشل حمالت سان‬ ‫لويس على مصر‬ ‫سنة ‪ ،1250‬وعلى تونس سنة ‪.1270‬‬ ‫نجاح الماليك في استعادة عكا آخر معقل مسيحي بفلسطين‪.‬‬ ‫السلطان العثماني بايزيد األول يغزو اإلمارات التركية بمنطقة‬ ‫األناضول ويقوم بتوحيدها‪.‬‬

228

‫ببﻠيوغرافيا موضوعاتية‬ )‫(منتقاة من قبل مؤلف الكتاب‬

‫ ورغم طابعها‬.‫يتضمن كتاب جاك لو ﯕوف ببليوغرافيا موضوعاتية منتقاة‬ ،‫ ونظرا لطولها‬.‫ فإنها تتجاوز األلف عنوان و"تحتل" خمسا وأربعين صفحة‬،‫االنتقائي‬ ‫ تتضمن أهم العناوين التي لها‬،‫وجدنا أنفسنا مضطرين إلى اختزالها في بضع صفحات‬ .‫صلة بموضوع الكتاب مباشرة‬ ‫ دراسات حول أوربا (وحول فكرة أوربا) في العصر الوسيط‬:‫أوال‬ - Bloch, Marc,"Projet d’un enseignement d’histoire comparée des sociétés européennes", 16p., in Dernières nouvelles de Strasbourg (1934), repris in Etienne Bloch et Marc Bloch (éd.), Histoire et historiens, Paris, Armand Colin, 1995. - Bloch, Marc, "Problèmes d’Europe",Annales HES, VII, 1935, pp. 471479. - Braudel, Fernand, L’Europe. L’espace, le temps, les hommes. Paris, Arts et métiers graphiques, 1987. - Carpentier, Jean et Lebrun, François (éd.), Histoire de l’Europe. Paris, Seuil, 1990. - Chabod, Federico, Storia dell’idea d’Europa. Bari, Laterza, 1961. Elias, Norbert, La dynamique de l'Occident, Paris, Calmin-Lévy, 1975. Febvre, Lucien, L’Europe. Genèse d’une civilisation (Cours professé au Collège de France en 1944-1945), préface de Marc Ferro. Paris, Perrin, 1999. - Le Goff, Jacques, La Vieille Europe et la nôtre. Paris, Seuil, 1994. - Pagden, Anthony (éd.), The Idea of Europe. From Antiquity to the European Union, The Johns Hopkins University, Woodrow Wilson Center Press, 2002. - Villain-Gandossi, Christiane (éd.), L’Europe à la recherche de son identité,

229 Paris, Editions du Comité des travaux historiques et scientifiques, 2002 (notamment Robert Fossier, "L'Europe au Moyen Age", pp. 35-40).

‫ أوربا والعصر الوسيط‬:‫ثانيا‬ - Barraclough, Geoffrey (éd.), Eastern and Western Europe in the Middle Age, Londres,Thames and Hudson, 1970. - Bartlett, Robert, The Making of Europe: Conquest, Colonization and Cultural Change, 950-1350. Londres, Allen Lane, 1993. - Bosl, Karl, Europa im Mittelalter. Vienna-Heidelberg: Carl Uebersenter, 1970. - Compagnon, Antoine et Seebacher, Jacques, L’Esprit de l’Europe, Paris, Flammarion, 1993. 3 vols. - Duroselle, Jean-Baptiste, L’Idée d’Europe dans l’histoire, Paris, Denoël, 1965. - Edson, Evelyn, Mapping Time and Space: How Medieval Mapmakers Viewed their World, The British Library Studies in Map History, 1998, vol. I. - Geremek, Bronislaw, The Common Roots of Europe. Cambridge, Polity Press, 1991. - Hay, Denys, The Emergence of an Idea: Europa. Edinburgh University Press, 1957. - Hersant, Yves et Durand-Bogaert, Fabienne, Europes. De l’Antiquité au XXe siècle. Anthologie critique et commentée, Paris, Robert Laffont, 2000. - Le Goff, Jacques, L’Europe racontée aux jeunes. Paris, Seuil, 1996. - Mackay, Angus et Ditchburn, David, Atlas of Medieval Europe. Londres, Routledge, 1996. - Menestò, Enrico (éd.), Le radici medievali della civilta europea (Congrès d'Ascoli Piceno, 2000). Spolète, Centro italiano di studi sull’alto medioevo, 2002. - Mitterauer, Michael, Warum Europa? Mittelalterliche Grundlagen eines Sonderwegs. Munich, Beck, 2003. - Past and Present, numéro spécial, nov. 1992 (en particulier Karl Leyser,"Concept of Europe in the Early and High Middle Ages", pp. 2547).

230 - Pastoureau, Michel et Schmitt, Jean-Claude, L’Europe. Mémoire et Emblèmes, Paris, les Editions de l’Epargne, 1990. - Storia d’Europa. 3. Il Medioevo, secoli V-XV,Turin, Einaudi, 1994.

‫ دراسات عامة‬.‫ العصر الوسيط‬:‫ثالثا‬ - Borst, Arno, Lebensformen im Mittelalter. Frankfurt-Berlin, Ullstein, 1973. - Dalarun, Robert (éd.), Le Moyen Age en lumière. Paris, Fayard, 2002. - Delort, Robert, Le Moyen Age. Histoire illustrée de la vie quotidienne. Lausanne, Edita, 1972. nelle. éd. La Vie au Moyen Age, Paris, Seuil, 1981. - Gatto, Ludovico, Viaggio intorno al concetto di Medioevo, Rome, Bulzoni, 1992. - Gourevitch, Aaron J., Les Catégories de la culture médiévale [1972] Trad.fr., Paris, Gallimard, 1983. - Heer, Friedrich, L’Univers du Moyen Age, [1961] Trad. Fr., Paris, Fayard, 1970 - Kahl, Hubert D.,"Was bedeutet "Mittelalter" ?", Seculum, 40, 1989, pp. 15-38. - Le Goff, Jacques, La Civilisation de l’Occident médiéval, Paris, Arthaud, 1964. - Le Goff, Jacques, "Pour un long Moyen Age", in L’Imaginaire médiéval, Paris, Gallimard, 1985, pp. 7-13. - Le Goff, Jacques (éd.), L’Homme médiéval, éd. Italienne, Bari, Laterza, 1987, version française, Paris, Seuil, 1989. - Linehan, Peter et Nelson Janet L. (éd.), The Medieval World. LondresNew York, Routledge, 2001. - Lopez, Robert, Naissance de l’Europe. Paris, Armand Colin, 1962. - Mehu, Didier, Gratia Dei, les chemins du Moyen Age, Quebec, Fides, 2003. - Pirenne, Henri, L’Histoire de l’Europe des invasions au XVe siècle, ParisBruxelles, 1936. - Sergi, Giuseppe, L’Idée de Moyen Age. Entre sens commun et pratique historique, [1998]. Paris, Flammarion, 2000. - Southern Richard W., The Making of the Middle Ages, Londres, 1953. - Tabacco Giovanni, et Merlo Grado Giovanni, La civilità'europea nella storia mondiale, Medievo, V-XV, secolo, Bologne, II, Mulino, 1981.

231

‫ العصر الوسيط بعد العصر الوسيط‬:‫رابعا‬ - Amalvi, Christian, Le Goût du Moyen Age, Paris, Plon, 1996. - Amalvi, Christian, "Moyen Age", in Jacques Le Goff et Jean-Claude Schmitt, Dictionnaire raisonné de l'Occident médiéval, Paris, Fayard, 1999, pp. 790-805.. - Apprendre le Moyen Age aujourd’hui, numéro spécial de Médiévales, no.13 automne, 1987. - Boureau, Alain, "Moyen Age", in Gauvard Claude, de Libera Alain, Zink Michel, Dictionnaire du Moyen Age, Paris, P.U.F.,2002. - Branca, Vittore (éd.), Concetto. Storia. Miti e immagini del medioevo, Florence, Sansoni, 1973. - Capitani, Ovidio, Medioevo passato prossimo. Appunti storiografici, tra due guerre e molte crisi, Bologne, Il Mulino, 1979. - Eco, Umberto, "Dieci modi di sognare il medioevo", in Sugli sprechi e altri saggi, Milan, Bompiani, 1985, pp. 78-89. - Eco, Umberto, "Le Nouveau Moyen Age", in La Guerre du faux, Paris, Grasset, 1985, pp. 87-116. - Europe, numéro spécial, Le Moyen Age maintenant, octobre, 1983. - Fuhrmann, Horst, Uberall ist mittelalter. Von der Gegenwart einer vergangenen Zeit. Munich, Beck, 1996. Goetz, Hans-Werner (éd.), Die Aktualitat des Mittelalters. Bochum, D. Winckler, 2000. - Guerreau, Alain, L’Avenir d’un passé incertain. Quelle histoire du Moyen Age au XXIe siècle?, Paris, Seuil, 2001. - Heinzle, Joachim, Modernes Mittelalter. Neue Bilder einer popularen Epoche, Frankfurt-Leipzig, Insel, 1994. - Le Goff, Jacques et Lobrichon, Guy (éd.), Le Moyen Age aujourd’hui. Trois regards contemporains sur le Moyen Age: histoire, théologie, cinéma (Actes du colloque de Cerisy-la-Salle,juillet, 1991), Paris, Cahiers du Léopard d’Or, 1998. - Lire le Moyen Age, (éd.) Alain Corbellari et Christopher Lucken, numéro spécial de la revue, Equinoxe, no. 16, automne 1996.

232 - Moyen Age, mode d’emploi, numéro spécial de Médiévales, no. 7, automne 1984.

‫ العصر الوسيط األعﻠى‬:‫خامسا‬ - Banniard, Michel, Genèse culturelle de l’Europe, Ve-VIIIe siècle, Paris, Seuil, 1989. - Brown, Peter, L'essor du christianisme occidentale. Triomphe et diversité, [1996], Trad. Fr., Paris, Seuil, 1989. - Herrin, Judith, The Formation of Christendom, Princeton, Princeton University Press, 1987. - Hillgarth, J. N. (éd.), The Conversion of Western Europe, 350-750. Englewood Cliffs, Prentice Hall, 1969. - Leguay, Jean-Pierre, L’Europe des Etats barbares (Ve-VIIIe siècle), Paris, Belin, 2003. - Pohl, Walter, Die Volkerwanderung. Eroberung und Integration, StuttgartBerlin, Cologne, Kohlhammer, 2002. - Pohl, Walter et Diesenberger, Maximilien (éd.), Integration und Herrschaft. Ethnische Identitaten und soziale Organisation im Frumittelalter, Vienne, Verlag der Wissenschaften, 2002.

‫ شارلمان والحضارة الكارولنجية‬:‫سادسا‬ - Barbero, Alessandro, Carlo Magno. Un padre dell’Europa. Rome-Bari, Laterza, 2000 - Braunfels, Wolfgang (éd.), Karl der Grosse. Lebenswerk und Nachleben, Dusseldorf, 1965-1968, 5 vols. - Ehlers, Joachim, Charlemagne l’Européen entre la France et l’Allemagne, Stuttgart, Thorbecke, 2001. - Favier, Jean, Charlemagne. Paris, Fayard, 1999. - Fichtenau, Heinrich, L’Empire carolingien. Paris, 1958. - Intellectuels et Artistes dans l’Europe carolingienne, IXe-XIe siècle, Auxerre, Abbaye Saint-Germain, 1990. - McKitterick, Rosamund, The Carolingians and the Written Word, Cambridge, Cambridge University Press, 1989.

233 - Morissey, Robert, L’Empereur a la barbe fleurie. Charlemagne dans la mythologie et l’histoire, Paris, Gallimard, 1997. - Nelson, Janet L., "Charlemagne: Father of Europe?", Quaestiones Medii aevi novae, vol. 7, 2002, pp. 3-20. - Pirenne, Henri, Mahomet et Charlemagne, Paris-Bruxelles, 1937. - Riche, Pierre, Les Carolingiens. Une famille qui fit l’Europe, Paris, Hachette, 1983. - Werner, Karl-Ferdinand, Karl der Grosse oder Charlemagne? Von der Aktualitat einer uberholten Fragestellung, Munich, Verlag der bayerischen Akademie der Wissenschaften, 1995.

‫ سنة ألف‬:‫سابعا‬ - Bourin, Monique et Parisse, Michel, L’Europe de l’an Mil, Paris, Livre de Poche, 1999. - Duby, Georges et Frugoni, Chiara, Mille e non piu Mille. Viaggio tra le paure di fine millennio, Milan, Rizzoli, 1999. - Gerbert l’Européen (Actes du colloque d'Aurillac), Aurillac, Editions Gerbert, 1997. - Gieysztor, Aleksander, L’Europe nouvelle autour de l’an Mil. La papauté, L’Empire et les "nouveaux venus", Rome, Unione internazionale degli Istituti di archeologia storia, e storia dell’arte, 1997. - Guyotjeannin, Olivier et Poulle, Emmanuel (éd.), Autour de Gerbert d’Aurillac, le pape de l’An Mil, Paris, Ecole des Chartes, 1996. - Riche, Pierre (éd.), L’Europe de l’An Mil. Saint-Leger-Vauban, Zodiaque, 2001.

‫ نهضة القرن الثاني عشر‬:‫ثامنا‬ - Benson, R. L. et Constable, Giles (éd.), Renaissance and Renewal in the Twelfth Century, Oxford, Clarendon Press, 1982. - Haskins, C. H., The Renaissance of the Twelfth Century, Cambridge Harvard University Press, 1927. - Le Goff, Jacques, "What Does the Twelfth Century Renaissance Mean?", in Linehan-Nelson, pp. 635–47. - Moore, Robert Ian., The First European Revolution (c. 970–1215), Oxford, Blackwell, 2000.

234 - Ribemont, Bernard, La Renaissance du XIIe siècle et l’Encyclopédisme, Paris, Honoré Champion, 2002.

‫ القرن الثالث عشر‬:‫تاسعا‬ - Genicot, Léopold, Le XIIIe siècle européen. Paris, P.U.F., 1968. - Le Goff, Jacques, L’Apogée de la chrétienté vers 1180-vres 1330, Paris, Bordas, 1982. - Le Goff, Jacques, "Du ciel sur la terre: la mutation des valeurs du XIIe au XIIIe dans l'Occident médiéval", in Odysseus 1990 (en Russe), repris in "Quarto", Le Roi, le Saint, Paris, Gallimard, 2003.

‫ القرنان الرابع عشر والخامس عشر‬:‫عاشرا‬ - Abel, Wilhelm, Die Wustungen des ausgehenden Mittelalters, Stuttgart, 1955. - Gauvard, Claude, "De grace especial" Crime, Etat et société en France à la fin du Moyen Age, Paris,Publications de la Sorbonne, 1991, 2 vol. - Graus, Frantisek, Pest, Geiszler, Juenmorde. Das 14. Jahrhundert als Krisenzeit, Gottingen, Vandenhoeck & Ruprecht, 1988. - Hilton, Rodney H., Bond Men Made Free: Medieval Peasant Movements and the English Rising of 1381,Londres, Methuen, 1973. - Hilton, Rodney H. et Aston, T. H., The English Rising of 1381. Cambridge, Past and Present, 1984. - Jordan, William Chester, The Great Famine: Northern Europe in the Early Fourteenth Century, Princeton, Princeton University Press, 1996. - Leff, Gordon, The Dissolution of the Medieval Outloo, An Essay on Intellectual and Spiritual Change in the Fourteenth Century; New York, Harper and Row, 1976. - Malowist, Marian, Croissance et répression en Europe, XIVe-XVIIe siècle, Paris, Armand Colin, 1972. - Martines, Lauro (éd.), Violence and Civil Disorder in Italian Cities, 12001500. Berkeley–Los Angeles, University of California Press, 1972. - Mollat, Michel et Wolff, Philippe, Ongles bleus, Jacques et Ciompi. Les révolutions populaires en Europe aux XIVe et XVe siècles, Paris, CalmannLévy, 1970.

235 - Stella, Alessandro, La Révolte des Ciompi. Les hommes, les lieux, le travail, Paris, HESS, 1993. - Valdeon Baruque, Julio, Los conflictos sociales en el reino de Castilla en los siglos XIV y XV, Madrid, Siglo veintiuno, 1975. - Villages désertés et Histoire économique, XIe-XVIIIe siècle, Paris, SEVPEN, 1965. - Wolff, Philippe, Automne du Moyen Age ou Printemps des temps nouveaux? L’économie européenne aux XIVe et XVe siècles. Paris, Aubier, 1986.

‫ نشأة الدولة الحديثة‬:‫حادي عشر‬ - Coulet, Noël et Genet, Jean-Pierre (éd.), L’Etat moderne: Territoire, droit, système poli- tique, Editions du CNRS, 1990. - Culture et Ideologie dans la genèse de l’Etat moderne (Table ronde tenue à Rome en 1984), Ecole française de Rome, 1985. - Genet, Jean-Pierre (éd.), L’Etat moderne. Genèse. Bilans et perspectives. Paris, Editions du CNRS, 1990. - Guenee, Bernard, L’Occident aux XIVe et XVe siècles. Les Etats. Paris, PUF, 1971. - Strayer, Joseph R., On the Medieval Origins of the Modern State, Princeton, Princeton University Press, 1970. - Wilks, M. J., The Problem of Sovereignty in the Later Middle Ages, Cambridge,Cambridge University Press, 1963.

‫ اإلمبراطورية‬:‫ثاني عشر‬ - Ehlers, Joachim, DieEntstehungdes deutschen Reiches, Munich, Oldenbourg, 1994. - Folz, Robert, L’Idée d’Empire en Occident du Ve au XIVe siècle, Paris, Aubier, 1972. - Parisse, Michel, Allemagne et Empire au Moyen Age. Paris, Hachette, 2002. - Rapp, Francis, Le Saint Empire romain germanique, d’Otton le Grand à Charles Quint, Paris,Tallendier, 2000.

236

‫ الكنيسة والبابوية‬:‫ثالث عشر‬ - Congar, Yves, L’Ecclésiologie du Haut Moyen Age,Paris, 1968. - Guerreau, Alain, Le Féodalisme, un horizon théorique, Paris, Le Sycomore, 1980, - Le Bras, Gabriel, Institutions ecclésiastiques de la chrétienté médiévale (section 12 de "Histoire générale de l’Eglise", Paris, Fliche et Martin. - Lubac, Henri de, Corpus mysticum. L’Eucharistie et l’Eglise au Moyen Age, étude historique. Paris, 1944. - Southern, Richard W., Western Society and the Church in the Middle Ages, Har- Mondsworth,Penguin, 1970. - Barraclough, Geoffrey, The Medieval Papacy, Londres, Thames et Hudson, 1968. - De Rosa, Gabriele et Cracco, Giorgio, Il Papato e l’Europa. Suveria Mannelli, Rubbetino Editore, 2001. - Guillemain, Bernard, Les Papes d’Avignon, 1309-1376, Paris, Cerf, 1998. - Miccoli, Giovanni, Chiesa gregoriana, Rome, Herder, 1999. - Pacaut, Marcel, Histoire de la Papauté, Paris, Fayard, 1976. - Paravicini Bagliani, Agostino, La Cour des papes au XIIIe siècle, Paris,Hachette, 1995. - Paravicini Bagliani, Agostino, Il trono di Pietro. L’universalita del papato da Alessandro III a Bonifazio VIII, Rome, La Nuova Italia Scientifica, 1996.

‫ القصور والحصون‬:‫رابع عشر‬ - Brown, A. R., English Castles, Londres, Batsford, 1976. - Chateaux et peuplements en Europe occidentale du Xe au XVIIIe siècle, Auch, Centre culturel de l’abbaye de Flaran, 1980. - Comba, Rinaldo and Settia, Aldo, Castelli, storia e archeologia, Turin, Turingraf, 1984. - Debord, Andre, Aristocratie et pouvoir. Le rôle du chateau dans la France médiévale, Paris, Picard, 2000. - Fournier, Gabriel, Le Chateau dans la France médiévale, Paris, AubierMontaigne, 1978.

237 - Gardelles, Jacques, Le Château féodal dans l’histoire médiévale, Strasbourg, Publitotal, 1988. - Mesqui, Jean, Chateaux et enceintes de la France médiévale. de la défense à la residence, Paris, Picard, 1991-1993., 2 vol.

‫ الحرب والحروب الصﻠيبية‬:‫خامس عشر‬ - Contamine, Philippe, La Guerre au Moyen Age. Paris, P.U.F., 1980. - Duby, Georges, Le Dimanche de Bouvines,Paris, Gallimard, 1973. - Flori, Jean, La Guerre sainte. La formation de l’idée de croisade dans l’Occident chrétien. Paris, Aubier, 2001. - Russell, F. H., The Just War in the Middle Ages, Cambridge, Cambridge University Press, 1975. . - Alphandery, Pierre et Dupront, Alphonse, La Chrétienté et l’idée de croisade, Paris, Albin Michel, 1954, 2 vol. - Dupront, Alphonse, Du sacre, croisades et pèlerinages, images et langages. Paris, Gallimard, 1987. - Flori, Jean, Les Croisades. Origines, réalisation, institutions, déviations. Paris, Jean-Paul Gisserot, 2001. - Flori, Jean, Guerre sainte, Jihad, Croisade. Violence et religion dans le christianisme et l’islam. Paris, Seuil, 2002. - Hillenbrand, Carole, The Crusades: Islamic Perspectives, Edinburgh, Edinburgh Univer sity Press, 1999. - Kedar, Benjamin Z., Crusade and Mission, European Approaches toward the Muslims. Princeton, Princeton University Press, 1984. - Lobrichon, Guy, 1099, Jérusalem conquise. Paris, Cerf, 1998. - Riley-Smith, Jonathan, The Crusades. Londres, Athlone Press, 2001. - Siberry, Elizabeth, Criticism of Crusading, 1095-1274, Oxford, Clarendon Press, 1985.

‫‪238‬‬

‫فهرس المحتويات‬

‫اعتراف وتقدير ‪3..............................................................................‬‬ ‫تقديم ‪4 ........................................................................................‬‬ ‫مقدمة ‪10 ... ...................................................................................‬‬ ‫المقدمات الممهدات (ما قبل العصر الوسيط) ‪14 .. ......................................‬‬ ‫‪ )1‬إرث حقبة ما قبل التاريخ ‪ :‬الجغرافيا قبل كل شيء ‪15 .............................‬‬ ‫‪ )2‬إرث العصر القديم ‪16 . ..................................................................‬‬ ‫‪ )3‬سيناريو النشأة القروسطوية ألوربا ‪19 ...............................................‬‬ ‫الفصل األول‬ ‫تصور أوربا (بين القرنين الرابع والثامن) ‪21 .. ............ ..........................‬‬ ‫‪ )1‬القديس أوغسطين وعملية التمسيح ‪22 .............................................‬‬ ‫‪ )2‬رواد ثقافة العصر الوسيط ‪23 ........ .................................................‬‬ ‫‪ )3‬ﯕريﯕواراألكبر ‪24 .......................................................................‬‬ ‫‪ )4‬الغزوات والتثاقف ‪26 ...................................................................‬‬ ‫‪ )5‬حكومة األساقفة ‪28 ........... ..........................................................‬‬ ‫‪ )6‬أبطال جدد ‪28 ...........................................................................‬‬ ‫‪ )7‬قياس جديد للزمن ‪29 .....................................................................‬‬ ‫‪ )8‬إعادة تشكيل المجال ‪30 ..................................................................‬‬ ‫‪ )9‬قطبان طاردان ‪ :‬بيزنطة واإلسالم واالختيار بين الصور ‪31 .. .. .. .............‬‬ ‫‪ )10‬أريفة أوربا ‪32 ............ .. ..........................................................‬‬ ‫‪ )11‬الممالك والقوانين البربرية ‪33 .......................................................‬‬

‫‪239‬‬

‫الفصل الثاني‬ ‫أوربا مجهضة ‪ :‬العالم الكارولنجي (بين القرنين الثامن والعاشر) ‪34 .............‬‬ ‫‪ )1‬صعود الكارولنجيين ‪34 .................................................................‬‬ ‫‪ )2‬شارلمان األوربي األول؟ ‪36 .............. ............................................‬‬ ‫‪ )3‬التحالف بين الفرنجة والبابوية ‪ :‬شارلمان إمبراطورا ‪37 .............. ...........‬‬ ‫‪ )4‬اإلرث األوربي لشارلمان ‪39 .......... .................................................‬‬ ‫‪ )5‬أوربا المحاربين ‪40................. ................................................. ...‬‬ ‫‪ ... )6‬والفالحين ‪42 ... .......................................................................‬‬ ‫‪ )7‬الحضارة الكارولنجية شريحة أوربية ‪43 ............................................‬‬ ‫‪ )8‬فرنسا وألمانيا وايطاليا قلب أوربا النابض ‪44 . .......................................‬‬ ‫الفصل الثالث‬ ‫أوربا المحﻠوم بها وأوربا الممكنة في سنة ألف ‪46 ... ..... .........................‬‬ ‫‪ )1‬أوربا اإلمبراطورية األتونية ‪46 ................. ......................................‬‬ ‫‪ )2‬أوربا "الجديدة" في سنة ألف ‪47 ............. ........................................‬‬ ‫‪" )3‬الوافدون الجدد" األسكندناڤيون والهنغاريون والسالڤيون ‪49 ....................‬‬ ‫‪ )4‬حركة "سلم" ذات بعد أوربي ‪52 .............. ......................................‬‬ ‫‪ )5‬مزار جديد في اسبانيا ‪ :‬شانت يقوب ‪54 ............................................‬‬ ‫‪ )6‬أوربا تتأكد ‪54 ............................................................................‬‬ ‫الفصل الرابع‬ ‫أوربا الفيودالية )بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر) ‪56 ......................‬‬ ‫‪ )1‬تطورات في مجال الزراعة ‪56............... .........................................‬‬ ‫‪ )2‬انتظام األفراد في خاليا ‪58 ............... .............................................‬‬ ‫‪ )3‬القرية والمقبرة ‪59. .......... .. ......................................................‬‬ ‫‪ )4‬األبرشية ‪60 ................................................................................‬‬ ‫‪ )5‬شريحة عليا ‪ :‬األرستقراطية ‪61 ............... ........................................‬‬ ‫‪ )6‬الفرسان والمجاملة ‪62 ........... ........................................................‬‬ ‫‪ )7‬تطور الزواج ‪64. .......... ..............................................................‬‬ ‫‪ )8‬الحب الرقيق (أو الحب العذري) ‪64 ........ ........................................‬‬ ‫‪ )9‬أبيالر وهيلواز وصيغ الحب العصري ‪66 ...........................................‬‬ ‫‪ )10‬القبلة على الفم ‪67 ......................................................................‬‬

‫‪240‬‬

‫‪ )11‬الطوائف العسكرية وروح النضال ‪67 ............ ................................‬‬ ‫‪ )12‬اإلصالح الﯕريﯕوري ‪ :‬التمييز بين رجال الدين والالئكيين ‪68 ......... .......‬‬ ‫‪ )13‬صراع الفضائل والرذائل ‪ :‬الشيطان يستشيط ‪69 .......... ....................‬‬ ‫‪ )14‬الثقافة الشعبية ‪70 .......... ..........................................................‬‬ ‫‪ )15‬العمالت والوثائق العقدية ‪72 .... ...................................................‬‬ ‫‪ )16‬الحج ‪73 .................................................................................‬‬ ‫‪ )17‬التجزئة الفيودالية والتمركز الملكي ‪76 ............. ...............................‬‬ ‫‪ )18‬هيبة وضعف اإلمبراطور ‪76 ........................................................‬‬ ‫‪ )19‬الملك خالل العصر الوسيط ‪77 .....................................................‬‬ ‫‪ )20‬الممالك الفيودالية ‪79 ...................................................................‬‬ ‫أ) أنجلترا ‪79 ............................................................................‬‬ ‫ب) فرنسا ‪79 ............. ............................................................‬‬ ‫ج) قشتالة ‪80 ............................................................................‬‬ ‫د) النورمان ‪81. ..... .. ...............................................................‬‬ ‫‪ )21‬حضارة أوربا خالل القرن الثاني عشر ‪82 .......................................‬‬ ‫‪ )22‬ازدهار ظاهرة تقديس مريم العذراء ‪83 ..........................................‬‬ ‫‪ )23‬تغليب األلم في التفاني في حب المسيح ‪85 ....... .................................‬‬ ‫‪ )24‬اإلنسان في صورة اله ‪86 ............................................................‬‬ ‫‪ )25‬ميالد أوربا االضطهاد ‪89 ....... ...................................................‬‬ ‫‪ )26‬الهراطقة ‪89 ...........................................................................‬‬ ‫‪ )27‬اضطهاد اليهود ‪93 .......... .........................................................‬‬ ‫‪ )28‬المثلية الجنسية ‪95 ......................................................................‬‬ ‫‪ )29‬غموض بخصوص داء الجذام ‪96 .......... ......................................‬‬ ‫‪ )30‬الشيطان في فورة ‪97 .............. ....................................................‬‬ ‫‪ )31‬أطراف أوربا الفيودالية ‪97 ............. .............................................‬‬ ‫‪ )32‬أوربا والحرب الصليبية ‪100 .......... .... ...........................................‬‬ ‫‪ )33‬هل كانت الحرب الصليبية أول تجليات االستعمار األوربي؟ ‪104 .......... ....‬‬ ‫الفصل الخامس‬ ‫أوربا "الجميﻠة" ‪ :‬أوربا المدن والجامعات (القرن الثالث عشر) ‪106 .............‬‬ ‫‪ )1‬نجاحات أوربا القرن الثالث عشر ‪106. . ......... .....................................‬‬

‫‪241‬‬

‫أوال ‪ :‬النجاح الحضري ‪ :‬أوربا الحضر ‪107 . ................... ........................‬‬ ‫أ) المدن األسقفية ‪109 ................... ................................................‬‬ ‫ب) المدن "الكبرى" ‪109 ................. .................................................‬‬ ‫ج) أدب ذو صبغة حضرية ‪110 ........................................................‬‬ ‫د) العواصم ‪110 ...........................................................................‬‬ ‫و) المدن‪ -‬الدول ‪111 .... ..................................................................‬‬ ‫ه) المدن والفيودالية ‪112 .................................................................‬‬ ‫‪ )1‬شخصية المدينة األوربية ‪112 ... ......................................................‬‬ ‫‪ )2‬تراتبية الحرف داخل المدينة ‪116 .... ................................................‬‬ ‫‪ )3‬المدينة األوربية بالبل أم القدس؟ ‪116 ...... ..........................................‬‬ ‫‪ )4‬المدينة والديمقراطية ‪117 ............ ...................................................‬‬ ‫‪ )5‬تعريف المدينة والحضري (ساكن المدينة) ‪118 ...... ..............................‬‬ ‫ثانيا ‪ :‬النجاح التجاري‪ ،‬أوربا التجار ‪120 ........ .... ...................................‬‬ ‫أ) التاجر االيطالي والتاجر الهنسياتي ‪120 .... .....................................‬‬ ‫ب) التاجر األوربي المتجول ‪120 ... . .................................................‬‬ ‫ج) معارض منطقة شامبانيا ‪121 ... ...................................................‬‬ ‫‪ )1‬مشاكل نقدية ‪122 ..... ..................................................................‬‬ ‫‪ )2‬أوربا التجار ‪122 ....... .................................................................‬‬ ‫‪ )3‬مبرر وجود النقد ‪124 .... ...............................................................‬‬ ‫‪ )4‬االيطاليون والهانسيون ‪126 ........ ...................................................‬‬ ‫ثالثا ‪ :‬النجاح المدرسي والجامعي ‪129 ...... ............................................‬‬ ‫‪ )1‬حضارة الكتاب ‪133 ....... ...............................................................‬‬ ‫‪ )2‬اإلنتاج الموسوعي ‪135 ......... .........................................................‬‬ ‫‪ )3‬المدرسية ‪137 ..... ......................................................................‬‬ ‫‪ )4‬أوربا اللغة ‪ :‬الالتينية واللهجات المحلية ‪140 ........ ................................‬‬ ‫‪ )5‬إبداعات أدبية كبرى وأعمال خالدة ‪142 ......... ....................................‬‬ ‫‪ )6‬انتشار النثر ‪143 .............. ............................................................‬‬ ‫رابعا ‪ :‬نجاح اإلخوان الفقراء ‪144 ............ ............................................‬‬ ‫‪ )1‬أوربا العمل الخيري ‪148 ............ ..................................................‬‬ ‫‪ )2‬الطوائف "الثالثية" بين رجال الدين والالئكيين ‪148 ............. .................‬‬ ‫‪ )3‬أوربا القوطية ‪149 .............. .........................................................‬‬ ‫‪ )4‬أوربا أدب المجامالت ‪151 ................... ...........................................‬‬

‫‪242‬‬

‫‪ )5‬االرتقاء المبهم للعمل ‪152 ........ ......................................................‬‬ ‫‪ )6‬أوربا والمغول والشرق ‪153 ................. ..........................................‬‬ ‫‪ )7‬نزول القيم من السماء على األرض ‪155 ........ .... ................................‬‬ ‫الفصل السادس‬ ‫خريف العصر الوسيط أم ربيع األزمنة الجديدة؟ ‪161 ......... .......................‬‬ ‫‪ )1‬المجاعة والحرب ‪162 ....................................................................‬‬ ‫‪ )2‬الطاعون األسود ‪167 ....................................................................‬‬ ‫‪ )3‬الموت والجثة ورقصة الموت ‪169 ....................................................‬‬ ‫‪ )4‬أوربا العنف ‪171 ................ .........................................................‬‬ ‫أ) اضطهاد الساحرة ‪173 ................................................................‬‬ ‫ب) حركات الفالحين ‪174 .................................................................‬‬ ‫ج)االنتفاضات في الحواضر ‪175 .......................................................‬‬ ‫د) الصراعات في أوربا الشمالية ‪178 ..................................................‬‬ ‫‪ )5‬انفراط وحدة الكنيسة وظهور الشقاق ‪178 ............................................‬‬ ‫‪ )6‬الهراطقة الجدد ‪ :‬الوايكليفيون والهوسيون ‪180 .......................................‬‬ ‫‪ )7‬التفاني العصري ‪181 .....................................................................‬‬ ‫‪ )8‬ميالد المشاعر الوطنية ‪184 ..............................................................‬‬ ‫‪ )9‬النبوءة السياسية ‪186 .....................................................................‬‬ ‫‪ )10‬الطباعة ‪187 . .............................................................................‬‬ ‫‪ )11‬اقتصاد‪ -‬عالم ‪188 .. .....................................................................‬‬ ‫‪ )12‬أوربا تنفتح وتتفتح ‪189 .................................................................‬‬ ‫‪ )13‬فلورنسا زهرة أوربا؟ ‪191 .............................................................‬‬ ‫‪ )14‬من أقطاب الفكر المنفتح في القرن الخامس عشر ‪192 ............................‬‬ ‫أ) األلماني نيكوالس دي كوزا ‪193 ...................................................‬‬ ‫ب) البولندي باويل فلودكوفيتش ‪194 ...................................................‬‬ ‫‪ )15‬انمحاء اإلمبراطورية ‪194 . .........................................................‬‬ ‫‪ )16‬خارطة أوربية بسيطة ‪196 .............................................................‬‬ ‫‪ )17‬التهديد التركي ‪197 .......................................................................‬‬ ‫‪ )18‬المشروع األوربي لجورج بوديبراد ‪198 .............................................‬‬ ‫‪ )19‬ايطاليا منارة وفريسة أوربا ‪199 .......................................................‬‬ ‫‪ )20‬األوربي فليب دو كومين ‪201 ..........................................................‬‬

‫‪243‬‬

‫‪ )21‬أوربا في مالقاة العالم الخارجي ‪201 ..................................................‬‬ ‫‪ )22‬التوجه نحو المحيط األطلسي وإفريقيا ‪203............. ..............................‬‬ ‫‪ )23‬مظاهر العتاقة والتقدم في المراكب البحرية والمالحة ‪204............ ............‬‬ ‫خاتمة ‪207 ..... .... ...........................................................................‬‬ ‫خرائط ‪215 ....... .............................................................................‬‬ ‫‪ )1‬مراحل تكون أوربا ‪215.. ....... .........................................................‬‬ ‫‪ )2‬االتحاد األوربي سنة ‪216 ........ .... ........................................... 2007‬‬ ‫كرونولوجيا أبرز األحداث ‪217 ...............................................................‬‬ ‫ببﻠيوغرافيا موضوعاتية (منتقاة من قبل مؤلف الكتاب) ‪228 ........................‬‬