Data Loading...
هل ولدت أوربا في العصر الوسيط ؟ Flipbook PDF
هل ولدت أوربا
387 Views
262 Downloads
FLIP PDF 1.79MB
0
جاك ﻠو ﯕوف هل ولدت أوربا في العصر الوسيط ؟ تعريب وتقديم
د .محمد حناوي
د .يوسف نكادي
1
جاك ﻠو ﯕوف
هل ولدت أوربا في العصر الوسيط ؟
تعريب وتقديم د .يوسف نكادي
د .محمد حناوي
الطبعة األولى 2015
2
هل ولدت أوربا في العصر الوسيط ؟
الكتاب :هل ولدت أوربا في العصر الوسيط ؟ المؤلف :جاك لو ݣوف المعربان :محمد حناوي ويوسف نكادي المطبعة :مطبعة مفكر زنقة السنغال رقم 8وجدة الغالف :أوربا من التجزئة الى الوحدة خريطة اليمين :لكيانات السياسية في أوربا القرن 13 خريطة اليسار :االتحاد األوربي االيداع القانوني 2015MO1212 : ردمك 978-9954-35-266-3 : الطبعة األولى 2015
3
اعتراف وتقدير
حلت منذ بضعة أيام الذكرى األولى لرحيل مؤلف الكتاب المؤرخ الكبير جاك لو ﯕوف الذي غادرنا يوم الثالثاء فاتح أبريل .2014 وكان الموت ق د غيب قبل جاك لو ﯕوف عددا من أقطاب البحث التاريخي في فرنسا ،أمثال فرناند بروديل (ت )1985 .وجورج دوبي (ت )1996 .وبيير ڤيالر (ت )2003 .وبيير بوناصي (ت )2005 .وبيرنار ﯕني (ت )2010 .وبيير ﯕوبير (ت )2012 .وروبير فوصيي (ت .)2012 .ويحس المشتغل في حقل التاريخ بأن المدرسة الفرنسية تلقت صدمة قوية ،خالل العقود الثالثة المنصرمة ،بغياب مؤسسيها ،وأبرز أعالمها. وال يخفى البناء الشامخ الذي شيده المؤرخ جاك لو ﯕوف بأبحاثه العديدة ،الجادة والرصينة ،في تاريخ أوربا الوسيط ،وفي مناهج البحث التاريخي .وقد استغرق هذا البنا ء ما ينيف عن ستين عاما من حياته دون كلل حتى األيام القليلة قبيل وفاته .ونتمنى أن يظل المشعل محموال ومتقدا من قبل األجيال التي ستستحضر دوما ٳرث جاك لو ﯕوف ،وغيره من عمالقة البحث التاريخي في فرنسا. وأعتبر شخصيا ،وزميلي يوسف نﯕادي ،بأن وضع هذه النسخة العربية من الكتاب بين أيدي القراء ،يعد مساهمة متواضعة في تكريم األستاذ ،والباحث ،جاك لو ﯕوف ،وعرفانا منا لما أسداه من جهد في خدمة البحث التاريخي والعلوم اإلنسانية عامة. الدكتور محمد حناوي الرباط في 05رجب 1436 الموافق 24أبريل 2015
4
تقديم
ولد جاك لو ﯕوف ( )Jacques Le Goffفي فاتح يناير من العام ،1924 وتوفي في فاتح أبريل من عام .2014 ينحدر من أسرة فرنسية متواضعة كانت مستقرة زمن والدته بمدينة تولون (.)Toulon ينتمي أبوه لمدينة رين ( )Rennesالواقعة شمال غرب فرنسا .كان أستاذا لمادة اللغة األنجليزية ،ثم التحق بالجبهة عند اندالع الحرب العالمية األولى ،فعمل جنديا ثم ترجمانا لحساب القوات األمريكية .وقد عرف بكراهيته لألمريكيين وبتحفظه من المؤسسات الدينية ،ومن رجال الدين ،وميله لحرية المعتقد خالفا لزوجته التي تنتمي لمدينة بروڤانس ( ،)Provenceوالتي تلقت تعليما دينيا منذ صباها وظلت متمسكة بالعقيدة الكاثوليكية وممارسة للشعائر حتى وفاتها. تلقى جاك لو ﯕوف دروسه الثانوية بمدينة مرسيليا .ولكنه لم يبد استعدادا لاللتزام بالمقررات المقترحة ،فغادر المؤسسة الثانوية ليجتهد في تكوين نفسه بنفسه وانكب على المطالعة .واستهوته كثيرا كتب التاريخ التي أقبل عليها بشغف .ثم استطاع االلتحاق بجامعة السوربون بباريس .ومنها التحق ببراغ في إطار منحة دراسية إلعداد بحث حول نشأة وتطور جامعتها (المعروفة بجامعة شارل) .فطاب له المقام بها لمدة ثالث سنوات عاين في نهايتها انقالب فبراير 1948الذي استولى على إثره الشيوعيون على السلطة في تشكوسلوڤاكيا ،فخلف الحدث في نفسه أثرا سيئا جعله ينفر من الشيوعية .ولكنه ظل بعد ذلك يكن االحترام لليسار واليساريين .وقد عبر في احدى المناسبات عن تعاطفه مع الرئيس فرانسوا هوالند ودعا لدعم سياسته. وال غرو في ذلك ،فجاك لو ﯕوف ،وغيره من رواد وأقطاب مدرسة الحوليات، أمثال مارك بلوك ( Marc Blochوجورج دوبي ) (Georges Dubyوفرنان بروديل ( )Fernand Braudelتأثروا بالفكر الماركسي ،وأخذوا عنه الكثير ،وإن كان المقام يستدعي أيضا اإلشارة إلى أن عددا من المنتمين لذات المدرسة يتحفظون
5
من الماركسية كروبير فوصيي ( ،)Robert Fossierبل منهم من يمقتها مثل ﯕي فوركان (.)Guy Fourquin وعلى كل ،فقد تقدم جاك لو ﯕوف بعد 1948للحصول على شهادة التبريز التي أهلته لاللتحاق بالمدرسة الفرنسية بروما ( )l’Ecole française de Romeثم بسلك التعليم كمدرس ،فعاد مجددا لمتابعة تعليمه العالي بجامعة ليل التي شرع فيها في تحضير أطروحة في التاريخ الوسيط في موضوع "المواقف من العمل خالل الفترة الممتدة بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر". تمثل سنة 1960بداية تحول في مسيرته العلمية والعملية .فخالل هذه السنة التحق بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا ( l’Ecole Pratique des Hautes )Etudesكعضو ،ثم كمدير أبحاث .ويبدو أنه لقي بهذه المؤسسة ما كان يصبو إليه من حرية في التفكير وظروف مالئمة للبحث والحوار مع أقطاب البحث التاريخي في فرنسا آنذاك من أمثال فرنان بروديل ( )Fernand Braudelوإيمانويل لو روا الدوري ( )Emmanuel Le Roy Ladurieومارك فيرو (.)Marc Ferro ورغم أنه لم يستطع إكمال أطروحته لنيل الدكتوراه ،فقد أصبح سنة 1969 عضوا مشاركا في إدارة مجلة الحوليات الشهيرة ( .)les Annalesثم عين سنة 1972رئيسا للفرع السادس بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا .فعمل بشكل دؤوب على تحويل هذا الفرع إلى أبرز مؤسسة فرنسية تعنى بالبحث في التاريخ األوربي الوسيط ،.من خالل آفاق البحث الجديدة التي أقرها ضمن برامجها ،وكذلك من خالل استقطاب أبرز المشتغلين في حقل التاريخ االقتصادي والتاريخ السياسي ،والمهتمين بالبحث في مجال األنثربولوجيا التاريخية. وتقدم مؤلفات جاك لو ﯕوف وأبحاثه الغزيرة والمتنوعة صورة عن طبيعة األسرة التي نشأ في أحضانها ،بين أب غير ملتزم دينيا وأم متشبثة بالعقيدة الكاثوليكية. وتعد أسرته بحق صورة مصغرة لمجتمع فرنسا خالل القرن العشرين .كما تعكس مؤلفاته وأبحاثه جانبا مما كان (وال زال) يعتمل في أوساط النخبة المثقفة في فرنسا، ومدى تأثير الحرب والصراعات السياسية واإليديولوجية على مواقفها وتوجهاتها. وفضال عن كل هذا وذاك ،فإن أبحاثه ومؤلفاته تعكس آفاقه المعرفية الواسعة ،وعدم التزامه بالبحث في مجال بعينه .فقد ألف في مجال التاريخ السياسي ،والتاريخ االجتماعي ،والتاريخ الديني ،والتاريخ االقتصادي .كما ألف في تاريخ الذهنيات ومنظومة األفكار والقيم ،وفي حقل األنثربولوجيا التاريخية .باإلضافة إلى مجموعة مؤلفات أنجزها ،أو أشرف على انجازها ،تتصل بمناهج واتجاهات البحث التاريخي.
6
والمالحظ. فقد ألف في كل مجال يتصل بالتاريخ األوربي الوسيط،وباختصار وأصبح،أنه أخذ يؤلف بغزارة أكثر من ذي قبل بعد أن تجاوز السبعين من العمر . وهذا ما يتضح من خالل الجرد التالي ألهم مؤلفاته.يعيش وحيدا بعد وفاة رفيقة حياته - Faut-il vraiment découper l’histoire en tranches ?, Paris, Seuil, 2014. - À la recherche du temps sacré, Jacques de Voragine et la Légende dorée, Paris, Perrin, 2011. - Le Moyen Âge et l'Argent. Essai d’anthropologie historique, Paris, Perrin, 2010. - Héros et merveilles du Moyen Âge, Paris, Seuil, 2005. - Un long Moyen Âge, Paris, Tallandier, 2004. - Héros du Moyen Âge, Le saint et le roi au Moyen Âge, Paris, Gallimard, 2004. - À la recherche du Moyen Âge, Paris, Louis Audibert, 2003. - Une histoire du corps au Moyen Âge (avec Nicolas Truong), Paris, Liana Lévi, 2003. - Le Dieu du Moyen Age, Paris, Bayard, 2003. - L’Europe est-elle née au Moyen Âge ?, Paris, Seuil, 2003. - Cinq personnages d’hier pour aujourd’hui : Bouddha, Abélard, saint Fran- çois, Michelet, Bloch, Paris, La Fabrique, 2001. - Le Sacre royal à l'époque de Saint-Louis, Paris, Gallimard, 2001. - Dictionnaire raisonné de l'Occident médiéval (en collaboration avec Jean-Claude Schmidt), Paris, Fayard, 1999. - Le Moyen Âge aujourd'hui, Paris, Léopard d'Or, 1998. - Pour l'amour des villes (en collaboration avec Jean Lebrun), Paris, Textuel, 1997. - Saint Louis, Paris, Gallimard, 1996. - L'Homme médiéval (dir.), Paris, Seuil, 1994. - La Vieille Europe et la nôtre, Paris, Seuil, 1994. - Le XIIIe siècle : l'apogée de la chrétienté, Bordas, 1992.
7
- Histoire de la France religieuse (dir., avec René Rémond, Paris, Seuil, 1988-1992, 4 volumes. - L'État et les Pouvoirs, (dir.), Paris, Seuil, 1989. - Histoire et mémoire, Paris, Gallimard, 1988. - La bourse et la vie : Economie et religion au Moyen Age, Paris, Hachette, 1986. - L'Imaginaire médiéval, Paris, Gallimard, 1985. - La Naissance du purgatoire, Paris, Gallimard, 1981. - La Nouvelle Histoire (en collaboration avec Jacques Revel), Paris, Éditions Retz, 1978. - Pour un autre Moyen Âge, Paris, Gallimard, 1977. - Faire de l'histoire (dir., avec Pierre Nora), Paris, Gallimard, 1974, 3 volumes. - Les Propos de Saint Louis, Paris, Gallimard, 1974. - La civilisation de l'Occident médiéval, Paris, Arthaud, 1964. - Marchands et banquiers au Moyen Âge, Paris, Le Seuil, 1957 وقد وقع اختيارنا على واحد من بين هذه المؤلفات .إنه كتاب "هل ولدت أوربا في العصر الوسيط؟" الذي صدر عن دار "سوي" سنة .2003وأعيد طبعه في نسخة ثانية من قبل ذات المؤسسة سنة .2010وقد صدرت بموازاة طبعته األولى ،وفي نفس السنة ،طبعات أخرى باللغات األنجليزية واأللمانية وااليطالية واالسبانية. وارتأينا أن نقدم هذا الكتاب للباحثين والمفكرين والفاعلين وعموم القراء العرب لثالث اعتبارات نوضحها كما يلي : يتمثل االعتبار األول في كونه يعد مجمال في تاريخ أوربا في العصر الوسيط. فهو يعرض لكثير من أحداث وقضايا هذه الحقبة التاريخية بتسلسل وبدقة ووضوح قل نظيره ،رغم أن مؤلفه ال يتناول تلك األحداث والقضايا بالتفصيل الذي ينتظره البعض ،ألن همه لم يكن وضع مؤلف في تاريخ أوربا الوسيط ،بقدر ما كان توضيح السياق التاريخي الذي ولدت فيه أوربا الموحدة. ويهم هذا السياق التاريخي الباحثين وعموم القراء العرب ألن كثيرا من أحداثه وقضاياه تعني اإلسالم والمسلمين من قبيل عالقات أوربا المسيحية بالعالم اإلسالمي، وفصول الحرب الصليبية في المشرق اإلسالمي ،وحرب االسترداد في األندلس،
8
ومسألة نجاح اإلقالع في أوربا وفشله في العالم اإلسالمي ،ودور المد التركي العثماني في خلق هوية جماعية في أوربا. ورغم أن معظم أحداث هذا السياق تبدوا ظاهريا غير ذات صلة باإلسالم وبالمسلمين ،فالحقيقة أن آثارها همت اإلسالم والمسلمين زمن حدوثها والزالت تداعياتها مؤثرة إلى اليوم في واقع المسلمين عامة ،وفي واقع العرب المعاصرين بشكل خاص. يتمثل االعتبار الثاني في كون متن الكتاب المؤلف لوحده من 263صفحة (من القطع الصغير) هو محاولة لإلجابة على السؤال المثبت على غالف الكتاب :هل ولدت أوربا في العصر الوسيط ؟ ويجيب المؤلف بأن أوربا الموحدة ليست وليدة السوق األوربية المشتركة أو التكتالت األوربية التي قامت قبله ،بل هي وليدة العصر الوسيط .فخالل هذه الحقبة الممتدة بين سنة ،476تاريخ انهيار اإلمبراطورية الرومانية ،وسنة ،1492تاريخ اكتشاف كريستوف كولومبوس ألمريكا ،تموضعت المقومات واألسس التي قامت عل يها أوربا الموحدة عبر أربعة مراحل ،أو طبقات ،تراكمت خاللها عناصر الوحدة والتكامل ،واتضحت خاللها أيضا معالم التنوع واالختالف .ورغم ذلك ،لم يكتمل البناء الذي ظل يتأرجح بين الحقيقة النسبية والحلم الطموح نظرا الرتباطه بواقع تاريخي لم يكن دائما من السهل تجاوزه .ومن ثم ،فإن رجال السياسة واالقتصاد ،وجميع الفعاليات التي يهمها بناء االتحاد األوربي ،معنية بالحصيلة التي تحققت خالل العصر الوسيط . وإن إنكارها ،أو غض الطرف عنها ،سيجعل البناء الحالي شبيها بمولود بئيس يتيم األبوين. وإذا كانت معرفة جذور االتحاد األوربي تعني األوربيين أوال وأخيرا ،فال شك أنها تعني العرب كذلك إلى حد بعيد ،وخاصة نحن مواطني المغرب ،نظرا لوجود عالقات شراكة تربطنا باالتحاد األوربي ،وألن بلدنا يسعى لجعل اقتصاده مندمجا في اقتصاد أوربا ،وألن ساسته كانوا يطمحون يوما في أن ينخرط في هذا االتحاد. يتمثل االعتبار الثالث في تقريب الباحثين والمفكرين وكافة الفعاليات العربية من كتاب يدعو صاحبه ساسة أوربا ورجال االقتصاد فيها إلى ضرورة االهتمام بحصيلة العصر الوسيط كما ذكرنا .ويشعر القارئ العربي لنسخة الكتاب األصلية بالحسرة والمرارة حين يعلم كيف أن باحثا أوربيا يجتهد من خالل هذا الكم من الصفحات، وعبر إبحار في فترة تمتد حوالي ألف سنة ،للبحث في جذور الوحدة األوربية، ولإلسهام في تقوية البناء الحالي ،ونحن العرب يملك وطننا العربي الكثير من مقومات الوحدة وال يعمل ساستنا على تحقيق الوحدة التي ينشدها كثير من العرب .بل عشنا في ظل وحدة شاملة زمن األمويين والعباسيين ،وفي ظل وحدة جهوية زمن المرابطين
9
والموحدين ،ورغم ذلك يسعى بعضنا الستمرار التجزئة الحالية .وال تتردد بعض القوى العربية واألجنبية في تعطيل كل محاولة تكتل .بل تسعى جاهدة الستشراء هذه التجزئة .فدولة السودان تولدت عنها دويلة ،ودولة المغرب يريدون أن يقتطعوا منها دويلة .وثمة دول أخرى على المحك مثل العراق وليبيا وسوريا وغيرها. ونود في ختام هذا التقديم أن ننبه الباحثين وعموم القراء بأننا فكرنا بادئ األمر في القيام بتعريب وعرض نص الكتاب لتقريبه أكثر من عموم القراء نظرا للصعوبة التي قد يالقيها غير المطلعين على مؤلفات في تاريخ أوربا الوسيط في استيعاب القضايا التي يتناولها ،فضال عن خلوه من هوامش توضيحية ،ولكننا اكتفينا في األخير بتعريبه فقط وإثرائه بعدد ال يستهان به من الهوامش لتحقيق الغاية المرجوة. نأمل أن يلقى جهدنا قبوال حسنا .وهللا ولي التوفيق. الدكتور يوسف نﯕادي وجدة حاضرة زيري بن عطية في 04جمادى اآلخر 1436 الموافق 25مارس 2015
10
مقدمة
بدأ اهتمام رجال السياسة وعلماء االقتصاد في أوربا بمسألة الوحدة األوربية في السنوات القليلة التي سبقت اندالع الحرب العالمية الثانية .وازداد تحمسهم لها بعد أن وضعت الحرب أوزارها .فشرعوا في وضع أسس الوحدة السياسية واالقتصادية. وسرعان ما انضم المثقفون لهذه الجهود إيمانا منهم بأن الوحدة ،التي تبدو في ظاهرها سياسية-اقتصادية ،هي ذات أبعاد تاريخية واجتماعية ودينية وثقافية ولغوية تقتضي تضافر جهود جميع الفعاليات لتتم عملية البناء بشكل سليم. ومن نافلة القول أن مشروعا من هذا القبيل ،يستدعي حضورا مكثفا للمشتغلين بالبحث التاريخي ،لسبب بسيط ،وهو أن استحضار ماضي األقطار األوربية شرط أساسي لفهم حاضرها ،وبالتالي إلنجاح الوحدة المنشودة .وهذا ما حرص المؤرخ جاك لو ﯕوف ( )Jacques Le Goffعلى التذكير به في كتابه " :هل ولدت أوربا في العصر الوسيط ؟" ،حيث يرى أن انجاز هذا البناء ال يمكن أن يستكمل أشواطه إال بأخذ التاريخ بعين االعتبار .بل يذهب إلى التأكيد ،منذ مقدمة الكتاب ،بأن "أوربا بدون تاريخ ستكون يتيمة وبئيسة ،ألن اليوم يخرج من األمس ،والغد ينبثق من الماضي". وال نحتاج إلى التأكيد بأن هذا الموقف يتضمن دعوة صريحة للمؤرخين لإلسهام في الجهود الحثيثة التي يبذلها رجال السياسة واالقتصاد الذين ينطلقون من الحاضر ويقومون أحيانا باستشراف المستقبل .ولكنهم ليسوا على دراية بالماضي؛ الذي يعد استحضاره في عملية البناء أمرا ضروريا لتحقيق النجاح .إن رجال السياسة واالقتصاد في تعاملهم مع الحاضر ،يتعاملون مع معطيات كثيرة تشكل جزءا من الحاضر ولكن أصولها تنتمي للماضي ،مثل المعطى الديني والمعطى الثقافي والمعطى اللغو ي .ومن ثم ،نفهم لماذا يعود جاك لو ﯕوف ليكرر في موضع آخر بأن "االنخراط الملتزم في عملية تشييد أوربا يجب أن يتم في إطار معرفة عميقة بالماضي ونظرة استشرافية للمستقبل".
11
ويتضح من خالل كتاب جاك لوﯕوف بأن الماضي المراد العودة إليه يتمثل في الحقبة التاريخية المعروفة في التقويم األوربي بالعصر الوسيط .وهي الحقبة الممتدة بين القرنين الخامس والخامس عشر للميالد ،باعتبارها الحيز الزمني الذي تنتمي إليه معظم معطيات الحاضر األوربي .ومن هنا نفهم داللة عنوان الكتاب الذي جاء في صيغة سؤال " :هل ولدت أوربا في العصر الوسيط ؟". وال شك أن تواضع جاك لو ﯕوف العلمي ،هو الذي جعله يحتفظ بصيغة العنوان على هذا النحو ،رغم أنه يقر في مقدمة الكتاب ،وكذلك عبر فصوله ،بأن العصر الوسيط يمثل الحيز الزمني الذي انبثقت ونشأت فيه أوربا كحقيقة وكتمثل .كما أن هذا العصر يمثل الفترة الحاسمة التي حدثت فيها والدة وطفولة وشباب أوربا ،دون أن تخطر في أذهان أفراد مجتمعات تلك الحقبة التاريخية فكرة ،أو رغبة ،تشييد أوربا موحدة. والحقيقة أن جاك لو ﯕوف لم يعمل هنا سوى على التذكير بموقف سبق أن عبر عنه العديد من المؤرخين غداة الحرب العالمية الثانية؛ ومن بينهم البريطاني دونيس هاي ( )Denys Hayوااليطالي فدريكو شابود ( )Federico Chabodوالفرنسيين مارك بلوك ( )Marc Blochولوسيان فيفر ( .)Lucien Febvreفقد نشر األول بحثا سنة 1957تحت عنوان " :أوربا :انبثاق فكرة" .بينما صدرت للباحث الثاني دراسة سنة 1961تحت عنوان " :تاريخ فكرة أوربا" .وفي كال البحثين تم التركيز على فكرة مفادها أن نشأة أوربا الموحدة تعود في مجملها للعصر الوسيط.1 ويبدو في اعتقاد جاك لو ﯕوف بأن المؤرخين الفرنسيين مارك بلوك ولوسيان فيفر ،كانا أبرز من عرض الفكرة بإسهاب ووضوح .فقد كتب مارك بلوك في هذا الصدد " :لقد انبثقت أوربا حين انهارت اإلمبراطورية الرومانية" .وأعاد لوسيان فيفر تناول الجملة مضيفا " :يمكن القول باألحرى ،بأن أوربا أصبحت إمكانية متاحة حين انهارت اإلمبراطورية الرومانية" .وكتب أيضا في الصفحة 44من نص أول درس من سلسلة الدروس التي ألقاها "بالكوليج دو فرانس" (،)Collège de France خالل الموسم ،1945-1944في موضوع "أوربا :نشأة حضارة" ما نصه " :لقد كان للمسيحية دور فعال خالل العصر الوسيط (عصر يجب جعله ممتدا إلى حدود األزمنة الحديثة) ،حيث إن تأثيرها كان يسمح بمرور تيارات قوية من الحضارة المسيحية غير - 1نشير الى أن مؤلف البحث األول (البريطاني دونيس هاي) ولد سنة 1915وتوفي سنة .1994اهتم بالبحث في تاريخ العصر الوسيط وعصر النهضة .وحاضر في جامعة إدنبرة ( )Edinburghبإسكتلندا وجامعة فلورنسا االيطالية. وشكل موضوع وحدة أوربا واحدا من بين المواضيع التي اهتم بها .أما فدريكو شابود ،فيعد من أبرز مؤرخي أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي تحمسا لفكرة الوحدة األوربية .فقد طرحها في عدة محافل ،وخصص لها المحاضرات التي ألقاها على طلبته بجامعة ميالنو خالل الموسم الجامعي .1944 -1943وتمثل تلك المحاضرات ،باالضافة الى ما كتبه في ذات الموضوع مضمون كتاب " "Storia dell’idea d’Europaالذي صدر سنة بعد وفاته.
12
لصيقة باألرض كانت تتجاوز الحدود الهشة للممالك الكالييدوسكوبية .2فأسهمت بذلك في مد الغربيين بوعي مشترك تخطى الحدود التي كانت تفصل بينهم .وإن هذا الوعي الذي كان يأخذ طابعا علمانيا شيئا فشيئا أصبح وعيا أوربيا". تبدو وجهة نظر لوسيان فيفر واضحة ومنسجمة تمام االنسجام مع ما يروم إليه جاك لوﯕوف .ومع ذلك ،فهو يرى أن مارك بلوك كان أبرز الذين تبنوا رؤية أوربية للعصر الوسيط .فمنذ سنة ،1928تاريخ انعقاد المؤتمر الدولي للعلوم التاريخية بأوسلو ألقى مداخلة بعنوان " :من أجل تاريخ مقارن للمجتمعات األوربية" نشرت بمجلة التركيب التاريخي ( )Revue de Synthèse historiqueفي شهر دجنبر من نفس السنة .وعاد لتناول "مشروع تدريس التاريخ المقارن للمجتمعات األوربية" في الكراسة التي أعدها سنة 1934للترشح لولوج "الكوليج دو فرانس" .وأهم ما جاء فيها " :إن العالم األوربي ،بوصفه أوربيا هو من خلق العصر الوسيط الذي كاد في الوقت ذاته أن يضع حدا للوحدة النسبية للحضارة المتوسطية .وألقى في بوتقة واحدة وبشكل عشوائي شعوبا كانت مترومنة مع شعوب لم تغزوها روما أبدا .وبذلك نشأت أوربا بالمفهوم اإلنساني للكلمة ( )...وإن العالم األوربي الذي تحدد على هذا النحو، ظل عرضة لتيارات مشتركة كانت تخترقه باستمرار". ومهما يكن من أمر ،فالواضح أن جاك لو ﯕوف يبدو أكثر ميال إلى اعتبار وجهات نظر المؤرخين الفرنسيين مارك بلوك ولوسيان فيفر األكثر تبلورا ،رغم أنه ال يصرح بذلك علنا .وكأنه بذلك يوحي للقارئ بأن موقف ساسة فرنسا (أمثال فرانسوا ميتران وجاك شيراك) المستميت عن وحدة أوربا ،موقف أصيل ومتأصل مستمد من الماضي .أو بعبارة أخرى ،هو موقف يندرج ضمن تقاليد فرنسا القطر األوربي األكثر رغبة في تحقيق وحدة أوربا؛ وهو أيضا القطر الذي يسعى ساسته ،وعدد من مثقفيه، إلى المضي بهذا البناء نحو الرقي والكمال. يستخلص مما تقدم ،بأن جاك لوﯕوف حرص على تأكيد صلة الحاضر بالماضي ،سواء على مستوى الفعل والقائمين بالفعل ،أو على مستوى موضوع الفعل. بمعنى أن جهود الساسة والمفكرين حاليا هي استمرار لجهود الرواد منذ أن بدأ التفكير
-2نسبة إلى الكلييدوسكوب ( )le kaléidoscopeأي المشكال .وهو عبارة عن أنبوب جنباته من زجاج .يحتوي على قطع من زجاج مختلفة األلوان .تعكس ألوانها جنباته بفعل الضوء المسلط عليها ،فتبدو ألوان قطع الزجاج على هيأة أشكال متوازية ومختلفة األلوان .ومعنى الكلمة في النص ،هو أن الممالك الجرمانية التي قامت في غرب أوربا ،عقب سقوط اإل مبراطورية الرومانية ،كانت تبدو على شاكلة قطع الزجاج داخل المشكال (الكلييدوسكوب).
13
في مشروع الوحدة .أما الوحدة األوربية في وضعها الراهن ،فهي ذات صلة وثيقة بالماضي. فهل ولدت أوربا حقا خالل العصر الوسيط ؟ ذلك هو السؤال المحوري الذي حاول جاك لو ﯖوف اإلجابة عنه في حوالي 350صفحة موزعة على توطئة ،في شكل فصل ،وستة فصول ،مسبوقة بمقدمة ومذيلة بخالصة عامة ،باإلضافة إلى خريطتين وعرض كرونولوجي ألبرز األحداث التي أثارها المؤلف وببليوغرافية موضوعاتية وفهرسين ،أحدهما خاص باألعالم واآلخر خاص باألماكن التي ورد ذكرها في مختلف الفصول. وقد وردت التوطئة والفصول الستة متسلسلة على النحو اآلتي : توطئة :ما قبل العصر الوسيط الفصل األول :تصور أوربا (بين القرنين الرابع والثامن) الفصل الثاني :أوربا مجهضة :العالم الكارولنجي (بين القرنين الثامن والعاشر) الفصل الثالث :أوربا المحلوم بها وأوربا الممكنة في سنة ألف الفصل الرابع :أوربا الفيودالية (بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر) الفصل الخامس :أوربا الجميلة :أوربا المدن والجامعات خالل القرن الثالث عشر الفصل السادس :خريف العصر الوسيط أم ربيع األزمنة الجديدة؟
14
المقدمات الممهدات (ما قبل العصر الوسيط)
قبل الحديث عن جذور الوحدة األوربية خالل العصر الوسيط ،يجب التنبيه الى مسألة منهجية أساسية ،وهي أن تاريخ أوربا يقتضي من المؤرخ ،ومن قراء ما يصدره من مؤلفات ،التموضع في اطار ما يعرف باألمد الطويل ( la longue .1)duréeوبناء عليه ،فإن الباحث في أصول الوحدة األوربية ،خالل األلف سنة التي استغرقها العصر الوسيط وفق التحقيب التقليدي ،يجب أن يضع نصب عينيه التركة التي ورثها هذا العصر عن العصور السابقة. تمثل العناصر المكونة لتلك التركة ارهاصات أوربا .وقد استثمرها العصر الوسيط في وعي جماعي بإمكانيات قارية .ويبدو أن جانبا من أثر العصر الوسيط في البناء األوربي يتمثل في تمرير كثير من مظاهر العصور السابقة .ولكن العصر الوسيط لم يكتف بالقيام بعملية تمرير بسيطة لتلك المظاهر ،وإنما قام بعملية فرز لها لتغذية المستقبل الذي كان يقوم بتهيئته .ومثل هذا المؤشر يعد لوحده كافيا للداللة على أن العصر الوسيط قام بدور ال جدال فيه في تمرير كثير من مظاهر حضارة العصر القديم. و ال بأس من التذكير ،في ذات السياق ،بأن البحث في حقبة ما قبل التاريخ قطع أشواطا مهمة ،ورغم ذلك ،من الصعب تحديد نوعية االرث الذي أخذه العصر الوسيط عن هذه الحقبة .ومن المؤكد أنه مرر بعض عناصرها .وأعتقد أن مؤهالتي ،وسياق البحث ،ال يسمحان لي بتخصيص حيز لتناول هذه المسألة ،ولكن هذا ال يمنع من -1مفهوم استحدثه المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل ( ،)Fernand Braudelواستعمله ألول مرة في أطروحته حول "البحر المتوسط والعالم المتوسطي في عصر فليب الثاني" (باريس .)1949ويختزل هذا المفهوم مقاربة جديدة في معالجة القضايا التاريخية ،تهمل لحظة حدوث الحدث (السياسي والعسكري) ،باعتبارها لحظة سريعة ،ألن الحدث يستغرق زمنا قصيرا ،وتركز على معالجة الظواهر في سياق زمن بطيئ.
15
القول بأن بعض األحداث الكبرى التي شهدتها حقبة ما قبل التاريخ ورثها العصر الوسيط .وأعني هنا النشاط الزراعي الذي استلمه من حضارة بالد الرافدين القديمة، والذي ظل يكتسي أهمية قصوى .وأعني أيضا النشاط الرعوي وتربية المواشي اللتان اختص بهما المجال المتوسطي .كما ورث العصر الوسيط عن حقبة ما قبل التاريخ تقنية استعمال المعادن في صنع األدوات واألسلحة ،وهي التقنية التي اكتسبتها القبائل الجرمانية ونقلتها إلى أقاليم أوربا في سياق الغارات وموجات الغزو التي قامت بها قبيل سقوط اإلمبراطورية الرومانية .وقد حققت هذه التقنية تطورا ملحوظا خالل العصر الوسيط. )1إرث حقبة ما قبل التاريخ :الجغرافيا قبل كل شيئ شكل المجال الجغرافي إطارا لهذه األنشطة ،كما شكل الميدان الذي تفاعلت فيه مختلف األحداث .ومن ثم ،يعد أهم مكونات تركة حقبة ما قبل التاريخ. تعد "الجغرافيا" ،أي المجال ،أول العناصر التي ورثها العصرالوسيط .وقد فرضت المعطيات المتصلة بها نفسها على رجال ونساء هذه الحقبة التاريخية .وتندرج تحت هذا المسمى (أي الجغرافيا) الوحدات الطبيعية والمناخ والشبكة الهيدروغرافية. فكلها كانت سابقة في وجودها على وجود أفراد مجتمع العصر الوسيط .وقد جمعت بين خاصتي التنوع والوحدة على امتداد القارة األوربية. وال شك أن خاصية الوحدة أفادت في تسهيل عملية االندماج .فامتداد السهول على نطاق واسع ،ساعد على انتشار زراعة الحبوب التي حققت طفرة خالل العصر الوسيط بصفة عامة ،وخالل القرون الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر بوجه خاص .وال زالت إلى اليوم تعتبر نشاطا متميزا في االقتصاد األوربي .أما الغطاء الغابوي ،ف كان بدوره وفيرا وممتدا في مختلف أقاليم أوربا ،وإن تميز بازدواجية الدور .وقد جعل القارة األوربية تبدو نطاقا موحشا ( ،)sauvageولكنه شكل من جهة أخرى موردا حيويا ،حيث أمد أفراد مجتمع العصر الوسيط باألخشاب الضرورية للتدفئة والبناء وصناعة المراكب البحرية .كما وفر لهم ثروة حيوانية أفادتهم بألبانها ولحومها وجلودها وفروها .وعلى غرار الغطاء الغابوي ،ساهمت الشبكة الهيدروغرافية بدورها في تحقيق االندماج .فبعد مرحلة خوف وتردد ،اقتحم أفراد المجتمع غمار األنهار الكبرى والبحار .فأفضى ذلك إلى تطوير وسائل وتقنيات المالحة وإذكاء وتيرة التواصل .ولم يكن دور المناخ أقل تأثيرا في تسهيل االندماج. فقد تميز في معظم أقاليم أوربا باالعتدال ،فساهم بذلك في توحيد طبائع الناس وأحاسيسهم.
16
)2إرث العصر القديم تتجلى عند الحديث عن العناصر الموروثة عن العصر القديم ،إحدى أهم سمات العصر الوسيط المتمثلة في كونه قام بدور الممرر بامتياز إلرث اإلغريقيين والرومان .ويتضح أن أول شيء مرره للعصور الموالية هو التسمية التي ال زالت تطلق إلى اليوم على القارة وعلى سكانها .وقد تم نقل هذه التسمية عن اإلغريقيين الذين كانوا يطلقون اسم "األوربيين" على سكان أقاليم أقصى غرب القارة األسيوية. والى جانب التسمية ،نقل العصر الوسيط عن العصر القديم بعض مالمح الصورة التي كونها اإلغريقيون عن "األوربيين" (أي سكان األقاليم األسيوية المشار إليها) .فقد كانوا ينظرون إليهم كمجموعة بشرية مشاكسة؛ موسومة بالشجاعة وحب الحرية والميل إلى تحبيذ "الديمقراطية" .في حين كانوا يعتبرون األسيويين جنسا مثقفا ،مياال إلى الحكمة ،محبا للسلم واالستقرار إلى درجة القبول بوضعية "القنانة" أو التبعية مقابل العيش في رغد واستقرار. وقد ظلت هذه التمثالت والتصورات سارية المفعول خالل العصر الوسيط ،إلى أن ورثتها األزمنة الحديثة .بحيث أن أوربيي القرن الثامن عشر ظلوا يتبنونها .وتجلى هذا التبني في أوساط المثقفين الذين صاغوا نظرية "االستبداد المستنير" في ضوء تلك التمثالت والتصورات .وأطلقوها على نظام سياسي ارتأوا أنه ينسحب على مجتمعات آسيا .وإن هذه التمثالت ذاتها هي التي انطلق منها أيضا كارل ماركس وأتباعه في صياغة نظرية "نمط اإلنتاج األسيوي" ،الذي قالوا بأنه النظام السوسيو-اقتصادي األكثر مالئمة لمجتمعات آسيا ومجتمعات الشرق عموما. ويمكن القول انطالقا مما تقدم ،بأن العصر الوسيط ورث عن اإلغريقيين ،وعن الحضارة اإلغريقية ،هذا التقابل بين الغرب والشرق ،بين أوربا وآسيا .كما ورث النمط الديمقراطي ،واحتفظ بهذا اإلرث إلى أن استلمته منه األزمنة الحديثة والمعاصرة. ومن المفيد التذكير بأن العصر الوسيط عمل على تفعيل مقولة التقابل بين الشرق والغرب .وذهب المجتمع في موضوعها إلى أبعد حدود؛ حيث قسم الشرق إلى مشارق .فهناك شرق أدنى قريب ينطبق على األقاليم البيزنطية ،التي كانت تجمعه بسكانها وشائج .وهناك شرق "أوسط" ،يتمثل في األقاليم اإلسالمية التي دخل معها في سلسلة حروب طويلة .وهناك شرق أقصى ينسحب على أقاليم أقاصي آسيا ،التي اعتبرها موطن مختلف أصناف اآلفات والكوارث التي لم يسلم منها. وإذا كان العصر الوسيط قد عمل على تفعيل مثل هذه المقولة ،فقد أهمل مقولة الديمقراطية التي تخلى عنها كلية .ولم تعد ألخذ مجراها إال بعد الثورة الفرنسية.
17
وعموما ،فال يمكن إنكار حضور بعض مظاهر حضارة العصر القديم خالل الفترة الممتدة بين القرنين الخامس والخامس عشر .وندعو القارئ بالمناسبة للتمييز في هذا الحضور بين أربع محطات رئيسة : أ) تتمثل المحطة األولى في الحضارة اإلغريقية التي تواصل حضور بعض عناصرها خالل العصر الوسيط .وأهم تلك العناصر عنصر التسمية الذي تم التوقف عنده ،وعنصر البطل وظاهرة اإلنسية ،اللذين لبسا لبوسا دينيا بحكم سيادة الفكر الديني الكنسي خالل هذه الحقبة التاريخية ،وعنصر المؤسسة الدينية التي تحولت من معبد كما هو معلوم ،إلى كنيسة أو كاتدرائية ،وعنصر الخمر الذي تحول إلى سائل مقدس يرمز إلى دم المسيح ،وكذلك إلى مشروب أرستقراطي بامتياز ،وعنصر المدينة ( )polisالتي تحولت إلى مركز حضري. ب) تتمثل المحطة الثانية في الحضارة الرومانية التي استمر وجود كثير من مظاهرها خالل العصر الوسيط بفعل عامل الزمن طبعا .ألن العصر الوسيط انبثق مباشرة بعد انهيار اإلمبراطورية الرومانية .ولعل أهم ،وأبرز عنصر جسد ذلك ،تمثل في اللغة الالتينية بتعبيريها الكتابي والشفوي .وظل حضورها متواصال إلى ما بعد القرن العاشر للميالد ،حيث بدأت اللغات الفرنسية وااليطالية واالسبانية والبرتغالية في الظهور والتطور؛ وهي لغات ذات أصول التينية كما هو معروف. وتجسدت استمرارية مظاهر الحضارة الرومانية أيضا في المجال العسكري سواء على مستوى فنون الحرب والقتال أو على مستوى التقنيات العسكرية .وتجلت االستمرارية كذلك في مجال البناء والهندسة المعمارية والزخرفة وفي نمط الحياة. فبعد أن ظل الطابع الريفي يطغى على حياة الناس بين القرنين الخامس والحادي عشر ،عادت ظاهرة االزدواجية كما كانت خالل العصر الروماني .فتوزع المجتمع بين أفراد يعيشون في األرياف وأفراد يعيشون في الحواضر .وتجسدت االستمرارية أيضا في مجال التشريعات والقوانين التي ظلت ذات طابع روماني خالل العصر الوسيط .وال تقل الثقافة أهمية عن التشريعات ،فقد تواصل ،هي األخرى ،حضور كثير من مكوناتها خالل هذه الحقبة رغم سيادة الفكر الالهوتي. وأستطيع التأكيد في هذا المقام ،أن معجم الكلمات المستعملة في التعبير الكتابي، وكذلك منظومة األفكار والقيم والتمثالت التي ورث العصر الوسيط نصيبا كبيرا منها، تمثل رصيدا بالغ األهمية ال مناص من استحضاره عند الحديث عن إرهاصات الوحدة ألنها تشكل قاعدة لإلحساس "باالنتماء ألوربا" أكثر قيمة من تلك التي يشكلها اإلرث المادي .وللداللة على ذلك ،يمكن ذكر كلمة "قيصر" ،التي كانت تطلق على رأس هرم السلطة السياسية في اإلمبراطورية الرومانية .وقد اشتق األوربيون من هذه الكلمة،
18
فيما بعد وبلغاتهم المحلية ،مختلف الكلمات الدالة على المعنى نفسه من قبيل كلمة "كيزر ( )Kaiserعند الجرمان وكلمة "تسار" ( )Tsarعند الصربيين والبلغار. ج) تتمثل المحطة الثالثة فيما يعرف بإيديولوجية التراتبات الثالث التي أعاد 3 إليها الحياة سنة 1027الراهب أدلبرون أسقف الوون (. )Adalbéron de Laon وهي إيديولوجية ذات أصول هندو-أوربية تقوم على فكرة مفادها أن المجتمع مكون من ثالث "فئات" في تراتبية منسقة ومتكاملة :يتألف التراتب األول من رجال الدين ويتألف الثاني من المحاربين و يتكون الثالث من الفالحين. اجتهد رجال الدين في الترويج لهذه اإليديولوجية وفي إقناع خاصة المجتمع وعامته ،المؤلفة أساسا من فالحين ،بأن التفاوت بين التراتبات أمر طبيعي ،وأن التكامل بينها هو األساس .فأفراد التراتب األول يقومون بمهام ترشيد اآلخرين ،ونشر الوعي الديني والحفاظ على المسيحية .ويقوم المنتمون للتراتب الثاني بإقرار األمن والدفاع عن جميع أفراد المجتمع ورد أي هجوم أجنبي .بينما يبذل أفراد التراتب الثالث قصارى جهدهم لتوفير ما تحتاج له جميع الفئات من أطعمة وأشربة. يمكن القول ،بأن الترويج إليديولوجية التراتبات الثالث ،4ساهم في خلق انسجام مجتمعي على الصعيد األوربي ،ولكن ما يمكن االقرار به عالنية ،هو أن إدراج الفالحين إلى جانب الفئات االجتماعية األخرى في منظومة فكرية منسجمة ،دليل على قناعة النخبة المثقفة من رجال الدين بأهمية العمل ودوره في تنمية الفرد والمجتمع. وهذا ما سيتأكد خالل العقود والقرون التي تلت تاريخ انتعاش تلك اإليديولوجية. د) تتمثل المحطة الرابعة واألخيرة في العقيدة التي يجسدها الكتاب المقدس الذي - 3رجل دين وسياسة .يضع الذين ترجموا له والدته بين سنتي 947و .950ينحدر من أسرة نبيلة ثرية .كان غريب األطوار ،ولم تكن له حظوة بين رجال الدين ،ولكنه اشتهر بفصاحته ،وربما هذا ما ساعده على أن يصبح مستشارا لروبير التقي الذي حكم غالة بين سنتي 996و.1031 شغل أدلبيرون منصب أسقف كنيسة الوون (( )Laonبمنطقة بيكارديا) منذ سنة 977حتى وفاته سنة .1030كما ألف بعض النصوص النثرية والشعرية ،التي لم تلق رواجا بين "مثقفي" عصره .ولكن نجمه سطع كمفكر ،سنوات قليلة قبل وفاته حين نظم نصا شعريا مطوال قدمه للملك روبير ،تحدث فيه عن شخص الملك وعن دوره ،وعن رجال الدين. وخصص قسما منه لعرض تصوره لما يجب أن يكون عليه المجتمع ،على غرار ما قام به القديس أوغسطين في ← كتاب "مدينة هللا" .واقترح أن ينظر الى المجتمع بكونه مؤلفا من ثالث تراتبات يكمل بعضها البعض هي :رجال الدين والمحاربون والفالحون. قام بتحقيق النص ونشره عدد من الباحثين ،من بينهم كلود كاروزي ( )Claude Carozziالذي نشره بباريس سنة 1979ضمن منشورات اآلداب الجميلة (.)Les Belles Lettres - 4لمزيد من التفاصيل بخصوص هذه اإليديولوجية ،نحيل القارئ على مقال كلود كاروزي : "les fondements de la tripartition sociale chez Adalbéron de Laon" ,Annales E.S.C,1978,No 4, pp.683-702 وكتاب جورج دوبي (: )Georges Duby Les trois ordres ou l’imaginaire du féodalisme, Paris, Gallimard, 1978.
19
ورثه العصر الوسيط .وقد سهرت المؤسسات الدينية خالل هذه الحقبة التاريخية على صيانته ونشر مضامينه .فأصبح يمثل بحق موسوعة تتضمن كل أشكال وضروب المعرفة التي وضعها هللا بين يدي اإلنسان .وعد في الوقت ذاته مرجعا للتدبر في ملكوت الكون وفي صيرورة الحياة .وقد أخذ هذا الجانب بعدا مهما على الصعيدين الرسمي والشعبي منذ بداية حكم األسرة الكارولنجية .فأضحى الكتاب المقدس مصدرا للذاكرة الجماعية األوربية. )3سيناريو النشأة القروسطوية ألوربا سأقوم في الفقرات الموالية باستعراض اسهامات العصر الوسيط في بناء أوربا. وقد تمت تلك االسهامات على شكل طبقات تراكمت الواحدة تلو األخرى على امتداد األلف سنة التي استغرقها هذا العصر. تموضعت ،أو ترسبت ،العناصر المؤلفة للطبقة األولى خالل فترة غزوات ،ثم استقرار ،القبائل الجرمانية باألقاليم التي كانت تابعة لإلمبراطورية الرومانية .وامتدت بين القرنين الرابع والثامن .ويمكن تسميتها بفترة "تصور ألوربا" ( la conception .)de l’Europe ترسبت عناصر الطبقة الثانية خالل القرنين الثامن والتاسع .وتزامنت مع المرحلة الكارولنجية التي حدثت فيها أولى المحاوالت الجادة لتحقيق وحدة القارة .وقد آلت هذه المحاولة إلى الفشل .فهي مرحلة "أوربا مجهضة" التي تركت أثرا. تمثل سنة ألف (والسنوات الموالية لها عموما) طبقة؛ هي الطبقة الثالثة التي انبثقت خاللها "أوربا محلومة" أو "محلوم بها" .ألن مشروع الوحدة لم يستطع تجاوز عتبة الحلم ،ولكن هذا الحلم كان يستند إلى مقومات حقيقية. تلت هذه "الرعشة" ،التي تأرجحت بين الحلم والحقيقة ،الطبقة الرابعة ،وهي أوربا الفيودالية التي استغرقت القرنين الحادي عشر والثاني عشر. يمثل القرن الثالث عشر فترة ترسب عناصر طبقة أوربا المشعة التي استمدت إشعاعها من عالم المدن والجامعات والكاتدرائيات والفن القوطي. وتموضعت في النهاية آخر طبقة قروسطوية .وتزامنت مع القرنين الرابع عشر والخامس عشر ،الذين شهدت أقاليم أوربا خاللهما مصاعب اقتصادية واجتماعية وديموغرافية كادت أن تعصف بمكاسب القرون السالفة .ولكن بنيات "ما قبل أوربا الموحدة" أبدت ثباتا أمام هذا اإلعصار .فقدر بذلك لمسيرة الوحدة واالندماج أن تستمر خالل القرون الموالية. وفي ضوء ما تقدم ،يتضح بأن وحدة أوربا تمت على شكل طبقات متعاقبة عبر مراحل وفق التطور التاريخي .وهذا ما يبرر اللجوء إلى تبني طريقة العرض
20
الكرونولوجي ،الذي أتمنى أال يشعر القارئ بنوع من الملل ،ألنه سيجعله يلج الى قلب الصور الجديدة ،وحاالت "الشك" الجديدة ،التي ميزت المجال األوربي.
21
الفصل األول تصور أوربا (بين القرنين الرابع والثامن)
تبدو مقولة االنتقال من العصر القديم الى العصرالوسيط التي يتبناها المشتغلون في حقل البحث التاريخي ،مقولة وجيهة وال مناص من تبنيها عند البحث في تطور التاريخ األوربي .وتقضي وجاهتها التخلي عن وجهة النظر التي ظل يتبناها مؤرخو أوربا ،منذ مطلع القرن الثامن عشر وحتى أواسط القرن العشرين ،والتي تلخصها فكرة مفادها أن اإلمبراطورية الرومانية لم تمت ميتة طبيعية ،وإنما تم اغتيالها .بمعنى أن االنتقال بين العصرين القديم والوسيط حدث بشكل كارثي .وخالفا لهذا التصور، فإن عددا من الباحثين المعاصرين يعتقدون اليوم ،بأن هذا االنتقال حدث نتيجة تطور موضوعي طويل المدى ،تخللته فترات حادة ومثيرة .ولتجسيد هذا االعتقاد ،فإنهم يستعملون عند الحديث عن الفترة الممتدة بين القرنين الرابع والثامن عبارة "العصر القديم المتأخر". وال أخفي قناعتي بصالحية هذه التسمية ألنها ،األكثر تطابقا مع طبيعة التطورات التي شهدتها مناطق أوربا خالل الفترة المذكورة .وفي ضوء هذه القناعة أرى بأن أوربا بدأت في الظهور خالل هذه الفترة .وقد حدث ذلك الظهور في خضم تحول ذي وجهين :يتمثل وجهه األول في انتشار الديانة المسيحية في ربوع أوربا بين سنة 313ميالدية ،تاريخ اعتراف اإلمبراطور قسطنطين بهذه الديانة ،وسنة 390 ميالدية ،تاريخ إقرارها كديانة رسمية (كدين دولة) من قبل اإلمبراطور ثيودوس األول .ويتمثل وجهه الثاني في قيام اإلمبراطور ذاته بتقسيم اإلمبراطورية بين ابنيه إلى قسمين :واحد شرقي وآخر غربي .ومنذ هذا التقسيم اتبع كل جناح من اإلمبراطورية مسارا مختلفا عن مسار اآلخر .وٳن القسم الغربي هو الذي قدر له أن يكون مهد نشأة أوربا الموحدة.
22
)1القديس أوغسطين وعمﻠية التمسيح أعتقد أن عملية انبثاق أوربا ،التي أسعى إلى تتبع مسارها ،تمت عبر ظاهرتين رئيستين شكل القرنان الرابع والخامس حيزهما الزمني .وإن إحدى هاتين الظاهرتين التي يجدر التوقف عندها تتمثل في عملية صياغة العقيدة المسيحية .وقد تمت هذه الصياغة في نفس خط صياغة التوراة والعهد الجديد وورثها العصر الوسيط .وتحمل عناء القيام بهذه المهمة عدد من رجال الكنيسة ورواد الديانة المسيحية ،وأبرزهم القديس جيروم ( 347( )Saint Jérômeم 420 – .م ).والقديس أوغسطين ( Saint 345( )Augustinم 430 – .م ).اللذين يستدعي األمر تخصيص فقرة للحديث عنهما بالنظر إلى قيمة إسهاماتهما في تشكل الثقافة األوربية. يعتبراألول رجل دين مخضرم .وقعت مجريات حياته في نقطة تقاطع بين الشرق والغرب ،ألنه ولد في منطقة محاذية لكرواتيا الحالية ( ،)la Croatieوتابع دراسته بروما،وقضى فترة طويلة من حياته كناسك في إحدى مناطق الشرق ،وتوفي ببيت لحم .ورغم أن هذه المعطيات تطرح صعوبة إيجاد صلة بين الحديث عنه والحديث عن مستقبل أوربا ،فال مانع ،من ذكره ألنه أنجز عمال جبارا ،يتمثل في قيامه بترجمة التوراة إلى الالتينية انطالقا من نسخة عبرية حلت محل النسخة اإلغريقية الرديئة .وقد أصبح النص الذي أنجزه األكثر تداوال واعتمادا على امتداد العصر الوسيط رغم خضوعه لعدة مراجعات. أما رجل الدين الثاني فيعتبر ،بعد القديس بولس ( ،)Saint Paulأبرز رجال الدين الذين عملوا على نشر وإرساء تعاليم المسيحية .كما يعتبر أشهر أعالم ومفكري العصر الوسيط من خالل مؤلفاته؛ وأهمها مذكراته التي استعرض فيها مجريات ومالبسات اعتناقه للمسيحية .وتمثل هذه المذكرات ،التي تم نشرها تحت عنوان "اعترافات" ،أول أنموذج ضمن سلسلة المؤلفات التي تهم السير الذاتية ،والتي ستنتشر فيما بعد بمختلف أنحاء أوربا .وال يقل أهمية عن هذا الكتاب مؤلفه الثاني المعروف "بمدينة هللا" الذي وضعه بعد سنة 410للميالد على اثر عمليات النهب والتخريب التي تعرضت لها مدينة روما على يد قبائل القوط بزعامة ألريك ( .)Alaricوكان من تداعياتها انتشار فكرة "قرب قيام الساعة" في أوساط عدد من رجال الدين وفئات عريضة من عامة مسيحيي أوربا ،مما دفع القديس أوغسطين إلى بذل جهود مضنية لتبديد هذا التصور وتخفيف حدة الهلع الذي استبد بالقلوب، والترويج لفكرة مؤداها أن القيامة ستحدث في مستقبل غير منظور على المدى القريب ،وال يعلم ساعة حدوثها إال هللا تعالى .وإذ نجح القديس أوغسطين في إقرار وجهة نظره ،فقد وضح أيضا في مؤلفه قواعد العالقة التي يجب أن تقوم بين "مدينة
23
هللا" و"مدينة اإلنسان" .وكأنه بذلك سعى إلى وضع حدود بين قدرة هللا وقدرة اإلنسان ،أي بين السلطتين الدينية والدنيوية. )2رواد ثقافة العصر الوسيط شكل التراث الفكري المنتمي إلى مرحلة نهاية العصر القديم وبدايات انتشار المسيحية لبنة مهمة ستقوم على أساسها انجازات أعالم القرون السادس والسابع والثامن؛ الذين نجحوا في المزج بين الثقافة الرومانية التي سادت خالل العصر القديم، ومتطلبات المجتمعات الجديدة التي انضافت إليها العناصر الوافدة إلى أقاليم غرب أوربا في سياق عمليات الغزو واالجتياح التي قامت بها القبائل الجرمانية. ومن بين األعالم الذين قدموا إسهامات قيمة خالل هذه القرون بوويس (( )Boèceالمتوفى سنة 520م ).الذي أهلته ثقافته وانتماؤه ألسرة أرستقراطية رومانية عريقة لالنخراط في حاشية ثيودوريك ( )Théodoricزعيم القوط الشرقيين. غير أن موقفه المساند إلمبراطور بيزنطة في صراعه مع القوط الشرقيين حكام ايطاليا أدى به إلى السجن الذي قضى به ما تبقى من حياته. وضع عدة مؤلفات في الفلسفة ،قبل فترة سجنه ،تضمنت نقوالت كثيرة من مؤلفات أرسطو .كما ألف مصنفا آخر وهو في السجن لقي رواجا كبيرا. وعموما ،فإلى بوويس يرجع الفضل في تعرف أوربيي بدايات العصر الوسيط على منطق أرسطو ،وعلى كثير من مبادئ فلسفته .كما يرجع له الفضل في كونه يعتبر واضع أسس "الحركة اإلنسية" التي شهد العصر الوسيط بعض تجلياتها. وعلى غرار بوويس ،يعد المفكر كاسيودور (( )Cassiodoreالمتوفى سنة 580م).علما بارزا .ينحدر هو اآلخر من أسرة ايطالية رومانية عريقة .وضع معارفه وثقافته رهن إشارة القوط الشرقيين حكام ايطاليا .وقام بدور بارز في التقريب بين وجهات نظر حكام ايطاليا واألباطرة البيزنطيين .غير أن جهوده لم تحقق النجاح المنشود ،حيث قام اإلمبراطور جستنيان ( )Justinienبغزو ايطاليا سنة 539م .فحز ذلك في نفس كاسيودور ،الذي قرر هجر السياسة واالبتعاد عن دواليب السلطة. وقضى ما تبقى من حياته معتكفا ،في إحدى المؤسسات الدينية ،على ترجمة المؤلفات اإلغريقية ،واستنساخ المؤلفات الالتينية. ومن هذا المنطلق ،يعتبر أول من عرف األوربيين بقيمة الكتب وعلمهم كيفية إقامة المكتبات .وهو أول من أقترح على األساقفة ميدانا جديدا للعمل يتمثل في التثقف واالجتهاد الفكري كأداة لصقل مؤهالتهم والتمكن من التأثير .ووضع رهن إشارتهم في بعض مؤلفاته ،وأهمها كتاب "المؤسسات اإللهية واألدب العلماني" )Insti-
24
( ،tutiones divinarum et saecularium litterarumموسوعة علوم "دنيوية" يمكن العودة إليها لتحقيق هذا المسعى. وبعد وفاته ،اشتد االقبال على الموسوعات من قبل األساقفة ،وعموم المتعلمين، إذ وجدوا فيها نمطا من التآليف يوفر لهم عصارة عطاء المفكرين القدامى ،ويمكنهم من االنطالق نحو فضاء أرحب .وعلى هامش هذا المعطى ،ال بأس من تذكير القارئ بأن النمط الموسوعي في التأليف يمثل إرثا إغريقيا ورثه العصر الوسيط .وأصبح منذ القرن الثامن عشر وإلى يومنا هذا أداة أساسية في التعليم والتثقيف. وعلى كل ،يمكن أن ندرج اضافة الى القطبين السالفي الذكر ،إيزيدور اإلشبيلي ( )Isidore de) Sévilleالمتوفى سنة 636م ).الذي يعد من بين كبار األعالم والموسوعيين .ينحدر بدوره من أسرة أرستقراطية عريقة ذات أصول إسبانو- رومانية .أصبح مطرانا لكنيسة اشبيلية حوالي سنة 600م ،.في وقت تخلى فيه القوط الغربيون ،حكام اسبانيا ،عن المذهب اآلري العتناق الكاثوليكية األرثوذوكسية. اشتهر بكتاب "علم أصول الكالم" ( )Etymologiaeالذي يتألف من 20كتابا و 448فصال ،تعالج معارف شتى .وقد ظل هذا الكتاب يشكل أحد مصادر المعرفة خالل العصر الوسيط .فعد بحق واحدا من أبرز الموسوعات التي وضعت خالل هذه الحقبة التاريخية. ويمكن أيضا أن ندرج ضمن سلسلة الرواد علما أنجلو سكسونيا هو المفكر بيد (( )Bèdeالمتوفى سنة 736م .).ويعتبر سليل األساقفة األوائل الذين كان لهم الفضل في نشر الديانة المسيحية بالجزر البريطانية ،وفي نقل جانب من التراث الفكري الروماني إلى هذه الربوع .كان هو اآلخر موسوعي الثقافة .ألف في ضروب مختلفة من العلوم .بل ربما تميز عن الرواد اآلخرين في كونه كان متفقها في علوم الدين وفي علوم الطبيعة .واليه يعزى الفضل في جعل ثقافة العصر الوسيط تتحلل شيئا فشيئا من طابع التقليد الذي ميزها خالل القرون األولى من العصر الوسيط لتسلك مسلكا آخر ذي صبغة أوربية هذه المرة. )3ﯕريﯕوار األكبر ينتمي القديس ﯕريﯕواراألكبر( )Saint Grégoire le Grandإلى ثلة رواد ثقافة العصر الوسيط ،كما أن انجازاته العلمية ال تختلف عن انجازات بوويس أو كاسيودور أو غيرهما من األعالم الذين ورد ذكرهم سابقا ،ومع ذلك ،لم يدرج الباحثون المحدثون والمعاصرون إسمه ضمن الئحة آباء العصر الوسيط كالقيس بينوا واالمبراطور شارلمان رغم أنه يستحق هذا اللقب بكل جدارة. ولد القديس ﯕريﯕوار األكبر حوالي سنة 540وتوفي سنة .604ينحدرمن أسرة
25
نبيلة كانت تقيم ،زمن والدته بروما .أبان عن مقدرة في تموين هذه المدينة التي كان عمدتها سنة .573كما استثمر العقارات التي كانت في حوزته في تشييد ستة موناستيرات بجزيرة صقلية .وشيد موناستيرا سابعا بمدينة روما أراد االعتكاف به. فعينه البابا بالجيوس الثاني ( ،)Pélage IIالذي اعتلى عرش البابوية بين سنتي 579 و ،590سفيرا مقيما بالقسطنطينية .ثم استطاع الرجل بعد ذلك اعتالء كرسي البابوية سنة .590 وقد اشتهر بانجازات جبارة على المستويين العلمي والعملي :فعلى المستوى العلمي ،وضع رهن إشارة عموم المسيحيين عدة مؤلفات تحض على الورع والتقوى. وألف مجموعة كتب تعليمية موجهة لرجال اإلكلروس .وأدخل بعض التعديالت على الترتيل الذي يردده مرتادو الكنائس .فأصبح يعرف منذئذ "بالترتيل الﯕريﯕوري" .أما على المستوى العملي ،فاشتهر بنشاطه الدءوب في عدة واجهات .فالى جانب المؤسسات الدينية التي شيدها ،نجح في التقريب بين البابوية واإلمبراطورية البيزنطية .واجتهد في إعطاء نفس جديد للديانة المسيحية في انجلترا من خالل المبشرين الذين بعثهم لهذه الغاية .وأبان عن حنكة ودراية في الحد من مخلفات الفيضانات المهولة التي شهدها نهر التيبر) )Tibreسنة 589؛ والتي تلتها في السنة الموالية موجة طاعون ،كان من الممكن أن يكون لها تأثير على عقلية المسيحيين وذهنياتهم. تواصلت ،بموازاة األنشطة الفكرية والدينية ،وغيرها من االنجازات ،التي ورد ذكرها بمناسبة الحديث عن رواد ثقافة العصر الوسيط ،عملية االنصهار بين ثقافة سكان أوربا األصليين وبين ثقافة العناصر الوافدة إليها بمناسبة الغارات وعمليات الغزو التي شهدتها أقاليم غرب أوربا .وقد كانت عملية االنصهار تتم بشكل خاص في الكنائس ،وفي المؤسسات التعليمية ،رغم أن أعداد الوافدين على هذه المؤسسات الدينية-التربوية كان قليال .وقد مثلت المسيحية األداة األولى بامتياز في تحقيق تلك العملية. والحقيقة أن عملية التثاقف بين "المتبربرين" والرومان ،تعود إلى زمن سابق على سقوط روما ،ألن الحدود الفاصلة بين مجال استقرار المجموعتين لم تكن تحول دون انتقال التأثيرات بينهما .كما أن عمليات المقايضة والمبادالت ،ومختلف أشكال التواصل ،هيأت األرضية لحدوث االنصهار بين الطرفين ،رغم العداء الذي ميز العالقات القائمة بينهما ،والذي تجلت مظاهره بشكل أوضح في عمليات الغزو. وفي خضم هذا االختالط أو االنصهار ،الذي حدث لحظة نشوء أوربا ،أخذت تتجسد ،ومنذ البداية ،جدلية الوحدة والتنوع التي الزالت تعد إلى اليوم واحدة من أبرز خصائص أوربا.
26
)4الغزوات والتثاقف حدثت أولى موجات الغزو في نهاية القرن الثالث للميالد .غير أن الغزو العام الذي قام به الجرمان لكل من ايطاليا واسبانيا وغالة بين سنتي 406و ،407وسقوط روما في حوزة الزعيم ألريك ( )Alaricسنة ،410يمثل بداية عملية استقرار الجرمان في أقاليم اإلمبراطورية الرومانية .وكان من تبعات هذا الحدث اختفاء خطوط الحدود العسكرية الرومانية في أقاليم أوربا الغربية. ومن المعروف أن المد الجرماني تواصل خالل القرنين الخامس والسادس .فبعد تدفق القوط الشرقيين والغربيين وقبائل الوندال وقبائل األالن ،الذين عبروا نهر الراين عند مطلع القرن الخامس ،شرع البورغنديون والفرنجة واأللمان ()les Alamans بدورهم في اقتحام أقاليم جنوب أوربا؛ بينما عبرت قبائل الجوت ))les Jutes واألنجل ) )les Anglesوالسكسون بحر الشمال في اتجاه الجزر البريطانية. واكتملت عمليات التدفق خالل هذه المرحلة باكتساح اللومبارديين ألجزاء من ايطاليا في النصف الثاني من القرن السادس. وأخذت خارطة أوربا السياسية تتشكل من جديد في ضوء هذه التحركات البشرية .فقد تمكن الفرنجة من السيطرة على مجموع أقاليم غالة التي أسسوا بها مملكة تحت إمرة كلوڤيس ( .)Clovisبينما أسس القوط الشرقيون مملكة لهم بأقاليم شمال شرق ايطاليا تحت قيادة ثيودوريك ( .)Théodoricأما القوط الغربيون ،الذين اضطروا إلى الجالء عن غالة ،فقد نزحوا إلى شبه جزيرة أيبيريا التي أسسوا بها مملكة جرمانية. وكان من الممكن أن يفضي هذا التدفق البشري ،الذي واكبته أحداث دامية ،إلى حدوث شرخ عميق بين الوافدين والسكان األصليين ويؤثر سلبا على نشأة أوربا ،ألن الوافدين كانوا يعتنقون المذهب اآلري ،بينما كان السكان األصليون يعتنقون الكاثوليكية ،ويرون المذهب اآلري بدعة وخروجا عن الدين .غير أن تحول الغزاة إلى الكاثوليكية األرثوذكسية ،حال دون حدوث هذا الشرخ .ولتأكيد هذه الحقيقة ،ال بأس من التذكير بأجواء التهدئة التي شهدتها أقاليم غالة بعد اعتناق كلوڤيس ()Clovis زعيم الفرنجة للمسيحية الكاثوليكية. ومهما يكن من أمر ،فالراجح أن شبكة العالقات اخذت تتشكل في خضم هذه األحداث ،كما أنها بدأت تأخذ شيئا فشيئا بعدا أوربيا .وعليه ،فعندما كان يقع حدث ما في إقليم من األقاليم كانت أصداؤه تصل إلى مختلف أنحاء أوربا .وللداللة على صدق ذلك ،يكفي أن نسوق حادث وفاة القديسة جرثرود ( )Gertrudeسنة .658فقد توفيت بضواحي بروكسيل ،وبلغ نبأ وفاتها إلى مسامع الرهبان ،وعموم رجال الدين،
27
بمختلف األنحاء .وإذا كان هذا الحدث يفيد من جهة بأن رجال الدين كانوا يشتركون في اإلحساس باالنتماء إلى مجال جغرافي واحد هو أوربا ،فإنه يحيل من جهة أخرى إلى مسألة أساسية اليزال لها حضور قوي في أوربا ،وهي أن مركز الجاذبية السياسي والفكري في غرب أوربا بدأ ينتقل رويدا رويدا ،ومنذ هذا الوقت المبكر ،من األقاليم الرومانية المتوسطية إلى األقاليم الواقعة شمال جبال األلب .تجسد االنتقال السياسي، على سبيل المثال ،في كون فرنجة غالة اتخذوا من باريس ،الواقعة في الشمال ،قاعدة لمملكتهم .وتجسد االنتقال الفكري في كون عدد من الموناستيرات االيرلندية أصبحت مراكز شهيرة مختصة في تأهيل المبشرين الذين كانوا يجوبون مختلف مناطق أوربا لنشر المسيحية ،وتشييد الموناستيرات واألديرة. ويمكن ربط هذا التحول يحدثين بارزين ،غدا لهما تأثير في مجرى التاريخ األوربي :حدث أول داخلي يتصل بمدينة روما .فقد تراجعت أسقفيتها ،وفقدت الكثير من بريقها .كما أنها أصبحت عرضة لتهديد "المتبربرين" من قوطيين ولومبارديين. ومن ثم ،لم يعد حكام بيزنطة يعترفون بريادتها الدينية .وفضال عن كل هذا وذاك ،فإن هذه المدينة ،التي كانت قاعدة اإلمبراطورية الرومانية لم تعد ،من وجهة نظر سياسية وجغرافية ،مركز العالم األوربي .أما الحدث الثاني ،فهو حدث خارجي ،يتمثل في المد اإلسالمي الذي تجاوز مداه ،في وقت من األوقات حدود شمال إفريقيا ليشمل مناطق عدة من أوربا كشبه جزيرة أيبيريا وجزيرتي صقلية وسردينيا .فوقع تبعا لذلك تشكل جغرافي جديد كان من نتائجه حدوث تقابل بين أوربا الشمال وأوربا الجنوب ،وصعود مراكز طرفدارية في أوربا الجديدة المسيحية .تمثلت في المركز السلتي والمركز األنﯕلوسكسوني ،اللذين سينضاف إليهما مستقبال المركز النورماندي ،والمركز اإلسكندناﭭي ،والمركزالسالﭭي .بينما تحولت أقاليم البحر المتوسط إلى جبهة نشيطة لحركة االسترداد المسيحي ،وفضاء للعالقات مع المسلمين الذين نجحوا حتى مطلع القرن الحادي عشر في السيطرة على هذا المجرى المائي ،وفي فصل إفريقيا عن المسيحية وعن العالم المسيحي. ونستغل هذا المعطى األخير لإلشارة إلى أن انفصال إفريقيا عن أوربا ،كان بدوره حدثا بارزا ذا داللتين .فقد مثل ،من جهة ،خسارة بالنسبة للمسيحية التي فقدت مناطق في شمال إفريقيا كانت موطنا مهما للمسيحية خارج أوربا .ساهمت ،تلك المناطق ،بدور بارز في إثراء الفكر الديني وفي التصدي للمناوئين للمسيحية من دوناتيين وغيرهم .ولكن هذا الحدث شكل ،من جهة أخرى مكسبا بالنسبة ألوربا في مسيرتها نحو الوحدة.
28
)5حكومة األساقفة والرهبان شكلت الديانة المسيحية البوتقة التي انصهرت فيها مختلف فئات المجتمع األوربي خالل القرون األولى من العصر الوسيط ،كما أعطت في نفس الوقت لجميع األقاليم نوعا من الوحدة والتجانس .ومن هنا نفهم الدور المتميز الذي قام به األساقفة في إدارة الشأن العام و ملء الفراغ السياسي خاصة في الحواضر القليلة التي ظلت تقاوم األحداث والتطورات في أقاليم غرب أوربا .وكان هؤالء األساقفة يمارسون سلطتهم في نطاق دوائر ترابية تتطابق عموما مع الدوائر التي كانت معروفة زمن سيادة روما. ألف األساقفة جانبا من هيئة رجال الدين التي أصبحت تضم ،بالموازاة مع انتشار الديانة المسيحية ،فئات كثيرة ،من بينها فئة الكهنة وفئة الرهبان. كان المنضوون في فئة الرهبان من النساك في األغلب األعم ،ولكن لم يكن كل واحد منهم يعيش منفردا في عزلة كما تفيد بذلك التسمية التي يحملونها ،بل كانوا يعيشون في طوائف .وقد كان معظمهم يقيم في موناستيرات تقع خارج المدن ،أو بمحاذاة النطاقات الغابوية ،بينما آثر عدد منهم حياة الترحال والتنقل الدائم .وعموما قام الرهبان المستقرون بدور بارز بين القرنين الرابع والثامن تجسد في نشر المسيحية في أوساط فالحي القرى ،بينما ساهم الرهبان "الرحل" في نشر المسيحية في مناطق أخرى .وقد اشتهر في هذا المضمار الرهبان اإليرلنديون الذين قاموا بدور متميز في نشر المسيحية في المناطق الممتدة بين شرق غالة وشمال ايطاليا. والجدير بالذكر في هذا المقام أن النشاط الديني لم يكن حكرا على الذكور وحدهم .فقد آثر عدد من اإلناث حياة العذرية والعفة وانخرطن بدورهن في هيئات، وأقمن في موناستيرات ،واشتهرن بنشاط ملحوظ في نشر المسيحية وفي رعاية ذوي الحاجة. )6أبطال جدد :القديسون أفضت األوضاع الجديدة في أوربا إلى ظهور صنف جديد من األبطال احتلوا المكانة التي كان يحظى بها أبطال العصر القديم الذي سادته الوثنية. هؤالء األبطال الجدد هم القديسون الذين تميز الجيل األول منهم بكونهم قاموا ببطوالت خارقة ،حيث لم يتردد الواحد منهم في وهب نفسه قربانا هلل تعالى :إنهم "الشهداء". ويبدو أن التدرج في فهم واستيعاب الديانة المسيحية بصورة أفضل ،أفضى إلى تراجع عدد هؤالء الشهداء ،مما فتح المجال لظهور فئة جديدة من رجال الدين هم
29
القديسون الذين خصتهم الكنيسة بحظوة ،ووعدوا بأن يكونوا من أهل الجنة ،فأصبحوا مجال تبجيل بين عموم الناس ،بل تحول هذا التبجيل في كثير من الحاالت إلى تقديس. ومن المعلوم أن التقديس ال يكون إال هلل ،وهو وحده القادر على القيام بفعل خارق ،ولكن فئات عريضة من عامة المجتمع ارتبطت القدسية في أذهانها بعدد من القديسين الذين اقترنت بأسمائهم بعض الخوارق و"الكرامات" .فقد كانت عيادة أحد األحياء منهم ،أو زيارة ضريح من توفي منهم ،تشفي من المرض. وكان من نتائج هذا الوضع المتميز الذي حظي به القديسون ،أن انضموا هم أيضا إلى التشكيلة المؤلفة من الرهبان والقساوسة وكبار رجال الدين الذين قدر لهم ممارسة السلطة خالل هذه المرحلة األولى من مراحل نشأة أوربا. )7قياس جديد لﻠزمن كان لحركات الرهبنة تأثير واضح في طبائع أفراد المجتمع األوربي وفي نمط عيشهم وطرق تفكيرهم وسلوكهم اليومي .فالرهبان ،المنضوين في تلك الحركات، يؤدون ،كما هو معروف ،عددا من الصلوات في كل يوم .ويوزعون تلك الصلوات بشكل منتظم على الليل والنهار .كما أنهم يصومون خالل فترات معينة ،ليس العتبارات دينية فقط ،وإنما العتبارات صحية أيضا .ومن ثم ،فإلى هؤالء الرهبان يعزى الفضل في تعليم الناس كيفية تدبير شؤونهم اليومية ،وكيفية تنظيم أوقات العمل وأوقات الراحة بشكل يفضي إلى إحداث نوع من االنسجام والتناوب في آن واحد بين أوقات العمل وأوقات الراحة. ومن هذا المنطلق ،أعتقد بأن تأثير المسيحية كان جليا فيما يتعلق بمسالة قياس الزمن ،رغم أن العمل بالتقويم الروماني ظل ساريا خالل العصر الوسيط .ولكن هذا السريان ال يمنع من القول بأن ثمة مستجدات ظهرت في هذا الشأن ال يمكن إغفالها، ومن بينها اإليقاع والتدرج الذي أعطي أليام األسبوع .فقد تم اتخاذ مسألة خلق الكون كمرجعية لتبني تدرج وتوالي السبعة أيام التي تمت فيها هذه النشأة .وعلى هذا المنوال ،أصبح األسبوع يتكون من ستة أيام باإلضافة إلى يوم سابع للراحة. والمالحظ أن يوم الراحة احتل موقعا متميزا في رزنامة هيئة رجال الدين ،على مختلف مشاربهم ،وأصبح جميع المسيحيين ،على مختلف انتماءاتهم السوسيو– مهنية ملزمين به حتى أن شارلمان اضطر إلى تقديم ملتمس للكنيسة الستثناء الفالحين وإسقاط هذا االلتزام عنهم ألن طبيعة نشاطهم االقتصادي تقتضي العمل الدؤوب طوال أيام األسبوع ،وخاصة خالل مواسم الحصاد وجني المحاصيل. ومما الشك فيه أن تأثير المسيحية كان جليا في عملية التقويم التي شهدت بعض مظاهر التجديد فيما يتعلق بنقطة االنطالقة أو المبتدى .فقد اقترح الراهب ديونيسيوس
30
( ( )Dionysiusدوني الصغير ( )Denys le Petitمنذ سنة 532أن يتخذ المسيحيون من مولد المسيح منطلقا لتاريخهم .ولكن األمر لم يكن بهذا اليسر ،ولذلك ظلت الكنيسة تتردد لفترة من الزمن في تحديد يوم معين تبتدأ فيه السنة في مجموع األقاليم التي كانت تسود فيها المسيحية .وقد تم في األخير اختيار ثالثة تواريخ لتكون منطلقا هي 25 :دجنبر(الذي يحيل إلى مسألة التجسد) و 25مارس ( الذي يحيل إلى يوم البشرى) والفصح (الذي يبقى يوما متحركا يقتضي من القائمين على الشأن الديني القيام بعمليات حسابية معقدة كل سنة ومراقبة حركة القمر لتحديده). وبناء عليه ،فإن التقويم المسيحي هو في مجمله تقويم شمسي ،أصبح جميع األوربيين ،باستثناء أوربيي األقاليم الشرقية األرثوذوكسية ،يخلدون بمقتضاه كل سنة حفلين جديدين كبيرين ،هما حفل ميالد المسيح ،الذي تم االتفاق منذ القرن الرابع على إحيائه عند حلول يوم 25دجنبر من كل سنة ،وحفل تخليد انبعاث السيد المسيح ،أو عيد الفصح ،الذي لم يتم تحديد يوم معين إلحيائه ،إذ ترك يوما متحركا كما سبق القول. ويبدو أن جهود رجال الدين الهادفة إلى صياغة منظومة جديدة لقياس الزمن، لم تتوقف فقط عند الجوانب النظرية المتصلة بهذا القياس ،بل تجاوزت هذا المستوى النظري ألجرأة بعض مظاهر قياس الزمن على أرض الواقع .وتجلت هذه األجرأة في اللجوء إلى استعمال األجراس (أو النواقيس) .فتم لهذا الغرض تشييد أبراج ثبت بقمة كل واحد منها جرس كبير أو مجموعة أجراس كانت تقرع معلنة بداية الساعة .وقد بدأ العمل بهذه التقنية منذ القرن السابع .ورغم أن عملية ضبط التوقيت ظل يتحكم فيها الرهبان ،فإن اإلشعار الصوتي بحلول الساعة أصبح يصل إلى مسامع الناس في الحواضر ،كما في البوادي .فمثل هذا الحدث بحق سابقة في تاريخ أوربا كان لها أبلغ األثر. )8إعادة تشكيل المجال لم ينحصر حضور الديانة المسيحية في مسألة إعادة صياغة الزمن ،بل تجاوزها ليسجل حضورا ملفتا أيضا في عملية إعادة تشكيل المجال ،التي ال تقل هي األخرى أهمية. وقد تجلت هذه العملية في تقسيم التراب األوربي إلى "ديوسيزات" )des ) . diocèsesوهي عبارة عن مجموعة دوائر ترابية كانت منتظمة في شبكات تمتد كل واحدة منها طوال وعرضا بين عدة نقاط أو مراكز. وبما أن هذا التقسيم الترابي تم تحت تأثير المسيحية ،فقد كان من الطبيعي أن ترتقي إلى الواجهة مراكز دينية أو مواضع تحتضن مدافن بعض الرهبان أو القديسين.
31
فأصبحت هذه المراكز والمواضع بدورها نقاط ربط في تلك الشبكات ،كما هو الشأن بالنسبة لمدفن القديس بطرس في مدينة تور ،أو مدفن القديس بولس في روما .وقد أفضت عملية تقديس القديسين األحياء واألموات إلى ارتفاع وتيرة الزيارات التي كان يقوم بها عموم المسيحيين لمواطن ،ومراقد هؤالء القديسين .فتحولت تلك الزيارات إلى حركة حجيج وطدت الصالت بين مسيحيي مختلف مناطق أوربا .واألهم من ذلك، هو أن حركة الحجيج تلك أصبحت منتظمة ذهابا وإيابا عبر محطات ،غدت هي األخرى مراكز في الشبكات التي سبق الحديث عنها .وأستحضر في هذا السياق مثال موناستير فلوري ( )Fleury-sur-Loireالذي أصبح منذ القرن السابع أحد أكبر المراكز التي يؤمها الحجاج بعد أن نقلت إليه بقايا رفات القديس بينوا "النورسي" ( )Saint Benoît de Nursieالذي كان مدفونا في موضع مهجور بجبل كاسان "مونتي كاسينو" ( )mont Cassinجنوب ايطاليا منذ وفاته خالل أحداث الغزو اللومباردي. )9قطبان طاردان :بيزنطة واإلسالم واالختيار بين الصور يتضح أن ثمة حدثان بارزان "سلبيان" كان لهما دور حاسم في نشأة أوربا بين القرنين السابع والرابع عشر ألنهما أفضيا إلى انبثاق هوية دينية أو "وطنية" في مجموع مناطق أوربا .يتمثل هذان الحدثان في تنامي قوة كل من بيزنطة واإلسالم اللذان شكال قطبين طاردين. كانت بيزنطة تاريخيا أول قطب طارد من خالل سعي القائمين عليها إلى بسط سيادتهم على كامل مناطق العالم المسيحي الرومانية واإلغريقية أيضا ،وامتناعهم عن االعتراف بأسقفية روما ،ورفضهم اإلقرار باختالف لغة العبادة والشعائر الدينية التي كانت تتم بالالتينية في مناطق ،وباإلغريقية في مناطق أخرى. والراجح أن الخالفات "الفقهية" أي الالهوتية بين مسيحيي بيزنطة والمسيحيين الالتينيين ،ساهمت بدورها في خلق هوة بين الطرفين .وسرعان ما ازدادت هذه الهوة اتساعا بفعل موقفهما المتباين من مسألة الصور أو األيقونات .ويجدر التذكير في هذا الشأن بأن المسلمين واليهود رفضوا بصفة قطعية الصور ،وما له صلة بالتصوير ،أما في بيزنطة ،فقد خلق الموقف منها أزمة حادة ،بينما تبنت الكنيسة المسيحية في غرب أوربا موقفا مرنا؛ على اعتبار أنها أجازت عملية تجسيد وتصوير السيدة العذراء وسائر القديسين ،ولم تسمح بأن تصبح هذه المجسمات أو الصور موضوع تقديس أو تاليه .وقد كان هذا الموقف ،يمثل مقدمة في اتجاه إرساء أسس الحركة اإلنسية التي شهدتها أوربا فيما بعد ،ألن الفن الذي كان أحد تجليات تلك الحركة ،لم يجد أمامه عوائق تحول دون تطوره.
32
ومهما بلغ مستوى االختالف بين مسيحيي بيزنطة والمسيحيين الالتينيين، فيبدو ،أنه كان أقل حدة من االختالف بين مسيحيي غرب أوربا والمسلمين .فقد ناصب كل واحد منهما العداء لآلخر منذ القرن السابع .وكثيرا ما اكتسى هذا العداء طابع الصراع المسلح. فبعد أن تمكن المسلمون من فتح مناطق شمال إفريقيا ،عبروا البحر المتوسط، كما هو معروف ،ونجحوا في بسط سيطرتهم على معظم مناطق شبه جزيرة أيبيريا في ظرف وجيز بين سنتي 711و .719ولم تعد بحوزة مسيحييها سوى مناطق محدودة في الشمال الغربي .بل إن المسلمين تجاوزا شبه جزيرة أيبيريا ونجحوا في عبور جبال البرانس دون أن يعرف أحد ،على وجه التحديد ،هل كان عبورهم من أجل الحصول على غنائم أم من أجل مواصلة نشر اإلسالم. وعلى كل ،فقد تم وضع حد لمسيرتهم في وقعة بواتيي سنة .732فكانت آخر عملياتهم في أقاليم ما وراء جبال البرانس ،رغم أنهم قاموا بعمليات أخرى خالل القرن التاسع في بعض جزر البحر المتوسط وفي ايطاليا وفي إقليم بروڤونس. والجدير بالذكر أن وقعة بواتيي أسالت كثيرا من المداد في أوربا وفرقت المؤرخين إلى فريقين :فريق يقول بأنها كانت مجرد مناوشات عسكرية غير ذات معنى ،و فريق يقول بأنها كانت حدثا حاسما في الواقع وفي المخيال أيضا. وأعتقد من جانبي أن الحقيقة تكمن من دون شك بين الموقفين .واألهم بالنسبة للقضية المركزية التي نروم توضيحها في الكتاب هو أن وقعة بواتيي تم اإلحساس بها من قبل بعض اإلخباريين المسيحيين كحدث أوربي .وخير مثال يمكن أن نسوقه في هذا الصدد يتمثل في مؤرخ مجهول ،وضع إخبارية تذيل إخبارية ايزيدور االشبيلي، يعتبر فيها االنتصار في وقعة بواتيي بأنه انتصار لجميع األوربيين. )10أريفة أوربا شهدت القرون األولى من العصر الوسيط ثالثة تحوالت ساهمت في إضفاء طابع الوحدة على أوربا ،وخاصة على مناطقها الغربية. هم التحول األول الحياة االقتصادية .وتجلى في اتجاه عالم بأكمله نحو األريفة بعد أن كان يطغى عليه الطابع المديني خالل العهد الروماني .فقد تدهورت الشبكة الطرقية والورشات والمستودعات .كما تراجعت كل المنشآت المبنية من مواد صلبة، على رأسها الحجارة ،وبذلك تراجعت التقنية المتصلة بكل ما له صلة بالحجارة لفائدة تقنية األخشاب التي سجلت عودة قوية .وتبعا لذلك غدت األرياف مجال مختلف األنشطة االقتصادية واالجتماعية .وغدا "المنصوص" (،)le manse( )mansus وهو عبارة عن قطعة أرض صغيرة المساحة ال تكفي مواردها إال إلعالة أسرة
33
واحدة ،وحدة استيطان ووحدة إنتاج .كما تراجع االقتصاد القائم على النقد لفائدة مبادالت تقوم على المقايضة .واختفت المبادالت التجارية البعيدة المدى ،باستثناء بعض المواد الضرورية كمادة الملح.5 وأميل انطالقا من هذه المعطيات ،إلى تبني وجهة النظر القائلة بالتدهور الشامل للمدن ولمظاهر الحضارة التي كانت تحتضنها .وال أشاطر القائلين بأن التدهور كان محدودا .ويكفي أن نذكر في هذا المقام بأن مدنا قليلة فقط هي التي ظلت تقاوم إلى حد ما االتجاه العام نحو األريفة ،ومن بينها مدينة تور ومدينة ريمس ومدينة ليون ومدينة تولوز ومدينة ميالنو. )11الممالك والقوانين البربرية هم التحوالن الثاني والثالث الحياة السياسية ومنظومة القوانين .فقد تمت اعادة تشكيل الخارطة السياسية في أوربا بعد انهيار اإلمبراطورية الرومانية ،وذلك بظهور كيانات سياسية على رأسها ملوك كانوا في األغلب األعم ،قبل اعتالئهم لسدة الحكم، زعماء قبائل .وقد عملوا على توسيع دائرة نفوذهم واجتهدوا في تنظيم ممالكهم ،فذاع صيتهم كما هو الشأن بالنسبة لثيودوريك ملك القوط الشرقيين ،وكلوڤيس ملك الفرنجة، اللذي ن اشتهرا أيضا بإصدارهما لمنظومات قوانين لتنظيم العالقات والمعامالت بين سكان مملكتيهما. كانت تلك المنظومات القانونية في البدء عبارة عن أعراف .فقام أهل النظر بعد ذلك بإثرائها بمجموعة من القوانين الرومانية وتدوينها ،ولذلك ظل يغلب عليها الطابع البربري (الجرماني) .وهي في مجملها عبارة عن بنود ومواد تهم األسعار والذعائر وقيمة التعويضات النقدية وصيغ اإلكراهات البدنية الواجبة في حق المذنبين ،كل حسب انتمائه اإلثني واالجتماعي. وأتفق مع معظم الباحثين في القول بأن تلك المنظومات لم ترق إلى مستوى التطور الذي بلغته ترسانة القوانين في العهد الروماني ،وبالرغم من ذلك ،ساهمت في ضمان نوع من االستمرارية القانونية خالل القرون األولى من العصر الوسيط ،لتظل أوربا بذلك مجاال جغرافيا تتحكم مجموعة قوانين في تنظيم العالقات والمعامالت بين األفراد المستقرين في مختلف أنحائه كما كان الشأن قبل انهيار اإلمبراطورية الرومانية.
- 5للوقوف على طبيعة هذه التحوالت يمكن االطالع على كتاب الباحثة روني دوهير (: )Renée Doehaerd Le Haut Moyen Age occidental. Economies et sociétés, Paris, P.U.F., 1971.
34
الفصل الثاني أوربا مجهضة العالم الكارولنجي (بين القرنين الثامن والعاشر)
تمثل الفترة الكارولنجية الحقبة التي شهدت أهم محاولة لبناء أوربا الموحدة. وقد ارتبطت هذه المحاولة بشخص شارلمان الذي أقام إمبراطورية ،تعد بحق مقدمة في مسلسل بناء أوربا الموحدة. ويجب التنبيه ،قبل المضي قدما في تفصيل الموضوع ،من أي تأويل خاطئ لهذه المسألة ألن نظرة شارلمان كان يغلب عليها في البدء طابع "وطني" ،أو نوع من الشعور القوي باالنتماء إلى الفرنجة .ويتجلى هذا األمر في كون اإلمبراطورية التي أقامها كانت إمبراطورية إفرنجية في المقام األول؛ كما يتجلى أيضا في كون هذا الملك-اإلمبراطور فكر مرة في إعطاء أسماء إفرنجية لألشهر التي تتألف منها السنة الميالدية .ومثل هذه المعطيات أساسية ،وقليال ما نبه إليها الباحثون ،ولذلك ال مناص من استحضارها عند الحديث عن المصير الذي آل إليه مشروع شارلمان ،ألن فشله، يمثل أول فشل لجميع المحاوالت التي رامت بناء كيان أوربي موحد ،يهيمن عليه شعب أو إمبراطورية .وبناء على ما تقدم ،فإن المحاوالت التالية التي قام بها كل من شارل الخامس أو نابليون بونابارت أو أدولف هتلر ،كانت في عمقها محاوالت مناهضة لمشروع الكيان الموحد ( )des tentatives anti-Europeولدلك انتهت إلى الفشل .وتتضمن محاولة شارلمان بدورها شيئا قليال من هذا المصير. )1صعود الكارولنجيين تحقق صعود الكارولنجيين كقوى فاعلة في غالة عبر مرحلتين :كانت األولى
35
بين نهاية القرن الخامس ونهاية القرن الموالي ،زمن حكم كلوڤيس وأبنائه .وكانت الثانية خالل القرن الثامن. فقد كان يحكم مملكة غالة منذ قيامها سنة 511ملوك ينحدرون من األسرة الميروڤنجية .وحدث أن أصبح يحكمها منذ مطلع القرن السابع ملوك مجردين من أي سلطة فعلية ،عرفوا في العصر الوسيط بالملوك "الغير مجديين" أو "الملوك اللذين ال لزوم لهم" .وعرفهم المؤرخون المحدثون "بالملوك الكسالى" .ترك كل واحد منهم أمر تدبير شؤون المملكة بين يدي قطب ،يقوم بتدبير دواليب السلطة ،يعرف بمحافظ القصر ( .)le maire du palaisكان يتم اختيار هذا األخير من بين أفراد األسرة البيبينية ( )les Pippinidesالمنحدرة من منطقة لييج ( ،)Liègeومع مرور الزمن أصبحت هذه وظيفة محافظ القصر متوارثة أبا عن جد. ويعتبر شارل ،المعروف "بشارل المطرقة" ( )Martel Charlesأبرز هؤالء المحافظين .تحمل مهام "المحافظة" سنة 714بعد أبيه بيبن هرسطال ( Pépin .)d’Héristalوقد طبقت شهرته اآلفاق ،وعد الملك الفعلي بعد االنتصارات التي حققها في مختلف الوقائع التي خاضها ،وأشهرها وقعة بواتيي ضد المسلمين. واعتلى بعد وفاته سدة الحكم ابنه بيبن ( )Pépinالذي نجح في استثمار شهرة ونفوذ أبيه ،فانفرد بالحكم وأزاح آخر الملوك الميروڤنجيين .ووضع التاج الملكي على رأسه سنة 751في مجمع ضخم انعقد ببلدة سواسون ( )Soissonsحضره كبار األعيان من الخاصة الالئكيين وكبار رجال الدين. واألهم من كل هذا وذاك ،هو أن عملية "تنصيب" بيبن ،تمت للمرة الثانية سنة 754ببلدة سان -دوني ( )Saint-Denisتحت إشراف البابا .وكان بمعية بيبن ساعة حدوثها ابناه كارلمان ( )Carlomanوشارل ( .)Charlesكانت العملية غنية بالرموز وذات دالالت قوية ،وتفيد بعودة أحد الطقوس الدينية المهمة المواكبة لعملية تنصيب شخص كملك وكقائد مسيحي في ذات الوقت .ومثل هذه الطقوس ترسخ هيبة المملكة على امتداد سنوات وقرون ،ولذلك نرى أن امتداداتها ما زالت قوية الحضور في أوربا إلى يومنا هذا. وأرى أنه من المفيد التذكير في هذا الصدد بأن ملوك القوط الغربيين حاولوا، زمن حكمهم لشبه جزيرة أيبيريا ،أجرأة الطقوس الدينية المواكبة لعملية التنصيب، غير أن محاوالتهم باءت بالفشل .ولم يسع الملوك الذين حكموا خالل فترة حرب االسترداد أو بعدها إلى إحياء هذه الطقوس .وإن أنجلترا وحدها هي التي ظل فيها الملوك ،منذ القرن الثامن ،متشبثين بعملية وضع تاج الملك على رؤوسهم في خضم احتفاالت وطقوس دينية ،ولذلك ظلت هناك منافسة خفية بين ملوك فرنسا وملوك أنجلترا طيلة العصر الوسيط .وكان ملوك فرنسا يتشبثون بأحقية ممالكهم وأسبقيتها في
36
أن تكون ممالك مقدسة ،ألنهم ظلوا يعتقدون بأنهم (هم وممالكهم) ورثوا هذه القدسية منذ فترة تعميد كلوڤيس بعد اعتناقه للمسيحية .وكان من الطبيعي أن تحظى مسألة قدسية الملك والمملكة بمثل هذه األهمية ألن لقب اإلمبراطور لم يعد متداوال منذ سقوط اإلمبراطورية الرومانية. ومهما يكن من أمر ،فإن بيبن ( )Pépinالملك "المقدس" توفي سنة ،768 وترك الحكم بين يدي ابنيه كارلمان وشارل جريا على عادة الملوك الفرنجة .فاقتسم األخوان المملكة ،غير أن كارلمان لم ينعم بطعم الحكم والسلطة لفترة طويلة ،إذ وافته المنية ثالث سنوات بعد وفاة أبيه ،فانفرد شارل بالحكم ووطد سلطة األسرة الكارولنجية في مملكة غالة. )2شارلمان األوربي األول؟ يعتبر شارلمان ،من وجهة نظر التقاليد اإلفرنجية والبربرية (الجرمانية) محاربا مقداما قبل كل شيء .وقد خاض بالفعل سلسلة حروب طويلة واكبتها عمليات نشر للديانة المسيحية .وجرت وقائع تلك الحروب ،كما هو معروف ،في مجال جغرافي واسع امتد بين شرق غالة وجنوبيها الشرقي والغربي. ففي الجبهة الشرقية ،تركزت الوقائع التي خاضها في جنوب وشمال جرمانيا. وتأرجحت بين االنتصار الكاسح واالنتصار المحدود .فقد تمكن محاربوه من هزم اآلڤاريين ( )les Avarsوضم منطقة بڤاريا لحظيرة مملكة غالة سنة .788غير أنهم لم يالقوا نفس النجاح ضد السكسونيين ،رغم سلسلة الحمالت العنيفة التي قاموا بها ضدهم بين سنتي 772و.803 أما في الجبهة الجنوبية ،فتركزت حروبه في ايطاليا وفي شبه جزيرة أيبيريا. وتأرجحت حصيلتها هي األخرى بين النجاح الباهر واالنتصار المحدود .فقد كان االنتصار كاسحا ضد اللومباردين الذين أزاحهم عن معظم مناطق ايطاليا الوسطى، وحمل تاج ملكهم على رأسه ،مستغال في حمالته ضدهم دعوة البابا الستئصال شأفتهم بعد أن اقتطعوا أجزاء من ممتلكات البابوية ،وتجرؤوا غير ما مرة على اقتحام مدينة روما .وعلى العكس من ذلك ،لم يحالفه الحظ ضد مسلمي شبه جزيرة أيبيريا .فقد عاد محاربوه منها بخفي حنين بعد وقعة الرونسڤال الشهيرة .6ولم يعد لهم من موطئ قدم - 6تدعى أيضا وقعة الروسنسﭭال في الدراسات األوربية ،ووقعة باب الشزري في الدراسات العربية .والواقع أنها لم تكن معركة بالمعنى المتعارف عليه ،بقدر ما كانت عبارة عن هجوم مباغت قام به فيلق من المحاربين البشكنس على المحاربين الذين كانوا يشكلون مؤخرة الجيش الفرنجي عند عبورهم لممر الرونسﭭال ( )Col de Roncevauxالواقع غرب جبال البرانس .وتذكر بعض الروايات أن البشكنس قاموا بذلك الهجوم (الذي حدث يوم 15غشت )778انتقاما من الفرنجة الذين شنوا حملة على مدينة بنبلونة ( ،)Pamplonaقصد التزود بالمؤونة فيما يبدو ،وهم عائدين الى غالة بعد "حركة" قاموا بها في األندلس للسيطرة على مدينة سرقسطة وضمها الى بعض مدائن وقرى شبه جزيرة أيبيريا ←
37
بها سوى الثغر الذي سيشكل فيما بعد قمطية قطلونيا باإلضافة إلى بعض األراضي الواقعة في منطقة الالنﯕدوك. )3التحالف بين الفرنجة والبابوية شارلمان إمبراطورا تكللت استجابة شارلمان لنداء البابا بانتصارات بينة ردت االعتبار للبابوية. فشكلت بذلك فرصة لتمتين الروابط بين الفرنجة وهذه المؤسسة الدينية العتيدة. ويبدو ،أن البابوية وجدت في األسرة الكارولنجية مناصرا قويا يمكن أن تعتمد عليه في تحقيق مشروع ذي صبغة "أوربية" ،كانت بصدد التفكير في انجازه ،وهو إعادة إرساء دعائم الغرب األوربي كإمبراطورية تحت سلطة الكارولنجيين .وهذا ما تحقق بالفعل في خضم احتفاالت البابوية بحلول سنة 800التي شرفها شارلمان بحضوره .فوضع البابا ليون الثالث ( )Léon IIIالتاج اإلمبراطوري على رأسه. ويمكن الجزم بأن هذا الحدث كان يخدم المسيحية الالتينية الغربية في توجهها الحديث النشأة نحو االستقالل عن اإلمبراطورية البيزنطية اإلغريقية األرثوذوكسية. وكان للحدث ،بطبيعة الحال تداعيات وامتدادات تحكم الواقع التاريخي في مجراها، فجعل من شارلمان أبا ألوربا. وال يمكن اإلنكار بأن نصوصا كثيرة تعود للقرن التاسع للميالد تنعت شارلمان بلقب "رأس أوربا" ( .)tête de l’Europeوالواقع أن اللقب كان مجرد تشريف، ومجرد تعبير خيالي ،أكثر من كونه صورة حقيقية للواقع التاريخي ،على اعتبار أن أوربا "الشارلمانية" كانت أوربا محدودة من الوجهة الترابية ،ألن رقعتها الجغرافية لم تكن تشمل الجزر البريطانية التي كانت مستقلة يحكمها األنجلوسكسونيون وااليرلنديون .كما لم تكن تشمل شبه جزيرة أيبيريا التي كان يحكم معظم مناطقها المسلمون .وباإلضافة إلى ذلك لم تكن تشمل مناطق ايطاليا الجنوبية وجزيرة صقلية، فضال عن مناطق العالم اإلسكندناڤي التي ظلت مجاال وثنيا ينطلق منه الڤيڪينﯕ النورمانيون للسلب ،أو لفرض مبادالت تجارية تكون لصالحهم. وخالصة القول هي أن المناطق التي كانت تدخل فعال ضمن دائرة نفوذ الكارولنجيين ،كانت تقع شرق نهر الراين .بل إن معظم مناطق جرمانيا كانت خارج نفوذهم ،وخاصة منها مواطن السالڤيين التي ظلت وثنية ،وتمتنع عن السقوط في سبق أن بسطوا عليها سيادتهم .ويستفاد من إحدى الدراسات الحديثة ،التي تناولت موضوع الوقعة ،أن مؤخرة الجيش الفرنجي ،الذي كان مؤلفا من حوالي 15000محارب ،ابيدت عن آخرها .أنظر كتاب الباحث الباسكي -الفرنسي بيير ناربيتز : Pierre Narbaitz, Orria, ou la bataille de Rncevaux (15 aout 778), Bayonne, Les Editions, Zabal, 1978.
38
قبضة الكارولنجيين. ولعل أهم حقيقة يمكن استخالصها في هذا المجال ،هي أن عملية التتويج التي وضعت البابوية خطتها وشارك شارلمان في تنفيذها بكل طواعية وتلقائية ،كانت في جوهرها عبارة عن عودة إلى الماضي .كما كانت عبارة عن سعي حثيث إلحياء اإلمبراطورية الرومانية ،أكثر من كونها مشروع مستقبل ،يتم توجيه مصير أوربا على هداه. والشك أن شارلمان حين قرر إنشاء أيكس الشابيل ()Aix-la-Chapelle كحاضرة جديدة لمملكته في الموطن القديم الذي ينتمي إليه الفرنجة كان يفكر أن يجعل منها "روما القادمة" .ويمثل هذا اإلجراء تحديا لروما الجديدة ،أي القسطنطينية. واألهم من ذلك ،هو أن هذا اإلجراء كان عبارة عن رؤية إلى الخلف نحو روما التي لم تكن قاعدة إلمبراطورية كارولنجية أوربية ،وإنما عاصمة لبابا ال يمتلك من القوة والنفوذ سوى النزر اليسير. وشاءت األقدار أن تتراجع مكانة أيكس الشابيل بعد وفاة شارلمان .ولم تعد عاصمة للغرب ،رغم ما نسج حولها في مؤلفات العصر الوسيط .والواقع أن مجموعة منشآت فقط ،هي التي ظلت قائمة بها تشهد على حلم شارلمان .وإن بعض التظاهرات ذات الطابع األوربي التي تحتضنها هذه المدينة بين فينة وأخرى ،ليست سوى مجرد تعابير عن الحنين إلى الماضي. وفي ضوء ما تقدم من معطيات ،يمكن الحكم على التجربة الكارولنجية بكونها كانت تجربة فاشلة ،إذا ما وضعت في المدى الطويل ،ونظر إليها طبعا كتجربة وحدوية. ولتزكية هذا الحكم ،ال بأس من إحالة القارئ على فقرة من بحث سبق أن عبر فيها المؤرخ االيطالي-األمريكي روبيرتو سباتينو لوبيز ( Roberto Sabatino )Lopezعن وجهة نظره في الموضوع .وقد ورد في تلك الفقرة ما يلي " :ال يمكن بأي وجه أن ننعت أمرا بكونه يمثل تمهيدا ألوربا الموحدة ،في وقت يجب أن ننعت فيه ذلك األمر بكونه منطلق خاطئ .إن من يتحدث اليوم عن أوربا ال يفكر في ديانة موحدة ،أو في دولة جامعة ،ولكن يفكر في مجموعة مؤسسات سياسية وفي معارف دنيوية وفي تقاليد فنية وأدبية وفي مصالح اقتصادية واجتماعية تساعد على تجانس فسيفساء من اآلراء ومن الشعوب المستقلة .ومن هذا المنطلق ،فإن اإلمبراطورية الكارولنجية تبدو لنا كمجهود محمود ،ولكنه مجهود غير صائب في نهاية المطاف".7 - 7لالطالع على الفقرة التي أوردها المؤلف عن لوبيز ،وللوقوف على وجهة نظرهذا األخير بخصوص مشروع شارلمان ،يمكن العودة لكتابه : Naissance de l’Europe, Paris, A. Colin, 1962. page 90 et suivantes.
39
)4اإلرث األوربي لشارلمان رغم غلبة الطابع الميثولوجي على المشروع الكارولنجي ،فقد تواصل مفعول بعض العناصر التي قام عليها ،والتي تمثل قاعدة أوربا المستقبلية .ويتعلق العنصر األول بمنظومة القوانين ،ويتصل العنصر الثاني بالعملة ،بينما يهم العنصر الثالث المؤسسات الدينية. فقد اصدر شارلمان ،كما هو معروف ،مجموعة مراسيم وقوانين سرى مفعولها في مجموع أقاليم اإلمبراطورية .خضعت لها جميع فئات المجتمع ،وهمت اإلدارة الترابية ومختلف األنشطة االقتصادية والمجاالت السياسية والقانونية وغيرها. وتجدر االشارة في هذا الصدد الى أن الملوك الكارولنجيين ورثوا ترسانة القوانين التي كان معموال بها في العهد الميروڤنجي .كانت تلك الترسانة في األصل عبارة عن مجموعة أعراف تم تدوينها لتصبح منظومة قانونية كما سبقت اإلشارة إلى ذلك فيما مضى. كانت تلك المنظومة القانونية تقوم على أساس "حق الفرد" .وبمقتضاها ،فإن الشخص ا إلفرنجي كان يحتكم لقانون ،والشخص البورغندي يحتكم لقانون ،والقوطي يخضخ هو اآلخر لقانون ،وهكذا دواليك .وقد حاول شارلمان إلغاء هذه القوانين الفردية والعرقية وإقرار قوانين عامة "وضعية" يحتكم إليها جميع الرجال والنساء المستقرين في كل دائرة ترابية يشملها نفوذ اإلمبراطورية ،بغض النظر عن انتماءاتهم االجتماعية أو العرقية .وقد شرع فعال في مباشرة هذا اإلصالح الذي لم يكتمل مع األسف .ومع ذلك ،فإن المحاولة كانت ذات صبغة ثورية بكل المقاييس .ويمكن اعتبارها لبنة في اتجاه إقرار وحدة قانونية أوربية. وبالمثل ،سعى شارلمان أيضا إلى توحيد العملة المتداولة ،وذلك بإقرار نظام نقدي تمثل العملة الفضية قاعدته ،والدنير ( )le denierوحدته النقدية .ولم يحقق هذا النظام النقدي ،مع األسف ،التطور المنشود ألن عوائق حالت وقتئذ دون تطوره .وأهم هذه العوائق محدودية المبادالت البعيدة المدى ،خاصة مع العالم اإلسالمي. وإذا كانت نجاحات شارلمان محدودة نسبيا في المجالين السالفي الذكر ،فقد حقق وخلفائه من بعده نجاحا حاسما فيما يتعلق بوحدة األديرة .وال يمكن بأي حال التقليل من أهمية هذا النجاح ،ألن األديرة كانت كثيرة ،وألنها اضطلعت بأدوار كبرى في حياة األفراد والمجتمع ،وألن الرهبان المنخرطين فيها كانت لهم حظوة في أوساط العامة. ولتفصيل األمر أكثر ،نذكر بأن عدد المؤسسات الديرية كان في تزايد مطرد منذ مطلع العصر الوسيط .وكانت تتبع أنظمة مختلفة ،فارتأى األسقف سان بينوا
40
األنياني ( ،8)Saint Benoît d’Anianeأحد أقطاب هذه المؤسسات الدينية ،العمل على توحيد أنظمتها فلقي مشروعه كل الدعم من قبل شارلمان .وانعقدت عدة مجامع دينية قصد بلورة تصور واضح للمشروع .وإذ لم يكتب لشارلمان أن يعاين وحدة هذه المؤسسات وهو حي يرزق ،فقد قدر لها أن تتحقق في عهد خلفه لويس التقي ( Louis .)le Pieuxإذ أصبحت الطريقة البندكتية 9منذ العام 816الطريقة الملزمة لجميع أديرة اإلمبراطورية. وال تخفى على أحد قيمة ودالالت هذا االنجازاذا ما استحضرنا أهمية األدوار االجتماعية والفكرية والدينية التي اضطلعت بها المؤسسات الديرية في مجموع مناطق العالم المسيحي. )5أوربا المحاربين... حدث تحت تأثير سلطة رجال الدين ،من أساقفة وقساوسة ورهبان ،أن تحققت وحدة أوربية ذات وجهين .يمكن نعت وجهها األول "بأوربا المحاربين" وتسمية وجهها الثاني "بأوربا الفالحين". تتضح قسمات الوجه األول بالعودة إلى ماضي الفرنجة .فقد كانت حياتهم تقوم - 8ولد حوالي سنة 750في أحضا ن أسرة نبيلة ،وترعرع في قصر ملوك غالة منذ عهد بيبن القصير .وكان من الممكن أن ينخرط خالل ما تبقى من حياته في سلك حملة السيف ألنه شارك سنة 773في حملة ضد لومبارديي ايطاليا .غير أن حدث وفاة أحد إخوته غرقا في السنة الموالية للحملة ،وفشله في انقاذه غير مجرى حياته ،فتحول الى راهب من مريدي أحد أديرة ضواحي ديجون ( .)Dijonثم غادر هذا الدير سنة ،780وعادالى مسقط رأسه حيث أنشا ديرا أصبح يعرف فيما بعد بدير أنيان ،وأشتهر مريدوه باتباع طريقة بينوا األنياني. ويجمع المؤرخون القدامى والمحدثون بأنه استلهم معظم مبادئ طريقته من طريقة القديس بينوا النورسي ،ولذلك اعتبروه تلميذا مخلصا "لشيخه" ،ومتمما لمشروعه ،واليه يعزى الفضل في انتشار الطريقة البندكتية (نسبة الى القديس بينوا النورسي) في غالة ،وفي سائر أنحاء الغرب المسيحي. - 9تنسب هذه الطريقة ،كما ذكرنا في الهامش السالف ،للقديس بينوا النورسي ( )Benedictus de Nurciaالذي يحتمل أن يكون قد ولد بين سنتي 480و 490في أحضان أسرة ايطالية نبيلة متمسكة بالمسيحية ،ولذلك اختارت أن تسمي مولودها "بندكتوس" (بمعنى المنعم أو المكرم) ،وكأنها كانت ترسم له معالم الطريق التي سيسلكها في حياته. فبعد أن ترعرع اصبح فعال راهبا في موناستير مونتيس كاسينو( .)Mont Cassinوسرعان ما ترأس مريدي هذا الدير وأنشأ منهم طائفة يرتدي أعضاؤها زيا موحدا ويعتبرون أنفسهم إخوة وهو بمثابة أب لجميعهم (← Abbé .)Abbaوشرع لهم مجموعة مبادئ ارتأى أن تقوم عليها أنشطتهم اليومية .استقى تلك المبادئ من الكتاب المقدس ،ومن مؤلفات رجال الدين المسيحيين األوائل وسيرهم .وصاغها في مؤلف من 73فصال مسبوقة بديباجة ،عرفت منذ ذلك الوقت بالطريقة البندكتية .وتقضي بأن يوزع أعضاء الطائفة يومهم بين الصلوات الفردية والجماعية وتالوة وتدارس الكتاب المقدس والعمل اليدوي ،لتحقيق مقصد سامي وهو التقرب الى هللا. توفي القديس بينوا سنة . 547ووري جثمانه الثرى في نفس الموناستير الى أن تم نقل بقايا رفاته ،قرنين بعد ذلك ،الى دير فلوري (.)Fleuy-Sur-Loire ولتكوين فكرة ضافية عن التنظيم البندكتي يمكن االطالع على كتاب الراهب البندكتي األلماني دوم ستيفانوس : Dom Stiphanus Hilpish, Histoire du monachisme bénédictin, traduit de l’allemand, Paris, Tequi, 1989.
41
على الحرب الدائمة .جميع الرجال من الفرنجة كانوا محاربين يخضعون لسلطة زعيمهم .وبعد استقرارهم بغالة ،عقب غزوات القرن الخامس ،ظلوا يتبنون هذا النظام .وكان جميع سكان المملكة يخضعون بمقتضاه لسلطة الملك .وظل األمر كذلك خالل العهد اإلمبراطوري .كما اعتبر جميع الرجال من هذه الوجهة محاربين ،كل واحد منهم كان ملزما بتقديم الخدمة العسكرية؛ أو بصيغة أكثر دقة ،فإن كل رجل حر، كان يعد محاربا ويتوجب عليه المشاركة في الحمالت العسكرية التي يقودها اإلمبراطور .ويمكن أن تكون مشاركته مباشرة أو من خالل انتمائه إلى فيلق يعمل تحت إمرة سنيور. ومن المفيد التذكير في هذا الشأن بأن الستة واألربعين سنة التي قضاها شارلمان على رأس المملكة-اإلمبراطورية الكارولنجية مرت كلها في حمالت متتالية كل سنة باستثناء سنتي 790و .807وتمثل العنصر الضارب في الجيوش التي قامت بهذه الحمالت في الفرسان المرتدين للدروع (.)la cavalerie cuirassée كان جميع الرجال األحرار يستنفرون للمشاركة في تلك الحمالت .وكل واحد منهم كان ملزما شخصيا ،أو من خالل السنيور الذي يقوده للحملة ،بتقديم فرس وقطعة سالح .وتقوم الحرب ،وتنتهي وقائعها بالحصول على غنائم. كانت الحرب تعد نشاطا أساسيا في اإلمبراطورية .بل يمكن القول ،بأن هذه األخيرة قامت واستمرت على الحرب وعلى الغنائم ،شانها في ذلك شأن جميع اإلمبراطوريات التي قامت في التاريخ منذ عهد اإلسكندر المقدوني حتى عهد الرسول محمد. يمكن تقدير عدد المحاربين الذين كانوا يستنفرون من قبل اإلمبراطور لخوض الحمالت السابق ذكرها بحوالي 50 000رجل ،من بينهم حوالي 2000أو 3000 كانوا يخوضون الحروب على ظهور الخيول .وأستغل هذا المقام للتذكير بأن المعطيات الرقمية لم تحتل موقعا متميزا في ثقافة مجتمع العصر الوسيط ،لذلك فإن الباحث يالقي صعوبات جمة عند الرغبة في تبني مقاربة كمية لمعالجة أي نشاط من أنشطة هذا المجتمع ،بما في ذلك الحرب التي كانت أبرز نشاطاته.10 وأهم ما يمكن قوله بخصوص المحاربين ،هو أن قادة الجند كانوا أثرياء بما كانوا يحصلون عليه من غنائم ،ولكن أيضا بما كانت تدره عليهم "الدومينات" )les )domainesالكبرى التي كانت في حوزة كل واحد منهم ،وربما كان مردودها أكبر. وغني عن البيان ،أن السلطة اقترنت دائما بالثروة .ومن هذا المنطلق ،فقد غدت - 10أنظر ما يورده جون فلوري ( )Jean Floriعن قيمة األرقام عند إخباريي العصر الوسيط في كتابه : Croisade et chevalerie XIe-XIIIe siècle, Paris-Bruxelles, De Boeck Université, 1998.
42
األرض خالل العصر الوسيط مصدر الثروة والسلطة .ولذلك صدق الباحثون ،حين ذهبوا إلى التأكيد بأن تحوال جبائيا تزامن مع ميالد العصر الوسيط .ألن الضرائب أصبحت عينية يدفعها األفراد لكبار المالكين العقاريين الذين سيصبحون "سنايرة" ( )des seigneursفي المستقبل .و لم يكن األفراد المشار إليهم سوى عموم الفالحين الذين كانوا يشكلون الغالبية الساحقة في مجتمع العصر الوسيط. ... )6والفالحين شكل الفالحون فعال قرابة 90٪من المجتمع .وكانت وضعياتهم (من وجهة نظر قانونية-اجتماعية) متباينة .فمنهم من كان يحيا وضعية العبد المملوك لسيده يتصرف فيه كيفما شاء بالبيع أو الشراء أو االستبدال. والحقيقة أن عدد العبيد ظل في تراجع مستمر منذ بداية العصر الوسيط ،ولكن ظاهرة العبودية ظلت مستمرة ،إذ لم تعمل المسيحية على انتفائها ،رغم مرور قرون على ظهور هذه الديانة وانتشارها وتحولها إلى ديانة رسمية .والمالحظ أن بعض أشكال االرتباط بين أشخاص أحرار وضيعين وآخرين يملكون الثروة أخذت تلوح في األفق .وهكذا ،أصبحت تنسج روابط بين عدد من الفالحين ومالكي "الدومينات" الكبرى .وبمقتضى هذه الروابط ،أخذ عدد من الفالحين يتحولون إلى أقنان .كانوا يقومون باستثمار جزء من " دومين" المالك العقاري خالل عدد من أيام األسبوع في إطار ما يعرف بنظام السخرة (.)la corvée ال بأس من استغالل مسألة الحديث عن الجزء المستثمر من الدومين ،لالفادة بأن كل وحدة من هذه االستغالليات الكبرى كان يتم تقسيمها ،في األغلب األعم ،إلى قسمين :قسم يدعى "المستبقية" ( )la réserveيستثمره مالكه عن طريق تسخير عدد من الفالحين األقنان المشار إليهم منذ حين ،وقسم آخر يوزعه عليهم ،يستثمرونه لسد حاجياتهم (وحاجيات أسرهم) المعاشية. كانت أعداد هؤالء األقنان في تزايد مطرد ،ورغم ذلك فقد استمر وجود فئة من الفالحين األحرار ،الذين كانوا يملكون استغالليات أسرية خاصة يستثمرها كل واحد منهم بمعية أفراد أسرته. يمكن اختتام الحديث عن الفالحين باإلشارة إلى أن ظاهرة السخرة أصبحت تتراجع ،منذ عهد شارلمان ،ولو بإيقاع بطيء .ثم أخذت تتراجع بسرعة بعد ذلك ،في سياق تنامي حركة "انعتاق" فئة األقنان ) le mouvement d’affranchi- .)ssementفاضطر معظم مالكي الدومينات الكبرى ،تبعا لذلك ،إلى تقليص مساحة الجزء من الدومين الذي كانوا يستثمرونه في إطار نظام السخرة ،فيما حاول مالكون آخرون إرساء شكل جديد من أشكال القنانة .وقد ترسخ هذا الشكل في مناطق شرق
43
أوربا بصفة خاصة .فكان سببا من بين األسباب التي جعلت هذه المناطق تسلك في تطورها مسلكا مختلفا عن مسلك مناطق الغرب. وأهم ما يمكن استخالصه من وراء الحديث عن قسمات وجه "أوربا الفالحين" هو أن عالم األرياف احتل موقعا متميزا في تاريخ أوربا قديما وحديثا ،وأن النشاط الزراعي حظي باهتمام المجتمع الريفي كما باهتمام القائمين على األمر .ولعل المراسيم التي أصدرها شارلمان لتنظيم النشاط الزراعي لخير دليل على ذلك ،رغم ذهاب البعض إلى القول بأنها كانت تهدف باألساس إلى تنظيم "الدومينات" التي كانت في حوزة األسرة الحاكمة. )7الحضارة الكارولنجية شريحة أوربية لعل أبرز نجاح حققته أوربا الكارولنجية تجلى في مجال الحضارة .ومن عجيب الصدف أن الشخص الذي حقق هذا النجاح ،أي شارلمان ،كان ذا مستوى ثقافي متواضع ،بحيث لم يكن يميز بين األحرف ،كما لم يكن يستطيع الكتابة .ورغم هذه المعيقات ،كان حكمه يقوم على مبدأ مفاده أن المعرفة أداة أساسية لممارسة السلطة. ومن ثم ،فمن واجب القائم باألمر العمل على الحفاظ على المعرفة وتطويرها .وتبعا لذلك اقتنع بضرورة االعتماد على األساقفة لتحقيق هذا المسعى والبدء أوال ،وقبل كل شيء ،بتكوين أبناء األعيان الالئكيين الذين كانوا يساعدونه في تدبير شؤون اإلمبراطورية. ومما الشك فيه ،أن هذا المشروع الطموح كان يتجاوز إمكانيات الفرنجة الذين ينتمي إليهم ،ولذلك فكر في االستعانة بجميع الكفاءات ،حتى وإن كانت ال تنتمي لإلمبراطورية .واستجابة لرغبته ،قدم عدد من األعالم من مناطق بعيدة عن اإلمبراطورية ،وانضموا لفرق عمله .فكان من بينهم على سبيل المثال بولس دياكر ( )Paul le Diacreاللومباردي ،وثيودولف القوطي -األورلياني ( Théodulf )d’Orléansوألكوين ( )Alcuinاألنجلوسكسوني ،الذي أصبح أحد أبرز مستشاري شارلمان .فقامت على عاتق هؤالء النهضة الفكرية التي شهدتها اإلمبراطورية الكارولنجية. غير أن إشعاع هذه النهضة لم يتجاوز كثيرا حدود القصر في عهد شارلمان، ألن األعالم السالف ذكرهم أنشأوا به ما يشبه الصالون األدبي .فظلوا لوحدهم المنتجين والمستهلكين للمعرفة .وتغير الوضع نسبيا في عهد خلفاء شارلمان ،حيث انضم عدد من األديرة لهذه النهضة ،فغدت هي األخرى فضاءات للمعرفة .ويكفي أن نذكر في هذا السياق أن اجنهارد ( )Eginhardاإلخباري الشهير تلقى العلم في دير فولدا ( )Fuldaبجرمانيا.
44
وبغض النظر عما يمكن أن يقال عن جوانب القصور في هذه النهضة الفكرية، من قبيل نعتها بكونها كانت ذات منحى أرستقراطي ،فهي تمثل شريحة أو طبقة من بين الطبقات التي تتألف منها الثقافة األوربية. وال يمكن البتة إنكار ما أفضت إليه من نتائج ايجابية من بينها ،على سبيل المثال ،تحسين جودة الخط وضبط عملية الوقف .فقد غدا الخط منذ هذه الفترة بسيطا أكثر وأنيقا أكثر وسهل القراءة والكتابة معا .فعد في نظر بعض الباحثين أصل الخط الذي تبناه األوربيون فيما بعد .كما تم ضبط الوقف ،بتصحيح مواقع وضع الفواصل والنقط .وتجلى هذا األمر بوضوح في نسخ الكتاب المقدس التي تم وضعها منذ هذه الفترة. )8فرنسا وألمانيا وايطاليا قﻠب أوربا النابض تسمح قراءة مؤلفات القرن التاسع بالقول بأن كل ما كتب عن اإلمبراطورية الكارولنجية كتب تحت يافطة أوربا ،وكأن ثمة تطابقا بين كلمتي أوربا واإلمبراطورية .وتتحدث نماذج من تلك المؤلفات عن شارلمان بوصفه "رأس أوربا" ،أو "أب أوربا" ،كما سبقت اإلشارة إلى ذلك في مبحث سابق. والحقيقة أن وحدة أوربا السياسية تحققت إلى حد ما في عهد اإلمبراطورية الكارولنجية .ولكنها لم تستمر بعد وفاة شارلمان سنة .814بل إن مقدمات انفراط الوحدة بدأت قبل هذا التاريخ .فقد سبق لشارلمان أن عهد بحكم منطقة أكيتانيا البنه لويس منذ سنة .781ثم أصبح هذا األخير حاكما لمجموع مناطق اإلمبراطورية بعد سنة .814ولكنه لم يتمكن من الصمود أمام ضغط ابنيه لوثير( )Lothaireولويس الجرماني ( )Louis le Germaniqueالراغبين في الحكم ،فاضطر إلى تقسيم اإلمبراطورية بينهما على عادة ملوك غالة األوائل .وتأكد هذا التقسيم بين األخوين بمقتضى معاهدة أبرمت بينهما في مدينة ستراسبورغ سنة .842والمالحظ أن نص هذه المعاهدة عد أول نص رسمي كتب بلغة دارجة "فرنسية" ()francien "جرمانية" (.)germanique واألهم من ذلك ،هو أن عملية التقسيم تأكدت بعد ذلك وأصبحت قدرا محتوما عقب توقيع معاهدة ڤردان ( )Verdunالشهيرة سنة .834وبمقتضاها أصبحت مناطق غرب أوربا تتألف من قسمين هما فرنسيا ( )la Francieالغربية وفرنسيا الشرقية .تقطنهما مجموعتان كبيرتان من السكان ستعرفان مستقبال بالفرنسيين واأللمانيين .وكانت تقع بين المنطقتين منطقة تميل إلى الطول وتمتد بين مدينتي أيكس الشابيل وروما.
45
وبعد تجاذبات وأحداث سياسية وعسكرية ،ستتبلور خارطة هذا المجال الجغرافي أك ثر فأكثر ،فأصبح يتشكل من ثالث دول كبرى هي فرنسا وألمانيا وايطاليا .وسرعان ما برزت إلى جانب هذه الدول الثالث دول أخرى متفاوتة القوة. ومما الشك فيه أن استحضار هذه الوقائع التاريخية أمر ضروري لفهم حيثيات انبثاق أوربا الموحدة ،ولفهم كنه الدور الذي يرغب أن يضطلع به حاليا ساسة كل من فرنسا وألمانيا؛ اللتين تبدوان كزوج حريص على استقرار االتحاد األوربي .ولكن هذا الزوج تربط بين طرفيه وشائج تميل إلى التنافس أحيانا وتميل إلى الغيرة في أحايين أخرى.
46
الفصل الثالث أوربا المحﻠوم بها وأوربا الممكنة في سنة ألف
)1أوربا اإلمبراطورية األتونية شاءت الظروف أن تجد وحدة أوربا في كنف اإلمبراطورية من يسعى مجددا لتحقيقها .لقد كان ذلك الساعي هو ملك جرمانيا أتون األول ( )Otton Ierابن الملك هنري األول والقديسة ماتيلد ( )Sainte Mathildeالذي اعتلى العرش سنة .936 وقد خاض ،على غرار الملوك السابقين ،سلسلة حروب تمكن على إثرها من ضم بعض المناطق إلى حظيرة مملكته ،كما نجح في استئصال شأفة الهنغاريين المتربصين بها .فكان أن تمت مكافئته بأن وضع البابا يوحنا الثاني عشر ()Jean XII التاج اإلمبراطوري على رأسه سنة 962في حفل مهيب أقيم بروما. وبما أن حدثا من هذا القبيل كان من المنتظر أن يثير حفيظة إمبراطور بيزنطة، فقد بادر أتون األول إلى طلب وده من خالل طلب يد ابنة اإلمبراطور البنه .والتفت أيضا في اتجاه الممالك السالڤية التي أبرم معها عالقات ودية. ودون المضي قدما في استعراض انجازات أتون األول ،يمكن القول بأن سياسته كانت ذات أبعاد أوربية أكثر من سياسة شارلمان .ومما ال شك فيه ،أن التسمية التي حملتها إمبراطوريته" :اإلمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة" ،تسمية ذات دالالت كبيرة ،تحيل إلى الطابع المقدس الذي أعطي لها ،والى تبوأ الجرمان موقع القيادة فيها. كانت هذه اإلمبراطورية شاسعة المساحة؛ بحيث شملت جرمانيا وايطاليا وأجزاء من غالة .وقد شكلت المناطق الممتدة من الشمال إلى الجنوب بين بحر الشمال والبحر المتوسط عمودها الفقري .ويبدو أن سلسلة جبال األلب ،التي لم تكن أبدا حاجزا بين ايطاليا وأوربا الشمالية ،أصبحت منطقة عبور بين شمال وجنوب أوربا
47
المسيحية .وعلى اثر ذلك غدا انتقال األباطرة إلى ايطاليا نوعا من الطقوس السياسية، فاقتضى األمر إعادة تهيئة المنافذ الجبلية وإقامة القناطر وتشييد مراكز إليواء الحجاج. فأفضى كل ذلك إلى إذكاء حركة المبادالت التجارية وتنشيط التواصل البشري .وكان من نتائج هذه التحوالت أن تزايدت أهمية جبال األلب في حركة العبور ،فسعى حكام المقاطعات الثالث المحاذية لها :شويز ( )Schwyzوآنتر ڤالدن ()Unterwalden ويورل ( )Urlإلى إحداث نوع من التقارب فيما بينهم .فاجتمعوا فعال سنة 1291 لتشكيل ما سيعرف بالكنفدرالية الهلفتيكية ( )helvétiqueالتي تعد بحق نواة غير منتظرة للديمقراطية األوربية. " )2أوربا الجديدة" في سنة ألف توفي أتون األول سنة 973فخلفه على كرسي اإلمبراطورية أتون الثاني الذي استكمل ما قام به أبوه .ثم توفي هو اآلخر سنة . 983ونودي بابنه أتون الثالث ،ذي الثالث سنوات ،ملكا على الجرمان بالوصاية ثم إمبراطورا فيما بعد. وقد اشتهر بكثرة عطاءاته للمؤسسات الدينية ،فأصبحت له حظوة في روما وتقرب منه عدد من كبار رجال الدين أمثال أدالبير ( )Adalbertأسقف كنيسة براغ وجربير األورياكي ( )Gerbert d’Aurillacأسقف كنيسة ريمس ،الذي كان أكبر مساندي اإلمبراطور ،الذي سيدعمه بدوره ليعتلي كرسي البابوية سنة 999باسم سلڤستر الثاني .وقد تظافرت جهود اإلمبراطور والبابا سلڤستر الثاني لتوحيد الغرب المسيحي الذي اتسعت آفاقه وتجددت دماؤه بانضمام شعوب جديدة إليه أبرزها الهنغاريون والسالڤيون. تناول عدد من اإلخباريين وكتاب الحوليات بإسهاب هذه األحداث الجسيمة ،كما انضم إليهم واضعو الرسوم والجداريات ،الذين عبروا عنها بلغة فنية بليغة من بينها مثال جدارية تجسد اإلمبراطور في جاللة ،تحيط به مدينة روما وغالة وجرمانيا وسالڤينيا (بالد السالڤ) .ولعل أهم ما يفيد به هذا الرسم هو عملية توسع أوربا في اتجاه الشرق .وقد كان هذا التوسع مطمح اإلمبراطور ورجال الدين معا. وتأسيسا على ما تقدم ،يمكن القول بأن التطورات التاريخية ،سارت بدورها في اتجاه تأكيد انضمام هذه المناطق الشرقية إلى الكيان األوربي ،وكأن التاريخ أراد بدوره تحقيق رغبة اإلمبراطور ورجال الدين .فعد هذا الحدث ( القروسطوي) بحق حدثا حاسما في عملية بناء أوربا الموحدة. يبدو أن األحداث السياسية والعسكرية والدينية والجغرافية المشار إليها بإيجاز، لم تكن وحدها تعكس تجليات أوربا الجديدة مع حلول سنة ألف ،بل واكبتها أيضا أحداث بالغة األهمية ذات صبغة اقتصادية تجسدت في نمو اقتصادي مطرد.
48
ورغم أن المختصين الزالوا حتى اليوم بصدد مناقشة العوامل الكامنة وراء هذا النمو االقتصادي ،فهم يجمعون بأن وتيرته ارتفعت بين سنتي 950و .1050والشك أن هذا النمو االقتصادي ،الذي عم العالم المسيحي برمته ،يمثل خلفية ،أو سندا، "لألحالم" التي راودت رجال السياسة ورجال الدين فسعوا جاهدين لبلورتها على أرض الواقع .وقد عبر رجل الدين راوول ﯕالبير( )Raoul Glabertعن ذلك بدقة بقوله " :عند اقتراب حلول العام الثالث بعد بزوغ فجر سنة ألف كنا نرى في جميع أنحاء األرض ،وخاصة في ايطاليا وفي غالة ،عمليات إعادة بناء الكنائس ،رغم أن معظمها كان مشيدا من ذي قبل .فبدا وكأن رغبة جامحة كانت تدفع كل مجموعة مسيحية إلى إقامة كنيسة أفضل من تلك التي تتوفر عليها المجموعة المجاورة .فكان يقال بأن العالم نفسه سينتفض ليتخلى عن بذلته القديمة ويرتدي معطف كنائس أبيض اللون .وهكذا ،فإن جميع الكنائس تقريبا ،وكذا جميع األسقفيات والموناستيرات المخصصة لجميع فئات رجال الدين ،بما في ذلك المصليات الصغرى الموجودة في القرى أعاد المريدون بناءها في صورة أجمل".11 ومهما يكن من أمر ،فقد أفضى هذا النمو إلى انتعاش جميع األنشطة المتصلة بالعمارة والعمران ،من مواد أولية ،وحركة نقل ،وأدوات ضرورية .كما أفضى إلى تشغيل اليد العاملة ،واستثمار رؤوس األموال .وكان ذلك االنتعاش إيذانا ببداية تكاثر أوراش البناء التي تعكس ديناميكية العالم المسيحي .وسترث أوربا هذه الديناميكية التي ستتوالى على شكل موجات متعاقبة .وقد صدق المثل القائل " :عندما يكون العمران بخير يكون كل شيء على ما يرام" .وقد تأكدت صحة المثل في أوربا. واألكيد ،أن هذا النشاط المادي (مبادالت تجارية ،حركة عمرانية ،استثمار للمال )...واكبته حركات "غليان" جماعي ،ديني ونفسي .وقد وفق المؤرخ جورج دوبي ( )Georges Dubyكثيرا في عرض كثير من الظواهر التي برزت مع بزوغ األلفية بدءا بالعالمات التي الحت في السماء ،وتنامي حركتي التكفير والتطهير، واتساع نطاق عمليات تقديس رفات القديسين وكل األشياء التي كانت بحوزتهم، وتزايد اإليمان بالكرامات .كانت تلك الظواهر خليطا من اآلمال ومن الهواجس
- 11النص الذي أثبته جاك لو ﯖوف ،أورده الراهب راوول ﯕالبير في مصنف وضعه سنة .1047ويتناول األحداث التي شهدتها أوربا بين سنتي 900و .1047وقد نقل هذا المصنف إلى الفرنسية فرانسوا ﯕيزو ()François Guizot سنة 1824تحت عنوان "إخبارية راوول ﯖالبير" ( ،)Chronique de Raoul Glaberثم نشر نصه األصلي (الالتيني) موريس برو ( )Maurice Prouسنة .1886 وقد ولد صاحب المصنف ،Rodolfus Glaberأي راوول األصلع سنة ،985وتوفي بعد سنة .1047ويعد واحدا من أبرز إخباريي العصر الوسيط .كما يعتبر كتابه من بين المصادر األكثر تداوال بين المهتمين بتاريخ وحضارة فرنسا في العصر الوسيط عامة ،والمهتمين بالفترة المعروفة بسنة الف ( )l’An Milبوجه خاص.
49
واألحالم.12 وعلى كل ،فحين كان قلب أوربا يخفق ،فقد كان يخفق بقوة أكثر أو أقل في جميع المجال الجغرافي ،من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب .وبكلمة واحدة ،فإن أوربا الوجدان قد تم فك العزلة عنها. ")3الوافدون الجدد" األسكندناﭬيون والهنغاريون والسالﭬيون قبل الحديث عن الوافدين الجدد ،وعن صلتهم بعملية انبثاق أوربا ،من المفيد التذكير بما قيل عن أتون الثالث ،وعن انضمام شعوب جديدة إلى أوربا في سياق الموجة الثانية من موجات الغزو التي تعرضت لها. لقد أفضت تلك الموجة إلى تحول أوربا إلى مجال جغرافي مختلط األجناس. وكانت عملية االختالط قد بدأت منذ أن اندمج السالڤيون في العالم المسيحي ،ثم تالهم الكرواتيون خالل القرنين السابع والثامن. استوطن الكرواتيون المناطق الواقعة بين البحر األدرياتيكي ونهر الدانوب ،أي بين روما وبيزنطة .وأصبحوا خاضعين ،فيما بعد ،لسلطة الفرنجة بمقتضى معاهدة أيكس الشابيل التي تم توقيعها بين الطرفين (أي الفرنجة والكرواتيين) سنة .812 ورغم ذلك ،ظلوا محتفظين بهويتهم بين الالتينيين والبيزنطيين؛ وإن بدوا أكثر انجذابا نحو الالتينيين .وكان من تبعات هذا االنجذاب أن أصبح المدعو طوميسالڤ ( )Tomislavملكا على رأس الكرواتيين بمباركة من البابا يوحنا العاشر ،الذي وضع هذه المملكة الفتية تحت الحماية "القانونية" لحظيرة الڤاتيكان وفقا للتوصيات التي انتهت إليها مجامع سبليت ( )Splitالمنعقدة بين سنتي 925و.928 يفهم إذا من هذا التذكير ،بأن مقدم "الوافدين الجدد" إلى أوربا يندرج في سياق عمليات الزحف ،وموجات الغزو التي شهدتها القارة .ويمكن التمييز في هؤالء الوافدين بين ثالث مجموعات تمثلت في األسكندناڤيين والهنغاريين والسالڤيين. ظهر األسكندناڤيون على مسرح األحداث في أوربا بين نهاية القرن الثامن وأواسط القرن العاشر .وكان مسيحيو الغرب ينظرون إليهم كغزاة قدموا إلى قلب أوربا من أجل السلب والنهب .وإذ قام هؤالء األقوام فعال بعمليات تستحق هذا التوصيف ،فقد كانوا أيضا يمارسون نشاطا تجاريا سلميا. برز منهم على الواجهة الدانيون ،الذين أسسوا خالل القرن العاشر مملكة ذات نفوذ واسع شمل النرويج وبحر الشمال وما وراءه .وفي ايسالندا امتلكت زمام األمور بضع أسر شكلت أوليجارشية تحت قيادة جمعية شعبية. - 12استعرض جورج دوبي الظواهر التي يشير إليها جاك لو ﯖوف في مؤلفه : L’An Mil, Paris, Gallimard, 1974.
50
ومن المفيد التكير بأن اإلسالنديين تحولوا إلى المسيحية في نهاية القرن العاشر. وصادقوا في نفس الوقت على وثيقة ،بمثابة دستور ،لتنظيم حياتهم ،وظلوا مستقلين عن الدانيين .واشتهروا بكونهم كانوا وراء ظهور جنس أدبي شبيه بالمالحم ذاع صيته في الغرب قاطبة (.)les sagas وهكذا نشأ في أقصى شمال غرب المجال األوربي مجتمع يعيش أفراده بما يدره عليهم البحر .تبنى حضارة ساهمت في إثراء العالم المسيحي بشكل الفت .وخالفا لإلسالنديين ،حبذ الدانيون ،في هذا الوقت بالذات ،التحرك الجماعي .فقاموا بغزو بريطانيا العظمى التي ضموها إلى باقي ممتلكاتهم .وبعد مرور فترة قصيرة على بدايات الغزو اعتلى عرش مملكة الدانيين كنوت ( ،)Knutأو قنوت ،الذي نودي به ملكا على بريطانيا العظمى وعلى الدانمارك أيضا (التي حكمها عقب وفاة أخيه هارولد الثاني الذي لم يكن له وريث). اشتهر كنوت ،الذي حمل لقب كنوت العظيم ،بكونه اعتنق المسيحية وسعى خالل فترة حكمه بين سنتي 1018و 1035إلى تشجيع عملية إنشاء الموناستيرات ونشر المسيحية بربوع الدانمارك. وعلى غرار كنوت ،بذل األسقف أوالف ( ،)Saint Olafالذي كان يحكم النرويج خالل نفس الفترة ،جهودا مضنية لترسيخ المسيحية في المناطق التي كان سكانها يعتنقون هذه الديانة منذ زمن .كما عمل على استئصال شأفة الوثنيين وبناء الكنائس في مناطق أخرى .فحاز نظير ذلك لقب "األسقف". ومن الواضح ،أن مكافئة البابوية للملك أوالف كانت بمثابة اعتراف صريح بهؤالء الملوك وتثمين للجهود التي بذلوها من أجل نشر المسيحية .فال غرو إذا وجدناها تساند بعض هؤالء الملوك وتبارك الحمالت العسكرية التي كانوا يقومون بها هنا وهناك. ومن المؤكد ،أن حصيلة تلك الجهود ،في شقيها العسكري والديني ،كانت ذات قيمة بالغة .وتجلت تلك القيمة أساسا في تحول جماعي لسكان شمال أوربا نحو المسيحية ،وانضمامهم تبعا لذلك إلى أوربا المستقبلية. ويبدو أن اعتناق المسيحية لم يكن حكرا على سكان مناطق شمال أوربا ،فقد اعتنقت المسيحية ،وانضمت أيضا إلى أوربا ،شعوب من وسط القارة ،أبرزها الهنغاريون الذين يتميزون عن غيرهم من الشعوب بكونهم كانوا يتحدثون لغة خاصة بهم .لم تكن تلك اللغة رومانية ،وال لغة جرمانية ،وال لغة سالڤية .وال زال هذا التميز يمثل أحد خاصيات لغة الهنغاريين المعاصرين ،مما ينهض دليال بأن التنوع اللغوي ال يمثل أبدا عائقا عند الرغبة في إنشاء وحدة ثقافية أو سياسية .وتعد سويسرا خيرمثال يجسد ذلك.
51
وعلى كل ،فقد قدم الهنغاريون من آسيا في سياق زحف جماعي استغرق وقتا طويال .واستطاعوا ،عند نهاية القرن التاسع ،تأسيس كيان سياسي بمنطقة الكاربات ( )les Carpatesتحت زعامة الدوق آرباد ( .)Arpadوتميز هذا الكيان بكون سكانه جمعوا بين خاصيات الترحال واالستقرار ،ألن الهنغاريين لم يبدوا رغبتهم في االستقرار النهائي .وما إن أسسوا هذا الكيان حتى بادروا إلى القيام بغارات عنيفة ضد بعض مناطق أوربا الوسطى .ولم يوقفوا تلك الغارات إال على اثر الهزيمة لتي تلقوها على يد محاربي أتون األول في وقعة سنة .955فاضطروا إلى الكف عن الغزو وفتحوا حواضرهم وقراهم أمام المبشرين المسيحيين الذين تقاطروا عليهم من الشرق ومن الغرب. ويبدو أن تأثير مبشري الغرب المسيحي الكاثوليكي كان أوضح .فقد أفضت جهودهم إلى تأسيس كنيسة التينية ببراغ .عززت دورها في نشر تعاليم المسيحية الكاثوليكية عدة أديرة تتبع الطريقة البندكتية. شملت عملية التحول الجماعي نحو المسيحية الكاثوليكية السالڤيين الغربيين بدورهم في شخص الكرواتيين الذين سبق الحديث عنهم .وال بأس من التذكير في هذا الشأن ،بأن المبشرين البيزنطيين حاولوا تحويل التشيكيين والموراڤيين إلى المسيحية األرثوذكسية اإلغريقية ،غير أن محاوالتهم باءت بالفشل كما حدث مع الهنغاريين .ولم يألوا جهدا كذلك مع السالڤيين .فقد انبثوا في أوساطهم وربطوا عالقات وطيدة مع بعض األعيان وذوي النفوذ أقنعوهم بإقرار خط خاص بالسالڤيين .وشرعوا فعال في تلقين مبادئ هذا الخط للموراڤيين خالل فترة طويلة من الزمن ،ومع ذلك ،فشلوا في حملهم على اعتناق المسيحية األرثوذوكسية. وانطالقا مما تقدم ،يتضح بأن معظم شعوب أوربا الوسطى تحولت إلى المسيحية ال كاثوليكية .وكان من الممكن أن تنتشر الكاثوليكية في أوساطها بإيقاع سريع جدا لوال ظهور بعض المستجدات ،وأهمها الصراع السياسي الذي اندلع بين حكام بوهيميا وحكام بولونيا حول مملكة موراڤيا. ومهما يكن من أمر ،فإن الخالصة التي يمكن التوقف عندها هي أن عملية بناء العالم المسيحي (الكاثوليكي) ،بانضمام مناطق أوربا الوسطى إلى هذا العالم ،سارت وفق خطين متوازيين ديني وسياسي .فقد كانت المسيحية تنتشر بين شعوب هذه المناطق ،كما كانت تقام الكنائس والمؤسسات الدينية من أجل ترسيخها وتلقين مبادئها، وفي الوقت ذاته كان يتم تأسيس الممالك وبناء المؤسسات .والمالحظ في هذا الشأن بالذات ،أن عملية بناء أوربا ساهمت في ارتقاء القائمين على األمر في أوربا الوسطى إلى مصاف الملوك ،كما ساهمت في تبلور مؤسسات ملكية بهذه المناطق.
52
وبقدر ما كانت عملية البناء دينية وسياسية ،فقد كانت "أماكنية" كذلك ،على اعتبار أن عمليات تحويل الوثنيين إلى المسيحية واكبتها كذلك عمليات "تمسيح" للمواقع واألماكن ،التي أصبحت تحمل بالتدريج أسماء مسيحية .وبالمثل أصبح كثير من األفراد (األعالم) يحملون بدورهم أسماء مسيحية .ويبدو في هذا الصدد أن إسم "مارتان" ( )Martinكان أكثر األسماء شيوعا ،ولذلك نجده منتشرا كثيرا في العالم المسيحي من بولونيا حتى اسبانيا. )4حركة "سﻠم" ذات بعد أوربي ال مجال لالنكار بأن العنف والشنآن كانا يطغيان على العالقات بين األفراد في "العالم" حوالي سنة ألف .وأقصد "بالعالم" أوربا بطبيعة الحال .ففي الوقت الذي أخذت تخف فيه حدة الصراع بين المسيحيين والوثنيين ،ظهر صراع جديد بين المسيحيين أنفسهم .كان يتأجج على الصعيد المحلي أحيانا ،وعلى الصعيد الجهوي في أحايين أخرى .ولذلك أخذت تتنامى يوما بعد يوم حركة قوية تدعو إلى إقرار السلم وتجدر االشارة في هذا المقام ،الى أن المسيحية جعلت من السلم أحد أهم القيم، وأن المسيح نفسه نوه بالساهرين على إقرار السلم حتى إنه جعل منه أحد المبادئ األساسية. ظهرت حركة السلم في بادئ األمر بمناطق جنوب غالة عند نهاية القرن العاشر ،ثم انتشرت في باقي مناطق أوربا الغربية خالل القرن الموالي .ويربط معظم الباحثين بين نشأتها ونشأة ما يسمى بالفيودالية انطالقا من مسألة أساسية وهي أن نجاح "السنايير " في بسط ساطتهم ،كما سيتم توضيح ذلك الحقا ،تم بطرق مختلفة، من بينها العنف ،الذي يعد أبرز الطرق التي استعملت لتحقيق هذه الغاية. ولتوضيح هذا األمر ،يجدر التذكير بأن تدهور السلطة المركزية ،وما ترتب عنه من فراغ سياسي في عهد آخر الملوك الكارولنجيين ،فسح المجال أمام أفراد األرستقراطية؛ الذين شرعوا في بسط سلطتهم على العامة بواسطة العنف الذي أخذ يستشري يوما بعد يوم .فترتب عن ذلك ظهور حركة السلم التي اتخذت في بادئ األمر لبوسا دينيا بالنظر إلى كون السلم ارتبط بالمسيحية وبالمسيح كما سبق القول. ومن هذا المنطلق ،كان من الطبيعي أن تتصدر الكنيسة والفالحون تلك الحركة. ولذلك يذهب بعض الباحثين إلى اعتبارها شكال من أشكال االحتجاج االجتماعي تصدرها الفالحون ،وقامت الكنيسة باحتوائها .فعقدت لتحقيق هذا المسعى سلسلة مجامع دينية كان يشارك في أشغالها عدد من الالئكيين .انتهت تلك المجامع بالخروج بعدة توصيات وإجراءات تهدف إلى حماية عموم المستضعفين من فالحين وتجار و نساء ومرتادي المواقع المقدسة.
53
وعموما ،فقد أدت تلك التوصيات واإلجراءات إلى بروز ما يشبه "تكتال" أوربيا مؤلفا من أفراد عزل من السالح في مواجهة "تكتل" أوربي مؤلف من المحاربين؛ ولكن "السنايير" ،وكل األعيان الالئكيين ذوي النفوذ ،ما لبثوا أن قاموا هم اآلخرين باحتواء حركة السلم ،ألن التوصيات التي انتهت إليها المجامع الدينية السابقة الذكر ،لم تكن تنص صراحة على نبذ العنف ،بقدر ما كانت تنص على إيجاد قنوات لتصريفه ( )la canalisation de la violenceأو لتقنينه .ومن ثم ،انبثقت حركة "هدنة هللا" ( )la trêve de Dieuالتي أصبحت تقضي بالتزام الهدنة في أوقات معينة. وتوضح الحقائق بأن أفراد األرستقراطية ،الذين كان باستطاعتهم جعل نفر من المحاربين يأتمرون بأمرهم ،هم وحدهم الذين كانوا قادرين على ضمان السلم .وبناء على ذلك تحولوا إلى ما يشبه الشرطة يعملون على إقرار األمن ويمارسون السلطة أيضا ،رغم أن بعض الملوك حاولوا استدراك الموقف قبل فوات األوان .ولتحقيق هذا المبتغى ترأس كل من ملك الفرنجة روبير الثاني ،المعروف بروبير التقي ( Robert )le Pieuxوهنري الثاني ( )Henri IIإمبراطور اإلمبراطورية الرومانية-الجرمانية اجتماعا بموقع على ضفاف نهر الموز ( )la Meuseسنة 1024انتهى بالمطالبة بضرورة إقرار "سلم عالمي" .ولكن بدا من الصعب أجرأة هذا النداء؛ بل األدهى من ذلك أن كل شخص يمتلك النفوذ والقوة أصبح يفرض السلم باسم الملك .فتحولت الحركة وفق ذلك من حركة سلم هللا إلى حركة سلم ملوك ،أو حركة سلم دوقات ( des .13)ducs وكان من نتائج هذه التطورات أن غدت حركة السلم وسيلة ،أو أداة ،في حوزة الالئكيين األقوياء يستعملونها لممارسة السلطة وبسط السيادة .وبذلك تم تجريدها من الطابع القدسي الذي كان يميزها في البدء ،رغم أنها ظلت مطمحا ذا بعد ديني. وصارت فيما بعد مطمحا له بعد "وطني" ،ثم مطمحا ذا بعد "أوربي" حتى يومنا هذا. فال غرو إذا وجدنا ساسة أوربا وشعوبها يتخذون من تحقيق السلم مطلبا جماعيا.
- 13لالطالع على مجريات حركتي السلم وهدنة هللا ،وعلى وجهات نظر الباحثين المعاصرين بخصوصها يمكن العودة الى المؤلف الجماعي الذي أنجز تحت إشراف طوماس هيد ( )Thomas Headوريتشارد الندس ( Richard : )Landes The peace of God, Ithaka, New York, Cornell University Press, 1992. والى كتاب دومينيك بارثيليمي (: )Dominique Barthélémy L’an mil et la paix de Dieu : la France chrétienne et féodale (980-1060), Paris, Fayard, 1993.
54
)5مزار أوربي جديد في اسبانيا :شانت يقوب حمل بزوغ فجر سنة ألف معه كثيرا من األحداث الجسيمة ذات البعد األوربي. فقد شهدت القارة انضمام شعوب جديدة إليها ،ثم نشأت بها حركة السلم السالف ذكرها. وشهدت أيضا إبان نفس الحيز الزمني بداية عملية امتداد نحو الجنوب من خالل حركة استرداد شبه جزيرة أيبيريا من المسلمين. وقبل أن تنطلق فصول تلك الحركة وقع حادث مهم عند بداية القرن التاسع، تمثل في اكتشاف ضريح األسقف الشهيد جاك ( )Saint Jacquesفي موقع كان مدفنا زمن سيادة القوط الغربيين السبانيا يقع بمنطقة كومبوستيال ()Compostelle بغاليسيا .ومنذئذ تحول الموقع إلى مزار أصبح يفد إليه المسيحيون ،الذين أخذت أعدادهم في تزايد مطرد حتى غدا عند مطلع القرن الثاني عشر ثالث مزار ،من حيث األهمية ،يؤمه الحجاج بعد القدس وروما. ومما ال شك فيه ،أن المزار استمد هذه المكانة المتميزة من موقعه في منطقة كانت حلبة صراع بين المسيحيين والمسلمين .فاتخذ المسيحيون سان جاك رمزا لهم وأحاطوه بقدسية كبيرة .بل بوأوه مكانة القائد في الحروب التي خاضوها ضد المسلمين ،وإليه نسبوا الخسائر البشرية التي تكبدها هؤالء .فلقبوه تبعا لذلك "بقاتل المسلمين" (.)Matamore وانطالقا من مضامين الفقرات التي خصصناها للحديث عن شانت يقوب (سان جاك) ،يمكن استخالص عنصرين :األول هو أن موقع كومبوستيال أصبح يستقطب الزوار من مختلف مناطق العالم المسيحي ،واتخذ موسم الحج إليه تبعا لذلك طابعا أوربيا .والثاني هو أن الحظوة والقيمة الدينية والرمزية التي أصبح يتمتع بها المزار تؤكد قيمة وأهمية المناطق الطرفدارية ( )les périphériesفي بناء الوحدة األوربية. )6أوربا تتأكد بقدر ما كانت التطورات التي حدثت في شمال القارة األوربية وفي وسطها وفي جنوبها ايجابية بالنسبة ألوربيي الغرب ،فإن التطورات التي حصلت في الجبهة الشرقية كانت عكس ذلك ،ألن عالقات أوربيي الغرب مع البيزنطيين أخذت تسير في اتجاه القطيعة رغم أن القائمين على األمر في ممالك الغرب ،وعلى رأسهم األباطرة األتونيون ،حاولوا جهد اإلمكان تفادي هذا المآل. وتستدعي هذه المسألة التذكير بما سبق قوله عن أتون األول ،الذي حاول ،بعد أن نودي به إمبراطورا ،طلب ود إمبراطور بيزنطة .فزوج ابنه من األميرة اإلغريقية تيوفانو ( )Théophanoالتي شاءت الظروف أن تصبح وصية على العرش حين اعتلى سدة الحكم أتون الثالث ذو الثالث سنوات.
55
وأهم ما ترتب عن هذا الحدث ،هو أن نفوذ البيزنطيين وحضورهم تقوى في البالط األوتوني زمن حكم أتون الثالث .ويعد هذا األمر مؤشرا آخر على أن القطيعة كانت الزالت لم تصبح بعد قدرا محتوما. وتؤكد المصنفات التاريخية بدورها هذه الحقيقة .فقد كانت مؤلفات القرنين التاسع والعاشر تستعمل لفظة "أوربا" للتعبير عن نوع من اإلحساس بوجود "كومينوطة" ( ،)une communautéأو مجتمع سابق على وجود المسيحية .ولم تكن تلك المصنفات تستعمل اللفظة في داللتها الجغرافية كما يذهب إلى ذلك بعض الباحثين ،ألن لفظة "أوربا" بالمعنى الجغرافي ال معنى لها. وقد ظل لفظ أوربا ذي البعد "اإلحساسي" ،الذي يمثل شكال من أشكال الهوية الجماعية ،حاضرا حتى مطلع القرن الحادي عشر ،حيث ظهر بموازاته لفظ جديد هو " "la chrétientéالذي يشدد على مسألة االنتماء إلى المسيحية .ولعل أحسن شاهد يجسد هذا المعنى الجديد ،هو المعطف الذي ارتداه اإلمبراطور هنري الثاني عند اعتالئه العرش سنة .1002فقد تم تطريزه بمجموعة أشكال تجسد المسيح والعذراء والمالئكة والقديسين .وكتبت في حواشيه عبارات التينية تمجد اإلمبراطور.
56
الفصل الرابع أوربا الفيودالية (بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر)
إن الحقبة الزمنية التي تأكد فيها العالم المسيحي ( l’affirmation de la )Chrétientéهي أيضا الحقبة التي انطلق فيها االزدهار الكبير ،لما سيعرف في النهاية بأوربا .ولكن حدث أن اعترضت عوائق سبيل هذا االزدهار في وقت مبكر، وتبعا لذلك لم يأخذ االتجاه الذي كان سيأخذه نحو وحدة أوربا المستقبلية. وبناء على هذا المعطى ،أرتئي التوقف عند الخاصيات المشتركة التي تركتها هذه الحقبة كإرث ألوربا .ويمكن نعت هذه الحقبة بالطبقة الفيودالية التي تعد واحدة من بين الطبقات التي تعاقبت إلى أن انبثقت أوربا الموحدة. )1تطورات في مجال الزراعة يجب دوما االنطالق من الحقيقة .وتفيد هذه األخيرة بأن أوربا الفيودالية كانت زراعية بامتياز ،وأن األرض كانت تمثل فيها حجر الزاوية .ويكتسي هذا األمر أهمية قصوى إذا علمنا بأن النشاط الزراعي ال يزال الى يومنا هذا يحظى بأهمية بالغة في أوربا ،وأن المشاكل المتصلة به ما زالت تؤرق ساسة االتحاد األوربي ،رغم أن عدد الفالحين تراجع كثيرا ،كما تراجع ثقلهم. وعموما ،فإن النشاط الزراعي السائد اليوم في األرياف ورثه االتحاد األوربي عن العصر الوسيط .وبما أن زراعة الحبوب احتلت موقعا متميزا في زراعة العصر الوسيط ،فقد ظل الخبز والى اليوم يمثل مادة أساسية في وجبات األوربيين .ويرافق الخبز في هذه الوجبات مشروبان هما النبيذ (الخمر) والجعة (.)la cervoise ومن المعروف أن الخمور كانت تستهلك في أوربا قبل سيادة الرومان .ثم اتسع نطاق استهالكها بعد ظهور وانتشار المسيحية ألنها أصبحت تشرب وتستعمل أيضا في الطقوس والشعائر الدينية .فأدى ذلك إلى تجاوز شجيرات الكروم لحدود النطاقات
57
المناخية التي كانت تنمو فيها فيما قبل ،حيث انتشرت غراستها في شمال غالة وفي جنوب أنجلترا .فأفضى ذلك إلى ظهور مشروب جديد هو الجعة المصنوعة من الشعير والتي تعد أصل الجعة المعروفة اليوم .فنتج عن ذلك أن قسم هذان المشروبان أوربا إلى قسمين :أوربا النبيذ في الجنوب وأوربا الجعة ( )la cervoiseالمستخلصة من الشعير في الشمال .ويمكن لمتصفح بعض مصنفات رجال الدين التي تعود للقرن الثالث عشر أن يلمس أصداء هذا التمييز .وبموازاة هذين القسمين ،ظهرت أوربا " le "cidreالتي تتشكل م ن المناطق الغربية التي كان فيها اإلقبال أكثر على هذا النوع من السائل المستخلص من التفاح البري أو البستاني. ويجب التنبيه ،بأن ما ذكر ال يجب أن يوحي بأن النشاط الزراعي كان متنوعا كثيرا في أوربا ما بعد سنة ألف ،لدرجة حدوث اختالف بين المناطق .بل على العكس من ذلك ،كانت تجمع بين المناطق خاصيات كثيرة مشتركة جعلتها أكثر ميال للتجانس والوحدة .تتمثل هذه الخاصيات المشتركة في التطورات التقنية الهائلة التي كانت عامة وشاملة .وتعد مؤشرا على فعالية العمل الذي كان يقوم به الفالحون والمزارعون فيما يتعلق بتهيئة األرض وقلب تربتها بصفة خاصة .فقد كان هؤالء الفالحون والمزارعون يستعملون المحراث البسيط "األراتروم" (.)l’araire( )l’aratrum فحل محله المحراث ( )la charrueالذي اتسع نطاق استعماله في المناطق الشمالية بوجه خاص .وكان هذا المحراث أداة أكثر تطورا نسبيا من "األراتروم" ألنه يتوفر على مقلب مائل وسكة حديدية ،فضال عن كون عملية جره أصبحت موكلة في هذه المناطق الشمالية لزوج من الخيول بدل زوج من األبقار بينما ظل فالحو ومزارعو المناطق الجنوبية أوفياء للحمير أو البغال. ورغم أن عددا من الباحثين أعطوا للتطور الذي حصل فيما يتعلق بأداة قلب التربة ،وعملية الجر ( ،)la tractionأهمية بالغة ،حتى أنهم ذهبوا إلى الحديث عن "ثورة" في هذا المجال ،فإن هذا التطور ينم عن رغبة أكيدة في تحسين طرائق وتقنيات العمل الزراعي.14 - 14للوقوف على تجليات التطورات التقنية ،وعلى وجهات نظر الباحثين بشأنها يمكن العودة الى المؤلفات اآلتية ،على سبيل المثال ال الحصر : - Georges Duby, Guerriers et paysans, VIIe-XIIe siècle. Premier essor de l’économie européenne, Paris, Gallimard, 1973. - Charles Parain, Outils ethnies et développement historique, Paris, Les Editions Sociales, 1979. - Pierre Bonnassie, Les sociétés de l’an mil : Un monde entre deux ages, Bruxelles, De Boeck Université, 2001. - L’outillage agricole médiéval et moderne et son histoire, Actes de la 23 ème rencontre de l’Abbaye de Flaran, Presses Universitaires du Mirail, 2003.
58
ويبدو أن حظ المناطق الشمالية ظل دائما أوفر .فقد انتشر بها المحراث المتطور ،والى جانبه تم تبني طريقة جديدة للرفع من المردود ،ولتنويع المنتوجات، تمثلت في استبدال نظام الدورتين الذي كان معموال به من قبل بنظام الدورات الثالث الذي دخلت بموجبه الخضراوات والبقول إلى النظام الزراعي .فأتاح ذلك إمكانية الحصول على محصولين خالل الموسم الواحد. وبما أن العمل الزراعي واإلنتاج كانا دوما خاضعين لتأثير التغيرات المناخية، فقد حدث تحسن على هذا الصعيد بعد بزوغ فجر سنة ألف ،فبدا وكأنه "دفعة آتية من السماء" ،على حد تعبير الباحث مارك بومبير ( .15)Marc Bompaireوتمثل هذا التحسن في ار تفاع نسبي لدرجة الحرارة ،بدرجة أو درجتين ،وكذلك في انخفاض نسبي لمستوى الرطوبة في معظم مناطق أوربا بين سنتي 900و.1300 )2انتظام األفراد في خاليا شكلت سنة ألف والسنوات التي تلتها حقبة حاسمة فيما يتعلق بإعادة تنظيم المجال على الصعيدين االجتماعي والسياسي .وقد تركت إعادة التنظيم هاته بصمات واضحة و آثارا عميقة على التنظيم الترابي في أوربا نظرا لألهمية التي أصبح يكتسيها الحصن الفيودالي ( )le châteauفي التنظيم الجديد. وقد تبنى المؤرخون منذ سبعينيات القرن الماضي المصطلح االيطالي "األنكستلمنطو" ( ،16)l’incastellamentoالذي كان للمؤرخ الفرنسي بيير توبير ( )Pierre Toubertشرف استعماله ألول مرة في أطروحته حول الالسيوم ( le ) Latiumعند الحديث عن عملية إعادة التنظيم المشار إليها .وقام بعض زمالئه في فرنسا باشتقاق ما يطابق هذا المصطلح في اللغة الفرنسية ،فأوجدوا كلمة " "l’enchâtellementالمشتقة من كلمة حصن ( .)châteauبينما اقترح المؤرخ روبير فوصيي ( )Robert Fossierاستعمال مصطلح " ،17"l’encellulement - 15لمزيد من التفاصيل تتعلق بالمعطى الذي يشير إليه المؤلف ،يمكن العودة إلى المؤلف الجماعي الذي وضعه كل من فليب كونتامين ( )Philippe Contamineومارك بومبير ( )Marc Bompaireوستيفان لوبيك ( Stéphane )Lebecqوجون-لوك سرازان (: )Jean-Luc Sarrasin L'économie médiévale, Paris, A. Colin, 1993. - 16يعني هذا المصطلح عملية تحصين القرى (الواقعة في مواقع معلقة) من خالل إحاطتها بأسوار ،وإقامة حصن لحمايتها .وقد استعمل بيير توبير المصطلح للحديث عن هذا النوع من القرى التي كانت منتشرة في إقليم الالسيوم بين القرنين العاشر والثاني عشر .أنظر مادة "أنكستلمنطو" في المعجم الموسوعي الخاص بالعصر الوسيط Dictionnaire encyclopédique du Moyen Age, Paris, Cerf, 1997, Tome I, p.770. - 17ينطبق المصطلح الوارد ذكره في الهامش السابق على التجمعات القروية التي كانت تقع عموما في مناطق متضرسة ،فتبدو وكأنها تجمعات معلقة ،أما مصطلح " ،"encellulementفاستعمله روبير فوصيي للحديث عن التجمعات المماثلة
59
أي "التجمع في هيئة خاليا" نظرا لصيغته الفرنسية ،وكذلك إلمكانية استعماله عند الحديث عن عملية إعادة التنظيم (المشار إليها) في مجموع المجال األوربي. وفي ضوء هذا التوضيح ،يمكن القول بأن أربع خاليا أساسية هي التي شكلت قاعدة التنظيم .وتمثلت في الحصن ،بطبيعة الحال ،والسنيورية ()la seigneurie والقرية ،واألبرشية (.)la paroisse ونعني بالسنيورية رقعة أو دائرة ترابية يشرف عليها حصن ،وتتضمن أراضي وعددا من الفالحين خاضعين لسلطة السنيور .فالسنيورية هي إذن بمثابة وحدة، نستحضر عند ذكرها األراضي الزراعية والفالحين والمردود ،الناتج عن عملية استثمار األرض وكذلك الناتج عن الرسوم واإلتاوات التي يدفعها الفالحون ،باإلضافة إلى مجموعة رسوم يستخلصها السنيور بمقتضى ممارسته لحق القيادة الذي يسمى بحق اإللزام (.)le droit de ban كان التنظيم في إطار السنيورية شائعا في مختلف مناطق العالم المسيحي .ولذلك اقترح بعض المؤرخين استعمال عبارة النظام السنيوري ( le système ،)seigneurialبدل عبارة النظام الفيودالي ( ،)le système féodalطالما أن مفهوم الفيودالية له صبغة قانونية صرفة ،ألنه يستعمل عند الحديث عن تنظيم ضيق إلى حد ما يكون فيه السنيور على رأس فيْف ( 18)un fiefقدم له كعطاء من قبل سنيور أقوى منه .فيكون السنيور المستفيد من الفيْف فضال (أي تابعا) للسنيورالذي منحه إياه. )3القرية والمقبرة لها التي انتشرت في جميع أنحاء أوربا ،وخاصة منها المناطق المنخفضة .أنظر مادة ' "encellulementفي المعجم السالف الذكر ،نفس الجزء ،ص.525. - 18يتفق الباحثون في تاريخ أوربا الوسيط بأن كلمة " "fiefغامضة األصول ،ولكنهم يجمعون بأنها مشتقة من كلمة " "feoالمنتمية لقاموس اللغة الهندو-أوربية .وقد استعمل الجرمان القدامى كلمة " "fehuالمرادفة لها ،بينما استعمل الالتانيون كلمة " ."pecusوتعني كلتا الكلمتين "الدابة" ،أو "البهيمة" .واستعملت كلمة " ،"fiefفي بعد تقني ألول مرة سنة . 899ومنذ هذا التاريخ ،أصبحت تعني قطعة أرض تمنحها السلطة الحاكمة ألحد خدامها نظير ما يسديه من خدمات ذات طابع عمومي (تدبير الشأن العام) .وبعد انهيار اإلمبراطورية الكارولنجية ،أضحت قطع األرض من هذا النوع محور العالقة بين أفراد األرستقراطية (بعد أن كانت محور عالقة بين السلطة المركزية وخدامها) .فكان شخص ينتمي لتلك الطبقة يمنح "فيفا" لشخص آخرمن ذات الطبقة .وتنشا بمقتضى عمليتي المنح واالستفادة ،عالقة تبعية بين الشخصين .فكان المانح يلتزم بحماية المستفيد ،بينما كان هذا األخير يلتزم بتقديم الخدمات للمانح .وغالبا ما كانت تلك الخدمات ذات طابع عسكري. لمزيد من التفاصيل ،يمكن العودة لمادة "فيف" ( )fiefفي كتاب بيير بوناصي (: )Pierre Bonnassie Les 50 mots clefs de l’histoire médiévale, Toulouse, Editions Privat, 1981.
60
احتضنت السنيورية ،كما سبق القول ،عددا من الفالحين كانوا مستقرين في مجموعة من المجمعات السكنية تسمى كل واحدة منها قرية .انتشرت القرى في العالم المسيحي برمته بعد مطلع القرن الحادي عشر ،وأصبح فيها السكن متجمعا بعد أن كان متفرقا خالل العصر القديم والعصر الوسيط األعلى .وال زالت كثير من قرى أوربا الراهنة تحتفظ بالهيئة التي كانت عليها خالل العصر الوسيط. نشأت القرية بفعل تجمع المنازل والحقول حول عنصرين أساسين هما الكنيسة والمقبرة .ويمكن في هذا الصدد تأييد ما ذهب إليه المؤرخ روبير فوصيي حين أقر في أحد المؤلفات بأن المقبرة تعد عنصرا مهما في التجمع السكني أكثر من األهمية التي تحظى بها الكنيسة ،وربما يعتبر وجودها سابقا على وجود هذه المؤسسة الدينية .إن األمر هنا يتعلق بصلة بين األحياء واألموات ،وهي صلة بالغة األهمية شكلت إحدى خاصيات مجتمع العصر الوسيط .وقد ورثتها أوربا المعاصرة عن العصر الوسيط. وتكمن إحدى أهم التحوالت التي شهدها تاريخ أوربا في كون األحياء قاموا منذ العصرين القديم والوسيط بوضع األموات في الحواضر ،ثم بعد ذلك في القرى. والمالحظ ،أن مجتمع العصر القديم كان يأنف من جثث الموتى .فلم يكن أحد من الموتى يحظى بنوع من "القدسية" أو التبجيل إال بشكل حميمي في وسط األسرة التي ينتمي إليها ،أو خارج المجال المأهول على طول المسالك والطرقات ،حيث كانت توجد مقابر أو أضرحة كان يتوقف عندها المسافرون لحظات .وال يمكن البتة إنكار التحول الجذري الذي حدث بعد ظهور وانتشار المسيحية ،حيث تم إدماج األضرحة في الوسط الحضري .ومن هنا ،فقد عمل العصر الوسيط على تمتين الروابط بين األحياء واألموات .فاستحدث تبعا لذلك "فضاء التطهير" ( )le purgatoireالذي يعد ثالث فضاء إلى جانب الجنة وجهنم .وقامت البابوية بدورها ،منذ مطلع القرن الحادي عشر ،بإحياء حفل تأبين لألموات كان بتم تخليده في اليوم الثاني من شهر نونبر من كل عام غداة اليوم الذي كان يخصص لتأبين كل الرهبان واألساقفة .وهكذا كان يتيح هذا التأبين الجماعي لألموات المنتمين للعامة شرف االلتقاء بأولئك األموات "الممتازين" ،وهم األساقفة والرهبان .أما األموات المنتمين لطبقة الخاصة ،فقد كانوا يحظ ون بالتبجيل من قبل أفراد األسر األرستقراطية التي ينتمون إليها .فكان ذلك التبجيل عبارة عن رابط اجتماعي يضمن استمرارية العالقة بين كل أرستقراطي حي وآبائه وأجداده من األموات .وفي ذات الوقت كان يسمح بتمتين العالقات بين األسر األرستقراطية التي تربط بين أفرادها عالقات قرابة. )4األبرشية
61
قام األحياء خالل العصر الوسيط بوضع األموات داخل القرى كما ورد سابقا، والى جانب المقبرة احتلت الكنيسة ،هي األخرى ،موقعا متميزا داخل القرية .وقد كانت في األغلب األعم مركزا ألبرشية (.)une paroisse ورغم أهمية األبرشيات في تاريخ العصر الوسيط ،فالواقع أن وضعها ظل غير واضح المعالم حتى مطلع القرن الثالث عشر ،ألن بعض هذه المؤسسات الدينية قام في المراكز الحضرية ،بينما قام بعضها اآلخر في األرياف. ففي قرى األرياف ،التي مثلت مراكز استيطان لغالبية أفراد المجتمع ،كانت الكنيسة تقوم مقام األبرشية .وكان يؤمها بانتظام عدد من المريدين المنتظمين تحت إشراف رجل دين يعرف بالكاهن ( .)le curéوكانت تترتب عن العالقة بين الطرفين حقوق وواجبات .فكل مريد كان من حقه تلقي "األسرار" ( ،)les sacrementsالتي تعد أحد الطقوس الدينية المقدسة التي تتيح للمسيحي إمكانية الحصول على العفو اإلالهي عن طريق الكاهن .ومقابل ذلك كان ملزما بتقديم رسوم ()des redevances للكاهن .وبما أن العالقة بين الكاهن والمريدين كانت عالقة دائمة ومسترسلة ،فقد عدت األبرشيات إحدى عناصر التنظيم االجتماعي. )5شريحة عﻠيا :األرستقراطية بدأ يتأكد بعد سنة ألف نوع من التمايز بين األسر األرستقراطية ،حيث برزت على ا لواجهة شريحة عليا "تقوم على الدم" تمثلت في النبالء .كانت تربط بين األفراد الذين ينتمون لهذه الشريحة عالقات قرابة .كما ارتبط أفرادها بالسلطة والثروة والجاه وحرصوا دوما على أن يظلوا متميزين يحظون بنوع من الهالة .ولتحقيق هذا المسعى تبنوا سلوكا اجتماعيا خاصا .فقد كانوا يقيمون كثيرا من المآدب ويغدقون بسخاء على رجال الدين وعلى المؤسسات الدينية ،في المقام األول ،ثم على فئات العامة في المقام الثاني. ما هو أصل النبالء؟ جوابا على هذا السؤال يذهب نفر من الباحثين إلى االعتقاد بأنهم ينحدرون من األسر الن بيلة الرومانية ،بينما يعتقد آخرون بأنهم شريحة اجتماعية من إنتاج العصر الوسيط. ومهما يكن من أمر ،فقد تأكد خالل العصر الوسيط حضور شريحة عليا في مختلف مناطق أوربا .ويورد ليوبولد جنيكو ( )Léopold Génicotفي هذا الشأن بأن "هذه الشريحة كانت فخورة بقدمها وقوية بثرواتها ،وبتحالفاتها ،وبالدور الذي
62
كانت تقوم به في الحياة العامة بشكل مستقل عن الملوك أو بتعاون معهم" .19وتبعا لذلك كانت تتمتع بامتيازات سياسية وقانونية وبحظوة اجتماعية كبيرة .ويمكن التأكيد مرة أخرى بأن هيبة األسر النبيلة كانت تقوم أساسا على الدم .وتتجلى أهمية هذا المعطى إذا علمنا بأنه حدث خالل فترات متأخرة من العصر الوسيط أن لجأ بعض الملوك وبعض األمراء إلى القيام بإجراء يتمثل في إضفاء طابع النبالة على بعض األشخاص ،ورغم أن هذا اإلجراء تم في نطاق محدود ،فإن "نبالة" المستفيدين منه لم ترق أبدا إلى مستوى النبالة التي تترتب عن الوالدة ،أي عن االنتماء ألسرة نبيلة أبا عن جد. ورغم أن األسر النبيلة تكاد تكون قد انقرضت اليوم في أوربا ،ولم تتبق منها سوى فلول قليلة هنا وهناك ،فإن لفظتي نبيل ونبالة ال يزاالن يحظيان بقيمة كبرى في أوساط العموم كما في أوساط المثقفين ،ألن شكال من أشكال النبالة ظهر خالل الفترات المتأخرة من العصر الوسيط يتمثل في "نبالة الخصال" أو "نبالة السلوك واألخالق"، وأصبح موضوع نقاش بين فئة من المثقفين قابلوا بين هذه النبالة المكتسبة والنبالة الموروثة (التي يتعذر أحيانا على بعض األشخاص الموسومين بها إثباتها) .وعلى كل، فإ ن جوهر هذا النقاش يتمحور حول طرائق ومعايير تقييم األشخاص ذكورا كانوا أم إناثا. )6الفرسان والمجامﻠة شهدت مناطق أوربا حوالي سنة ألف ميالد نموذج جديد من الفئات االجتماعية يتمثل في الفرسان الذين كانوا متميزين عن المليشيات المعروفة عند الرومان وعند القبائل الجرمانية (البرابرة) ،ألن كل عنصر من تلك المليشيات ،أي "المليش" ( le ،)milesكان مجرد جندي أو محارب .وقد ظل عدد هؤالء الفرسان في تزايد مطرد وأصبحوا يشكلون شريحة سفلى في الطبقة األرستقراطية .ارتبطت كل مجموعة منهم بحصن وبسنيور .وشكلت نخبة من المقاتلين المتخصصين ،الذين يخوضون الحروب على ظهور الخيول تحت إمرة السنيور .ويقومون فضال عن ذلك ،وفي حضرة - 19يعد ليوبولد جنيكو ،الذي ينقل عنه لو ﯕوف هذه القولة ،أحد أبرز المختصين في تاريخ أرستقراطية أوربا بما أنجزه من أبحاث مستفيضة تخص نبالء أرياف نامور ( )Namurونبالء غرب أوربا عموما .ومن بين تلك األبحاث الجزء الثاني من كتابه : - L’économie rurale namuroise au bas Moyen Age, Louvain, Publications de l’Université → de Louvain, 1960. ← وكتاب : - La noblesse dans l’Occident médiéval, Londres, Variorum Reprints, 1982.
63
السنيور ،بأنشطة "ترفيهية" مختلفة ،أبرزها "دوريات المبارزة" ()les tournois التي كثيرا ما شجبتها الكنيسة ،نظرا لما كان يلفها من عنف مفرط. والجديربالتذكير أن هؤالء الفرسان جبلوا فعال على القوة ،ولم يكونوا يترددون في القيام بتجاوزات ،ربما هي التي كانت وراء اندالع االحتجاجات التي ترتب عنها ظهور حركة السلم التي سبق الحديث عنها .ومع مرور الوقت نجحت الكنيسة ،فيما يشبه عملية "ترويض" لهؤالء الفرسان حيث شرعت في تهذيبهم من خالل توجيه طاقاتهم وعنفهم نحو حماية المؤسسات الدينية ،وحماية النساء ،واألشخاص العزل، وبعد فترة قصيرة نجحت في تأليبهم لخوض حروب خارج أوربا ضد مجتمعات غير مسيحية. وواصلت الكنيسة عملية "تهذيبها" للفرسان ،واستطاعت تحقيق نجاح آخر حين تمكنت ،خالل القرن الثاني عشر ،من إقرار حفل خاص كان يتسلم فيه الشاب السالح استعدادا لالنخراط في سلك الفروسية ( .)la cérémonie d’adoubementوكان هذا الحفل يشبه "اختبار التخرج" ،وال يمكن ألي مراهق تمرن على حمل السالح أن يصبح فارسا إال بعد اجتيازه .ويعد هذا الحفل في حقيقة األمر من الطقوس ذات األصول الجرمانية .أدخلت عليه الكنيسة بعض التعديالت والترتيبات لتعطيه نكهة دينية مسيحية .فكان يقضي بأن يغتسل "المرشح" بماء طهور لدخول عالم الفروسية، ثم تقوم الكنيسة بمباركة سالحه .وينتهي الحفل بأن يقضي "المرشح" ،الذي أوشك بعد االغتسال ومباركة السالح من أن يصبح فارسا ،الليل "قائما" (فيما يشبه عملية تدبر) وهو يتأبط سالحه .فيغدو بعد تلك الليلة فارسا. وحدث منذ ذلك الوقت أن أخذت تحيط بعالم الفروسية هالة كبرى استمرت تداعياتها إلى ما بعد العصر الوسيط .وزادت من ترسيخها تلك الكتابات األدبية التي اتخذ مؤلفوها من الفرسان ومن الفروسية موضوعا لهم .فتحدثوا عن بطوالتهم، وشجاعتهم ،وإقدامهم ،وعن ولههم ،ومغامراتهم العاطفية ،وما إلى ذلك. ومن المفيد االشارة في هذا المقام الى أن ثمة عالقة وطيدة قامت بين الفروسية والمجاملة أو اللباقة .وتعتبر هذه األخيرة نوعا من السلوك ،ومن أدب المعاملة ،ساد في بالطات ملوك وأمراء ما بعد مطلع القرن الحادي عشر .ونقل كثيرا من صوره اإلخباريون ورجال الدين .وقد اعتمد على مؤلفاتهم عدد من السوسيولوجيين والمؤرخين المحدثين والمعاصرين للبحث في تجليات ذلك السلوك. فوضح بعضهم كيف أن مقتضيات السلوك ،وآداب المعاملة في البالطات ،علمت األوربيين كثيرا من األشياء ،من بينها على سبيل المثال ،غسل اليدين قبل وبعد األكل، وتناول كل فرد للطعام في صحن خاص به ،بدل األكل الجماعي في صحن واحد، واالمتناع عن البصق.
64
وعموما ،ورثت أوربا الحديثة عن العصر الوسيط كثيرا من آداب المعاملة التي سادت في بالطات الملوك واألمراء .وقد كان جون كلود شميت ( Jean-Claude )Schmittمحقا حين أقر بأن بالطات العصر الوسيط شكلت أهم المراكز التي انبثقت منها حضارة السلوك والطبائع .ويكفي للداللة على ذلك القول بأن األعيان الرومان كانوا يتناولون الوجبات وهم ممتدين على األسرة ،بينما استعمل ملوك وأعيان العصر الوسيط الطاولة التي ما زالت مستعملة إلى اليوم.20 )7تطور الزواج شهدت العالقة بين الرجل والمرأة تطورات كبرى في سياق تحوالت السلوك والطبائع وآداب المعاملة التي سبق الحديث عنها .ومن المفيد التوقف عند الزواج الذي يمثل أهم تجليات تلك العالقة .فقد كان في البدء عبارة عن قران ذي صبغة مدنية فشرعت الكنيسة منذ ظهور وانتشار المسيحية ،في تنظيمه وفق قوانين ما زال معموال بها في أوربا إلى اليوم. فقد قضت الكنيسة بأن يقوم الزواج على قران غير قابل للفسخ .وال يحق للرجل الزواج بأكثر من امرأة ،رغم أن الرجال المنتمين للطبقة األرستقراطية كانوا يعقدون القران في الواقع على أكثر من واحدة .كما صعبت الكنيسة من "مسطرة" الطالق الذي لم يعد يتم إال بإذن منها ،وال تأذن به بسهولة إال في حالة ما إذا وقع قران بين رجل وامرأة تربط بينهما عالقة تقوم على الدم .وقد كانت تنظيمات الكنيسة تقضي بعدم جواز قران قائم على الدم .وبموازاة ذلك سهرت الكنيسة على التصدي بصرامة للخيانة الزوجية ولمختلف أشكال الزنا بشكل عام ،وإن لم تمنع تلك اإلجراءات الزجرية من تفشي الظاهرة. وعموما ،فإن آثار تدخل الكنيسة في عملية الزواج كانت واضحة المعالم. وتأكدت تلك اآلثار أكثر فأكثر منذ القرن الثاني عشر ،حيث لم يعد بإمكان ذكر وأنثى القيام بعقد قران إال بحضور أحد الكهنة .وظل حفل الزواج يتم في طقوس خاصة قبالة بناية الكنيسة ،حتى مطلع القرن السادس عشر ،حيث ستفتح الكنائس أبوابها أمام المتزوجين ليتم الحفل داخل أبهاءها.
- 20ال بأس من االشارة ،على هامش ما نقله لوﯕوف عن جون-كلود شميث ،بأن هذا األخير حاضر في تاريخ أوربا الوسيط بعدة جامعات فرنسية وأنجليزية وأمريكية .يهتم كثيرا بقضايا الفكر والطقوس والعادات ،التي يتناولها باعتماد التحليل األنثروبواوجي .ومن بين تلك القضايا سلوك أفراد مجتمع العصر الوسيط ،وأطعمتهم وأشربتهم ،وآدابهم في األكل ،وما الى ذلك .و يشغل حاليا ،الى جانب مسؤولياته الكثيرة ،منصب مدير الدراسات واألبحاث في مؤسسة " "Campus Condorcetالواقعة بضواحي باريس ،التي خصصت برنامجاها خالل سنة ( )2013-2014لتناول موضوع "األكل وآداب الجلوس الى المائدة كظاهرة اجتماعية".
65
)8الحب الرقيق (أو الحب العذري) انبثقت عن العالقة بين الذكور واإلناث أشكال جديدة من الحب ،لعل أبرزها ذلك الشكل الذي عرف باسم "حب اللباقة" ( ،)l’amour courtoisأو "الحب الرقيق" ( )fin’amorالذي كان يعكس شعورا بالهيام والوله الشديدين من قبل رجل تجاه امرأة من وسط راق ،حتى أن "الولهان" كان يتدلل للمرأة ويبدي خضوعا تاما لها كالخضوع الذي يبديه فصل ( )un vassalتجاه سيده السنيور. وتجدر االشارة الى أن الباحثين اختلفوا حول نشأة هذا النوع من الحب وحول مغزاه الحقيقي رغم إجماعهم بأن "تروبادوريو" ( )les troubadoursمنطقة أوكسيطانيا ( )l’Occitanieبجنوب غالة كانوا أول من أشاعه ،بما يفيد تأثرهم بنوع مماثل لهذا الحب شاع بين العرب. ومهما يكن من أمر ،فالراجح أن يكون "الحب الرقيق" (العذري) قد نشا وتطور خارج مؤسسة الزواج .ويمكن أن نقدم كمثال على ذلك وله الفارس اإلفرنجي ترستان ( )Tristanبالشقراء اإلرلندية إيزوت ( )Iseutزوجة مارك ملك كورنوواي ( .)Cornouaillesومثل هذا الحب كان يتنافى تماما مع مبادئ الحب والزواج التي كانت الكنيسة تروم ترسيخها .وفي كثير من الحاالت اتخذ هذا النوع من الحب طابعا "هرطقيا" ( ،)hérétiqueمما يدفع إلى طرح أكثر من عالمة استفهام .هل كان هذا الحب أفالطونيا؟ هل كان حبا حقيقيا واقعيا؟ ،أم كان مجرد حب من صنع الخيال؟ هل عاش أفراد حقيقيون تجربته؟ ،أم كان مجرد حكايات نسجها ثلة من األدباء؟ ودون القيام بعرض أجوبة مفصلة لهذه األسئلة ،يمكن االقرار بأن الحب الرقيق (العذري) كانت له انعكاسات على الحب المعاش في الواقع وعلى الحب كإحساس عموما .كما أن هذا الحب كان نوعا من الطوباوية التي لم يكن لها حضور في الواقع كممارسة وكإحساس بين أشخاص حقيقيين .وكان حبا خاصا بالطبقة األرستقراطية، ولم ينتشر قط بين أفراد طبقة العامة. ويمكن التساؤل على هامش هذه الخاللصة ،عما إذا كان الحب الرقيق يفيد بتحسن في وضعية المرأة؟ وجوابا على هذا السؤال أستحضر وجهتي نظر كل من جون -شارل هوشي ( )Jean-Charles Huchetوجورج دوبي ( ،)Dubyحيث يذهب األول إلى القول بأن هذا الحب عيش في حقيقته كفن ( )un artيرمي إلى استبعاد المرأة ( )la mise à distanceبواسطة الكلمات .21بينما يرى الثاني بأنه كان
- 21وجهة نظر جون-شارل هوشي التي اختزلها جاك لو ﯕوف في هذا المقام عبر عنها في كتاب نشره تحت عنوان : L’amour discourtois. La "fin’amors’" chez les premiers troubadours,Toulouse, Les Editions Privat, 1987.
66
بمثابة لعبة ( )un jeuظل يتحكم فيها الرجال ،ألن الحب الرقيق العذري لم يقدم للنساء المنتميات للطبقة األرستقراطية سوى "والء" ( )un hommageخياليا ال سند له في الواقع المعاش.22 وعلى كل ،فإن الحب الرقيق العذري وجد من يخصه بمؤلف ،هو بمثابة دليل، كان له تأثير كبير على مدى قرون من الزمن .إنه "كتاب الحب" ( Tractatus de )Traité sur l’amour( )amorالذي وضعه أندري لو شابالن ( André le )Chapelainسنة .231184ويمكن إدراج هذا المؤلف ضمن الجهود ذات الطابع الحضاري التي كانت تروم تهذيب سلوك األفراد ،كما سبق الحديث عن ذلك .ومن هنا نفهم لماذا ذهب بعض الباحثين إلى اعتبار الحب الرقيق مدخال نحو الحب العصري، بينما ظل أبطاله ،من أمثال ترستان وإيزوت ،قدوة للمحبين والعشاق. )09ابيالر وهيﻠواز :المثقفون وصيغ الحب العصري كان للحب الرقيق العذري أبطال معظمهم من نسج الخيال ،وقليل منهم أمكن إثبات وجودهم .ومن بين هذه الفئة القليلة ،ثنائي أعطى لهذا النوع من الحب نكهة خاصة ،ويتعلق األمر ببيير أبيالر( )Pierre Abélardوهلواز(.)Héloïse فقد اشتهر أبيالر في تاريخ أوربا الوسيط بكونه كان فيلسوفا وعالم الهوت يلقن المعرفة في إحدى المدارس .فحدث ،وهو كهل في سن الخامسة والثالثين أن وقع ،منذ سنة 1117في حب تلميذة له تنتمي لوسط أرستقراطي .ونتج عن ذلك الحب ميالد طفل .وكانت نتيجة هذه العالقة وخيمة جدا ،تمثلت في قيام أفراد مقربين من الفتاة بإخصاء أبيالر انتقاما لشرف األسرة .ثم تال هذا الحدث الدرامي انعزال العشيقين، كل واحد في موناستير .أبيالر في سان -دوني وبعد ذلك في سان جيلداس بمنطقة بروطانيا ،وهيلواز في دير بمنطقة شامبانيا .ورغم ذلك تواصل الحب بين العشيقين حتى وفاتهما كما تفصح عن ذلك الرسائل المتبادلة بينهما. ومهما يكن من أمر ،فإن قصة أبيالر وهيلواز تقدم أجوبة عن عدد من األسئلة المتصلة بالحب رغم صعوبة تعميم تلك األجوبة على جميع حاالت الحب ،من قبيل -22وردت وجهة نظر جورج دوبي في كتابين هما : - Mâle Moyen Age, de l’amour et autres essais, Paris, Flammarion ; 1988. - Dames du XIIe siècle, Paris, Gallimard, 1995, 2 tomes. - 23واضع الكتاب أندرياس كبيالنوس ( ،)Andreas Capellanusمفكر فرنسي عاش في بالط الملك لويس السابع (أو لويس الشاب) بين سنتي 1160و .1180وكان مقربا من ماريا ( )Marie de Franceابنة الملك التي طلبت منه وضع مؤلف في الحب .فأنجز كتاب " "De Amorالذي يذكر كثيرا بكتاب "طوق الحمامة في اللفة واالالف" البن حزم األندلسي .استعرض كبيالنوس في كتبه المبادئ التي يقوم عليها الحب العفيف .وبين تجلياته وخصائصه ،ومواصفات المحبين .فعد دليال في الحب .وقد تمت ترجمته إلى اللغتين األنجليزية والفرنسية ،منذ مطلع أربعينيات القرن الماضي، تحت عنوان " :مبادئ الحب" ،أو "فن الحب".
67
القول بأن الحب العصري هو حب جسدي من دون شك ،وأن االتجاه الغالب عليه هو كونه شعور ينمو ويتطور خارج مؤسسة الزواج .ويبدو واضحا أن أبيالر كان يسعى إلى إضفاء طابع الشرعية على عالقته بهلواز ،ولكن الصيغة التي أراد بها تحقيق ذلك تثير االستغراب ألنها تبدو "حداثية" بالمقارنة مع زمانها .ويستشف من بعض رسائل هلواز بأنه كان من الصعب على مثقف مثل أبيالر أن يوفق بين العمل الفكري والزواج .وتكتسي هذه المسألة أهمية بالغة ألنها تفيد بميالد نخبة مثقفة "حداثية" ،في وقت جد مبكر ،كما تشير إلى موقع الحب العذري في أوساط هذه النخبة. )10القبﻠة عﻠى الفم يشترك الحب العذري مع الفصالة (أو التبعية) في كونهما عالقتان تنشآن بين فردين يجمع بينهما شعور حميمي وتعابير جسدية .وقد قدر لكل من الحب العذري والفصالة أن ينشآ في أوربا ،ويعمرا فترات طويلة وتترتب عنهما امتدادات اليزال لها حضور. فمن المعروف أن عملية تحول شخص إلى فصل تابع لسيد ،أي سنيور ،كانت تتم في حفل عام وتحيط بها طقوس خاصة .وفي هذا الحفل "يقف" الشخص الذي سيصبح فصال على ركبتيه ( ،)il s’agenouilleثم يضع يده على الكتاب المقدس ويؤدي يمين الوالء بأن يظل مخلصا لسيده ويقبل يد السنيور ،وفي بعض المناطق كان الفصل يقبل السنيور من الفم. وعلى غرار عملية الدخول في الفصالة ،كان المحب المتيم يقدم الوالء للمرأة التي تعلق قلبه بها ،ويقدم لها الوالء ويتعهد بأن يظل مخلصا لها طوال حياته .وبغض النظر عن الطابع القانوني وعن الطقوس المحيطة بالعمليتين ،وخاصة عملية الدخول في الفصالة ،فإن الخطوات المتبعة فيهما انتشرت في األوساط االجتماعية فترة طويلة. ثم أصبحت العالقة بين شخصين تقوم على أساس اإلخالص المتبادل .واقترنت بهذا اإلخالص تعابير جسدية من قبيل القبلة على الفم التي ورثها األوربيون عن العصر الوسيط .وقد كانت تلك القبلة تتم بين رجلين (الفصل والسنيور) ،وظل معموال بها، كتعبير عن السالم ،بين رجال السياسة في أقطار أوربا الشرقية زمن سيادة الشيوعية. ثم غدت بعد ذلك تعبيرا عن الحب والوله بين رجل وامرأة .وهذا التعبير بالذات ،هو الذي قدر أن يكون له مستقبل زاهر في أوربا. )11الطوائف العسكرية وروح "النضال" شهدت أوربا الفيودالية خالل القرنين الحادي عشر والثاني عشر ميالد طوائف جديدة منبثقة عن األديرة .وقد تمت هذه النشأة بالموازاة مع اندالع الحروب الصليبية.
68
كانت هذه الطوائف ذات صبغة دينية ،وأبرزها طائفة المعبد ،وطائفة المضيفين التابعة للقديس يوحنا المقدسي ( ،)Saint-Jean de Jérusalemوطائفة القديسة ماريا التوتونية األلمانية ،وغيرها من الطوائف في انجلترا وفي شبه جزيرة أيبيريا. رفعت هذه الطوائف شعار"السيف" و"الصالة" و"التنصير" .ودخلت في مواجهة مفتوحة مع أعدائها من الوثنيين والمسلمين .وتعتبر توجهاتها بمثابة تمرد على المبدأ القائل بأن رجال الدين ال يجب أن يعملوا على إراقة الدماء ،رغم أن األسقف بيرنار ( )Saint Bernardأحد اقطاب النظام السيستيرسي ( 24)l’ordre cistercienنوه بانخراط الفرسان ،المنتمين لما سماه بالمليشيا الجديدة ( ،)la nova militiaفي الحروب الصليبية. وأعتقد بأن نشأة هذه الطوائف ،التي أخذت منحى عسكريا ،يجب وضعها في سياق مناخ عام تميز بتغليب الطابع المسيحي على المواقف العسكرية .ورغم أن المسيحية ليست ديانة عسكرية ،فقد أضحت "مناضلة" أكثر فأكثر .وفي ضوء هذا التطور نشأت صيغة "النضال" ( )le militantismeالتي أصبح لها فيما بعد شأو كبير. )12اإلصالح الﯕريﯕوري :التمييز بين رجال الدين والالئكيين يمكن افتتاح هذا "المبحث" بتذكير القارئ بما سبق قوله عن حركة التغيير التي - 24يعد أحد التنظيمات الدينية .أنشأه الراهب روبير الموليمي ( )Robert de Molesmeسنة 1098بعد أن كان من مريدي أحد الموناستيرات التابعة لتنظيم كلوني .غادر هذا التنظيم ،الذي لم تعد ترقه توجهاته ،وأنشأ ديرا جديدا بقرية موليم (الواقعة بمنطقة بورﯕونيا) حمل إسم دير شيتو ( )Abbaye de Cîteauالذي يمثل نواة التنظيم الذي سيعرف فيما بعد بالتنظيم السيستيرسي. حاول روبير الموليمي العودة بهذا التنظيم الى أصول المسيحية ،وحظ مريديه على تبني حياة البساطة والتبتل وفقا للمبادئ التي وضعها القديس بينوا النورسي .وقد ساهم هذا التنظيم في نشر الديانة والحضارة المسيحيتين ،وفي عمارة المناطق المجاورة له بواسطة مريديه الذين كانوا يجمعون ،على غرار مريدي األديرة التابعة للتنظيم البيندكتي ،بين الصلوات الفردية والجماعية والعمل اليدوي. شهد التنظيم تطورا ملحوظا منذ سنة 1130تحت تأثير الراهب بيرنار دو كليرڤو ()Bernard de Clairvaux الذي التحق بدير شيتو سنة .1112وانظم سنة " 1119للجنة" سهرت على اعادة النظر في "القانون" المنظم للدير .فقام بدور مهم في صياغة ما يعرف "بميثاق الصدقة" ( )Carta Caritatisالذي أعطى دفعة قوية للدير األم ،وحدد عالقاته بالفروع التي تزايدت أعدادها في مختلف مناطق غرب أوربا .كما ساهم الراهب المذكور في استقطاب كثير من المريدين ،حتى أن عددا من الباحثين ذهبوا الى ربط نشأة التنظيم السيستيرسي بشخص بيرنار دو كليرڤو .وال يزال هذا الدير قائما في فرنسا المعاصرة .وقد أصدر أحد مريديه الراهب ميشال نيوسات ( )Michel Niaussatكتابا يعرض لتاريخ الدير تحت عنوان : L’Ordre cistércien, Paris, Les Editions Ouest France, 2001. ويمكن أيضا االطالع على كتاب : André Vauchez, La spiritualité du Moyen Age occidentale, VIIIe-XIIIe siècle, Paris, P.U.F. 1975.
69
شهدتها الكنيسة ،عقب اعتالء ﯕريﯕوار السابع كرسي البابوية بين سنتي 1073 و.1085 لقد تمثلت تلك الحركة في جملة إصالحات سعى البابا المذكور من ورائها إلى تحصين البابوية من تدخالت األعيان الالئكيين في شؤونها .وإن كان مراده من وراء ذلك ،التصدي لرغبة اإلمبراطور الجرماني في احتواء البابوية. وعموما ،فقد أفضت إصالحات ﯕريﯕوار إلى إحداث فصل بين رجال الدين والالئكيين ،أي بين هللا والقيصر ،وبين البابا واإلمبراطور خالفا تماما لما كان عليه الوضع في اإلمبراطورية البيزنطية ،حيث كان القيصر والبابا يمثالن وجهان لعملة واحدة ،ألن القائم على األمر بها ،كان إمبراطورا وبابا إلى حد ما على غرار النظام المتبع في دار اإلسالم ،والذي ال تمييز فيه بين ما هو ديني وما هو سياسي ،ألن هللا قادر مقتدر والخليفة ظله على األرض. ويبدو أن المؤسسة الدينية أصبحت مستقلة نسبيا بعد إصالحات ﯕريﯕوار ،كما تم تحديد المسؤوليات ذات الصلة بما يسمى "بالالئكة" ( .)le laïcatولم يتطور األمر إلى درجة حدوث انفصال تام بين الجانبين ،ألن اإلصالحات المذكورة تمت في إطار ديني ،ولذلك ظلت وضعية "الالئكة" المشار إليها جزء من الكنيسة .ولكن هذا االنتماء ظل ساري المفعول لحين فقط ،ألن إصالحات ﯕريﯕوار ،واإلصالحات التي تلتها خالل القرون الموالية ،وخاصة تلك التي بوشرت في نهاية القرن التاسع عشر ،مهدت الطريق لظهور الالئكية ( )la laïcitéالتي تتجاوز "الالئكة" (.)le laïcat ولتبرير المنحى الذي سلكه هذا التطور يمكن إثبات نص مطول ألحد أقطاب اإلصالح الﯕريﯕوري يذكر فيه "أنه تم الفصل بين رجال الدين والالئكيين داخل المصليات ،حيث خصصت لكل فئة مقاعد خاصة ،وكذلك مرافق خاصة ،فيتوجب إذا أن يتم التمييز بينهم في الخارج أيضا ،وفقا للمهام التي تقوم بها كل فئة .وعليه ،فيجب أن يلتزم الالئكيون بالمهام المنوطة بهم ،أي مهام العصر (المهام الدنيوية) ،وكذلك يجب على رجال الدين االلتزام بالمهام الموكلة إليهم ،أي المهام المتصلة بالكنيسة .وقد اطلع هؤالء وأولئك على القوانين التنظيمية ذات الصلة" .كما أقرت إصالحات ﯕريﯕوار ،إلى جانب المبادئ التي تحدد هذا التمييز بين رجال الدين والالئكيين ،صيغا وأشكاال جديدة لتأطيرالمجتمع .وتتضح معالم هذه الصيغ واألشكال ،من خالل بعض الكلمات والعبارات من قبيل كلمة "األبرشية" ،التي تطلق على مؤسسة سبق الحديث عنها ،وكلمة "تعميد األطفال" ،و"األسرة" ،و"الزواج المسيحي" ،و"تهذيب سلوك األفراد" ،عن طريق الزجر أحيانا وعن طريق التذكير بعقاب جهنم أحيانا أخرى.
70
ومهما يكن من أمر ،فقد وجدت إصالحات ﯕريﯕوار من ينتصر لها بعد وفاته. ومما ال شك فيه أنها تركت آثارا عميقة استمر مفعولها على المدى البعيد في معظم مناطق العالم المسيحي. )13صراع الفضائل والرذائل الشيطان يستشيط كان القرنان الحادي عشر والثاني عشر فترة تحوالت كبرى بامتياز .وقد شملت تلك التحوالت العقائد والممارسات الدينية أيضا .وتركت آثارا عميقة وبعيدة المدى في أوربا. وقد تم الحديث في فقرة سابقة عن تنامي وانتشار ما يمكن تسميته بروح النضال ،والرغبة في الصراع اللتان ارتبطتا بتنامي الفروسية والفرسان .ويبدو أن تلك الرغبة في الصراع اجتاحت بصورة رمزية عالم الروح .فأصبح خالص الرجال والنساء مرتبطا في نهاية المطاف بحصيلة صراع مرير ،هو صراع بين الفضائل والرذائل .فكان يرمز إلى الفضائل بفرسان مدججين بالسالح ،بينما كان يرمز إلى الرذائل بمحاربين وثنيين ال يسود بينهم نظام .وعليه ،فقد انتشر في جميع األوساط اعتقاد مفاده أن عالم الخطيئة هو تحت رحمة الشيطان الذي ال ينفك عن الغارة عليه. ومن غريب الصدف ،أن غارات الشيطان ،عدو اإلنسان ،تكاثفت خالل هذه الحقبة التاريخية بالذات ،في وقت لم يكن قد اكتمل فيه "المسرح" الذي شرعت في تشييده الكنيسة منذ العصر الوسيط األعلى ،ليقدم على منصته الشيطان "رقصاته". وهكذا أصبح الشيطان ال يبارح اإلنسان في صباحه وفي مسائه ،حتى أنه تملك بعض األشخاص .وتمثل أعراض هذا التملك مقدمات لتلك األمراض النفسية والعصبية التي انكب على معالجتها ،عند نهاية القرن التاسع عشر ،ثلة من األطباء وعلماء النفس أمثال جون-مارتان شاركو( )Jean-Martin Charcotوسيغموند فرويد(Sigmund ).Freud كان الشيطان يتملك بعض األشخاص بقوة لدرجة السيطرة على عقولهم، فيصا بون بالهلوسة والتهيؤات .وفي أحسن األحوال كانوا يقعون فريسة إغراءات تقودهم للوقوع في الرذيلة .ولحسن الحظ أن الكنيسة شرعت في تنظيم الصراع ضد الشيطان وضد الرذيلة .وتجلى هذا التنظيم في إجراءات طرد األرواح الشريرة ( ،)l’exorcismeوفي إقامة الصلوات ،وتنظيم جلسات االعتراف بالخطيئة للتكفير عن الذنب .ولكن جميع هذه اآلليات كانت محدودة الفعالية ،ألن الشيطان كان ينشط في فترة تاريخية اتخذت فيها السلطة و"القدرة" أشكاال "أمبريالية" .وأستحضر لتأكيد ما
71
أذهب اليه قولة لدانتي أليﯕييري ( (Dante Alighieriفي الموضوع يذكر فيها "أن الشيطان كان يعمل آنذاك ليتحول إلى إمبراطور لمملكة اآلالم".25 )14الثقافة الشعبية أوربا التي استشاط فيها الشيطان كانت في ذات الوقت مجاال مسيحيا ظهرت فيه، أو عادت للظهور ،ثقافة ذات صبغة شعبية .إذ رغم الجهود التي بذلت لنشر المسيحية، فإن هذه األخيرة لم تتغلغل في أوساط عدد من الذين اعتنقوها حديثا ،ومعظمهم من الفالحين. وال مجال لالنكار بأن الكنيسة خاضت صراعا محموما ضد بعض المعتقدات وبعض السلوكيات الموروثة عن العهد الروماني أو عن الماضي الجرماني (البربري) والتي نعتتها جميعها بكونها وثنية دون تمييز .ولكنها اضطرت بعد مطلع القرن الحادي عشر إلى تحويل صراعها ضد المجموعات الهرطقية وضد الفكر الجديد الذي أخذ ينبثق في أوربا ،والذي شرعت في احتضانه مؤسسات جديدة .فقد سمح النمو الديموغرافي والتوسع االقتصادي للفئات االجتماعية من غير رجال الدين"المحترفين" بأن يصبحوا قوة اجتماعية .فغدت قصور"السنايير" فضاءات ثقافية أخذت تتبلور فيها هوية "السنايير" والفالحين ،وهي هوية مختلفة طبعا عن هوية رجال الدين .فنشأت عن ذلك ،أو نهضت مجددا ،ثقافة شعبية. وأعتقد أن معرفة األوربيين بهذه الثقافة تكاد تكون اليوم مكتملة من خالل عدد من مؤلفات رجال الدين الذين تصدوا لها ،من قبيل بورشار ( )Burchardأسقف كنيسة وورمس ()Wormsالذي وضع حوالي سنة 1012مؤلفا يستعرض في جزء منه كثيرا من الممارسات المنحرفة للفالحين في مجال الجنس ،وكذا الشعائر التي كانوا يقومون بها الستجداء التساقطات المطرية ،وبعض عاداتهم في تنشئة األطفال، ومواقفهم من الموت .26ويمكن استعراض نموذج من بين تلك الممارسات ،يبين كيف كان التداخل قائما بينها وبين الممارسات المسيحية .ويتمثل هذا النموذج فيما كانت تقوم به األسرة عند وفاة أحد أطفالها .فإذا ما حدث أن توفي طفل ،لم يكن قد تم تعميده ،يضع بعض النسوة جثمانه في زاوية من البيت ،ويقمن بثقب موضع من جسده بوتد اعتقادا بأنهن إن لم يقمن بذلك سيحيي الطفل مجددا ويقوم ببعض التصرفات المؤذية لذويه ولعموم الناس في محيطه .وأذكر استنادا إلى ما أورده جون -كلود -25تحدث دانتي ،الشاعر ورجل السياسة الفلورنسي ،عن الشيطان في القسم الذي خصصه للجحيم في ملحمة "الكوميديا االلهية" .أنظر النسخة العربية لهذا القسم في كتاب حسن عثمان ،الكوميديا االلهية ،الجزء األول ،الجحيم ،دار المعارف، القاهرة.1988 ، - 26نشير إلى أن بورشار جمع بين الثقافتين الدينية والقانونية .وقد تضمن مؤلفه كثيرا من المبادئ التي تشكل ما يمكن تسميته "بمدونة قانون األسرة المسيحية".
72
شميت في أحد أبحاثه في الموضوع بأن الخوف من عودة األموات ،أوعودة األرواح، كان مجال كثير من المعتقدات والطقوس التي اشترك فيها الوثنيون والمسيحيون. وعموما ،فإن مكونات الثقافة الشعبية كانت راسخة ومتجذرة في األوساط االجتماعية ،وربما هنا يكمن سبب إخفاق الكنيسة في اجتثاثها ،وخاصة حين عجزت هذه المؤسسة الدينية عن اقتراح منتوج ثقافي بديل مقبول ومقنع .وعلى سبيل المثال، حاولت الكنيسة إقصاء الرقص والمواكب التي يكون المشاركون فيها مقنعين ( les ،)processions masquéesولكن دون جدوى .ونفس الشيء ينطبق على الحكايات الشعبية ،التي لم تستطع الكنيسة سوى إعادة صياغتها وإضفاء الطابع الديني المسيحي عليها لتغدو جزءا من الثقافة العالمة .وهذا ما تفصح عنه على سبيل المثال الخالصات التي توصل إليها ثلة من الباحثين في تاريخ الفولكلور في فلندا ( )la Finlandeمنذ مطلع القرن التاسع عشر .فقد قاموا بتجميع كل التعابير واألشكال الفلكلورية ،واكتشفوا بعد تحليلها والبحث في سياقها التاريخي ،بأن أصولها تعود للعصر الوسيط .وينطبق نفس األمر على الكرنڤال الذي أخذت تحتضنه روما منذ القرن الثالث عشر ،والذي كان في األصل عبارة عن طواف حول المدينة. وقدر لهذه الثقافة الشعبية أن تزداد ثراء وتصبح ذات طابع احتفالي أكثر خالل القرنين الخامس عشر والسادس عشر .وتجلى هذا الطابع على سبيل المثال في الكرنڤال الذي كان يتم تنظيمه قبيل عيد الفصح. واستنادا إلى دراسات وأبحاث المختصين في تاريخ الفلكلور ،يمكن القول بأن الثقافة الشعبية التي سادت في عصر الفيودالية هي ثقافة أوربية انضافت إليها عناصر كثيرة ومتنوعة تنتمي إلى ثقافات حقبة ما قبل ظهور وانتشار المسيحية .وقد خففت تلك الثقافة الشعبية من حدة التنوع وساعدت على تحقيق بعض مظاهرالوحدة .وفيها وجدت ثقافات كثيرة سلتية وجرمانية وسالڤية ومتوسطية تعبيرات خاصة بها. )15العمالت والوثائق العقدية استعمل األوربيون العملة على نطاق محدود قبل القرن التاسع .وكان من الممكن أن يتسع نطاق تداولها منذ عهد شارلمان ،الذي حاول حمل "المتعاملين" في سائر ربوع اإلمبراطورية على استعمال عملة موحدة ،أو على األقل عدد معين من القطع النقدية ،غير أنه لم يفلح في ذلك .ويفيد هذا الفشل بعدم قدرته على إقامة فضاء اقتصادي "قروسطوي" موحد .ورغم ذلك ،فإن تنوع العملة المتداولة يفيد بأهمية استعمال النقود من قبل فئات اجتماعية لم تكن تقوم بذلك قبل اعتناقها للمسيحية وانضمامها للعالم المسيحي.
73
ومن المفيد التذكير بأن عمليات سك العملة بدأت في مناطق شرق نهر الراين بعد سنة 900بقليل .وبعد مضي فترة شرع دوقات بوهيميا بدورهم في القيام بالمثل. ومنذ سنة 980أخذ األمراء البولنديون هم اآلخرين في ضرب العملة ،ثم تالهم الهنغاريون حولي سنة .1000 ومن هذا المنطلق ،حق ألحد الباحثين أن يقول بأن سنة ألف شهدت شيوع عمالت جديدة انتشرت من ضفاف نهر الدانوب حتى سواحل بحر البلطيق وبحر الشمال .والى جانب العملة ،انتشرت في سائر أنحاء العالم المسيحي أداة أخرى من أدوات التواصل وممارسة السلطة تمثلت في الوثائق .ومما ال شك فيه أن استعمال تقنيات التعبير الكتابي سهل انتشار هذه الوثائق ،وشكل أحد دعائم الوحدة .وسيتم الحديث عن هذا الجانب في مبحث الحق سيخصص للحديث عن للكتاب في أوربا. وأود ،استنادا لما أورده الباحث روبير بارتليت ( )Robert Bartlettفي الموضوع ،التركيز على نوع معين من الوثائق ذات الصبغة القانونية تعرف باسم "( "les chartesالمواثيق أو العقود) .وتشكل متون هذه النصوص قاعدة حقوقية للمعامالت التي تكون موضوعها أراضي وعقارات وغيرها من الممتلكات والثروات العينية.27 استعملت هذه العقود بين المتعاملين في سائر أنحاء العالم المسيحي .وكان يقوم بتحريرها ،في بادئ األمر ،نفر من الرهبان .ثم أفضى التطور الحضري ،وخاصة في مناطق جنوب أوربا ،إلى ظهور موثقين أوكلت إليهم مهمة تحريرها .وسرعان ما انبثقت عن تطور عمليات التوثيق مؤسسات مختصة في صياغة العقود تسمى " les "chancelleriesيشتغل بها مجموعة من الموظفين ينعتون "كانسيالريوسات" ( des .)cancellariusيبدو أنهم كانوا مختصين في تحرير الوثائق التي تهم معامالت المؤسسة الملكية بصفة خاصة بدليل أن ملك فرنسا فليب أوغست ( Philippe )Augusteاستشاط غضبا حين تمكن ملك أنجلترا ،على اثر وقعة فريتفال ( )Frétevalسنة ،1194من غنيمة ما كانت تحتوي عليه الخزينة الملكية من عقود تخص المملكة الفرنسية .ونظرا لقيمة مثل هذه العقود قرر الملك سان لويس ( Saint )Loiusبعد ذلك تخصيص مقر "مقدس" لحفظها. ويبدو أن التطورات المتتالية في أوربا ،أدت إلى تعميم استعمال النقود وشيوع
- 27تحدث روبير بارتليت ،أستاذ التاريخ األوربي الوسيط بجامعة سان أندروز ( )St. Andrewsاألنجليزية ،عن هذه الوثائق في كتابه : The making of Europe : Conquest, Colonization and Cultural Change, 950-1350, London, Penguin Books, 1993.
74
استعمال العقود في المعامالت ،فانتقلت هذه األدوات من مرحلة كانت تحظى فيها بنوع من القدسية إلى مرحلة االستعمال التطبيقي "الدنيوي" ،ألنها أضحت تستعمل من قبل عموم الناس. )16الحج ال بأس من التوضيح في مستهل هذا المبحث ،بأن حديثي عن الحج (les pèle- ( rinagesيزكي توجه المؤرخين المعاصرين الذين يجمعون بأن أفراد مجتمع العصر الوسيط لم يكونوا قابعين في بيوتهم كما روج لذلك طويال المؤرخون القدامى. فقد جبل أكثرهم على حب السفر والترحال اللذان لم يكونا حكرا على رجال الدين .واحتلت رحلة الحج المقام األول قبل الرحلة من أجل التجارة ،رغم أن بعض األفراد كانوا يجمعون بين الحج والتجارة في رحلة واحدة ومن نافلة القول أن الحج كان ينطوي على جهد بدني كبير يقوم به الحاج نظير تحقيق نوع من الطهارة الروحية والتكفير عن الذنوب واستجداء الشفاء من إحدى العلل .وال يختلف اثنان في القول بأن الحج كان في العصر الوسيط بمثابة كفارة .وهذا ما تجلى خالل القرنين الثاني عشر والثالث عشر ،حيث غمرت هذه الرغبة في الكفارة جحافل من الحجاج انطلقوا في مواكب في اتجاه الشرق والجنوب .وترتب عن تحركاتهم تشكل شبكة من المزارات المتفاوتة األهمية استقطبت هؤالء الحجاج. احتلت مدينة القدس المركز األول في هذه الشبكة رغم أن الحج إليها لم يكن في متناول الجميع نظرا لعدة اعتبارات من بينها طول المسافة الفاصلة بينها وبين الحواضر والقرى األوربية ،وطول المدة التي يستغرقها السفر إليها ،وارتفاع تكاليفه، فضال عن االضطرابات التي كانت فلسطين مسرحا لها ،لكونها كانت دائما موضوع صراع بين مختلف قوى العصر الوسيط. و احتلت مدينة روما المرتبة الثانية في تلك الشبكة ألنها تحتضن رفات أبرز بناة الكنيسة الكاثوليكية :القديس بطرس والقديس بولس ،باإلضافة إلى أضرحة عدد آخر من القديسين والرهبان سبق أن قام الباباوات بنقل رفاتهم إلى هذه المدينة المقدسة قبل القرن التاسع .وفضال عن هذا ،كانت تأوي أضرحة عدد من الرهبان تعرضت للتخريب من قبل الغزاة ،فتحولت إلى مزارات كان الحجاج يؤمونها للتبرك بها .وبما 28
- 28من المفيد اإلشارة إلى أن جاك لو ﯕوف أورد عنوانه في صيغة الجمع ( ،)les pèlerinagesألن المسيحيين، خالفا للمسلمين ،كانوا يحجون خالل العصر الوسيط إلى أكثر من بقعة واحدة مقدسة .ولذلك وجب التذكير بهذا المعطى حفاظا على داللة العنوان.
75
أن عدد الوافدين على المدينة ظل في تزايد مطرد ،فقد حرص الباباوات على إقامة عدد من المرافق وبنيات االستقبال التي يقتضيها األمر. والمالحظ أن معظم حجاج روما كانوا يفدون في بادئ األمر من ايرلندا ومن الجزر البريطانية ،وبعد سنة ،1300تاريخ إقامة أول تظاهرة دينية كبرى في العالم المسيحي ( )un jubiléمن قبل البابا بونيفاص الثامن ( ،)Boniface VIIIأخذ الحجاج يتوافدون بأعداد غفيرة على روما من سائر أنحاء العالم المسيحي سعيا للتكفير عن ذنوبهم .فكانت هذه المناسبات الدينية تمثل فترات تصل فيها حركة الحجيج الذروة وشكلت في ذات الوقت بذورا لالنتقادات التي ستنشأ فيما بعد؛ والتي ستتحول منذ مطلع القرن السادس عشر إلى حركات مناوئة للبابوية ومطالبة باإلصالح. عدت كنيسة القديس شانت يقوب ،التي سبق الحديث عنها ،ثالث مزار كان يحج إليه المسيحيون بعد روما وبيت المقدس .واعتبر هذا المزار من بين أهم المزارات المسيحية رغم أن الوفادة إليه لم تبدأ إال بعد مطلع القرن العاشر للميالد.وإذا كانت البابوية قد قامت بدور مهم في إذكاء وتيرة الحجيج إلى روما ،فالي دير كلوني ( )Clunyالشهير يعزى الفضل في تبوؤ كنيسة شانت يقوب تلك المكانة المرموقة التي حظيت بها بين المسيحيين. ورغم أن بيت المقدس وروما وشانت يقوب هي التي استقطبت أكبر قدر من الحجاج المسيحيين ،فإن ذلك لم يمنع من وجود مراكز دينية أخرى كانت مقصد الحجاج ،من بينها مدينة تور التي كانت تأوي ضريح القديس مارتان ( Saint )Martinالمتوفى سنة .397ويبدو أن هذا القديس كانت له حظوة كبرى في أوساط طبقة الخاصة ،كما في أوساط عامة الناس .فقد حج إلى ضريحه الملوك أمثال شارلمان وريتشارد قلب األسد ،كما توافدت عليه جماهير غفيرة من عامة المسيحيين من رجال دين ومن الئكيين. وحظي ضريح القديس ميشال ( ،)Saint Michelدفين نورمانديا ( la ،)Normandieبمكانة خاصة هو اآلخر .فقد كان يحج إليه عدد من مسيحيي غالة. وحدث أن اندلعت حرب المائة سنة بين فرنسا وأنجلترا سنة .1337فقامت قطع البحرية األنجليزية بأكثر من هجوم على المدينة التي امتنعت عليهم .وظل المرابطون بها صامدين لفترة طويلة من الزمن ،وكأنهم تزودوا ببركة هذا القديس .وبعد أن وضعت الحرب أوزارها أصبح ضريح القديس ميشال مزارا "وطنيا" يحج إليه مسيحيو غالة من مختلف المناطق .كما كانت تفد إليه مواكب من األطفال في سياق ما يعرف بحج األطفال (.)les pèlerinages d’enfants وفي سياق ذي صلة بحج األطفال ،يجدر الذكر أن مريم العذراء أخذت تحظى هي األخرى بحظوة خاصة ابتداء من مطلع القرن الحادي عشر .فنشأ عن ذلك نوع
76
من الحج هو الحج المريمي ( .)le pèlerinage marialوتمثل في وفادة المسيحيين على كثير من المواقع التي كانت توجد بها أضرحة قديسات تحمل كل واحدة منهن اسما مركبا يبدأ "بسيدتنا" وينتهي باسم البلدة أو المقاطعة التي يوجد بها ضريحها،من قبيل ( )Notre-Dame de Boulogneبفرنسا ،و()Notre-Dame de Hal ببلجيكا الحالية .وكانت هذه األضرحة منتشرة في أنحاء كثيرة من العالم المسيحي، وخاصة في كل من غالة وإسبانيا وبلجيكا ،وأنجلترا ،وألمانيا ،والنمسا. واشتهر ضريح "سيدتنا روكامادور" ()Notre-Dame de Rocamadour دفينة مقاطعة ( )Rocamadourالواقعة بضواحي مدينة كاهور ( )Cahorsجنوب غرب غالة ،بك ونه كان أهم األضرحة التي شد إليها الحجاج الرحلة من سائر أنحاء العالم المسيحي .ومن بين الذين حجوا إليه ملك انجلترا هنري الثاني الذي حج إليه سنة 1159وسنة .1170والغريب في األمر أن هذا الضريح كان يستقطب كل سنة أعدادا غفيرة من المسيحيين ،مع أنهم كانوا يكابدون المشاق في الوقوف على أبوابه ألنه يقع في قمة مرتفع يجب صعود ما ينيف عن 197وحدة ( )des marchesمن درج طويل يوصل إليه. )17التجزئة الفيودالية والتمركز المﻠكي تميز المشهد السياسي في العالم المسيحي خالل القرنين الحادي عشر والثاني عشر بتناقض صارخ .فمن جهة هناك نظام فيودالي شرعت قواعده في أخذ مكانها. وتجسد ذلك في تدهور السلطة المركزية ونهاية دور المؤسسات العمومية واستفحال التجزئة السياسية .وهناك من جهة أخرى اتجاه نحو التشبث بالسلطة المركزية في بعض المناطق التي ظل سكانها ملتفين حول الملوك ،الذين سعوا جاهدين إلى الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من مركزية أمام التيار الجارف نحو التجزئة. ويجدر التذكير في هذا المقام بأن النظرية السائدة في أوساط الباحثين ،تفيد بأنه من الصعب الحديث عن وجود تطابق بين السلطة المركزية والنظام الفيودالي .ودون تخصيص حيز لمناقشة هذه النظرية ،أميل إلى االعتقاد بأن استقراء الواقع التاريخي يستدعي تبني موقف لين نسبيا يقتضي الحديث عن نوع من التساكن بين التجزئة والمركزية ،ألن االتجاه نحو التجزئة السياسية لم يحل دون استمرار وجود بعض الملكيات التي ظلت قائمة هنا وهناك ،باإلضافة إلى وجود سلطة على رأسها البابا. والمالحظ أن سلطة البابوية ازدادت قوة وتماسكا خالل هذه الحقبة التاريخية بالذات .بل أرى بأنه ال مبالغة في القول بأنها كانت أقوى الكيانات على اإلطالق، وخاصة في عهد انوسونت الثالث ( )Innocent IIIالذي اعتلى كرسي البابوية بين سنتي 1198و .1216فخالل عهده أصبح نفوذ البابوية يشمل معظم مناطق العالم
77
المسيحي بفضل حنكته ،وبفضل توفر البابوية على مؤسسات كانت تساعد في تدبير الشؤون ،فضال عن توفرها على مداخيل مهمة وقارة كانت تسمح لها بتنفيذ مشاريع مختلفة .وكان من الممكن أن تمارس البابوية السيادة الفعلية على الممالك األخرى المعاصرة لها لوال أن اإلصالحات الﯕريﯕورية ،التي سبق الحديث عنها ،كانت تقضي بوجود فصل بين السلطتين الدينية والدنيوية .ورغم ذلك ،كان للبابوية نوع من التأثير في سياسة بعض الملوك. )18هيبة وضعف اإلمبراطور أعتقد أن وجود بابا على رأس كيان قوي يمنع من الحديث عن تجزئة مطلقة، كما أن استمرار وجود حاكم يحمل اسم اإلمبراطور يمنع ذلك أيضا ،ألن اإلمبراطورية الرومانية المقدسة استمرت في الوجود خالل مرحلة استفحال التجزئة السياسية. والحقيقة أن سلطة أباطرة ما بعد القرن الثاني عشر أضحت ضعيفة مقارنة بما كان عليه األمر زمن حكم األتونيين األوائل .ورغم ذلك ،ظل بعض ملوك الممالك الفيودالية الناشئة ( )les monarchies féodalesيدينون بالوالء ،ولو نظريا، لشخص اإلمبراطور ،بينما لم يتردد آخرون في اعتبار أنفسهم أباطرة في الممالك التي كانوا يحكمونها دون أن يتجرأوا على حمل لقب إمبراطور. )19المﻠك خالل العصر الوسيط يكتسي الحديث عن خاصيات شخص الملك خالل العصر الوسيط أهمية قصوى ،ليس لفهم هذا العصر ،ولكن ألن كثيرا من تلك الخاصيات انتقلت فيما بعد إلى الحكام الجمهوريين أو الديمقراطيين .وظلت مستمرة دوما إما كوظائف أو كصور رمزية وإيحاءات. من بين أهم خاصيات ملك العصر الوسيط ،أنه كان يعتبر ظل هللا في األرض. والواقع أن هذه الخاصية اختفت منذ مطلع القرن التاسع عشر ،ولكن القائمين على األمر في الحكومات والممالك الحديثة والمعاصرة ال زالوا يحتفظون ،في األغلب األعم ،ببعض االمتيازات التي تفيد باستمرار هذه الخاصية كحق منح العفو ،أو الحق في عدم المسائلة القانونية. ومن المعروف أن ملوك العصر الوسيط كانوا يزاولون ثالث وظائف ذات أصول هندو -أوربية ،أولها الوظيفة الدينية التي تتمثل أهم تجلياتها في إقامة العدل بين الناس رغم أن الملك لم يكن بمثابة رجل دين .ثاني هذه الوظائف قيادة الجند لخوض الحروب ،على اعتبار أن الملك ينحدر من فئة النبالء ،فهو اذن محارب قبل كل شيء.
78
وال زالت هذه الوظيفة اليوم من اختصاص رئيس الجمهورية بوصفه القائد األعلى للقوات المسلحة .وثالث هذه الوظائف تحقيق الرفاه االقتصادي لسكان مملكته .ومن تجليات هذه الوظيفة أن ملوك العصر الوسيط كانوا يكثرون من تقديم الصدقات واألعطيات للفئات الفقيرة من سكان ممالكهم. وكان ملك العصر الوسيط يسعى جاهدا ،الى جانب قيامه بهذه الوظائف الثالث، ألن يكون له حظ من المعرفة ،كما سبق توضيح ذلك عند الحديث عن جهود شارلمان الكتساب نصيب من المعرفة ،ألنها كانت أداة ضرورية في ممارسة السلطة .وعموما، فإ ن كل ملك من ملوك العصر الوسيط كان يجتهد في طلب العلم حتى ال ينطبق عليه المثل القائل " :ليس الملك األمي إال مجرد حمار يحمل على رأسه تاجا". تميز شخص الملك خالل الحقبة الفيودالية بخاصيات أخرى ،إلى جانب الخاصيات السابق ذكرها .ومن بين هذه الخاصيات الحق في السيادة وممارسة السلطة ،وهما خاصيتان ورثهما ملوك الحقبة المذكورة عن العصر الروماني .ثم أضافت المسيحية للملوك منذ مطلع العصر الوسيط خاصية الجاللة التي انبثق عنها حق الملك ،وحده دون غيره ،في إصدار العفو على الجناة .كما أتاحت خاصية الجاللة للملك الحق في أال يقدح أحد في شخصه. وانطالقا من هذه الخاصيات ،يمكن القول بأن ملك العصر الوسيط لم يكن حاكما مطلقا .وإذا كان كذلك ،فهل كان حكمه ذا صبغة دستورية؟ جوابا على هذا السؤال، أقر بأن النظام الملكي لم يكن قائما خالل هذه الحقبة على دستور .ألن الباحثين لم يعثروا على أي نص يحمل مواصفات الدستور باستثناء الماجنا كارتا ( Magna ،)Carta ou grande charteوهي وثيقة ذات صبغة خاصة ،تتضمن عدة بنود تقر في معظمها مبدأ الحريات الفردية ،فرض نبالء أنجلترا على الملك هنري الثالث توقيعها سنة .1215وتعد هذه الوثيقة واحدة من اللبنات التي قامت عليها األنظمة الدستورية في أوربا. وأهم ما يمكن التشديد عليه في هذا المقام ،هو أن نظام الملك في العصر الوسيط كان نظاما تعاقديا .وكان الملك طرفا في هذا العقد ،ألنه كان يتعهد ،خالل المراسيم التي تنظم عند المناداة به ملكا وحمله للتاج ،بأن يلتزم أمام هللا وأمام الكنيسة وأمام الشعب .وما من شك في أن هذا التعهد هيأ الطريق لتبلور نظام رقابة السلطة من قبل الشعب أو من قبل هيئات تمثله .وقبل أن يتحقق هذا التطور الحاسم ،فإن الشعب المعني بااللتزام الملكي لم يكن هو عامة الشعب ،بل الطبقة األرستقراطية وحدها هي التي كانت معنية بهذا االلتزام ،ألن الملك كان األرستقراطي األول ونبيل النبالء بحكم انتمائه ألسرة نبيلة أبا عن جد.
79
وكان الملك يتعهد ،بمقتضى العقد الوارد ذكره ،بإقامة العدالة كما سبق الحديث عنها كوظيفة .ويتعهد بإقرار النظام وإشاعة األمن في ربوع المملكة .وما من شك ،في أن سعي ملوك الممالك الفيودالية إلى إقرار النظام وإشاعة األمن يمثل مدخال نحو قيام ما يعرف اليوم بدولة الحق والقانون. والراجح أن دور الشعب في الرقابة كان ال زال بعيد المنال خالل هذه الحقبة، ألن المسافة بينه وبين السلطة كانت ما زالت بعيدة .ولذلك اختزل الشعب في حقيقة األمر في الطبقة األرستقراطية .والى نفس هذه الطبقة كانت تنتمي األسر المالكة هنا وهناك .ومما ال شك فيه ،أن هذا األمر ساهم في استقرار الممالك ،وفي إطالة أمد حكمها .وربما هذه الرغبة في االستقرار ،هي التي كانت وراء إقصاء المرأة من مزاولة الحكم في فرنسا .فمنذ تأسيس أول كيان سياسي بها اقتصر الحكم على الذكور. )20الممالك الفيودالية يجب التنبيه الى أن الممالك الفيودالية لم تكن كلها قوية متماسكة يسودها االستقرار .وبعبارة أخرى ،لم تكن كلها على قدم المساواة .تتوفر في كل واحدة منها المقومات التي ستخول لها االنتقال إلى مرحلة الدولة الحديثة بما يحمله مفهوم "الدولة" من دالالت .ومن هذا المنطلق ،ال يمكن المقارنة بين أنجلترا وفرنسا ومملكة قشتالة التي كانت متماسكة موحدة ،وبين ألمانيا وايطاليا اللتان كانتا مجزئتين إلى عدة كيانات سياسية. أ) أنجﻠترا شهدت أنجلترا أحداثا جسيمة خالل القرنين الحادي عشر والثاني عشر ،كان يمكن أن تخرج منها ضعيفة .ولكن حدث أن تجاوزتها بسالم بفضل صالبة مؤسساتها التي أرسى دعائمها الملك ألفريد العظيم منذ القرن التاسع .ثم زاد من تقويتها الملك ايدوارد الذي حكم بين سنتي 1042و .1066وتأكدت قوة أنجلترا حين تمكنت من الخر وج بخسائر محدودة على اثر الغزو الذي تعرضت له من قبل دوق نورمانديا غليوم. ويمكن القول ،استنادا إلى كتاب يوم الحساب ،المعروف "بكتاب الدوميسديي" ( ،)le Domesday Bookبأن سر قوة أنجلترا ،يكمن فيما كانت تتوفر عليه من ثروات بوأتها المقام األول اقتصاديا من بين ممالك أوربا .فضال عن توفرها على سلطة مركزية على رأسها ملوك أقوياء ،وعلى إدارة منظمة فاعلة قل نظيرها. وحدث عقب وفاة الملك هنري األول سنة 1135أن شهدت المملكة بعض االضطرابات ،ينطبق عليها ،بالنظر إلى ما آلت إليه من نتائج ،المثل القائل" :رب نقمة في طيها نعمة" .فقد انتهت تلك االضطرابات فعال بزواج المدعو جوفروا
80
بالنتجوني ) )Geoffroi Plantagenêtقمط أنجو) )Anjouبماتيلدا ابنة الملك المتوفى .وبما أنها كانت وريثة العرش الوحيدة ،فقد أضحى جوفروا ملكا على أنجلترا .ورغم ما استتبع ذلك من اعتراضات وقالقل ،فقد رزق جوفروا بمولود ذكر. فحسم األمر بأن عين هذا الولد ملكا بالوصاية ،ثم ملكا فعليا ابتداء من سنة 1154 باسم هنري الثاني. وأهم ما في األمر ،هو أن هنري الثاني أصبح يحكم أكبر مملكة في غرب أوربا شمل نفوذها أنجلترا وأجزاء كبيرة من التراب الفرنسي .فغدت "أول مملكة حديثة في العالم المسيحي". ب) فرنسا تعتبرغالة ،أو فرنسا كما تسمى حاليا ،ثاني مملكة في غرب أوربا ،بعد أنجلترا، حافظت على استقرارها لفترة طويلة بفضل استمرارية الحكم فيها بيد أسرة واحدة منذ سنة .987وقد تمثلت هذه األسرة فيما يعرف عند اإلخباريين بآل كابت ( les )Capétiensالتي تعاقب فيها الذكور على الحكم .وشاءت األقدار أال يرزق هؤالء الملوك الذكور إال بالذكور مما حقق استمرارية الحكم في أوساطهم بدون انقطاع .ولم يكن لهم من معارض سوى نفر من كبار أفراد األرستقراطية الذين استطاعوا احتوائهم ،وفي نفس الوقت ،ألبوا ضدهم ثلة من رجال الدين ،اتخذوهم كمستشارين لهم .كما ألبوا ضدهم أفراد الشريحتين الوسطى والسفلى من الطبقة األرستقراطية. ويبدو أن طابع االستمرارية كان أبرز سمات نظام الحكم في غالة .وقد تجلت هذه االستمرارية في أربعة مظاهر .أولها ،هو أن الحكم في غالة ظل بيد أسرة واحدة. وثانيها ،هو أن باريس اتخذت عاصمة للمملكة بصفة نهائية .فكان ذلك إيذانا ببداية ما سيعرف بأوربا العواصم .ويبدو أن االختيار كان صائبا ،ألن باريس تعد موطن دير سان دوني ( )Saint Denisالواسع النفوذ ،والذي كان رجاالته من أقوى المساندين آلل كابت على الدوام. وتمثل ثالث المظاهر الدالة على االستمرارية في عملية تتويج الملوك ،من آل كابت ،حيث كانت تتم دوما بمدينة ريمس ( )Reimsالتي احتضنت مراسيم تتويج أول ملك في تاريخ غالة وهو كلوڤيس. وتجلى رابع المظاهر في اتخاذ الملوك ،من آل كابت ،لزهرة الزنبق ( la ،)fleure de lysالتي ترمز لمريم العذراء ،شعارا لهم .واتخاذهم األزرق لونا كان يصبغ به معطف الملوك .كما كانت ترسم بذات اللون زهرة زئبق على الخاتم الملكي. ج) قشتالة ظهرت مملكة قشتالة للوجود في سياق حرب االسترداد التي خاضها مسيحيو شبه جزيرة ايبيريا ضد المسلمين .ومن المفيد التذكير في هذا اإلطار بأن عدة ممالك
81
مسيحية ظهرت خالل نفس الفترة الزمنية بشبه جزيرة أيبيريا .وكانت رقعتها الجغرافية تتسع ،ونظمها السياسية تتبلور بالموازاة مع تطور حرب االسترداد وتراجع المسلمين نح و الجنوب .وقد قدر لمملكة قشتالة أن تكسب رهان التوسع والتبلور، وخاصة بعد اتحادها مع مملكة ناڤار .وقد أمد هذا االتحاد ملوك قشتالة بقوة استثمروها في السيطرة على مملكة ليون ابتداء من سنة .1017فأصبحت المملكة مؤلفة من قسمين .لتغدو بعد سنة 1230مملكة واحدة هي مملكة قشتالة وليون. وقد تميز نظام الحكم في هذه المملكة باعتماد ملوكها سياسة تقوم على نوع من التوازن بين القوى المؤثرة في عالم األرياف والقوى الفاعلة في المراكز الحضرية. فكسبوا ود األرستقراطية العقارية وود األوليغارشية الحضرية .إذ سمحوا للفئة األولى بحيازة كثير من األراضي المسترجعة ،بينما منحوا للفئة الثانية ،ولسكان الحواضر عموما ،مزيدا من الحريات وسمحوا لهم بإقامة الجمعيات (.)les cortes د) النورمان كان من الممكن االكتفاء بالحديث عن هذه الكيانات الثالث التي تطورت فيها المؤسسات السياسية ،وأضحت تجسد أوربا الممالك ،ولكن يمكن أن تدرج إلى جانبها مملكة رابعة "بلغت مستوى من النضج بصورة مفاجئة لم تخطر على بال أحد" .إنها مملكة النورمان التي أنشأها "الشتات" المؤلف من الوافدين من العالم اإلسكندنافي. والواقع أن هؤالء الوافدين أسسوا عدة ممالك لم يكتب لها أن تعمر طويال .فقد أنشأوا مملكة في اسكندنافيا وأخرى في منطقة نورمانديا الفرنسية .واستطاعت جموع غفيرة من هذا "الشتات" تأسيس مملكة في جنوب ايطاليا شمل نفوذها منطقة كالبريا، التي انتزعوها من البيزنطيين ،باإلضافة إلى مدينة نابولي وجزيرة صقلية. وبعد فترة صراع مع البابوية ،زمن حكم روجر األول ( ،)Roger Iالذي نعت "بالملك المستبد" على غرار بعض ملوك العصر القديم ،دخلت هذه المملكة في عالقات ودية مع البابوية .وغدت ،منذ حوالي سنة ،1100إحدى أقوى الممالك المسيحية في حوض البحر المتوسط .وتعاقب على حكمها عدد من الملوك حافظوا على استقرارها وعلى توجهها نحو العالم المسيحي .وكان من بين هؤالء الملوك فردريك الثاني ( )Frédéric IIالذي واصل االصالحات التي باشرها اسالفه، فأضحت المملكة في عهده إحدى الكيانات الفيودالية المتطورة .وغدت عاصمتها باليرمو أكثر عواصم أوربا قدرة على منافسة مدن العالمين البيزنطي واإلسالمي في ميادين الثقافة والفن .كما تحولت إلى مركز عالمي للترجمة ،حيث استقر بها عدد من المفكرين والمهتمين بالترجمة من يهود ومسيحيين ومسلمين. ولكن التطورات الالحقة لم تتح لهذه المملكة إمكانية االستمرار في هذا االتجاه. فقد تعرضت للغزو من قبل الغاليين ،الذين لم يتمكنوا من السيطرة عليها سوى لفترة
82
قصيرة ليتركوا مصيرها بين أيدي األراغونيين الذين غزوها بدورهم حوالي سنة .1282 ويمكن أن نتصور أي اتجاه كان يمكن أن تسلكه هذه المملكة األصيلة ،التي نشأت في المجال المسيحي المتوسطي ،لو لم ينته مصيرها على النحو الذي ذكر .فقد كان من الممكن أن تصبح كيانا مستقال أو لكانت قد اندمجت في العالمين البيزنطي أو اإلسالمي .وأرى من هذه الزاوية بالذات بأن أوربا "ككيان موحد" لم تكن "مسجلة" على الدوام في ديوان الجغرافيا أو في ديوان التاريخ. )21حضارة أوربا خالل القرن الثاني عشر بلغت التحوالت الكبرى التي شهدتها أوربا خالل القرن الحادي عشر مستوى رفيعا من النضج خالل القرن الموالي اصطلح المؤرخون على نعته بالنهضة. ولكن تلك التحوالت لم تكن مجرد عملية إحياء لثقافة العصر القديم ،كما يوحي بذلك مفهوم النهضة ،وإنما كانت تتضمن عطاءات جديدة في عدة مجاالت .وإن األفراد الذين كانوا وراء تلك العطاءات توخوا حجبها بغطاء لتبدو دوما في ثوب قديم. وبما أنه من الصعب التوقف عند جميع العطاءات في مختلف المجاالت، سأكتفي بتناول جوانب معينة من الثقافة ومن المواقف الذهنية التي أعدها من بين المجاالت التي شهدت عطاءات جديدة .يتمثل الجانب األول في اتجاه المسيحية نحو التأنيث وتغليب فكرة األلم؛ وهو اتجاه تجسد في صحوة غير مسبوقة لظاهرة تقديس مريم العذراء .كما تجسد أيضا في تحول شاب ظاهرة تقديس المسيح ،حيث تحول "بطلها" من مسيح منتصر على الموت إلى مسيح يتأوه من شدة األلم .ويتمثل الجانب الثاني في نشأة حركة إنسية مسيحية جديدة ذات صبغة ايجابية .شهدت هذه الحركة تطورا بعد النشأة وأصبحت تشكل طبقة من بين طبقات الحركة اإلنسية األوربية التي نشأت واستغرقت وقتا طويال لتتبلور أكثر فأكثر .وفي ضوء هذه الحركة اإلنسية الناشئة أصبحت ذات اإلنسان تتأكد بصورة أفضل .ولم يعد ذلك المخطأ الذي يرزح تحت وطأة الشعور بالخطيئة .كما حدث تغير ملحوظ فيما يتصل بمسألة اإليمان لدى فئات المجتمع ،ولكن دون أن يمس هذا التغير جوهر اإليمان الذي ظل قويا وحيويا. وبموازاة ذلك أعيد النظر في دالالت مفهومين أساسيين يؤطران الفكر األوربي برمته وهما :مفهوم الطبيعة ومفهوم العقل.
83
وسأحاول في األخير إثراء هذا الملف بتخصيص حيز منه لمناقشة وجهة نظر الباحث األنجليزي روبير أيان مور ( 29)Robert Ian Mooreالذي يرى بأن تحوالت القرن الثاني عشر تمثل "ثورة أوربية أولى" ،تجسدت إيجابا في ازدهار اقتصادي واجتماعي ومعرفي ،تم في إطار عودة استتباب النظام الذي جعل أوربا تبدو في صورة القارة التي تضطهد والتي تقصي كما سيتم توضيح ذلك. )22ازدهار ظاهرة تقديس مريم العذراء شهدت الديانة المسيحية تحوال جذريا بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر على اثر الصحوة الكبرى التي همت ظاهرة تقديس مريم العذراء. والحقيقة أن ظاهرة تقديس مريم العذراء ،بوصفها "أما إلاله" ،نشأت وتطورت منذ وقت مبكر في أوساط معتنقي المسيحية اإلغريقية األرثوذكسية ثم أخذت تتسرب شيئا فشيئا إلى الغرب المسيحي .غير أن هذا ال يعني البتة بأن الظاهرة لم يكن لها وجود قبل الفترة الكارولنجية .ولكن حدث ابتداء من مطلع القرن الحادي عشر أن أخذت تحتل موقعا متميزا بين معتقدات مسيحيي الغرب وضمن طقوسهم وشعائرهم. واستتبع ذلك أن أضحى هذا التقديس موضوع إصالحات قامت بها البابوية بين أواسط القرنين الحادي عشر والثاني عشر .وقد ارتبط هذا التقديس بتطور التفاني في حب المسيح وتنامي العبادة القرابينية .وبما أن العذراء عنصر مهم في مسألة التجسد، وتضطلع بدور مهم في العالقة بين الناس والمسيح ،فقد غدت بمثابة محام فوض الناس له وحده حق تمثيلهم أمام ابنها اإللهي .وفي الوقت الذي اختص فيه معظم القديسين والقديسات في معالجة المصابين باألمراض والعلل ،فإن العذراء أضحت "مختصة" في الكرامات التي تفيد جميع الناس .فهي وحدها المؤهلة لحل مشاكل الرجال والنساء. ومن ثم ،غدا لها دور قوي ومركزي في خالص الناس من الخطيئة ،بمن فيهم المجرمون والمذنبون ،الذين تلتمس لهم الثواب والمغفرة من لدن المسيح. وأعتقد بأن العذراء ارتقت ،في ظل هذا الوضع ،الى مرتبة رفيعة فغدت بمثابة الشخصية الرابعة في الثالوث المقدس (األب ،االبن ،الروح القدس) .وتجسدت هذه - 29استعرض روبير أيان مور وجهة نظره ،التي سيتوقف جاك لو ﯕوف عند بعض جوانبها في الفقرات الالحقة ،في كتابين هما : - The First European Revolution, c. 970–1215, 2000, trad. fr. La première révolution européenne, Paris, Seuil, 2001. –- The Formation of a Persecuting Society: Power and Deviance in Western Europe, 950 1250, Blackwell, 1987, trad. Fr. La persécution. Sa formation en Europe, 950-1250, Paris, Les Belles Lettres, 1991 ; seconde édition augmentée, The Formation of a Persecuting Society: Authority and Deviance in Western Europe, 950–1250, Blackwell, 2007.
84
المرتبة في كون مسيحيي غرب أوربا كانوا يخصونها بثالثة أعياد ذات قيمة كبرى في المسيحية هي :عيد التطهير ،وعيد البشارة ،وعيد الصعود (أو االرتقاء). جرت عادة المسيحيين بتخليد عيد التطهير في اليوم الثاني من شهر فبراير .وقد حل هذا العيد محل عيد وثني كان يحتفى به من قبل .ويحيل عيد التطهير إلى مسألة وجود المسيح الطفل في معبد القدس .ولكن المقصود من وراء إحيائه هو ابتغاء التطهير .رغم أن هذا المبتغى شكل موضوع جدال في أوساط رجال الدين ،وبين عموم المسيحيين ،فترة طويلة من الزمن تمحور حول عالقة مريم بالخطيئة .وتمت صياغته على النحو اآلتي :بما أن مريم أنثى حملت ووضعت مولودا ،أال يمكن أن تكون قد وقعت في الخطيئة الكبرى؟ ولم تنتصر الفكرة التي مفادها أن مريم كانت عذراء عندما وضعت مولودا إال منذ مطلع القرن التاسع عشر .ورغم ذلك ،ظل مسيحيو الغرب األوربي الوسيط يكنون التقدير لمريم العذراء ويبوئونها مكانة راقية تكاد تضاهي مكانة ابنها اإلله. أما عيد البشرى ،فكان يتم تخليده يوم 25مارس من كل سنة .وفي هذا اليوم بشرت مريم ،ومن خاللها اإلنسانية كلها ،بمسألة تجسيد االبن اإلله .وتحيل هذه المناسبة إلى حدث الحوار الرسولي بين العذراء والمالك جبريل الذي يعد من بين أعظم األحداث التي شهدها تاريخ اإلنسانية .وقد شكل هذا الحدث موضوع أبحاث كثيرة ومصدر الهام للعديد من الرسامين الذين جسدوه في لوحاتهم منذ سنة .1344 وقد كانت تلك اللوحات بداية عهد الرسومات المنظورة المتعددة األبعاد. يمثل عيد ارتقاء مريم إلى السماء ثالث األعياد التي يخلدها المسيحيون على شرف مريم العذراء .وكان يحتفى به يوم 15غشت .ويعتقد المسيحيون وهم يخلدونه بأن مريم العذراء ،حين توفيت ككائن بشري ،لم ترتق فقط إلى السماء ،أو إلى الجنة، وإنما ارتقت إلى جوار هللا تعالى والى جوار ابنها الذي قام بتتويجها. وعموما ،فقد كان عامة المسيحيين يشتركون في إحياء هذه األعياد .واشترك معهم رجال الدين بطبيعة الحال كمسيحيين عاديين ،ولكن أيضا كمؤطرين وكرجال علم .ومن هذا المنطلق خص عدد منهم مريم العذراء بعدة مصنفات تكريما لها ،منها ما يعرض لجوانب من ظاهرة التقديس ،ومنها ما يعرض لنماذج من الكرامات المتصلة بها ،ويتضمن أيضا بعض المقاطع التي كان المسيحيون يرتلونها بمناسبة األعياد السالف ذكرها. وباإلضافة إلى المؤلفات الكثيرة ،تم تكريم مريم العذراء بكثير من األعمال الفنية ،تمثلت في رسومات وجداريات وأشكال منحوتة وغيرها تعبر عن مشاهد كثيرة من حياة مريم في عالقتها بالمسيح ،بين مشاهد تجسدها أما جالسة تحمل المسيح غضا
85
صغيرا على ركبتيها كما تفعل سائر األمهات ،ومشاهد تمثلها جالسة تحمل جثمانه على ركبتيها. وقد ظلت ظاهرة تقديس مريم العذراء تشغل عقول وقلوب المسيحيين كثيرا رغم اإلصالحات الدينية التي قامت بها البابوية بهدف التقليل من هذه الظاهرة التي تجاوزت الحدود أحيانا .ويمكن استغالل التأكيد على هذا المعطى للتساؤل عما إذا كانت ظاهرة تقديس مريم تعكس تحسنا في وضعية المرأة على أرض الواقع؟ ويبدو من الصعب تقديم جواب مقنع عن هذا السؤال ،نظرا الختالف المؤرخين .ويعود هذا االختالف إلى تناقض صورتي المرأة في أذهان هؤالء المؤرخين بين صورة تمثلها مريم العذراء وصورة تمثلها حواء .ولكن هذا األمر ال يمنع من القول بأن ظاهرة تقديس مريم العذراء دفعت إلى التحسيس بوضعية المرأة .كما أن الحب العذري ،الذي سبق الحديث عنه ،دفع هو اآلخر في هذا االتجاه ألن "سيدتنا" التي يتواجد ضريحها في جميع أنحاء العالم المسيحي تمثل أعلى مستويات الرقي التي وصلت إليها المرأة. وتمثل أيضا المرأة التي تعلق بها الفارس .وتمثل في نهاية المطاف المرأة التي أغرم بها رجال العصر الوسيط بشكل عام. وبغض النظر عما يمكن أن يقال في الموضوع ،فإن ثمة حقيقة ال يمكن إنكارها ،وهي أن ظاهرة تقديس مريم واكبها تغير فيما يتعلق بالزواج الذي أصبح ينظر إليه كرباط مقدس ،كما واكبها تغير فيما يتعلق بوضعية الطفل ووضعية األسرة النواتية اللذين أضحيا يحظيان باالعتبار. )23تغﻠيب األلم في التفاني في حب المسيح واكب ظاهرة تقديس مريم العذراء ،التي تفيد بانجذاب التقوى لدى المسيحيين إلى نوع من التأنيث ،اتجاه هذا التقوى نحو تغليب الشعور باأللم (.)la dolorisation فقد جرت العادة ،منذ العصر الروماني ،بأن ينظرالمسيحيون إلى المسيح كنظرتهم لألبطال .وبذلك كانوا يتصورونه بطال تغلب على الموت وخرج منتصرا .ولكن حدث أن اختفت هذه الصورة وحلت بدلها صورة تقدمه متألما. يبدو من الصعب تحديد أسباب هذا التحول ومعرفة حيثيات نشأته .وأقترح لحل هذا اإلشكال بعض الفرضيات منها : أوال .لم تعد البطولة مطلبا ملحا ،ومن ثم ،تراجعت صورة المسيح البطل. ثانيا .حدث تغير في أدوار العناصر التي يتألف منها الثالوث المقدس (األب،االبن ،الروح القدس) باإلضافة إلى مريم كعنصر رابع .وفي ضوء هذا التغير ،فإن "هللا األب" هو الذي أصبح يحظى بالجاللة في المقام األول .وقد حدث ذلك في سياق
86
التحوالت السياسية في أوربا ،والتي بموجبها أصبح على رأس السلطة ملوك دنيويون ال يحبذون أن تعلو أية سلطة فوق سلطتهم. ثالثا .انتشرت طوائف الفقراء في العالم المسيحي .فانبرى كثير من المسيحيينللقيام بأعمال البر واإلحسان وتقديم األعطيات والصدفات ،مما أثر على توجهات الكنيسة التي اضطرت للتفاعل مع هذه الحركة .فأخذت ترعى الفقراء والمعوزين والمرضى وتروج في أوساط المسيحيين شعار "اقتف عاريا أثر المسيح العاري". وتجسد هذا الشعار في صورة أضحت منذئذ شائعة في أوربا ،وهي صورة المسيح المصلوب التي يجسدها ذلك الصليب المكون من قطعة عمودية طويلة أكثر قليال من قامة اإلنسان تقطع جزءها العلوي قطعة أخرى قصيرة أفقية .وإن هذا الصليب الذي يحمل إسم "كروسيفيكسوس" ( )crucifixusأو ( ،)crucifuxهو الذي أصبح معروفا منذ القرن الحادي عشر بدل الصليب ذي هيأة عالمة زائد (.)la croix وبناء على ما تقدم ،اختفت صورة المسيح البطل وحلت مكانها صورة تمزج بين البعدين الرمزي والحقيقي ،هي صورة المسيح الذي يتأوه من شدة األلم .واستتبع ذلك أن فتحت هذه الصورة الباب أمام شيوع ظاهرة التدبر في المعاناة ،وفي كل ما له صلة بجثة الميت وبالموت ،وهي صورة شاءت األقدار أن تنتشر في أوربا منذ مطلع القرن الرابع عشر .وانبثقت ،تبعا لذلك ،في سائر أنحاء العالم المسيحي أوربا الجثة ،ثم الرأس فيما بعد. )24اإلنسان في صورة اله اإلنسية المسيحية سمح تطور الديانة المسيحية ابتداء من مطلع القرن الثاني عشر بإمكانية إعادة تشكيل صورة اإلنسان في عالقته باهلل .فاإلنسان لم يكن له وجود يذكر خالل العصر الوسيط األعلى .وفي أحسن األحوال كان يرمز له بأيوب الخانع المذلول الذي تحدث عنه ﯕريﯕوار األكبر في القرنين السادس والسابع .وبعد سنة 1033أصدر الراهب وعالم الالهوت أنسلم الكنتربيري ( )Anselme de Cantorbéryكتابه "لماذا جعل هللا من نفسه إنسانا؟" ( ،30)Cur deus homoفأخذت تتشكل صورة جديدة لإلنسان - 30أنسلم الكنتربيري راهب ايطالي ينتمي لطائفة البندكتيين .ولد سنة 1033وتوفي سنة .1109ينحدر من أسرة نبيلة ثرية .انتقل بين ايطاليا وغالة وأنجلترا .التحق سنة 1079بأحد األديرة البندكتية كراهب ثم ترقى ،فغدا سنة 1093على رأس أسقفية كنتربري .كما شغل منصب مستشار ملك انجلترا. لم تصرفه انشغاالته الدينية والدنيوية عن البحث والتاليف في حقلي الفلسفة والالهوت ،حيث انخرط ،بتلك األبحاث والمؤلفات ،في الجدل الدائر بين مفكري عصره حول دالئل اثبات وجود هللا ،وحول العالقة بين االيمان والعقل .ويندرج المؤلف الوارد ذكره في المتن في هذا السياق .وقد صاغه على شكل حوار بينه وبين أحد تالمذته .فوضح فيه تجانس العناصر التي تتألف منها العقيدة المسيحية .وخصص فصوال منه النتقاد القائلين بأن تلك العقيدة تتناقض والعقل. اه تم بهذا الكتاب ،وبغيره من مؤلفات أنسلم ،الباحثون القدامى والمحدثون ،كما تم نقله الى مختلف اللغات األوربية.
87
تمخضت عن إعادة قراءة الكتاب المقدس ،والنصوص المتعلقة بالخلق .فأخذ أنسلم وغيره ،من القائمين بتلك القراءة الجديدة ،يروجون لفكرة مفادها أن هللا خلق اإلنسان في صورته وجعله مشابها له .ومنذئذ قدر لصورة هللا هذه ،في ثوبها اإلنساني ،أن تظل سارية المفعول .وأصبح الخالص الذي يسعى إليه اإلنسان مسبوقا بمجهود يقوم به لكي يرتقي من موقعه على األرض إلى هذا الشبه مع هللا. وبناء عليه ،فقد أصبحت اإلنسية المسيحية تقوم منذ هذا الوقت على هذا التماثل. واقتضت صياغتها توظيف عنصرين كان يكتنفهما غموض منذ القرون المسيحية األولى وهما :الطبيعة والعقل. يمكن القول بخصوص العنصر األول ،أن فكر العصر الوسيط األعلى غلب عليه التصور الرمزي للطبيعة .وقد ذهب القديس أوغسطين ،أحد أقطاب الفكر آنذاك، إلى جعل ما فوق الطبيعة كال والطبيعة جزءا من هذا الكل .وعلى غرار مفكري هذه الحقبة ،ظل عدد من رجال القانون خالل القرن الثاني عشر ال يميزون بين الطبيعة وهللا .ورغم ذلك ،بدأ نفر منهم يميز بين مفهوم الطبيعة ومفهوم ما فوق الطبيعة خالل هذه الفترة بالذات .وأخذ مفهوم الطبيعة ،في داللته ،كعالم فيزيائي وكوسملوجي يتبلور شيئا فشيئا .وال أنكر أن دور التراث اإلسالمي والتراث اليهودي كان حاسما في هذا المقام ،ألنهما انتقال إلى أوربا ،فاطلع مفكرو الغرب من خاللهما على مؤلفات مفكري اإلغريق ،من أمثال أرسطو ،التي لم يكونوا يعيرونها أي اهتمام. ومهما يكن من أمر ،فقد أفضى هذا االجتهاد إلى شيوع المفهوم الجديد للطبيعة في أوساط المفكرين .وتغير في ضوئه سلوك األفراد كما يتجلى ذلك ،على سبيل المثال ،في التنديد بالمثلية الجنسية التي اعتبرت "خطيئة منافية للطبيعة". وعلى غرار مفهوم الطبيعة ،كان مفهوم العقل فضفاضا وغامضا هو اآلخر خالل العصر الوسيط األعلى .وابتداء من مطلع القرن الثاني عشر شرع المفكرون في إعادة ضبط دالالته .وقد كانت إسهامات القديس أنسلم حاسمة في هذا االتجاه ،حيث دعا إلى تبني مبدإ "االيمان يسبق الفهم ،وبعد ذلك يجب على المرء أن يفهم ما آمن به" .ثم أعاد األسقف الفيكتوري هيوغ ( 31)Hugues de Saint-Victorطرح
- 31عالم الهوت وفيلسوف .ولد سنة 1096بمقاطعة ساكس على األرجح .بدا حياته كراهب في دير القديس ڤيكتور (بالقرب من باريس) الذي التحق به سنة .1118 در س الالهوت والفلسفة ،وتأثر كثيرا بالقديس أوغسطين .واهتم ،كغيره من مفكري عصره ،بالقضايا الدينية والفلسفية .وزاد عن اكثرهم في اهتمامه بالعلوم البحتة والفنون ،انطالقا من مبدأ تبناه مفاده أن "ثمة وحدة بين المعارف والكائن االنساني.حدث أن انفرطت تلك الوحدة ،ويتوجب اعادتها الى وضعها السابق" .وهذا ما يبرر تنوع المؤلفات التي وضعها قبل وفاته سنة .1141
88
المسألة .فميز في العقل بين "عقلين" :عقل أعلى مختص بالحقائق المتعالية ،أو "الترنسندنطالية" ،وعقل أسفل مختص بالقضايا المادية الدنيوية. ومما ال شك فيه ،أن تجديد السؤال بخصوص هذه القضايا يفيد بأن الالهوت دخل مجال التطور وإعادة النظر في كثير من المسلمات .ويمكن االستشهاد في هذا الشأن بما أورده األب شوني ( 32)le Père Chenuالذي يذكر بأن علم الالهوت تطور مقتفيا في ذلك التطور العام الذي حصل في مناهج تحليل نصوص النحو، والمنطق ،والجدل .وكان معنى ذلك ،في نهاية المطاف ،أن المسيحية أخذت تسلك طريق المدرسية (.)la scolastique قامت اإلنسية المسيحية على عنصري الطبيعة والعقل اللذين أعيد النظر في دالالتهما حسبما تم توضيح ذلك .كما قامت أيضا على إعطاء االعتبار لذات اإلنسان الباطنية ،أي لكنهه وللجانب الحميمي فيه .وحدث ذلك بالرجوع إلى نظرية أرسطو في هذا الشأن ،حيث أعيدت صياغتها في قالب مسيحي تحت شعار" :اعرف نفسك بنفسك أيها المسيحي" .فأفضى تبني هذا الشعار إلى صياغة جديدة لمفهوم الخطيئة الذي أضحى يقوم على مبدإ حسن النية والقصد .وتحول هذا المبدأ الخاص بدوره إلى مبدإ عام هو "مسائلة الذات" ( )introspectusو( )l’introspectionالذي تم إقراره في المجمع الديني الذي التأم بموقع لتران ) )Latranبمدينة روما سنة .1215 قصارى القول ،قامت اإلنسية المسيحية على مبدأ مراجعة وإعادة صياغة مفاهيم قديمة تم إثراؤها خالل القرن الثاني عشر .ولذلك اتخذت هذه اإلنسية أحيانا أشكاال مختلفة أو متناقضة كما هو واضح في طروحات أعالم فكر القرن الثالث عشر ،أمثال القديس أبيالر والقديس بيرنار والقديس يوحنا السارسبرنسي ( Joannis .)Jean de Salisbury( )Saresberiensis واألهم من ذلك ،هو أن اإلنسية المسيحية تبلورت في سياق تحوالت كبرى وعميقة تحدث عنها معظم المهتمين بتاريخ العصر الوسيط ،ومن بينهم روبير أيان مور ( )Robert Ian Mooreالذي يرى في تلك التحوالت "ثورة أوربية أولى" - 32يتعلق األمر باألب ماري-دومينيك شوني ( )Marie-Dominique Chenuأحد الوجوه البارزة في الكنيسة األوربية المعاصرة. ولد يوم 7يناير 1895ببلدة سواسي ( )Soisyقرب باريس .وتوفي يوم 11فبراير .1990 تلقى تعليمه اإلعدادي بمؤسسة كاثوليكية بلجيكية ،ثم انخرط منذ بلوغه سن الثامنة عشرة في طائفة المسيحيين الدومينيكان .ورحل بعد مدة الى روما التي درس بها الالهوت والفلسفة .وبعد عودته الى بلجيكا عكف على الوعظ والتدريس بمدرسة سولشوار ( )Saulchoirالتابعة لطائفة الدومينيكان .واهتم بالتأليف في الالهوت الذي خصه بمجموعة مؤلفات من بينها : - La théologie au XIIe siècle, Paris, Vrin, 1957. - La théologie comme science au XIIIe siècle, Paris, Vrin, 2002, (3 e édition).
89
حدثت بين القرنين العاشر والثالث عشر .والذي يدافع عن فكرة مفادها أن أوربا نشأت خالل األلفية الثانية وليس خالل األلفية األولى. وتعقيبا على وجهة نظر روبير أيان مور ،يمكن القول بأن هذا األخير يحبذ التركيز على الفترة الممتدة بين القرنين العاشر والثالث عشر على حساب العصر الوسيط األعلى ،في حين أرى شخصيا بأن العصر الوسيط األعلى يشكل طبقة ال تقل أهمية عن الطبقة التي تشكلها الحقبة الممتدة بين سنتي 1000و .1300بل أميل الى التأكيد بأنهما يمثالن معا طبقتين حاسمتين في عملية بناء أوربا. وعموما ،يرى روبير أيان مور بأن "عملية المزج بين القدرة والفضول والبراعة هي التي كانت وراء انكباب األوربيين بشكل مكثف على استثمار األراضي واستثمار الجهد العضلي ،وعلى استغالل أمثل لقوة مؤسساتهم ،مما سمح بخلق الظروف الالزمة من أجل تطوير رأسمالهم ،وصناعاتهم ،وإمبراطورياتهم بغض النظر عن الحصيلة .وهذا ما يمثل ،الحدث المركزي ،ليس في تاريخ أوربا فحسب، بل في تاريخ العالم الحديث برمته". وأعتقد بأن ما يقول به روبير أيان مور يكتسي قيمة بالغة ،ألن فيه تأكيد على المنعطف الكبيرالذي شهدته عملية بناء أوربا ،رغم بعض المبالغات التي تتضمنها القولة .وستتم العودة للحديث عن هذا المنعطف في الفصل الموالي من الكتاب الذي سيخصص للقرن الثالث عشر ،ألن هذا القرن يمثل الحقبة المثالية التي يمكن أن نقف من خالل النظر إليها إلى عظمة البناء الذي استند على المدن بشكل خاص .رغم أن هذا الحيز الزمني بالذات ،شهد بداية توقف المد القوي الذي تحقق خالل القرن الثاني عشر. )25ميالد أوربا االضطهاد أعتقد أن الوقت حان الستعراض بعض الظواهر السلبية التي أسفر عنها ذلك المد .وأ حيل القارئ بخصوص هذا الجانب على روبير أيان مور مجددا ،ألنه استطاع وضع األصبع على ما يسميه نشأة "مجتمع االضطهاد" .فماذا حدث اذن؟ لقد عاش مسيحيو الغرب فترة طويلة من الزمن ضعافا ،يسيطر عليهم إحساس بالخوف .ثم ساد بينهم فيما بعد شعور بالطمأنينة المادية والفكرية والدينية .ورغم أن الكمال لم يتحقق، فقد أصبح المسيحيون واثقين من أنفسهم .وتبعا لذلك تحولوا إلى توسعيين ،بل إلى عدوانيين ،ألنهم أرادوا استئصال كل جرثومة مولدة للنجاسة في مسيحية قوية وناجحة .فنتجت عن ذلك سلسلة حركات كانت من ورائها الكنيسة والسلطات الدنيوية بهدف تهميش ،أو إقصاء ،رؤوس الفتنة والدنس .وكان من أبرز ضحايا عمليات
90
"االضطهاد" :الهراطقة (أو الخارجون عن الدين) أوال ،ثم اليهود ،والمثليون (من الرجال) والمصابون بالجذام. )26الهراطقة واكبت الهرطقة تاريخ المسيحية منذ نشأتها .ومن المعروف أن هذه الديانة الجديدة أقرت ،من خالل سلسلة مجامع دينية ،عقيدة رسمية تبنتها الكنيسة وأضحت بمثابة أرثوذوكسية .وكان من المنتظر أن تنشأ إزاء هذه األرثوذوكسية عدة "اختيارات" ( .)des choixومن ثم ،نشأت كلمة "هرطقة" ( )une hérésieالتي تعني في األصل اختيار(.)un choix وكان من الطبيعي أن تندد الكنيسة بالهرطقة ،ألنها كانت تتعلق بقضايا تمس جوهر العقيدة ،مثل قضية الموازنة في المرتبة بين األشخاص الثالث الذين يؤلفون الثالوث المقدس ،وقضية المسيح ،الذي لم يعترف أقطاب الهرطقة بطبيعته اإللهية أو البشرية. وتشعبت الهرطقة بطبيعة الحال لتأخذ أحيانا منحى اجتماعيا ،كما حدث مثال في شمال إفريقيا من خالل الحركة الدوناتية التي عارضها بشدة القديس أوغسطين .ورغم ذلك ،لم تخرج الهرطقة عن نطاق قضايا العقيدة .وظلت محدودة نسبيا حتى مطلع القرن العاشر ،حيث اندلعت موجة عارمة من الحركات الهرطقية ميز فيها الباحثون بين حركات عالمة وحركات شعبية .33وعموما ،فقد كان بعضها يعبر عن تطلع عدد من المسيحيين إلى صفاء أكثر للسلوك ،بينما كان بعضها اآلخر يعبر عن رغبة عامة في مباشرة اإلصالح .وهذا النوع هو الذي مهد في واقع األمر لإلصالح الﯕريﯕوري الذي سبق الحديث عنه. من المفيد القول لتوضيح األمر أكثر بأن الهدوء الذي شهدته الحقبة الكارولنجية ،تلته اضطرابات وقالقل كانت من ورائها الكنيسة والالئكيون في ذات الوقت ،ألن كل طرف منهما كان يسعى لإلفالت من سيطرة الطرف اآلخر .بينما يفيد الواقع بأن الكنيسة كانت دائما الطرف المسيطر ،معنويا وماديا ،منذ نشأة الديانة المسيحية .ويبدو أن الحركات الهرطقية التي كانت ترفضها الكنيسة ،هي تلك الحركات التي كانت تحاول المساس بهذه السلطة .وقد انتشرت في كل من أورليان ( )Orléansوأراس ( )Arrasوميالنو ولومبارديا .وكانت عموما أقل تطرفا من - 33لتكوين فكرة عن هذا التمييز يمكن العودة إلى أعمال المؤتمر العلمي الذي احتضنه دير رايومون )(Rayaumont السيستيرسي في شهر مايو .1962وقد صدرت تلك األعمال سنة 1968في مؤلف بعنوان : Hérésies et sociétés dans l’Europe pré-industrièlle XI-XVIIIe siècle, Paris-La Haye, Mouton.
91
الحركات التي انتشرت في كل من لوثارانجيا ( )la Lotharingieوجنوب غالة وشمال ايطاليا .فبدا الوضع ينذر بميالد "أوربا االحتجاج" .ولكن الكنيسة بدت غير قادرة على التطور بين ضرورة القيام بإصالح في أوساط رجال الدين ،والعمل على قمع تلك الحركات التي استشرت في مجال واسع. كان اإلصالح يقتضي محاربة عمليات بيع األسرار(،)les sacrements والمناصب الدينية ،والتصدي لظاهرة زواج الرهبان ومعاشرة النساء ،وإعادة الثقة في أوساط كثير من عامة المسيحيين الذين كانوا يرفضون تلقي ما يسمى باألسرار، المفضية للخالص ،من قبل كهنة مشكوك في سلوكهم. وكان عدد من الهراطقة يرفضون تقديس الصليب بنوعيه ،أو القيام ببعض المناسك التي أقرتها الكنيسة تحت تأثير بعض التنظيمات القوية مثل دير كلوني .ومن بين تلك المناسك إقامة الصلوات على أرواح بعض رجال الدين ،أو تقديم مقابل للكهنة والرهبان الذين يقومون بذلك ،أو تقديس بعض المدافن. ويبدو أن النقطة التي أفاضت الكأس ،تمثلت في اتهام المعارضين للكنائس ولرجال الدين باالغتناء الفاحش .فأخذ رجال الكنيسة يشعرون بكونهم أضحوا يقيمون في قلعة يحاصرها األعداء من كل جانب .فكان ال بد من إيجاد مخارج .فلجأوا إلى أساليب متجاوزة ،وغير منسجمة مع مستجدات العصر كنعت المعارضين بألقاب تنتمي للعصر القديم المتأخر من قبيل "المانويين" أو "المتطرفين" الذين يضعون حدا فاصال بين الخير والشر. واتخذ دير كلوني ،بوصفه المؤسسة الدينية المسيطرة على الكنيسة ،على عاتقه مسؤولية التصدي للهراطقة .فوضع بطرس المبجل ( ،)Pierre le Vénérableالذي تزعم إدارة الدير ،ابتداء من سنة ،1122ثالثة مؤلفات استعرض فيها التحديات التي تواجهها الكنيسة .فعدت منذئذ بمثابة "مؤلفات تربوية" خاصة باألرثوذكسية المسيحية. خص األول منها لدحض طروحات بيير دي بريس ( )Pierre de Bruysأحد أقطاب الهراطقة الذي ألب كثيرا من مسيحيي إحدى القرى بجبال األلب ضد الشعائر المتصلة باألسرار ،وضد الصلوات على أرواح الموتى ،وضد تقديس الصليب. وخصص الثاني للحديث عن رسول اإلسالم الذي وصفه بكونه مشعوذ .بينما خصص المؤلف الثالث للحديث عن اليهود الذين نعتهم بكونهم "قتلة هللا" ،ألنهم قاموا بصلب المسيح.34 - 34المؤلفات المشار إليها هي : - Contra Petrobrusianos hereticos (vers 1141), édi. par James Fearns, Turnhout (Belgique), Brepols, coll. "Corpus Christianorum Continuatio Mediaevalis", 1968. Contre les Pétrobrusiens, disciples de Pierre de Bruys précurseurs de l'Église vaudoise.
92
شكلت سنة 1140بداية انطالق هجوم كاسح ضد الهرطقة التي وصفتها الكنيسة ،من منطلق الداللة الجديدة التي أعطيت لمفهوم الطبيعة ،بكونها مرض كالجذام أو طاعون .وحذرت ،عموم المسيحيين ،بأن األمر يتعلق بمرض معدي. ويبدو أن المهمة لم تكن سهلة ،ألن الهرطقة كانت قد استشرت في عدة مناطق وأصبح لها كثير من األتباع .ففي جنوب غالة انتشرت في صفوف عدد كبير من سكان قمطية تولوز الذين نجحوا سنة 1167في عقد مجمع ديني تحت أنظار القمط .بل األدهى من ذلك أن عددا من األسر النبيلة انخرطت في هذه الحركة ،ألنها كانت تعارض مبدأ الكنيسة القاضي بمنع الزواج بين ذكور وإناث من نفس القرابة .وقد ترتبت عن هذا المنع تجزئة استغالليات كثير من تلك األسر. وأخذت هرطقة جنوب غالة تتجه لتأخذ شكل مانوية حقيقية عرفت "بالتقطيرية" ( .35)le catharismeفكان معتنقوها يمتنعون عن كل الماديات والشهوات، ويمارسون طقوسا مختلفة كثيرا عن طقوس الكنيسة المسيحية .و تميز بعضهم بكونهم آثروا حياة العفة والسمو بالنفس عن الملذات ،فكانوا يحظون بنوع من التقديس عندما يتقدم بهم العمر .وأعتقد أن "التقطيرية" لم تكن هرطقة مسيحية ،وإنما كانت ديانة أخرى .وقد اكتسبت كل هذه األهمية التي أحاطت بها ألن الكنيسة بالغت من خطورتها بهدف القضاء عليها؛ وألن بعض مناضلي ،القرن العشرين ،المنتمين لموطنها مجدوها ،باعتبارها إرثا محليا .وعلى كل ،فهذا ال يعني التقليل من قوة العنف الذي - Contra Sarracenos, édi. par J. Kritzek, Peter the Venerable and Islam, Princeton University Press, 1964. - Adversus judaeorum, édi. par Y. Friedman, Turnhout, Brepols, 1985 - 35من المفيد اإلشارة إلى أن الباحثين العرب القالئل الذين تناولوا بإيجاز تاريخ هذه الحركة الدينية ،تحدثوا عنها باسم "الكاثارية" الذي رأوا أنه التسمية المقابلة للتسمية األنجليزية " ."catharismوخالفا لهم ،فإننا نحبذ تسميتها بالحركة "التقطيرية" ألن كلمة ( catharismباألنجليزية) أو ( catharismeبالفرنسية) مشتقة من كلمة " "katharósذات األصل اإلغريقي ،وتعني الشيء الصافي أوالطاهر( .)purوقد سعى أقطاب الحركة ،عند ظهورها ،إلى تطهير ← المسيحة مما رأوه شوائب شابتها منذ نشأتها ،وكذل ك تطهير أرواح المسيحيين .فقاموا بما يشبه عملية "تقطير" للمسيحية، كالعملية التي يقوم بها من يريد استخالص سائل ،أو عطر .فهو يقوم بعملية تقطير الستخالص السائل أو العطر ،أو ماء الورد. وقد حظيت الحركة باهتمام عدد كبير من الباحثين ،حتى ان بعضهم قضى ردحا من حياته في التأليف فيها .ومن بين هؤالء جون دوڤيرنوا وروني نيلي .اللذين يمكن العودة الى مؤلفيهما : - Jean Duvernoy, Le Catharisme : La Religion des Cathares, Toulouse, Les Éditions Privat, 1976. Le Catharisme : L’Histoire des Cathares,Toulouse, Les Éditions Privat, 1979. - René Nelli, Les Cathares, Paris, Les Éditions Marabout, 1972.
:
93
جوبهت به الحركة ،كما أنه ليس تقييما لمدى نجاحها ألنه أمر بالغ الصعوبة .ولو قدر لها أن تنجح ألصبحت أوربا قارة أصولية. ظهرت في غالة ،إلى جانب الحركة التقطيرية ،السابق ذكرها ،هرطقة تزعمها شخص تاجر ،لم يكن برجل دين ،يدعى بيير ڤالديس ( .)Pierre Valdèsوزع ما تبقى له من ثروة على الفقراء ،ونادى بالتقشف اقتداء بالمسيحيين األوائل ،وبعيش حياة بسيطة وفق ما تنص عليه تعاليم الكتاب المقدس .وقد القت دعوته صدى كبيرا وانخرط فيها كثير من سكان مدينة ليون (.)Lyon وأعتقد أ ن "الڤالديسبة" لم تكن في األصل هرطقة مناوئة للكنيسة ،وإنما كانت عبارة عن حركة تروم القيام بإصالح يكون فيه الالئكيون طرفا فاعال. ظلت الكنيسة صماء وآثرت إتباع سياسة "العصا الغليظة" تجاه الهراطقة .وذلك ما تحقق سنة 1184حين استصدر البابا لوسيوس الثالث ( ،)Lucius IIIبتواطؤ مع اإلمبراطور فردريك ،ظهيرا يقضي بمالحقة الهراطقة في كل مكان دون هوادة. وواصل الباباوات الذين اعتلوا عرش البابوية بعده سياسة المالحقة ،والتنكيل بالهراطقة ،ومصادرة ممتلكاتهم .فتحولت تلك السياسة إلى ما يشبه الحرب الصليبية، ولكنها حرب داخل أوربا .استنفرت الكنيسة أعدادا من "الصليبيين الالئكيين" لخوضها. وبما أن مناطق جنوب غالة كانت موطن أهم الحركات الهرطقية ،فقد كانت كذلك أهم ساحة احتضنت حرب الكنيسة ضد هذه الحركات .وجرت وقائع تلك الحرب في قمطية تولوز بشكل عام وفي بلدة بيزيي بشكل خاص ،حيث عاث فيها أنصار الكنيسة فسادا ونكلوا بأهلها .فنعتت وقائعها بكونها كانت بحق "حربا صليبية" ضد القطاريين. وانضم ملوك وأمراء كيانات غرب أوربا إلى هذه "الحرب الصليبية" بموجب مرسوم ،صدر عن مجمع لتران المنعقد سنة ،1215يقضي بالتزام هؤالء الملوك واألمراء بالمشاركة في الحرب ضد الهراطقة .كما يقضي بأن يقوم اليهود بتثبيت قطعة ثوب دائرية الشكل وحمراء اللون على مالبسهم لتمييزهم عن سائر الناس. وبموازاة هذه اإلجراءات تم تنصيب محكمة تابعة للكنائس وللبابوية يقدم إليها كل مشتبه في انتمائه إلى إحدى الجماعات الهرطقية .واستبدلت هذه المحكمة منهج االتهام الذي كان معموال به بمنهج "التفتيش"( )l’inquisitionعن طريق االعتراف بالذنب. وغالبا ما كان االعتراف بالذنب ينتزع من الشخص انتزاعا عن طريق التعذيب الذي لم يعد أسلوبا معموال به منذ العصر الوسيط األعلى إال في حاالت نادرة .ألن العبيد وحدهم هم الذين كانت تمارس في حقهم شتى أصناف العقوبات الجسدية .وقد كان روبيرأيان مور محقا حين ذهب الى القول بأن التفتيش مثل أبشع مظاهر أوربا
94
االضطهاد .إذ بموجبه أعدم حرقا عدد كبير من الذين انتزعت منهم اعترافات باالنتماء لجماعات الهراطقة ،رغم أنه من الصعوبة بمكان تقديم رقم تقريبي عن عدد األفراد الذين حوكموا باإلعدام .وكان تنفيذ الحكم يوكل للسلطات الدنيوية ،التي تقوم بذلك بوصفها الذراع السياسي والعسكري للكنائس وللبابوية .وتبعا لقسوة المصيرالذي كان ينتظركل من" اشتمت فيه رائحة" االنتماء إلى الجماعات الهرطقية ،فقد تقلص عدد معتنقي "التقطيرية" منذ النصف الثاني من القرن الثالث عشر .وانحصر في مجموعات قليلة اعتصمت بالجبال والمرتفعات .مثل سكان قرية مونتايو ( )Montaillouالواقعة بمنطقة أرييج ( )l’Ariègeالذين خصهم إيمانويل لو روا الدوري ( )Emmanuel Le Roy Ladurieبكتاب نموذجي رائع.36 )27اضطهاد اليهود مثل اليهود الطائفة الثانية التي شملها االضطهاد من قبل الكنيسة والقائمين على األمر في الممالك األوربية .والواقع أن اليهود لم يكونوا أبدا مصدر إزعاج بالنسبة للمسيحيين وحتى مطلع القرن العاشر كان عددهم قليال في غرب أوربا .وكانوا ،الى جانب بعض المشارقة ،من لبنانيين وسوريين وغيرهم ،يمتهنون التجارة التي كانت وقتئذ محدودة بين العالم المسيحي والمشرق .ولم تتخذ الكنيسة موقفا متشددا من عالقة اليهود بالمسيحيين خالفا لكنيسة القوط الغربيين بشبه جزيرة أيبيريا ،التي كانت متشددة تجاه اليهود حتى تاريخ سيطرة المسلمين على األندلس. وظلت عالقة المسيحيين باليهود عالقة عادية زمن حكم األسرة الكارولنجية، رغم أن بعض رجال الدين المسيحيين لم يكونوا ينظرون بعين الرضى لليهود .وحين انتشرت الفيودالية في غرب أوربا وقع معظم اليهود في شرك القنانة .فوضع بعضهم تحت حماية السنايير ،بينما وضع أكثريتهم تحت حماية األمراء والملوك. ومن المفيد التذكير بأن عدد اليهود كان يناهز األربعة آالف شخص في ألمانيا حوالي سنة .1000وتكاثروا ليبلغ عددهم عشرين ألف نسمة في غضون قرن من الزمان .ويبدو أنهم كانوا يتمتعون ببعض الحظوة ألن األمراء كانوا يفضلون االعتماد على خدماتهم بدل المسيحيين. ويعزى ارتفاع أعداد اليهود ،المستقرين بألمانيا وبعموم ممالك غرب أوربا، ل تحسن األوضاع االقتصادية بعد مطلع القرن الحادي عشر .كما أن هذا التحسن ذاته كان وراء ظهور مالمح سياسة االضطهاد التي أصبحوا عرضة لها .ولكن قبل ظهور - 36المقصود هنا كتاب : Montaillou, village occitan de 1294 à 1324, Paris, Gallimard, 1975.
95
هذه المالمح ،كانت عالقة المسيحيين باليهود عادية .وكانت اليهودية هي الديانة الوحيدة التي اعترف بها األمراء والملوك المسيحيون ،وسمحوا لمعتنقيها بإقامة المعابد والمدارس. ويبدو أن تحسن األوضاع االقتصادية ،الذي دفع المسيحيين لخوض الحروب الصليبية ونجاحهم في االستيالء على بيت المقدس سنة ،1099قلب األوضاع رأسا على عقب .فقد أحيت معاينة المحاربين والحجاج لبيت المقدس عن كثب شعورا دفينا لديهم بالحقد على اليهود الذين كانوا ،في نظرهم ،وراء المصير الذي انتهت إليه حياة المسيح .فاخذ هذا الشعور ينمو بوتيرة سريعة .وتحول خالل القرنين الثاني عشر والثالث عشر إلى عمليات تنكيل ومالحقة لليهود من قبل عامة المسيحيين .وكانت وراء عمليات التنكيل األولى إشاعات راجت في أوساط العامة ،مفادها أن اليهود قتلوا يوما شابا مسيحيا واستعملوا دمه في طقوسهم .وأسفرت تلك العمليات عن سفك دم عدد من اليهود .وراجت أول إشاعة من هذا القبيل في مدينة نورتش ()Norwich بأنجلترا سنة .1144وتلتها اشاعات أخرى خالل النصف الثاني من القرن الثاني عشر والنصف األول من القرن الموالي،كما حدث مثال في مدينة لينكولن()Lincoln سنة ،1255حيث شاع في أوساط سكانها أن مجموعة من اليهود عذبوا شابا مسيحيا حتى الموت .فتم القاء القبض على 19يهوديا سيقوا الى لندن التي اعدموا فيها شنقا. وكان من الممكن أن تكون الحصيلة أكثر ،لوال تدخل أخ الملك الذي أنقذ أرواح 90 نفرا من اليهود .وتوالت مثل هذه االشاعات خالل النصف الثاني من القرن الثالث عشر .وراجت في سائر أنحاء الغرب المسيحي ،باستثناء مملكة غالة ،التي لم تحدث فيها أية عملية تنكيل باليهود اال بعد سنة .1270 ولم تتوقف دواعي التنكيل باليهود عند حد اتهامهم بقتل شباب مسيحيين ،بل أخذت تتنوع حين راجت شائعة تفيد بأن اليهود يدنسون الخبز ،الذي كان يحضر نوع منه ليقدم كصدقة ( .)l’hostieفأخذت الكنيسة تتهمهم بالمس بالشعائر والطقوس لتأليب المسيحيين ضدهم. وكانت تلك االشاعات ،وما ترتب عنها من عمليات تنكيل وتقتيل طالت أعدادا من المتهمين ،مدخال لبداية موجات تهجير جماعي لليهود من معظم ممالك غرب أوربا .حدثت أوالها في أنجلترا سنة ،1290ثم في فرنسا سنة ،1306وتوالت عمليات تهجير اليهود خالل القرن الرابع عشر بالموازاة مع اشتداد األزمة االقتصادية ،وانتشار الطاعون األسود ،واتهام اليهود بكونهم هم المسؤولين عن تفشي العدوى ،وبكونهم يقفون وراء المصائب التي أصبح يتخبط فيها المسيحيون .وتم تشديد الخناق على األعداد القليلة من اليهود الذين ظلوا مستقرين بممالك غرب أوربا .فقد منعوا من حق امتالك استغالليات ،ومن حق مزاولة أية حرفة أو نشاط اقتصادي .كما
96
خصصت لهم أحياء كانوا يقيمون بها .ورغم ذلك ،ظلت أعداد مهمة منهم مستقرة في بعض مقاطعات ألمانيا ،وبعض المناطق الواقعة تحت نفوذ البابوية .كما لم يستطع الملوك االستغناء عن خدمات بعضهم كأطباء لهم في القصور ،أو كممولين لهم بما كانوا يتوفرون عليه من ثروات نقدية. وانطالقا مما تقدم ،يمكن القول بأن اضطهاد اليهود شكل بدوره مظهرا بشعا من مظاهر أوربا االضطهاد إلى جانب محاكم التفتيش التي سبق الحديث عنها .والمالحظ أن اضطهاد اليهود استمر بعد العصر الوسيط .واصطبغ خالل األزمنة الحديثة والمعاصرة بصبغة عنصرية لم تكن معروفة من قبل .ولكن العصر الوسيط يمثل الحيز الزمني الذي بدأت فيه بوادر التفاضل بين األجناس. )28المثﻠية الجنسية يمثل الذكور الذين يمارسون الجنس مع أمثالهم الفئة الثالثة التي شملها االضطهاد .وقد كان هؤالء موضوع مضايقات شديدة من منطلق بعض التعاليم الواردة في كتاب العهد القديم التي تندد بهذا السلوك وتعتبر مرتكبيه مذنبين ومنحرفين. والغريب في األمر أن نوعا من غظ الطرف شمل ظاهرة المثلية الجنسية التي كانت متفشية نسبيا في أوساط بعض رجال الدين .ولكن ابتداء من مطلع القرن الثاني عشر عمت "رياح اإلصالح" هذه الظاهرة بالموازاة مع تبني الدالالت الجديدة لمفهوم الطبيعة .فغدا "الشذوذ الجنسي" في أعين الكنيسة خطيئة ألنه سلوك منافي للطبيعة. والمالحظ أن موقف الكنيسة من هذا السلوك ،شابه نوع من الغموض واالضطراب في ذات الوقت .فتراوح بين الصرامة أحيانا ،والصمت وغض الطرف في أحايين أخرى .فقد أغفلت الكنيسة ظاهرة السحاق بين النساء ،بينما عاقبت فئات من الرجال بعينهم ،كما حدث مثال في حق المدعو جاك دي موالي ( Jacques de ،)Molayزعيم طائفة الرهبان المحاربين ،باسم معبد سليمان (،)les Templiers الذي اتهم بارتكاب هذه الخطيئة ،فصدر في حقه حكم باإلعدام حرقا .وبالمقابل غضت الكنيسة الطرف عن عدد من الرجال المنتمين للطبقة األرستقراطية الذين كانوا يمارسون الجنس مع أمثالهم. )29غموض بخصوص داء الجذام مما ال شك فيه أن أمر إدراج المصابين بالجذام ضمن الئحة الفئات التي طالها االضطهاد يبدو غريبا .خاصة وأن موقف المسيحيين من هؤالء اتسم بالتناقض الصارخ ،إذ تأرجح بين الرأفة واالضطهاد.
97
شكل موقف المسيح من المصابين بالجذام مرجعية في تبني موقف الرأفة .فقد كان يأخذ بيد المصابين بهذا الداء .وحدث يوما أنه قبل أحدهم .وهكذا دأب عدد من رجال الدين على االقتداء بالمسيح في هذا الشأن منذ القرن الرابع ،تاريخ انتشار هذا الداء بأوروبا .واستمر األمر على نفس المنوال بعد القرن الحادي عشر ،حيث ظل عدد من رجال الدين يقومون برعاية هؤالء المصابين ويقدمون لهم ما يسد رمقهم .وقد شاع ذكر بعضهم في هذا المجال ،أمثال القديس فرانسوا األسيزي ( Saint François )d’Assiseوالقديس لويس (.)Saint Louis وخالفا لرجال الدين النظاميين ،تبنى معظم المسيحيين موقف االزدراء واالشمئزاز من المصابين بالجذام .وبما أنهم كانوا يعتبرون شكل الجسم صورة لطبيعة الروح ،فقد ساد االعتقاد بأن تفشي الداء في جسم الفرد يعد من عالمات الخطيئة .وأن المصابين هم عموما أبناء أبوين لم يحترما الفترات التي يتوجب فيها على الزوجين االمتناع عن ممارسة الجنس. والمالحظ أن المؤلفات األدبية زادت من تزكية موقف العامة بما نشرته من حكايات مسيئة عن الداء وعن المصابين به .وكان من تداعيات انتشار داء الجذام واستمرار الموقف المتقزز منه ،أن أخذ القائمون على األمر ابتداء من مطلع القرن الثاني عشر في إقامة منشآت بضواحي المدن إليواء المصابين .تميزت هذه المنشآت بكونها كانت مستشفيات وسجونا في نفس الوقت. وعموما ،كان الجذام داء متميزا خالل العصر الوسيط لما ظل يكتنفه من مواقف وصور وإيحاءات ورموز تعاظم أمرها أكثر عند مطلع القرن الرابع عشر ،مع تفشي األمراض واألوبئة وانتشار القلق والتذمر في أوساط المسيحيين الذين اتهموا المصابين بالجذام بتسميم اآلبار .ولكن سرعان ما تراجع الجذام إلى المرتبة الثانية في الئحة األمراض الكبرى حين تفشى الطاعون األسود الذي أصبح يحتل موقع الصدارة. )3الشيطان في فورة عدت جميع الفئات التي طالها االضطهاد بمثابة كائنات مبيدة ،ولذلك انتهى األمر بأن شكلت "مجتمعا مضادا" يهدد األسوياء والمسيحيين األوفياء في نقاوتهم وفي مسعاهم نحو الخالص .واعتبر الشيطان قائدا لهذا المجتمع المضاد إما لكونه يمتلك بعض األفراد ويسكن ذواتهم ،وإما ألنه يتحكم في البعض اآلخر وال بأس من التذكير بأن الشيطان دخل إلى أوربا مع مقدم المسيح إليها .وكان تحت إمرته وقت دخوله فيالق مؤلفة من مختلف أنواع الجن المنحدرين من الوثنية اإلغريقية -الرومانية ،ومن المعتقدات الشعبية.
98
ويبدو أن تحوالت ما بعد القرن الحادي عشر جعلت الشيطان يرتقي إلى منصب "القائد األعلى" لجميع التشكيالت التي يتألف منها الشر .وأصبح منذئذ يقود جوقة المعذبين .والحقيقة أن كثيرا من الرجال ومن النساء استطاعوا اإلفالت من قبضته. ولكنهم ظلوا رغم ذلك مهددين أو قابلين لإلغراء. وبما أن المسيحية كانت متحدة ،فإن عدو الجنس البشري ،أي الشيطان ،امتلك هو اآلخر سلطة موحدة .واتخذ من الهرطقة أداته القاتلة ،بينما اتخذت الكنيسة من التفتيش ( )l’inquisitionسالحا لمواجهته .واحتدمت المواجهة ،وطال أمدها ،ورغم ذلك ظل الشيطان صامدا وقادرا على الرد .ولذلك صدق من قال بأن أوربا الشيطان قد ولدت. )31أطراف أوربا الفيودالية أصبحت المؤسسات الفيودالية طاغية على المشهد في جميع أنحاء العالم المسيحي عند نهاية القرن الثاني عشر .أما فيما يتعلق بمستوى تبلور هذه المؤسسات، فيمكن القول على غرار عدد من الباحثين ،بأن بعض هذه الفيوداليات ظلت هامشية في المناطق الطرفدارية رغم انخراطها في الفيودالية المسيحية ككل .ينطبق هذا األمر على إرلندا ،رغم كونها كانت إحدى أهم المراكز الدينية والحضارية خالل العصر الوسيط األعلى .فقد احتفظ سكانها بخصوصيتهم الدينية على األقل ،مما جعل ثقافتهم المحلية األصيلة تظل محتفظة بحيويتها .بل امتد إشعاعها خارج إرلندا فشمل غالة وانجلترا التي كان سكانها يمقتون اإلرلنديين وينعتونهم بالمسيحيين المتبربرين .بل كثيرا ما فكروا في غزو بالدهم وإبادتهم .ورغم ذلك فال زالت إرلندا تنتمي ألوربا. وينطبق ذات األمر،إلى حد ما على بروطانيا ( .)la Bretagneفقد احتلها البروطانيون الوافدون من أنجلترا منذ القرن الرابع .واستطاع سكانها التحرر من قبضتهم .وأنشأوا خالل الحقبة الكارولنجية كيانا شبه مستقل خاص بهم .ثم تحول هذا الكيان إلى دوقية ( )un duchéخالل فترة حكم أسرة آل كابت .واستطاع األدواق الذين تعاقبوا على السلطة من الحفاظ على نوع من االستقالل بفضل سياسة التوازن التي انتهجوها في عالقتهم بالفرنسيين واالنجليز. ويبدو أن هذه السياسة كانت ناجعة ،بدليل أن أدواق القرن الخامس عشر استطاعوا االستقالل تماما عن الفرنسيين ،مستغلين لتحقيق ذلك موقع الدوقية الجغرافي ،وتوفرها على منفذ بحري حولوه إلى قاعدة بحرية وتجارية نشيطة. وفي أقصى جنوب أوربا ،بعيدا عن العالم السلتي ،شكل القرن الثاني عشر فترة حاسمة بالنسبة للممالك المسيحية في شبه جزيرة أيبيريا وكذلك بالنسبة لصقلية وايطاليا.
99
ففي شبه جزيرة أيبيريا ارتفعت وتيرة حرب االسترداد .ودخلت منعطفا حاسما بنجاح ألفونسو السادس ملك ليون وقشتالة في استرداد مدينة طليطلة التي كانت ملتقى المفكرين والمترجمين من مختلف األديان .وظلت عقب استردادها أحد مراكز النهضة الفكرية التي شهدتها أوربا فيما بعد. وفي صقلية وجنوب ايطاليا ،انتهت فترة حكم الملوك النورمان وحل بدلهم ملوك ألمان ،من بينهم هنري السادس وفردريك الثاني ،فشكل ذلك نقلة في تاريخ صقلية وأقاليم جنوب ايطاليا التي عادت لحضيرة أوربا ،مما انعكس إيجابا على مدينة بالرمو التي أضحت عاصمة التعدد الثقافي. وإذا ما وجهنا أنظارنا نحو أوربا الوسطى والشمالية ،تستوقفنا هنغاريا التي غدت ،بفضل انضمام كرواتيا إليها ،إحدى أقوى المالك المسيحية .وشاءت األقدار أن يعتلي عرشها ،بين سنتي 1172و 1196الملك بيال ( )Bélaالذي كانت تربطه بالبيزنطيين عالقات وطيدة .فارتأى التقرب أيضا من ملوك الغرب المسيحي ،فاتخذ لتحقيق ذلك ابنة ملك فرنسا لويس السابع زوجة ثانية له. وقريبا من هنغاريا ،كانت دوقية بوهيميا تسعى لتحقيق القوة السياسية-العسكرية والرفاه االقتصادي .فارتأى أدواقها إتباع النموذج الغربي المسيحي لتحقيق هذا المسعى .فحرصوا على تمتين عالقاتهم مع اإلمبراطور .وسمحوا للمسيحيين بإقامة األديرة .وقاموا بتقديم أفياف (أراضي) اقتطعوها من األراضي التي كانت في حوزة األسرة الحاكمة بمنطقة موراڤيا. وعلى غرار أدواق بوهيميا ،حاول ملوك بولندا القيام بإصالحات دينية .سمحوا في إطارها بإنشاء أديرة تتبع الطريقة البندكتية .كما قاموا بإصالحات اقتصادية لتحقيق إقالع مماثل للذي حدث في ممالك غرب أوربا .وواصل بولسالس الثالث ( Boleslas ،)IIIالذي حكم بين سنتي 1086و ،1138سياسة اإلصالحات الدينية واالقتصادية. وعمل على توسيع مملكة بولندا بأن ضم إليها إقليم بوميرانيا (،)la Poméranie وحول سكانه إلى المسيحية .ولكن انجازاته ذهبت أدراج الرياح حين تم تقسيم المملكة بين أبنائه األربعة ،بموجب الوصية التي حررها قبيل وفاته .فكان هذا التقسيم بداية ضعف المملكة. ويعتقد بعض المؤرخين بأن انهيار االتحاد السوڤياتي سنة 1989سمح بعودة ظهور أوربا الوسطى التي كانت قد تشكلت خالل العصر الوسيط .ومن بين هؤالء المؤرخين الباحث الهنغاري ﯕابور كالنيكزاي ( )Gabor Klaniczayالذي ساهم في إنشاء قسم التاريخ األوربي الوسيط بجامعة أوربا الوسطى الجديدة ببودابست ( .)Budapestوأدرج ضمن برنامجه مادة الدراسات المقارنة بين العوالم المسيحي الالتيني ،واإلغريقي ،والسالڤي ،والشرقي .وتركز هذه المادة على االنتشار التدريجي
100
للحضارة األوربية في هذه المناطق .وانطلق كالنيكزاي في مشروعه من فكرة مفادها أن أوربا الوسطى هي اليوم ،كما كانت في العصر الوسيط ،مجاال متنوعا ،خالقا، ومفتوحا أمام التأثيرات الوافدة من الغرب في اتجاه الشرق .مما يسمح بالحديث عن "يوثوبيا" ( )une utopieأوربية حقيقية. وبعيدا عن أية نظرة طوباوية هذه المرة ،فإن الواقع التاريخي في منطقة اسكندنافيا يفيد بأن هذه المنطقة كانت منتظمة في المجال المسيحي رغم أن األوضاع السياسية في الوحدات الثالث التي كانت تتألف منها لم تكن مستقرة .كما أن نظمها اإلدارية لم تكن متطورة .وقد تقوى الدانيون خالل القرن العاشر ،وحاولوا فرض هيمنتهم على النرويج والسويد .بل سعوا الى السيطرة على أنجلترا. وتميز القرن الثاني عشر في العالم اإلسكندناڤي بظهور بعض الزعامات في كل من النرويج والسويد .ولكن عدم استقرار األوضاع فيهما حال دون تطورهما .وما يجسد هذا األمر هو أن خمسة ملوك اعتلوا عرش السويد تم اغتيالهم في فترة وجيزة بين سنتي 1156و .1210ولكن عدم استقرار األوضاع لم يمنع من تبلور طبقات أرستقراطية محلية في العالم اإلسكندناڤي ،ومن انتشار المسيحية في مختلف وحداته السياسية .وقد أتاح انتشار هذه الديانة إمكانية انفتاح هذا العالم على الثقافة الالتينية .بل إن بعض األسر أخذت تبعث أبناءها لتلقي العلم ،والتشبع بالثقافة الالتينية ،في المدارس األلمانية ،واألنجليزية ،والفرنسية. )32أوربا والحرب الصﻠيبية شهدت أوربا المسيحية بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر حدوث ظاهرة فريدة ،هي ظاهرة الحرب الصليبية ،التي ما زالت تحتل موقعا متميزا في الكتب المدرسية. ومن المفيد التذكير بأن التسمية التي اشتهرت بها تلك الحرب تعود لنهاية القرن الخامس عشر ،رغم أن الكلمات القريبة من لفظة صليبية كانت معروفة منذ القرن الثاني عشر .وأصبحت تطلق عند الشروع في استعمالها على سلسلة الحروب التي خاضها المسيحيون في فلسطين لبسط سيادتهم على مدفن المسيح وعلى سائر المناطق التي لها صلة بالمسيح وبالمسيحية .وكان المسيحيون الذين خاضوا وقائع تلك الحرب يعتبرونها بمثابة حرب استرداد ،كتلك التي حدثت فصولها في شبه جزيرة أيبيريا. والحقيقة أن الوقائع تبررهذا التصور ألن القدس كانت تحت حكم الرومان ثم أصبحت تحت سيادة البيزنطيين .وتعتبر المنطقة المسيحية الوحيدة التي أضحت تحت سيطرة المسلمين فيما بعد .ولم تكن تتوفر فيها ،مع ذلك ،أية مؤسسة سياسية مسيحية تعنى بشؤون البقاع المسيحية المقدسة.
101
ومهما يكن من أمر ،فاألهم هو أن المسيحيين شدوا الرحال إلى مدينة القدس منذ وقت مبكر .وكانت المزار األول بالنسبة للحجيج كما سبقت اإلشارة إلى ذلك في موضع سابق .ورغم سيطرة األتراك العثمانيين على هذه المنطقة منذ القرن العاشر، لم يتغير موقف المسيحيين .فبدا وكأنه لم يكن ثمة مفر من حدوث االصطدام بين المسلمين والمسيحيين نظرا لالختالفات األيديولوجية والدينية .ولكن هذا االصطدام جاء في حقيقة األمر حصيلة تطور بعيد األمد اكتسى مظهرين متضاربين. يتمثل المظهر األول في تبني المسيحيين لمبدإ الحرب بعد مرور فترة طويلة على ظهور المسيحية .فحين ظهرت هذه الديانة كانت مناهضة للحرب .وقد اشتهر المسيح بكونه كان يجنح دوما للسلم .وسار على منواله المسيحيون األوائل حتى إن عددا منهم أعدموا من قبل األباطرة الرومان ألنهم كانوا يرفضون القيام بالخدمة العسكرية. وبدأ الوضع يتغير منذ القرن الرابع حين أضحت المسيحية دينا رسميا لإلمبراطورية .فغدا لزاما على المسيحيين المشاركة في الحروب التي يخوضها اإلمبراطور .ورغم ذلك ،ظل كثير منهم يمقتون الحرب .كما ظل رجال الدين ،منذ القديس أوغسطين ،متشبثين بمبدإ أن الحرب ال يجب خوضها اال اذا كانت دفاعية لدرء هجمات الوثنيين،أو المسلمين ،الذين كانوا يعدون وثنيين هم أيضا .وفي إطار هذه الحرب الدفاعية سمحت الكنائس بإنشاء طوائف المحاربين الذين كانت توكل إليهم مهمة الدفاع عن المؤسسات الدينية. ويتمثل المظهر الثاني في إضفاء صبغة المسيحية على الحرب ( la .)christianisation de la guerreوالراجح ،في هذا المقام ،هو أن التحوالت التي شهدتها أوربا ابتداء من مطلع القرن الحادي عشر هي التي غيرت وجهة نظر المسيحيين تجاه الحرب .فقد حدث نمو ديموغرافي ترتب عنه تزايد في أعداد الشبان المنتمين لفئة الفرسان من دون أرض .كما ضاقت األراضي بأهلها ،وفي نفس الوقت تزايدت ثروات أفراد األرستقراطية الذين أصبحوا يمتلكون موارد تسمح لهم باقتناء األسلحة والقيام بحمالت عسكرية. وكان من نتائج هذه التحوالت أن تبلور نوع من التوجه الحربي في الديانة المسيحية .وكانت بوادر هذا التوجه قد ظهرت منذ حروب القرن التاسع التي خاضها المسيحيون لنشر المسيحية في أوساط الوثنيين ،وهي حروب تم فيها تعميد السيف الذي غدا "يؤدي وظيفته" بمباركة من الكنيسة .وحدث بعد مطلع القرن الحادي عشر أن تسارعت وتيرة هذا التوجه تحت تأثير التحوالت المشار إليها ،وتحت ضغط االضطرابات االجتماعية التي اندلعت هنا وهناك ،والتي لم تفلح اإلجراءات المتخذة
102
في إطار "هدنة هللا" ،التي سبق الحديث عنها ،من وضع حد لها .فكان ال بد اذن من اقتراح حلول بديلة وإيجاد منافذ لتصريف هذه الطاقات المتنامية. وتحملت البابوية مسؤولية البحث عن مخارج .ووجدت المخرج في خوض حروب في الخارج .فعادت إلى أدبياتها لتجدد ما يبرر هذا المشروع .ومن هنا بدأت تروج في أوساط المسيحيين صيغة "الحرب المقدسة" التي نقلتها عن المسلمين الذين اعتبروا الحرب منذ نزول القرآن "جهادا" ،أي حربا مقدسة من واجب كل المؤمنين خوضها .واختارت البابوية الصليب المصنوع من قماش ،والملصق على صدور المحاربين ،رمزا لهذه الحرب. ال أنوي استعراض فصول هذه الحرب .ولكن ال بأس من التذكير بأن حملتها األولى انتهت بسيطرة المسيحيين على مدينة القدس سنة ،1099وبمصرع عدد كبير من المسلمين،وإنشاء عدة ممالك مسيحية بهذه البقاع ،من أبرزها المملكة الالتينية ببيت المقدس. وأدت استعادة المسلمين لمملكة الرها إلى اندالع حملة صليبية ثانية سنة .1144 وقاد المسيحيين فيها اإلمبراطور كونراد الثالث وملك فرنسا لويس السابع .ولم تحقق أية نتيجة تذكر لصالح المسيحيين ،بل استطاع السلطان صالح الدين إلحاق الهزيمة بالمسيحيين في وقعة حطين سنة ،1187واستعادة بيت المقدس. واندلعت الحملة الصليبية الثالثة التي تزعم المسيحيين المشاركين فيها اإلمبراطور فردريك بربروسا (الذي توفي غرقا في أحد أنهار األناضول قبل مالقاة صالح الدين) ،وملك أنجلترا ريتشارد قلب األسد ،وملك فرنسا فليب أوغسطس .وآلت هذه الحملة إلى الفشل كسابقتها .ومنذئذ لم يستطع المسيحيون استعادة بيت المقدس. بدت الحرب الصليبية خالل القرن الثالث عشر وكأنها لم تعد تثير المسيحيين كما كان الشأن من قبل .فآثر اإلمبراطور فردريك الثاني وضع حد للحملة السادسة سنة ،1229وذلك بالتوقيع على معاهدة سالم مع المسلمين أثارت حفيظة بعض ملوك أوربا الذين رأوا فيها كثيرا من اإلهانة للمسيحيين .وهذا ما ألب بعضهم لخوص وقائع جديدة ضد المسلمين .فتزعم ملك فرنسا لويس التاسع حملة أولى توجه بها صوب مصر وفلسطين بين سنتي 1248و .1253ثم تزعم حملة ثانية في اتجاه شمال افريقيا سنة .1270انتهت بمصرعه أمام أبواب مدينة قرطاج .فكان ذلك مقدمة نحو تساقط المراكز المسيحية في أيدي المسلمين .حيث سقطت طرابلس سنة ،1289وتلتها عكا وصور سنة .1291 ورغم سلسلة الهزائم ،ظلت الحرب تحت لواء الصليب تشد إليها بعض األمراء وجمهورا قليال من عامة المسيحيين .ولم يصرف هؤالء وأولئك نظرهم عنها ،إال بعد أن سيطر األتراك العثمانيون على القسطنطينية سنة .1453
103
وكان من الطبيعي أن يترك هذا الصراع المرير بين المسيحيين والمسلمين صدى عميقا في وجدان المسيحيين ،لذلك صدق الباحث ألفونس ديبرون ( Alphonse )Duprontحين قال بأن أسطورة القدس ظلت ساكنة في األذهان والوجدان منذ العصر الوسيط إلى اليوم .37وقد تغيرت مالمح الصراع اليوم في سياق مختلف ،فغدا طرفاه الرئيسان األمريكيون والمسلمون األصوليون ،بما يفيد بأن صيغة "الحرب الصليبية" ما زالت ،مع األسف ،قابلة ألن تأخذ شحنات من الحرارة باستمرار. يمكن القول ،في أعقاب ما تقدم بأن عددا كبيرا من الباحثين تناولوا الحرب الصليبية واختلفوا في تقييم حصيلتها من منظور المدى الطويل .وظل عدد منهم ينظرون إليها حتى مطلع القرن الماضي بأنها كانت بمثابة بذور تفتقت عنها وحدة أوربا ،وبأنها أبانت عن مدى حيوية الغرب المسيحي خالل العصر الوسيط .وقد انتقد جون فلوري ) (Jean Floriهذا التوجه من خالل التركيز على ما يسميه "تناقضات الحرب الصليبية".38 يتمثل التناقض األول ،في اعتقاده ،في كون المسيحيين خاضوا حمالتها باسم دين مسالم في األصل ضد مجتمع يعتنق أفراده دينا أدرج الجهاد ضمن المبادئ التي قام عليها ،ولكن هؤالء األفراد مارسوا كثيرا من التسامح الديني تجاه سكان المناطق التي فتحوها. يتمثل التناقض الثاني في كون الحرب الصليبية أتت كمحصلة لحركة توسع عامة ،بدأت في اسبانيا واتسع نطاقها حين أصبحت القدس وضريح المسيح موضوع هذا التوسع .وحدث أن نجحت حركة التوسع المشار إليها في الغرب ،ولكنها فشلت في الشرق األوسط ،فامتلك مسلمو هذه المنطقة زمام المبادرة وقاموا بهجوم مضاد انتهى بسيطرتهم على القسطنطينية وتهديدهم ألوربا الشرقية. يتمثل التناقض الثالث في كون الحرب الصليبية اندلعت في األصل النقاد مسيحيي المشرق ،ومساعدة البيزنطيين في استعادة المناطق التي سيطر عليها المسلمون .وتمت كل هذه العمليات في سياق وحدة الكنائس المسيحية .ولكن اندالع الحرب أتى بنتيجة معاكسة لمسعى الوحدة. - 37ألفونس دوبرون ( )Alphonse Duprontمؤرخ فرنسي توفي سنة .1990كان يهتم بتاريخ العصر الوسيط وتاريخ األزمنة الحديثة .حاضر قبل وفاته بجامعة مونبوليي وجامعة باريس ،وبالمعهد الجامعي األوربي بفلورنسا .أنجز أطروحة ضخمة (من أربعة أجزاء) تناول فيها الجانب الميثولوجي في الحرب الصليبية ()le mythe de croisade وناقشها سنة . 1957وفيها أورد ما نقله جاك لو ﯕوف .وقد ظلت أطروحته حبيسة أحد الرفوف ،ولم يقدر لها أن ترى النور اال سنة 1997بفضل جهود بيير نورا ( )Pierre Noraالذي كان أحد تالمذته. - 38يعتبر جون فلوري ،الذي أحلنا على أحد مؤلفاته في هامش سابق ،واحدا من أبرز المختصين الفرنسين في تاريخ العصر الوسيط .حاضر بجامعة السوربون بباريس وبمركز الدراسات العليا الخاص بحضارة العصر الوسيط بجامعة بواتيي واشتغل ردحا من الزمن بالمعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط .أنجز أبحاثا غزيرة ركز في معظمها على موضوعي الفروسية والحرب الصليبية .ويكفي أن نذكر أنه خص الحرب الصليبية لوحدها بعشرة كتب.
104
ويتجلى التناقض الرابع في كون الحرب أريد لها عند االنطالقة أن تكون حربا لتحرير فلسطين وكذلك حجا الى البقاع المقدسة ،حسب تصريح البابا أوربان الثاني، ولكن البابوية حولتها عن مسارها لتدرجها ضمن حروبها ضد أعدائها في الخارج وكذلك ضد أعدائها في الداخل ،متمثلين في الهراطقة والمنشقين عن الكنيسة. وأعتقد شخصيا بأن الحرب الصليبية أثرت سلبا في عالقات أوربا المسيحية بالمسلمين وكذلك بالبيزنطيين .ولكن هذا التأثير لم يتوقف بنهاية العصر الوسيط بل امتد إلى عالم اليوم ،حيث يستحضر كثير من المسلمين ذكرى تلك الحرب بنوع من الحسرة ويعتبرونها عدوانا ارتكب في حقهم. وال مناص من التأكيد بأن نهاية الحرب الصليبية وضعت حدا لسراب ظل يلهث وراءه المسيحيون ،يتمثل في رغبتهم في جعل القدس عاصمة للعالم المسيحي .ومن ثم ،فإن فشل تلك الحرب هيأ الظروف المالئمة لتحقيق وحدة أوربا .ووضع خاتما (طابعا) على المعادلة القائمة بين أوربا والمسيحية لزمن طويل ،بمعنى أنه أصبح هناك تطابق بين أوربا والمسيحية (أو أن أوربا والمسيحية أصبحا وجهان لعملة واحدة) .ومن جهة أخرى أحدثت تلك الحرب شرخا عميقا بين أوربا الغربية وأوربا الشرقية ،بين أوربا الالتينية وأوربا اإلغريقية ،وخاصة بعد سنة ،1204حين انحرفت الحملة الرابعة عن هدفها .إذ بدل أن يتوجه الذين اشتركوا فيها صوب فلسطين اتجهوا نحو القسطنطينية التي نهبوها وأنشأوا بها ما يشبه إمبراطورية التينية تالشت من حينها .بل إن حصيلة الحرب الصليبية كانت سلبية حتى بالنسبة ألوربيي الغرب أنفسهم .وعوض أن يحصل تقارب بين ممالكهم ،أدت الحرب إلى اشتداد التنافس بينها ،كما تجلى ذلك في تردي عالقات فرنسا بأنجلترا .ومن هنا يفهم لماذا أبدى تجار ايطاليا وتجار قطلونيا تحفظهم من هذه الحرب ،ولم يشاركوا فيها إال على مضض. وظلوا حريصين على تنمية تجاراتهم مع المشرق .وفضال عن كل هذا وذاك أدت الحرب إلى تناقص عدد سكان أوربا وتراجع مواردها. وأعود للتأكيد ،وبنوع من المرارة ،بأنني كتبت منذ زمن بعيد بأن أهم ما جناه األوربيون من الحرب الصليبية ،هو فاكهة المشمش .وإنني ما زلت إلى اليوم متشبثا بما كتبه. )33هل كانت الحرب الصﻠيبية أولى تجﻠيات االستعمار األوربي؟ تقتضي المقاربة الطويلة األمد التي يقوم عليها هذا الكتاب ،اختتام الحديث عن الحرب الصليبية ،بإثارة مسألة على جانب كبير من األهمية ،ال بد من تناولها وتتعلق هذه المسألة بالتوصيف الذي يمكن أن تنعت به عملية إقامة ممالك مسيحية بالشرق األوسط .فهل كانت تمثل أولى تجليات ما سيصبح بعد القرن السادس عشر استعمارا
105
أوربيا؟ طرح هذا السؤال عدد كبير من الباحثين وأجاب عنه بعضهم باإليجاب .ومن بينهم المؤرخ اإلسرائيلي جوزا براور ( .39)Josuah Prawerال أشاطر شخصيا هذا الرأي ،ألن تلك الممالك لم تكن مستعمرات لالستغالل االقتصادي أو مراكز استيطان إال في نطاق محدود .كما أن الرفاه االقتصادي الذي حققته المدن المسيحية المتوسطية لم يتحقق بواسطة الحرب الصليبية ،ولكنه تحقق ،في األغلب األعم ،من خالل سيطرة سلمية ،إلى حد ما ،على الثروات البيزنطية واإلسالمية .وفضال عن كل هذا وذاك، فإ ن هجرة المسيحيين إلى الشرق األوسط كانت ضعيفة .وإذا كانت العالقات بين المستعمرات والمدن الكبرى للدول المستعمرة قد تميزت خالل العصر الحديث بالفتور والتوتر ،فإ ن مثل هذه العالقات لم تنشأ أبدا بين المالك الالتينية في الشرق األوسط والممالك المسيحية في أوربا .ومن ثم ،فإن الكيانات التي أنشأت بمناسبة الحرب الصليبية كانت كيانات عابرة ألنها سرعان ما تالشت ،فضال عن كونها كانت ظاهرة قروسطوية بامتياز.
- 39يعد أحد أبرز المهتمين بتاريخ العصر الوسيط في اسرائيل .حاضر ،حتى وفاته سنة ،1990بالجامعة العبرية بالقدس وبجامعتي بن غوريون وحيفا .اختص بالبحث في الممالك التي أنشأها المسيحيون في المشرق في سياق الحرب الصليبية .ونشر حولها مجموعة مؤلفات،باللغتين الفرنسية واألنجليزية ،من بينها : - Histoire du Royaume latin de Jérusalem, Paris, Éditions du C.N.R.S., 1969. - The Latin kingdom of Jerusalem: European colonialism in the Middle Ages, Londres, Weidenfeld and Nicolson, 1972.
106
الفصل الخامس أوربا "الجميﻠة" أوربا المدن والجامعات (القرن الثالث عشر)
)1نجاحات أوربا القرن الثالث عشر يعتبر القرن الثالث عشر فترة أوج الغرب الوسيط ،رغم أن إشكالية األوج واالنحطاط يمكن أن تشكل موضوع نقاش .وعموما ،يمكن القول بأن هذا القرن شكل الحيز الزمني الذي تأكدت فيه شخصية العالم المسيحي ،وقوته الجديدة اللتين تحققتا خالل القرون السابقة .كما أنه مثل الحيز الذي تموضع فيه نموذج يمكن نعته ،بوضعه
107
في سياق المدى البعيد ،بكونه نموذج أوربي يستحق هذا التوصيف بكل ما يتصل به من نجاحات وإخفاقات ومشاكل. يمكن رصد تلك النجاحات في أربعة مجاالت رئيسة هي : أوال االزدهار الحضري .فبعد سيادة الطابع الريفي خالل العصر الوسيط األعلى ،كما تم توضيح ذلك في فصل سابق ،فإن أوربا حضرية هي التي فرضت نفسها خالل القرن الثالث عشر ،ألن المدن هي التي أصبحت إطار أهم التفاعالت. ففيها حصل االختالط بين أعداد كبيرة من السكان ،وفيها تبلورت المؤسسات الجديدة. وفيها أيضا ظهرت المؤسسات االقتصادية والثقافية الجديدة. ثانيا انتعاش المبادالت التجارية ،وانتعاش فئة التجار ،رغم ما استتبع ذلك من مشاكل بسبب شيوع استعمال النقود في الحياة االقتصادية وتداولها في أوساط الفئات االجتماعية. ثالثا انتشارالمعرفة في أوساط أعداد متزايدة من المسيحيين ،أصبحوا يرتادون المدارس التي أخذت تنتشر في الحواضر .وكانت هذه المدارس تشبه إلى حد ما المؤسسات االبتدائية والثانوية المعروفة اليوم .وكانت أهمية ظاهرة التمدرس تختلف من منطقة ألخرى وبين مدينة وأخرى .ولكنها عمت ما يناهز 60بالمائة ،أو أكثر قليال ،من إجمالي عدد األطفال .والجدير بالمالحظة أن ظاهرة التمدرس همت أيضا عددا من البنات ،كما هو الشأن مثال بالنسبة لمدينة ريمس ( .)Reimsوال بأس من اإلشارة في نفس السياق إلى نشأة مؤسسات خاصة بالتعليم العالي ،يمكن نعتها بالجامعات .سرعان ما حققت النجاح واستقطبت العديد من الطلبة الذين أسندت مهمة تدريسهم لعلماء مشهورين .وأخذت تتبلور شيئا فشيئا في هذه المؤسسات معرفة جديدة .هي الفكر السكوالتي أو المدرسي الذي ميز القرن الثاني عشر. رابعا ظهور فئة جديدة من رجال الدين اتخذوا من المدن مستقرا لهم .ونشطوا كثيرا في أوساط سكانها :إنهم "اإلخوان المنتمون لطوائف الفقراء" الذين تركوا بصمات واضحة على المسيحية والفكر الديني. أوال :النجاح الحضري .أوربا الحضر رغم أن مدينة العصر الوسيط قامت على أنقاض مدينة العصر القديم ،فقد تغيرت كثيرا مرفلوجيتها ووظائفها .ويمكن أن نذكر في هذا الشأن أن الوظيفة العسكرية فيها تراجعت إلى المقام الثاني لصالح قصور السنايير .وبالمقابل ،احتلت الوظيفة االقتصادية المقام األول في المدينة بعد أن كانت أقل أهمية خالل العصر القديم ،ألن عدد سكان المدن كان قليال باستثناء روما وبعض المدن الشرقية .وتبعا
108
لذلك ،لم تكن مدن العصر القديم مراكز استهالك ،في حين أصبحت مدن العصر الوسيط مراكز استهالك ،وأيضا مراكز مبادالت بفضل ظاهرة التمدن التي طالت األسواق والمعارض .ومن المفيد التذكير في هذا المقام بأن مدينة العصر الوسيط كانت متعددة المراكز ،ولكن السوق كان أهمها .ويعد هذا األمر تحوال جديدا يضاف إليه تحول آخر ال يقل أهمية ،وهو أن المدينة أضحت مركز إنتاج بفضل الورشات الحرفية التي أصبحت تحتضنها ،بعد أن كانت تحتضنها فيما مضى دومينات أفراد األرستقراطية العقارية .والدليل على ذلك ،هو كون كثير من أزقة المدن المعاصرة ما زالت تحمل أسماء بعض الحرف والحرفيين من قبيل "زقاق الدباغين" أو "زقاق النساجين" .وتحيل هذه األسماء طبعا على الحرف التي كانت منتشرة في مدن العصر الوسيط .واستطاعت هذه المدن أن تكون لنفسها نوعا من العقلية أو الذهنية الحضرية أمدتها بهوية وسلطة خاصتين .وقد كان التعارض بين المدينة والبادية خالل العصر القديم يوازيه تعارض بين الحضارة والبربرية .وظل هذا التعارض قائما خالل العصر الوسيط ،،وربما ازداد حدة إذا علمنا بأن سكان بوادي العصر الوسيط كانوا يدعون باسم " ،"les vilainsوهو اسم قدحي معناه أن الذين ينعتون به "حقيرون"، "منحطون""،غوغاء"" ،أفظاظ" ألن معظمهم كانوا عبيدا فتحولوا إلى أقنان .بينما كان سكان الحواضر أحرارا .وهذا ما يعنيه المثل القائل " :هواء المدينة يجعل المرء حرا". ويستدعي هذا المثل إثارة مسألة على جانب من األهمية ،وهي أن المسيحية تبنت تصورا للمدينة يعود للعصر القديم سبق أن بلوره أرسطو وسيسرون مفاده أن المدينة ليست بجدرانها وإنما بأناسها ،أي بسكانها .وقد عمل كل من القديس أوغسطين ،وبعده ايزيدور االشبيلي على الترويج لهذا التصور الذي اصطبغ بصبغة الهوتية مع مر القرون .فأخذت بعض تآليف القرن الثالث عشر تشبه األزقة الضيقة المظلمة بجهنم والساحات والميادين بالجنة مما يسمح بالقول بأن العقلية السائدة في الحواضر أصبحت شيئا فشيئا تدرج ضمن مكوناتها رؤية حضرية ( une vision .)urbanistique والواقع أن الشبكة الطرقية التي كانت معروفة في العصر الروماني فقدت ذلك التماسك الذي كان يميزها فتحولت في العصر الوسيط إلى مجرد مسالك .بل غدت في مدن هذه الحقبة مجرد ممرات .وابتداء من القرن الثاني عشر شرع العمل في تبليطها، وشقت بها قنوات لتصريف المياه المستعملة ،وتم تزينها بمجموعة معالم (تماثيل وغيرها) .لم تعد هذه التماثيل تقام فقط للتذكير بسلطة األقوياء ،وإنما أصبحت تقام أيضا لغايات جمالية .ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن مدينة العصر الوسيط غدت أحد المجاالت التي تجلى فيها مفهوم الجمال في دالالته الحديثة المختلفة عن دالالت
109
العصر القديم .وقد وضح الباحث أمبرتو إيكو ( )Umberto Ecoبجالء كيف نشا مبدأ الجمال في العصر الوسيط ،وكيف أن المعالم جسدت جانبه التطبيقي ،فيما شكل الفكر المدرسي الحضري جانبه النظري .كما وضح الباحث روبيرتو سباتينو لوبيز بدوره بأن المدينة أضحت تمثل في العصر الوسيط "حالة روح" اختزلت حقائق مادية وتمثالت ذهنية في نفس الوقت .40وإلى جانب ذلك ،ال بد من التذكير بأن مدن العصر الوسيط ورثت األسوار عن العصر القديم .فقد كانت هذه األسوار تحيط بالمدن لحمايتها من الهجمات األجنبية ،وخاصة هجمات قبائل المتبربرين .ولكن معظم هذه األسوار انهارت ،ولذلك رمم رجال العصر الوسيط تلك األسوار ،أو باألحرى ،قاموا ببناء أسوار جديدة .ولكن لم يقوموا بذلك بهدف حماية المدينة ،وإنما ألن األسوار كانت رمزا بامتياز للمدينة .ألن المدينة الحقيقية آنذاك كان يجب أن تحاط بأسوار. وحين أضحت المدن تتمتع بشخصية قانونية ،أخذ القائمون على الشأن المحلي فيها يستعملون أختاما منقوش عليها شكل يجسد السور الذي اتخذ شعارا للمدينة .وتجدر اإلشارة في هذا الشأن إلى أن أسوار المدينة كانت توضع لها أبواب شكلت صلة وصل بين العالمين الداخلي والخارجي ،لكونها كانت معبر الناس والبهائم والمؤن .وترتب عن ذلك نشوء جدلية الداخل والخارج التي احتلت موقعا متميزا في العصر الوسيط وال زالت لها امتدادات في أوربا المعاصرة .وقد تم تغليب الداخل في هذه الجدلية نظرا لحمولته المادية (الترابية) واالجتماعية والروحية. أ) المدن األسقفية شكلت المدينة األسقفية أول نموذج فرض وجوده في أوربا العصر الوسيط .بل إن وجود أسقف كان في حد ذاته مؤشرا على وجود مركز حضري ،ألن األسقف كان زعيما ال مناص منه ألي تجمع بشري مهم عدديا ،كما كان المسؤول عن الشعائر الدينية التي تقام عادة في الكنائس .وقد اتخذت عملية تشكل الساكنة الحضرية من قبل المسيحيين ومريدي الكنائس منحى ثوريا من خالل ظاهرة تمدين األموات .ولتوضيح هذا األمر ،من المفيد التذكير بأن جثمان الميت لم يعد مصدر فزع كما كان األمر قديما ،ألن المسيحية عملت على إدماج المقبرة في الوسط الحضري .وتبعا لذلك أضحت مدينة األموات تقع داخل مدينة األحياء. - 40عبر أومبيرتو ايكو األديب والباحث االيطالي عن وجهة نظره المشار اليها في المتن في كتاب له تحت عنوان : Art et beauté dans l’esthétique médiévale, trad. Fr., Maurice Javion, Paris, Les Editions Ldf., 2002. أما المؤرخ االيطالو -أمريكي روبيرتو سباتينو لوبيز فعبر عن وجهة نظره في كتاب له أحلنا عليه في هامش سابق وفي كتاب آخر صدر له بباري ( )Bariسنة 1984عن مؤسسة التيرزا ( )Casa Laterzaبعنوان : Intervista sulla citta medievale.
110
ب) المدن "الكبرى" تميز القرن الثالث عشر ،على المستوى الحضري ،بنمو وتعدد المدن الصغرى والمتوسطة ،وبتزايد عدد سكان بعض المدن الكبرى ،واتساع مجالها الحضري .ولكن ال بد من التنبيه في هذا الشأن بأنه ال يجب أن نتصور بأن المدن الموسومة بالكبر كانت تشبه المدن الكبرى في أوربا األزمنة الحديثة ،أو المدن المشرقية في بيزنطة أو في العالم اإلسالمي ،ألن أهم مدن الغرب المسيحي كان عدد سكانها يتراوح بين عشرة آالف وعشرين ألف نسمة .ولم تخرج عن المألوف سوى مدن معدودة هي :بالرمو، وبرشلونة بحوالي خمسين ألف نسمة ،ولندن ،وﯕاند (( )Gandأو غنت ،)Gent وجنوة بحوالي ستين ألف نسمة ،وعلى غرارها كانت مدينة قرطبة الواقعة آنذاك ضمن دائرة نفوذ المسلمين .أما المدن التي تجاوز سقف سكانها الستين ألف نسمة، فكانت معدودة على رؤوس أصابع اليد الواحدة .وهي بلونيا ) )Bologneالتي ناهز عدد سكانها السبعين ألف نسمة ،وميالنو بحوالي خمسة وسبعين ألف نسمة ،وفلورنسا التي يحتمل أن يكون عدد سكانها قد تجاوز المائة ألف بقليل ،وباريس التي عدت خالل القرن الثالث عشر أكبر مدن الغرب األوربي على اإلطالق بحوالي مائتي ألف نسمة. ج) أدب ذو صبغة حضرية سمح نمو مدن العصر الوسيط ،وما استتبعه من هيبة أصبحت تتمتع بها، بنشأة جنس أدبي سرعان ما تطور بالنظر لمحدودية عملية تداول الكتب والمؤلفات آنذاك .يتمثل هذا الجنس األدبي في "اإلخباريات الحضرية" التي كان أصحابها "يتغنون" بمكونات المدن في وقت لم يوجد فيه من يتغنى بالجبال أو السواحل .بل في وقت لم تكن فيه لفظة "مشهد" أو ما شابهها موجودة على اإلطالق ،وحتى كتب الجغرافيا المتوفرة آنذاك ،لم توفر "للمعجبين" من أوربيي العصر الوسيط سوى نصوصا تتحدث عن المدن .والراجح أن اإلعجاب بالمدن مرده لكثافة سكانها، وألهمية األنشطة االقتصادية التي كانوا يزاولونها ،ولتنوع الحرف الموجودة بها، ولغنى ثقافتها ،ولجمالية كنائسها .وفضال عن كل هذا وذاك ،فقد حظيت المدن باهتمام واضعي هذه اإلخباريات بسبب الروايات ذات الطابع الميثولوجي التي أحاطت بنشأتها ،وما نسج حول مؤسسيها "األبطال" من أساطير .وقد اشتركت اإلخباريات الحضرية مع مؤلفات العصر القديم في تناول هذا الموضوع بالذات .ومن هذا المنطلق شكلت المدن ،من خالل االهتمام الذي أواله المؤلفون لها ،إحدى القنوات التي ساهمت في إعطاء معنى للتاريخ .وقد اتخذ ما تم تأليفه حولها بعدا أوربيا.
111
د) العواصم يجب تنبيه القارئ الى أنه ذا كان من الممكن ترتيب مدن العصر الوسيط من وجهة نظر ديموغرافية تبعا لعدد سكانها ،فمن الممكن أيضا ترتيبها من وجهة نظر سياسية .وفي هذه الحالة يمكن الحديث عن نموذجين من المدن :المدن العواصم التي سيتم الحديث عنها في هذه الفقرة ،والمدن-الدول التي ستخصص لها الفقرة الموالية. كانت المدن العواصم مقرات لسلطة سياسية عليا .وقليلة هي مدن العصر الوسيط التي ارتقت إلى هذه المرتبة ،رغم أن مصطلح عاصمة اكتسى دالالت مختلفة. وهذا ما وضحه الباحث جوين ألفريد ويليامس ) )Gwyn Alfred Williamsالذي خص مدينة لندن ببحث منوغرافي بين فيه كيف ارتقت هذه المدينة من مجرد "كمونة" ( )communeإلى عاصمة .41وينسجم هذا الطرح مع التصور الذي كان يتبناه سكان المدينة أنفسهم حول العاصمة ،حيث لم تكن لندن (كلها) في نظرهم هي العاصمة، وانما "مدينة ويستمنستر" ( )City of Westminsterفقط .ويختلف األمر تماما بالنسبة لمدينة روما .فقد كانت تحتضن البابوية وقصر الفاتكان ،وكانت محاطة باألسوار ،ورغم ذلك لم تعد عاصمة بما في الكلمة من معنى .وظلت تعتبر عاصمة "على مضض" ألن مراسيم تتويج األباطرة كانت تتم بها .وخالفا لروما ،عدت باريس عاصمة بامتياز منذ سنة 987بفضل جهود الملوك الكابتيين الذين جعلوها تتبوأ مكانة مرموقة وكذلك بفضل الدعاية التي اضطلع بها إخباريو دير سان دوني ،الذي كانت أراضيه تحتضن مدافن ملوك فرنسا ،حتى أن أوالئك اإلخباريين اعتبروا بلدة سان دوني عاصمة بدورها .والحقيقة أن العاصمة تشكلت من الثنائي باريس -سان دوني. ومهما يكن من أمر ،فإن عواصم العصر الوسيط لم تكن تستند على حقيقة تاريخية إال في حاالت نادرة .ومن هذا المنطلق ،فإن العالم المسيحي نفسه لم يكن يتوفر في الواقع على عاصمة رغم أن العادة جرت باعتبار روما عاصمة لهذا العالم. ه) المدن -الدول يتألف هذا النموذج من المدن التي تطورت وتمددت فأصبحت دوال قائمة بذاتها .وقد شكلت شبه جزيرة ايطاليا المجال الرئيس لهذا النموذج .ويعتبر إيڤ رنووار ( ) Yves Renouardواحدا من الباحثين الذين اهتموا بدراسة هذا النوع من المدن. وقد ميز في تطورها بين ثالثة مراحل :مرحلة أولى كانت فيها كل مدينة – دولة - 41يمثل هذا البحث في األصل أط روحة لنيل الدكتوراه أنجزها جوين ألفريد ويليامس الذي حاضر ،قبل وفاته سنة ،1995بكل من جامعة يورك ( )Yorkوجامعة ويلز -كارديف (.)Wales-Cardiff نشر تلك األطروحة سنة 1963تحت عنوان ← ، Medieval London, from commune to capital : وصدرت ضمن منشورات جامعة لندن .كما أصدر الى جانبها مجموعة أبحاث ،معظمها حول تاريخ بالد الغال.
112
مجرد كمونة استطاعت األرستقراطية أن تستحوذ فيها على السلطة على حساب القمط واألسقف .مرحلة ثانية شهدت فيها األرستقراطية الحاكمة تصدعات وانقسامات إلى فصائل سمحت باستيالء طرف أجنبي عن الفصائل على السلطة في المدينة .ومرحلة ثالثة استطاعت فيها نخبة من التجار وطوائف الحرفيين امتالك السلطة في المدينة وممارستها بواسطة حكومة تمثل هذه األطياف .ولذلك تميز تاريخ هذه المدن – الدول بصراع دائم بين مختلف القوى الحاكمة لها أو بين مختلف العائالت ،ألن هذه العائالت كانت تمارس السلطة بواسطة مجالس تمثلها .وغالبا ما كان لكل مجلس من هذه المجالس نفوذ في رقعة ترابية معينة تقع في محيط المدينة .فيحدث التنافس حول مناطق النفوذ ،ثم يتحول التنافس إلى صراع دموي.42 ويبدو أن مدن ايطاليا وحدها هي التي شكلت االستثناء على صعيدين :ألن بعضا منها تحولت إلى دول كما تم توضيح ذلك ،وألن نبالء ايطاليا كانوا يقيمون في تلك المدن – الدول خالفا لنبالء باقي مناطق أوربا الذين كانوا يقيمون في قصور تقع في األرياف ،رغم أن بعض األثرياء منهم كانوا يتوفرون على إقامات ثانوية بالمدينة المجاورة للبادية التي يقيمون بها. و) المدن والفيودالية جرت العادة في أوساط المهتمين بتاريخ العصر الوسيط بإقامة نوع من التقابل أو التعارض بين الظاهرة الحضرية وظاهرة الفيودالية .ويقر معظمهم بأن المدينة تمثل بحق جرثومة مدمرة للفيودالية ألنها عنصر غريب عنها .ولم يشد عن هؤالء إال باحثين قالئل ،وعلى رأسهم األنجليزي رودني هيلتون ) )Rodney Hiltonالذي يذهب إلى االعتقاد بأن المدن كانت منسجمة تمام االنسجام مع البنيات الفيودالية ،بل وكانت جزءا من الفيودالية.43 ودون الخوض طويال في الموضوع ،يمكن االقرار بأن العصر الوسيط ترك ألوربا اقتصادا ومجتمعا قائمين على عالقات بين المدينة والبادية أساسها التكامل وليس التناقض .وإن الغلبة كانت لصالح المدن التي استغلت فائض إنتاج البوادي، فتطورت بها األنشطة التجارية والحرفية .كما تنامت بشريا من خالل هجرة عدد من الفالحين إليها .وكان معظم هؤالء الفالحين حديثي االستقرار بتلك المدن .وتطورت - 42عبر ايڤ رنووار عن وجهة نظره هاته في كتابين هما : - Histoire de Florence, Paris, P.U.F., 1964. - Les villes d’Italie de la fin du Xe siècle au début du XIVe siècle, Paris, Sedes, 1969, 2 vol. - 43لمزيد من التفاصيل بخصوص وجهة نظر رودني هيلتون يمكن العودة لكتابه : - English and French Towns in feudal society, a comparative study, Cambridge, Cambridge University Press, 1992.
113
المدن سياسيا أيضا .فشرعت في تبني أشكال متطورة من السلطة ومنسجمة ،في ذات الوقت ،مع بنيات النظام الفيودالي بعد أن كانت الحكومات المشرفة على تدبير الشأن العام بها ذات طابع سنيوري محض. )1شخصية المدينة األوربية تميزت مدن العصر الوسيط بخاصية هامة ورثتها أوربا األزمنة الحديثة تمثلت في بنية مجتمعاتها وفي طبيعة الحكومات المسيرة لها .وبقدرما انسجمت هذه الحكومات مع بنيات النظام الفيودالي ،كما سبقت اإلشارة إلى ذلك ،بقدر ما أبانت عن تطور خاص .وتعود بدايات هذا التطور إلى القرن الحادي عشر .وقد تواصل مع الزمن ،وانتهى بتالشي هيمنة األساقفة واألقماط معا .ففي معظم المدن ،كان األساقفة يمارسون السلطة المدنية كما تم توضيح ذلك سابقا .وفي مدن أخرى كان األقماط يقومون بهذا الدورالى حد ما ،رغم أن األساقفة كانوا هم المشرفون الفعليون بدل األقماط .وفي سياق هذا التطور كانت المدن تشهد من حين آلخر حركات احتجاج شعبية اتخذت في األغلب األعم طابعا سلميا ،وإن اتخذ بعضها منحى عنيفا كما حدث، على سبيل المثال ،سنة ،1116حيث انتهت انتفاضة قام بها سكان مدينة الوون ) )Laonباغتيال القمط – األسقف الذي كان يحكمها. وكان السنايير يضطرون لالستجابة لضغط المحتجين ،فيمنحونهم بعض االمتيازات في شكل حرية أكثر ،أو يخففون عنهم بعض الضرائب .ولكن المحتجين كانوا يطالبون دوما بمنحهم نوعا من التسيير الذاتي في إطار كمونات ( des ،)communesوهو المطلب الذي كان يرفضه السناييرباستمرار .ويجب التنبيه في هذا الشأن بأن عددا من الباحثين تناولوا موضوع حركة الكمونات ،وأسالوا فيه كثيرا من المداد حتى أنهم أحاطوه بطابع ميثولوجي .والواقع أن مدن ايطاليا وحدها هي التي تمتع سكانها باستقالل تام ،.أما فيما عداها ،فكان االستقالل نسبيا .ومن المعروف أن سكان معظم مدن فرنسا لم يحصلوا سوى على امتيازات ،ولم يتمتعوا قط باالستقالل الذي كانوا ينشدونه .ويعتبر"ميثاق" لوريس ( ،)Lorrisالذي وقعه الملك لويس السابع سنة ،1155والذي حصل بموجبه سكان هذه المدينة على امتيازات ،بمثابة نموذج تم االقتداء به في سائر أنحاء فرنسا .وتجلى هذا االقتداء في مدينة تولوز التي منحت لسكانها سنة 1147نفس االمتيازات التي تضمنها "الميثاق" السالف الذكر .وبعدها منحت كذلك نفس االمتيازات لسكان مدينتي نيم ) ،)Nîmesوآرل ( .)Arlesوسارت بعض مدن أنجلترا وبعض مدن مملكة أرغونة على نفس المنوال. ومهما يكن من أمر ،فاألهم ،هو أن حكم السكان الحضريين ألنفسهم بأنفسهم ترك أثران عميقان وبعيدي المدى في مدن أوربا.
114
تمثل األثر األول في تزايد حاجة سكان المدن للحقوقيين ورجال القانون عامة. والواقع أن هذه الفئة من أهل المعرفة ،لم تكن لها دراية واسعة بالشؤون القانونية في بداية األمر .فأخذ األفراد المنتمون لها يلجون الجامعات فتمكنوا من صقل معارفهم، وأصبحوا أكثر قدرة على النظر في مختلف القضايا التي تطرحها المعامالت بين سكان المدن .فترتبت عن ذلك نتيجتان واحدة سلبية إلى حد ما ،تجسدت في ظهور إرهاصات ظاهرة البيروقراطية في مدن أوربا ،والثانية ايجابية تجسدت في عملية مراجعة وتطوير منظومة القوانين المعمول بها. أما األثرالثاني ،فيتصل بمسألة الجبايات .إذ من المعروف أن المكوس، واإلتاوات ،والمغارم التي كانت مفروضة على السواد األعظم من مجتمع العصر الوسيط كانت متنوعة .وقد ظلت ذات صبغة فيودالية حتى القرن الثالث عشر ،حيث بدأت في الظهور ضرائب جديدة أخذ يفرضها الملوك ،هذه المرة ،في سياق نشأة الممالك الحديثة في أوربا .وهذه الضرائب ،التي يمكن نعتها بكونها ضرائب دولة، أصبح سكان المدن ملزمين بدورهم بتأديتها ،باإلضافة إلى سلسلة الضرائب التي تدخل في خانة ما يمكن تسميته بضريبة الرأس " ."les taillesوأعتقد أن أجرأة هذا "الجيل" الجديد من الضرائب ،التي أصبحت مفروضة على سكان المدن ،تسمح بالحديث عن انبثاق "أوربا الضرائب". ورغم أن عائدات تلك الضرائب كانت تصرف في تمويل مشاريع ذات لنفع عام ،فالواقع أن اختالالت شابت جبايتها من قبيل محاباة البعض والشطط في حق البعض اآلخر .وتفيد هذه اإلختالالت بأن سكان المدن لم يكونوا أبدا سواسية .ويبدو أن ظاهرة الالمساواة في مدن أوربا استشرت مع مرور الزمن .فقد ظلت أسر كثيرة تعيش حياة الكفاف ،بينما ظهرت أسر غنية بما تملكه من مال وعقار .فانبثق عن هذه األسر أعيان المدن الذين شكلوا نخبة متميزة .ونادرا ما كان ينخرط في هذه النخبة بعض األفراد العاديين ،اللهم إال إذا كانوا ينتمون ألسر عريقة تمتلك سمعة جيدة وال تملك ماال أوعقارا .ونسجت بين األعيان قرابات ( )des lignagesعلى غرار ما كان يحدث في األرياف ،ولكن دون أن تكون هذه القرابات قائمة على الدم. وإذا كان المال ،وعراقة االنتماء ،من بين العناصر التي منحت إمكانية التميز بين األفراد أو األسر في مدن أوربا ،فكذلك أضحت بعض المهن تتيح للذين يزاولونها إمكانية التميز .ولذلك استطاع االرتقاء إلى مصاف األعيان كل أوالئك الذين كانوا يزاولون مهنة القانون كالتوثيق مثال .وبما أن بعض المهن أصبح لها مثل هذا التأثير فقد تمت إعادة النظر في أحكام القيمة التي كانت تلف عددا منها .وعلى سبيل المثال، فإن المهنة التي كان يزاولها صاحب خان ( ،)aubergisteأو من يقوم مقامه ،لم تعد محط تبخيس كما كان األمر منذ العصر القديم .ويبدو أن مهنة الدعارة ومهنة تقديم
115
القروض مقابل فائدة (أي الربا) ،ظلتا وحدهما موضوع تحقير وتخسيس من قبل "المجتمع المدني" ،وموضوع تحريم من قبل الكنيسة .وحدث أن أخذت تتغيرالمواقف منهما مع مر الزمن ،ألن مجال القروض مقابل فائدة تقلص كثيرا بحيث لم يعد يشمل سوى قروض االستهالك التي ظل اليهود يقدمونها مقابل فائدة .أما الدعارة ،فلم تعد الكنيسة ،بعد منصف القرن الثاني عشر ،تجرم ممارسيها ،بل يمكن القول بأنها أخذت تشجعها. ولتوضيح هذا التحول ،نذكر أن الكنيسة كانت ترى بأن الدعارة ناتجة عن الخطيئة األولى ،وهي مظهر من مظاهر ضعف اإلنسان .وفضال عن ذلك ،فإن مجتمع العصر الوسيط ،الذي كان مجتمعا ذكوريا ،لم تكن تصدمه ظاهرة الدعارة التي كانت فيها "مصلحة" لصالح الرجال على حساب اإلناث .ومن بين المعطيات الدالة على هذه النظرة المجتمعية للدعارة أن الملك الورع سان لويس حاول جاهدا اجتثاث الدعارة من مملكته ،أو على األقل من مدينة باريس ،فنصحه مقربوه ،بمن فيهم أسقف المدينة ،بأن محاولته ستكون عديمة الجدوى ،بل ستكون منافية لطبيعة النظام االجتماعي .وتضاف في هذا السياق االشارة الى معطى آخر وهو أن الدعارة كانت وسيلة لمراقبة تجاوزات مجتمع كان فيه عدد العزاب كثيرا .وجلهم من رجال الدين، ومن الشباب المحرومين من النساء .ورغم ذلك ،بذل رجال الكنيسة جهودا إلضفاء طابع إنساني وديني على عالم المومسات المسنات ،أو الالئي انقطعن عن ممارسة الدعارة .وتجلت تلك الجهود نظريا في كون الكنيسة كانت تعتبر إقدام رجل على الزواج من مومس عمال طيبا .بينما تجلت عمليا في إشرافها على إنشاء ما يسمى "بطائفة ماري -مادلين" ( )l’ordre de Marie-Madeleineالذي بموجبه تم تخصيص بعض الموناستيرات إليواء عدد من المومسات. ويجب التنبيه الى أن ما ذكر عن تغير نظرة الكنيسة والمجتمع للدعارة ،ال يعني البتة بأن موقف األوربيين من هذه الظاهرة كان موحدا .ففي مدن أوربا الشمالية اتسمت النظرة للدعارة بتسامح نسبي .فقد اشترط على المومسات في بعض من تلك المدن ارتداء مالبس خاصة ،وعدم التزين بحلي مماثلة لتلك التي تتزين بها النساء البورجوازيات .أما في مدن أوربا الجنوبية فكان هامش التسامح من الدعارة أكثر .إذ أقيمت في بعض هذه المدن دور خاصة بالبغاء (مبغيات) كانت تشرف عليها البلديات وتجني من ورائها مداخيل مهمة تمثلت في واجب الكراء وبعض المكوس، والغرامات .وتبعا لتنامي األنشطة الحرفية وتزايد عدد العامالت الفقيرات ،نشطت ظاهرة الدعارة في مثل هذه الدور وغيرها ،كما في الحمامات التي يستخدم أصحابها النساء .وكانت هذه الحمامات شبيهة إلى حد ما بمراكز التدليك المعروفة في عالمنا المعاصر.
116
والظاهر أن نظرة التسامح إزاء ظاهرة الدعارة كانت تتماشى تماما مع تطور المجتمع وتطور منظومة األحكام والقيم خالل القرن الثالث عشر .ومن هنا ،فلم يكن غريبا أن يتناول بعض المنظرين من رجال الدين هذه الظاهرة .فذهب بعضهم إلى إضفاء طابع الشرعية عليها ،حيث أجازوا للفتاة أو المرأة ممارسة الدعارة لمدعاة الحاجة وضرورة العيش ،وليس لرغبة في المتعة.44 وأعتقد أن كل اإلجراءات التي همت ممارسة الدعارة كانت تروم "تقنينها". ويندرج ذلك في إطار عملية تقنين سائر المهن التي كانت تمارس في مدن أوربا .وبما أن ظاهرة الدعارة وصلت إلى درجة أصبح فيها من الالزم تقنينها ،فيحق اذن الحديث عن ميالد أوربا الدعارة التي الزالت إلى اليوم من بين أكثر الظواهر إثارة للنقاش. )2تراتبية الحرف داخل المدينة ظهرت تجليات الالمساواة بين سكان المدينة في مجال الحرف التي أخذت تمد المدن بقسط مهم من القوة .ففي ايطاليا التي بلغ فيها مستوى تنظيم المهن درجة عليا من الرقي ظهر منعطف حاسم في مجال الحرف تجلى في انقسامها إلى صنفين : حرف كبرى أساسية وحرف صغرى أقل قيمة .وفي مدينة فلورنسا على سبيل المثال كانت الحرف الصغرى كثيرة العدد ،أما الحرف الكبرى فلم يتجاوز عددها إحدى عشرة حرفة ،من بينها خمسة حرف فقط كان يحتكر مزاولتها رجال أعمال تجاوز مجال نشاطهم حدود ايطاليا .فكان منهم المشتغلون في مجال االستيراد والتصدير، والمشتغلون في مجال صرف العمالت ،والمشتغلون في تجارة األصواف ،ومنها الحرير بوجه خاص .كما كان من بين الحرفيين الخمسة الكبار أطباء ،وتجار كبار اختصوا في تجارة مختلف أنواع العقاقير والتوابل التي تجاوز عددها 288نوعا. وقد شكل أعيان المدن ما يصطلح على تسميته تجاوزا "الباتريسيا" ( le .)patriciatواستطاع األثرياء واألقوياء منهم السيطرة على مدن العصر الوسيط. وكان معظمهم من كبار التجار .ورغم ذلك يبدو من غريب الصدف أن تلك المدن لم تستمد ثروتها من النشاط التجاري ،بقدر ما استمدتها من النشاط الصناعي .ويبدو هذا األمر جد واضح في منطقة الفالندر ( )la Flandreالتي تساءل المؤرخ البلجيكي شارل ڤيرالندن ( )Charles Verlindenعن مصدر ثروتها من خالل سؤال بسيط صاغه على النحو اآلتي " :تجار أم نساجون؟" .فخلص ،بعد بحث مستفيض ،الى - 44أنظر على سبيل المثال موقف القديس توما األكويني ( )Saint Thomas d’Aquinالذي لم يجرم الدعارة، واعتبرها نوعا من اإلثم ال بد من اقترافه .ورأى أنه بإمكان الكنيسة قبول صدقة تمنحها مومس ،واالمتناع عن قبول صدقة يمنحها أحدهم من مال مسروق. أنظر النسخة العربية من كتابه "الخالصة الالهوتية" ،ترجمة الغوري بولس عواد ،المطبعة األدبية ،بيروت،1881 ، خمسة مجلدات( .اعيد طبع الكتاب سنة .)2012
117
القول بأن الصناعة هي التي كانت العامل األول في التحوالت الديموغرافية التي شهدتها هذه المنطقة ،وهي التي أفضت إلى نشأة وتطور المدن الفالمانية .وإن التجارة فيها نشأت عن الصناعة وليس العكس. تمثلت الصناعة الوارد ذكرها في صناعة النسيج التي قامت في معظم مدن أوربا .فنشأت عنها أوربا النسيج التي تمخضت فولدت أوربا التجار الذين سيأتي الحديث عنهم الحقا. )3المدينة األوربية ،بابل أم القدس؟ ظل المخيال قويا في أوربا العصور الوسطى رغم أنه اتخذ في معظم األحيان أشكاال رمزية .واحتدم داخل مخيال النخبة المثقفة من رجال الدين بالتحديد صراع حاد خالل القرن الثاني عشر تمحور حول الموقف من المدينة بين الرفض والقبول. وتلخص هذا الصراع شهادتان نموذجيتان لقطبين من أقطاب الفكر الديني هما األسقف سان بيرنار (( )Saint Bernardالمتوفى سنة )1091والراهب فليب هارڤنت (( )Philippe de Harvengtالمتوفى سنة .)1183فقد حدث يوما أن قدم األسقف بيرنار إلى باريس في وقت كانت قد بدأت تعج فيه جامعتها باألساتذة وبطلبة العلم. فصرخ في أوساطهم في إحدى المناسبات قائال " :بادروا بالهرب من بابل ،فروا وأنقذوا أرواحكم .طيروا جميعا نحو المدن الملجأ ،يعني إلى الموناستيرات" .وبعده ببضع عشرات من السنين ،كتب الراهب هارڤنت إلى أحد تالمذته خطابا جاء فيه : "ها أنت في باريس .دفعك حب العلم لالقامة بها .وها أنت وجدتها القدس التي يحلم بها الكثير" .وانطالقا من هاتين الشهادتين يتضح جليا مدى التحول الذي لحق صورة المدينة في المخيال منذ نهاية القرن الثاني عشر .فقد حلت القدس محل بابل رغم أن آفات ونقائص كثيرة ظهرت في المدن ،واستشرت عند نهاية العصر الوسيط. )4المدينة والديمقراطية ت مثل الالمساواة االجتماعية أبرز هذه النقائص .فعلية القوم المؤلفون من التجار واألفراد الممارسون للحرف األساسية الكبرى ،كانوا يشكلون المجالس المشرفة على تدبير الشأن العام في المدن .وكان يقابلهم في الطرف اآلخر عامة الشعب المغلوبين على أمرهم. لم تكن المدن مراكز اقتصادية فقط كما سبقت اإلشارة إلى ذلك ،ولكنها كانت أيضا مراكز انبثق فيها نموذج ديمقراطي ،رغم تزايد عدد الفقراء يوما بعد يوم .وقد اهتم بدراسة هذا الجانب بعض الباحثين ومن بينهم روبيرتو ساباتينو لوبيز الذي قام بمقارنة بين نظم تدبير الشأن العام في المدن األوربية وفي مدن بيزنطة ،ومدن العالم
118
اإلسالمي ،ومدن الصين ،فتوصل إلى خالصة مفادها أن "التجربة الحضرية في أوربا كانت عموما كثيفة وجد متنوعة وذات طابع ثوري وأكثر ديمقراطية من أية تجربة أخرى" .ويمكن التعقيب على هذه الخالصة بالقول بأن المدينة األوربية تمثل محصلة للتطور التاريخي الذي شهدته أوربا .فقد نشأت جميع المدن انطالقا من نواة حضرية وتطورت على نفس المنوال تقريبا في جميع أنحاء أوربا .وتنطبق هذه الحقيقة على المناطق السلتية كما على المناطق الجرمانية ،أو االسكندناڤية ،أو الهنغارية ،أو السالڤية .وإن االندماج التدريجي لجميع هذه المناطق في أوربا ارتبط إلى حد بعيد بثقل المدن .ومن المعطيات التي توضح هذا األمر هو أن ظاهرة التمدن لم تكن على درجة كبيرة من القوة ،كما أن عدد المدن الكبرى كان قليال كلما اتجهنا نحو شرق أوربا ،أو نحو شمالها .وبما أن هذه الظاهرة (أي التمدن) هي من مظاهر النمو والقوة فقد تحققت في جميع الجهات .ولم تشذ عن ذلك سوى منطقتا ايسالندا والفريز ( la )Friseاللتان لم يشملهما هذا التطور الحضري. )5تعريف المدينة والحضري( ساكن المدينة) يجب التنبيه في مستهل ها المبحث بأني سأكتفي في تعريف مدينة العصر الوسيط وساكنها بتبني التعريف الذي اقترحه كل من جاك روسييو ( Jacques 45)Rossiaudوموريس لومبار (.46)Maurice Lombard يعرف جاك روسييو مدينة العصر الوسيط "بكونها ،أوال وقبل كل شيئ ، مجتمع متحرك ومتجمع في حدود مجال ضيق يقع وسط مساحات ممتدة قليلة السكان. والمدينة هي بعد ذلك فضاء لإلنتاج والمبادالت تختلط فيه الحرف بالتجارة اللتان يغذيهما اقتصاد نقدي .والمدينة هي أيضا مركز تسود فيه منظومة قيم خاصة تنبثق منها الممارسة الجادة الخالقة للعمل وحب ممارسة التجارة وكسب المال ،وميل نحو الترف ،وإحساس بالجمال .والمدينة هي كذلك تنظيم لمجال مغلق تحيط به أسوار يمكن النفاذ إليه عبر أبواب تؤدي إلى أزقة وساحات توجد بها أبراج .ولكن المدينة هي - 45أستاذ باحث في التاريخ األوربي الوسيط .حاضر في جامعتي كليرمون -فيرون ( )Clermont-Ferrandوليون الثانية ( ،) Lyon 2واشتهر بالبحث في موضوعي "المدينة" و"الدعارة والجنس" الذين خصهما بعدة مؤلفات من بينها : - Lyon, 1250-1550, réalités et immaginaires d’une métropole, Paris, Champ Vallon, 2012. - La prostitution médiévale, Paris, Flammarion, 1988. - 46مؤرخ فرنسي توفي سنة . 1965تخصص في البحث في التاريخ االسالمي الوسيط ،ولكنه تميز عن جمهور الباحثين في هذا المجال بكونه تناول قضايا دقيقة وجديدة في حقل البحث التاريخي ،عامة والبحث في تاريخ االسالم بوجه خاص ،من قبيل العملة والنقود والمعادن النفيسة وشبكة المبادالت ...ومن أشهر مؤلفاته : - Espaces et réseaux du Haut Moyen Age, Paris, Les Editions de l’Ecole des Hautes Etudes en Sciences Sociales, 1972. - L’Islam dans sa première grandeur, Paris, Flammarion, 1980.
119
أ يضا تنظيم اجتماعي وسياسي يقوم على الجوار ،وفيه ال يتدرج األثرياء ،وإنما يشكلون مجموعة من المتساوين األنداد .يجلسون جنبا لجنب لحكم كتلة كبيرة من الناس الموحدين المتضامنين .وإن هذا المجتمع الالئكي المتمدن بدا وكأنه تخلى عن الزمن التقليدي الذي كانت تضبطه أجراس الكنيسة التي تقرع بانتظام واكتسح زمانا جماعيا تقرع فيه من حين لحين ،وبشكل غير منتظم ،أجراس الئكية تنادي للقيام بانتفاضة ،أو تنادي من أجل الدفاع ،أو من أجل تقديم يد المساعدة". تبدو الصورة التي يقدمها روسييو عن المدينة مثالية لحد ما على اعتبار أن صاحبها ينظر إلى سكان المدينة باعتبارهم مجتمعا متساويا .في حين رأينا فيما مضى كيف أن نخبة هي التي تسيطر وتمارس السلطة وتشرف على جباية الضرائب التي يتجلى فيها اإلجحاف في حق فئات عريضة من السكان ،ما فتأ عددهم يتزايد وبؤسهم يتعمق ويقتضي الحديث فعال عن أوربا البؤس الحضري. ويبدو أن ثمة ما يشفع هذه الصورة المثالية ،ألن النموذج البورجوازي هو في حد ذاته نموذج يقوم على التساوي .ويرمي في كل حال إلى إرساء تدرج أفقي وليس الى تدرج عمودي كما هو الشأن بالنسبة لمجتمع البوادي .ومهما يكن من أمر ،فإن عالم البورجوازية كانت تخترقه أسطورة "المائدة المستديرة" التي تسمح بالحلم بمجموعة من األفراد المتساوين يجلسون سويا حول مائدة مستديرة .وفي هذا الحلم كان ينتفي التدرج باستثناء تميز فرد واحد قائد هو الملك أرثور ( .)Arthurولكن الحلم الوارد ذكره هو حلم أرستقراطي ينشد المساواة بين األرستقراطيين .ولكن المساواة في أوساط البورجوازية لم تكن تستند إلى أية حقيقة في واقع األمر ،ورغم ذلك تبنت البورجوازية هذا النموذج النظري القروسطوي. وإذا كان روسييو قد أحاط بمختلف العناصر التي تسمح بتعريف المدينة ،فكيف يمكن تعريف الحضري أي ساكن المدينة ؟ جوابا على هذا السؤال أحيل القارئ مرة أخرى على نفس الباحث الذي سأعزز تعريفه لساكن المدينة بما أورده موريس لومبار بدوره في الموضوع. يعتبر روسييو "الحضري فردا نموذجيا متفردا عن سائر أفراد العصر الوسيط .ويتساءل ما هي العناصر المشتركة بين البورجوازي والمتسول ،بين الكاهن ( )le chanoineوالمومس وكلهم يحملون صفة حضريين؟ وما هي نقاط االلتقاء بين أحد سكان فلورنسا وأحد سكان مونتبريزون ( )Montbrisonبمقاطعة اللوار؟ فإذا كانت أوضاعهما االجتماعية وأنماط تفكيرهما مختلفة ،فإنهما يقطنان معا المدينة .وال ش ك أن رجل الدين الكاهن قد يلتقي الموس في الطريق .وقد يحدث نفس األمر بين البورجوازي والمتسول .ال يستطيع أحدهم تجاهل اآلخر .وكلهم يعيشون مندمجين في مجال ضيق يقتضي أشكاال من االجتماع غير مألوفة أو معروفة في القرية .ويتبعون
120
نمطا معينا من الحياة .ويستعملون النقود في حياتهم اليومية .كما يضطر بعضهم إلى االنفتاح على العالم الخارجي لضرورات خاصة". وينظر موريس لومبار من جانبه إلى أحد الحضريين وهو تاجر".بأنه عنصر مهم في شبكة تربط بين مختلف المراكز .وهو رجل منفتح على العالم الخارجي، مرهف اإلحساس تجاه التأثيرات القادمة عبر الطرق من مختلف المدن إلى المدينة التي يقيم بها .وإن هذا الرجل يطور وظائفه السيكولوجية على الدوام بفضل انفتاحه على العالم الخارجي". والمحصلة هي أن الحضري فرد يستفيد من ثقافة جماعية تساهم في صياغتها المدرسة ،والساحة العمومية ،والحانة ،والمسرح ،والكنيسة. وكما ساهمت المدينة في تكوين الفرد ،ساهمت في تحرر الرجل والمرأة معا. كما ساهمت في تطور بنية األسرة ،من خالل التحوالت التي طرأت على المهر ،حيث أضحى في الوسط الحضري عبارة عن أموال منقولة ( )des biens meublesأو نقود في األغلب األعم. وتأسيسا على ما تقدم ،يمكن القول بأن المدينة هي شخصية مكونة من أشخاص تعمل دوما على صقلهم .ولذلك ،فإن أوربا الحضرية ال زالت إلى اليوم تحتفظ بخصائص كثيرة أساسية ورثتها عن مدن العصر الوسيط. ثانيا :النجاح التجاري .أوربا التجار إذا كان القرن الثالث عشر قرن المدن ،فقد كان أيضا قرن صحوة وتطور نشاط ارتبط بالمدن ارتباطا وثيقا وهو النشاط التجاري. أ) التاجر االيطالي والتاجر الهانسياتي يندرج انتعاش المبادالت البعيدة المدى منذ القرن الثاني عشر في إطار ما بات يعرف اليوم "بالثورة التجارية" .فقد شهد العالم المسيحي فترة هدوء واستقرار نسبيين. وال مجال هنا لإلنكاربأن الحرب الصليبية كانت واجهة اخفت وراءها مبادالت تجارية نشيطة بين أنحاء العالم المسيحي ظهر في ضوئها قطبان تجاريان مهمان :واحد في البحر المتوسط والثاني في الشمال .فكان على المسيحيين إيجاد موقع لهم بين قطب ذي صبغة إسالمية وقطب ذي صبغة سالڤو -اسكندناڤية .ولذلك تشكلت مجموعتان من المدن التجارية هما مجموعة المدن االيطالية ومجموعة مدن شمال ألمانيا .ومن هنا بزغ نجم التجار االيطاليين والتجار الهانسيين .وقد قامت بطبيعة الحال بين المجموعتين مراكز اتصال تفردت بكونها جمعت بين النشاط التجاري والنشاط
121
الصناعي .وأهم مراكز االتصال المشار إليها قامت في شمال غرب أوربا ،أي في جنوب شرق أنجلترا ،وفي كل من مناطق نورمانديا والفالندر وشامبانيا. ب) التاجر األوربي المتجول عرف التاجر األوربي خالل العصر الوسيط بكونه كان تاجرا متجوال قبل كل شيء ،نظرا للحالة المتردية لشبكة الطرق ،ونظرا لمحدودية وسائل نقل البضائع، ونظرا النعدام األمن ،وربما ،وهنا األهم ،نظرا لثقل المكوس وضرائب حق المرور التي كان يفرضها السنايير والمشرفون على إدارة المدن ،وكل شخص أو طرف تقع قنطرة أو ممر أو معبر في مجال نفوذه .ولعل أهم مكسب تحقق لصالح التجارة البرية خالل القرنين الثاني عشر والثالث عشر تمثل في تشييد عدد من القناطر على بعض األودية .وأشهرها على اإلطالق الجسر المعلق الذي تم انجازه سنة 1237عبر ممر ﯕوثار ( )le Gothardفي جبال األلب ،والذي سمح بتقليص المسافة بين ايطاليا وألمانيا .ورغم ذلك ،كان التجار يفضلون استعمال المجاري المائية .فاستعملوا األنهار ،مثل نهر البو وروافده ،والممر"الروداني" الممتد نحو نهري الموزيل والموز ،وشبكة األنهار الفالمانية التي تم تعزيزها بعدة قناطر اصطناعية وسدود حاجزة .كما استعملوا البحار رغم المخاطر ،التي زادت من تضخيمها الحكايات المتاوترة عن البحر .ويمكن اعتبار العصر الوسيط عصر انبثاق أوربا البحر .وقد واكب هذا االنبثاق تطور بطيء ،ولكن حاسم ،تجلى في زيادة حمولة بعض المراكب، وفي ا نتشار استعمال الدفة والشراع الالتيني ،والبوصلة والخرائط .ولكن هذه التطورات لم تفض في الواقع إلى الرفع من وتيرة التجارة البحرية التي أضحت مع ذلك أقل تكلفة من التجارة البرية. ج) معارض منطقة شامبانيا يمثل انعقاد معارض شامبانيا ابتداء من نهاية القرن الثاني عشر حدثا تجاريا كبيرا .كما يمكن اعتباره احد أبرز مظاهر الثورة التجارية ،والمظهر ذي البعد األوربي يامتياز. كانت هذه المعارض تقام في أربعة مراكز هي النيي ( ،)Lagnyوبارعلى نهر أوب ( ،)Bar-sur-Aubeوبروڤان ( ،)Provinsوتروا ( .)Troyesوكانت تنعقد بشكل متتالي على امتداد السنة على النحو اآلتي :في النيي خالل شهري يناير وفبراير ،وفي بار خالل شهري مارس وأبريل ،وفي بروڤان خالل شهري مايو ويونيو ،وفي تروا خالل شهري يوليوز وغشت ،تم في بروڤان من جديد خالل شهري شتنبر وأكتوبر بمركز القديس أيول ( .)Saint Ayoulثم تنعقد مرة أخرى في تروا
122
خالل شهري نونبر ودجنبر بمركز القديس ريمي ( .)Saint Rémiفبدت وكأنها سوق تجاري كبير ودائم في غرب أوربا .ولذلك كان تجار وسكان المراكز السالف ذكرها يحضون بامتيازات مهمة .كما أن نجاح هذه المعارض عزز سلطات أقماط شامبانيا ،ال ذين اشتهروا بكونهم أحسنوا تدبير تلك التظاهرة التجارية .فكانوا ال يشتطون في فرض الضرائب ،كما حرصوا على حسن سير المعامالت داخل هذه األسواق. وكان يشرف على عمليات تأمين األسواق ومراقبة عمليات البيع والشراء طاقم من التجار في بداية األمر .ولكن ابتداء من سنة 1284أصبح يقوم بهذه المهام موظفون مختصون تابعون للمملكة ،فغدت تلك المعارض بحق عبارة عن مركز للمبادالت .عده البعض بمثابة " نواة مؤسسة مقاصة" ،ألن عمليات تسديد الديون فيها كانت تتم عن طريق المقاصة ( .)la compensationويفيد هذا األمر بأن االقتصاد القائم على المبادالت التجارية ال يمكن أن يتطور إال بدعم من السلطة السياسية وأيضا تحت إشرافها .وقد انتظم النشاط التجاري ،خالل القرنين الثاني عشر والثالث عشر، حول العقود والجمعيات التجاري ولكن صالحية هذه األخيرة ارتبطت بسلسلة محدودة من العقود ولمدة محدودة أيضا .وكان يجب انتظار نهاية القرن الثالث عشر لتظهر مؤسسات تجارية حقيقية. )1مشاكل نقدية كانت هذه التجارة الدولية تقتضي وجود أداة نقدية قوية وقابلة لالنتشار بدل العمالت الفيودالية التي كانت متداولة آنذاك .وقد لجأ األوربيون الستعمال وحدة النقد البيزنطية ،حتى حدود القرن الثاني عشر ،لتحقيق هذا الهدف .ويبدو أن تنامي المبادالت التجارية تجاوز اإلمكانيات التي كان يتيحها استعمال العملة البيزنطية ،فعاد األوربيون لمشروع فكر فيه شارلمان ثم تخلى عنه وهو استعمال الذهب في سك العملة .فتزعمت جنوة هذه العملية منذ سنة ،1252ثم تلتها فرنسا ابتداء من سنة .1266وانخرطت باقي المدن-الدول االيطالية إتباعا في ذات العملية .ورغم اإلقبال الذي حظيت به هذه العمالت من قبل المتعاملين ،فإن تعددها كان في حد ذاته مشكلة حدت من تنامي المبادالت التجارية .فالنظام الفيودالي تميز بالتجزئة ،كما هو معروف. وقد انعكست هذه التجزئة سلبا على عملية التداول النقدي ،التي لم يكن ممكنا أن تتحقق إال بوجود عملة موحدة ،أو بوجود عدد محدود من العمالت على األقل. )2أوربا التجار
123
أخذ عدد التجار المتجولين ،الذين سبق الحديث عنهم ،يتراجع لفائدة التجار المستقرين .كان الواحد من هؤالء التجار يمارس نشاطه بواسطة مجموعة من المحاسبين والوكالء والممثلين ،وعدد من األعوان ،يمكن تسميتهم بالسعاة .كانوا مقيمين خارج منطقة إقامة التاجر المستقر ويتلقون منه التعليمات ،ثم يقومون بتنفيذ تلك التعليمات .ومن هذا المنطلق تنوعت طبقة التجار الذين يمكن التمييز فيهم، اعتمادا على ما أورده الباحث رايمون دي روڤر ) 47)Raymond de Rooverفي الموضوع ،بين فئة المقرضين ،المعروفين في أوساط التجار باسم "اللومبارديين" و"الكاهورسيين" (على اعتبار أن االيطاليين وأثرياء مدينة كاهور( )Cahorsعرفوا في أوساط العموم بكونهم أشهر المانحين للقروض مقابل فائدة) .وكانوا يقدمون قروضا مقابل ضمانات أعلى قيمة من تلك التي يشترطها اليهود المانحين لقروض االستهالك .والى جانب المقرضين ،هناك فئة الصيارفة الذين كانوا يقومون بالعملية المالية األكثر شيوعا في العصر الوسيط نظرا لتعدد العمالت المتداولة .وهناك فئة المشتغلين بالكمبياالت ،الذين كانوا بمثابة تجار بنكيين .وقد كانوا في األصل صيارفة، فأضافوا إلى االشتغال في صرف العمالت ،االشتغال في االستئمان على الودائع واالستثمار في القروض .وبفضل نشاطهم أخذت تنبثق أوربا األبناك. وفي ضوء ما تقدم ،يمكن التذكير بما قيل سابقا ،وهو أن العالم الذي احتضن أنشطة التجار ،كان عالم المدن بصفة خاصة .ورغم أن عددا من تجار ايطاليا كانوا ينتمون إلى ما يعرف "بالشعب" ،فالواقع أن أوالئك التجار كانوا يتألفون من شريحتين تبعا لثرواتهم ونفوذهم السياسي .وقد كانت هذه الحقائق االجتماعية ذات قيمة كبرى وأهم من التمايز القانوني .والدليل على ذلك هو أن حق انتماء الفرد للبورجوازية لم تكن له قيمة قياسا مع الثروة والدور االقتصادي والسياسي داخل المدينة .وهذا ما يذهب إليه أيضا الباحث إيف رنووار ) )Yves Renouardحين يؤكد "بأن الهيمنة السياسية لرجال األعمال أفضت إلى إرساء نظام طبقي" .48وتجلت هذه الهيمنة في عدة أوجه .فقد استفادوا من انتشار العمل مقابل أجر في أوساط العمال الحرفيين - 47مؤرخ من أصل بلجيكي حمل الجنسية األمريكية .ولد سنة 1904وتوفي سنة .1972حاضر في تاريخ أوربا الوسيط بجامعتي هارڤارد وشيكاﯕو ،وكذلك بكوليج بوسطن وكوليج بروكلين. اشتهر بالبحث في التاريخ االقتصادي عامة ،وبالبحث في المبادالت التجارية والمؤسسات المالية بشكل خاص .ومن بين مؤلفاته ← : - Money, banking and credit in medieval Bruges, Cambridge, Medieval Academy of America, 1948. - L’évolution de la lettre de change, XIVe-XVIIIe siècle, Paris, Les Editions de l’Ecole des Hautes Etudes en Sciences Sociales, 1953. - 48لمزيد من التفاصيل يمكن االطالع على كتاب رنووار : Les hommes d’affaires italiens au Moyen Age, Paris, A. Colin, 1949.
124
والعمال الصناعيين ،فهيمنوا على سوق الشغل عن طريق تثبيت األجور .كما هيمنوا على سوق العقار ألنهم كانوا مالكين للعقارات ومنعشين عقاريين في نفس الوقت. وفضال عن ذلك ،سمح لهم انتماؤهم لمجالس المدن بممارسة تأثير في النظام الجبائي الذي أرادوه أن يكون مجحفا وغير عادل لكي يستمر التمايز االجتماعي .ويمكن االستدالل على ذلك بنص من كتاب وضعه رجل القانون فليب دو بومنوار ) ،(Philippe de Beaumanoirفي النصف الثاني من القرن الثالث عشر ،يسلط الضوء على جذور الالمساواة في أوربا الحضرية يقول فيه " :لقد رفعت تظلمات كثيرة في مدن الكمونات في موضوع ضريبة الرأس ) .)la tailleألنه اتضح أن األغنياء الذين يشرفون على تدبير شؤون المدينة يصرحون بأقل مما يتوجب عليهم دفعه ،هم وذووهم .ويساعدون األغنياء اآلخرين في االستفادة من نفس االمتيازات. وهكذا يقع كل الثقل على البسطاء من الناس" .49لقد كان التنصل الضريبي قويا، بحيث كانت تترتب عنه فضائح كبرى من حين آلخر .كما حدث في مدينة آراس ) )Arrasعلى سبيل المثال ،حيث إن أحد أفراد أسرة "الكريسبيين" ))les Crespin الشهيرة بمزاولتها لألعمال المصرفية "تناسى" بأن يصرح بمبلغ أرباح قيمته 000 20ليرة .وهو األمر الذي يستحق القول بأن أوربا التملص الضريبي ،قد انطلقت فعال. )3مبرر وجود النقد كان ينظر الى كل تاجر في بداية األمر ،وخالل القرن الثاني عشر أيضا، كشخص يمارس الربا بشكل أو بآخر .ومثل هذا النشاط كانت تدينه الكنيسة .ولكن حين انحصر العمل الربوي في أوساط اليهود ،وتقوت سلطة التجار ،أخذت الكنيسة تبرر شيئا فشيئا األرباح التي كان يجنيها التجار .ولكنها لم تضع حدا واضحا بين األرباح المشروعة واألرباح غير المشروعة .وتتضمن المبررات التي قدمتها الكنيسة عناصر ذات صلة بتقنيات التجارة نفسها .من ذلك مثال ،أن الكنيسة أجازت للتاجر الذي لحقه ضرر من جراء تأخير في استالم بضاعة ،أو ما شابه ذلك ،الحق في المطالبة بتعويض. وعموما ،فإن تلك المبررات تسمح بالقول بأن ممارسة التجارة أدخلت في أذهان األوربيين وأخالقهم مبادئ جديدة مثل الصدفة ،والمخاطر ،وعدم اليقين .كما أدخلت مبدءا مهما ،سيتم التوقف عنده بعد حين ،هو مبدأ تبرير ،أو شرعنة ،الربح الذي يجنيه - 49النص الذي نقله جاك لو ﯕوف ورد في كتاب " "Coutumes de Beauvaisisالذي حققه وقدم له أميدي سلمون ) ،)Amédée Salmonوصدر بباريس في جزئين سنتي 1889و .1890والكتاب من وضع فليب دو بومانوار الذي ولد سنة 1250وتوفي سنة .1296شغل منصب "بايي" ( )Bailliفي عدة مقاطعات بغالة ،زمن حكم الملك سان لويس. فاستغل تجربته في التدبير واالشراف على شؤون القضاء في وضع المؤلف المذكور ،الذي يقع في أكثر من ألف صفحة موزعة على 70فصال تعرض فيها للقوانين واألعراف التي كانت تنظم المعامالت بين األفراد.
125
التاجر .إذ أصبح ينظر إلى هذا الربح كأجر أو كراتب يتقاضاه التاجر مقابل عمل يقوم به .وساهم أقطاب الفكر المدرسي "السكوالتي" بدورهم في الترويج لفكرة مفادها أن أعمال التجار تروم تحقيق المنفعة العامة .وتندرج في هذا السياق تصريحات بعض علماء الالهوت ،أمثال بوركهارد الستراسبورغي Burchard de) Strasbourg)50 وتوماس الشوبهامي ) .51)Thomas de Chobhamفقد صرح األول يوما بقوله : "إن التجار يعملون من أجل منفعة عموم الناس ،ولما فيه خير الجميع بحملهم البضائع إلى األسواق والمعارض" .بينما أكد الثاني " :بأن الفاقة ستكون عظيمة في عدة دول إن لم ينقل التجار ما يزيد عن الحاجة من بضائع إحدى الجهات إلى جهة أخرى تحتاج إليها .وعلى هذا األساس فهم يستحقون الحصول على راتب مقابل عملهم" .وفي ضوء هذه المواقف يتضح اذن بأن التجارة الدولية أضحت ضرورة يريدها هللا وتنسجم تماما مع قدرته. وكان من نتائج تعاظم الهالة التي أصبحت تحيط بالتجار ،وتزايد نفوذهم ،أن تغيرت مواقف عموم األوربيين .فغدت النقود أساس وقوام المجتمع .ورغم ذلك لم يبد التجار أية معارضة منهجية لمنظومة قيم أفراد األرستقراطية .بل حاولوا تقليدهم في نمط عيشهم والظهور بمظهرهم .وقاموا أيضا باقتناء األراضي التي اعتمدوا في استثمارها على الفالحين على غرار ما كان يقوم به أفراد األرستقراطية .وأنفقوا جانبا من ثرواتهم النقدية في أعمال البر واإلحسان كتقديم الصدقات واألعطيات ،وبناء مراكز صحية في الحواضر .وكانوا يبتغون من وراء تلك األعمال التكفير عن ذنوبهم أمال في الحصول على الخالص الذي ظلت الكنيسة حتى حدود القرن الثالث عشر ترفض منحه للمشتبه في مزاولتهم ألعمال الربا. وفي ذات السياق ،ال بأس من إثارة انتباه القارئ إلى مسألة أراها على جانب من األهمية ،وهي أن عددا من التجار انخرطوا منذ القرن الثالث عشر في عمليات تشييد كنائس جديدة .وأغدقوا األموال على الرسامين والنحاتين لزخرفتها وتزيينها. ويمكن هنا ذكر ما قام به بعض تجار فلورنسا الذين قدموا مبلغا ماليا مغريا للفنان الشهير جيوتو) )Giottoنظير زخرفة وتزيين بعض كنائس المدينة .فكانوا أول نفر من الناس امتلكوا حس الجمال في هذا الوقت المبكر .وهو األمر الذي يدعو للحديث عن نوع من التحالف الغير منتظر بين المال والجمال.
- 50رجل دين من أصل فرنسي .كان يشغل منصب موثق في قصر االمبراطور فردريك األول بربروسا الذي أرسله سنة 1175مبعوثا الى القاهرة ودمشق إلبرام معاهدة صلح مع صالح الدين األيوبي. - 51رجل دين أنجليزي ولد سنة 1160وتوفي بين سنتي 1233و .1236درس الالهوت والقانون بباريس .واشتهر بالبحث في التشريع الجنائي الذي وضع فيه مؤلفا رأى فيه الباحثون المحدثون نوعا من "مدونة عقوبات".
126
وفي ضوء تنامي المبادالت التجارية ،ال يمكن إغفال الحديث عن تطور تقنيات التجارة ،وخاصة منها ما له صلة بالكتابة التي أضحت أداة أساسية في عمل التجار والمشتغلين بالصيرفة .واقتضت منهم ،بطبيعة الحال ،تحسين مستواهم الثقافي. فظهرت ،في سياق هذا الطلب ،مؤسسات تقدم دروسا في مجال تحرير الفواتير والعقود والمستندات وما شاكلها ،والحساب والجغرافيا واللغات الحية .وتبدو عملية الكتابة ،أو التحرير ،ضرورية إذا ما علمنا بأن أحد تجار جنوة لم يفته أن ينبه زمالئه بضرورة تدوين كل صغيرة وكبيرة قبل أن يطالها النسيان .وعاد تاجر فلورنسي، عقودا بعد ذلك ،ليؤكد بدوره ضرورة أال يتكاسل التاجر في تدوين ما يقوم به من أعمال .بل إن بعض المنتمين ألوساط التجار لم يكتفوا بإسداء النصح لزمالئهم ،بل تجشموا عناء وضع مؤلفات في مجال تقنيات التدوين والحساب كما هو الشأن بالنسبة لاليطالي ليوناردو فيبوناتشي ) )Leonardo Fibonnacciالذي وضع مصنفا في علم الحساب سنة .1202فقد كان ابن أحد البيزويين الذي عمل ضابطا جمركيا لحساب جمهورية البندقية في بجاية بشمال إفريقيا .فترعرع ابنه ليوناردو في مدينة بجاية .ولما شب سافر كثيرا في مهام لحساب أبيه .واختلط خالل أسفاره إلى مصر وسوريا وجزيرة صقلية بالتجار المسلمين .فتعلم كثيرا من مبادئ الرياضيات العربية التي نقلها العرب عن الهنود .ونقل إلى األوربيين األرقام العربية ،وأهمها الصفر الذي يعد ابتكارا أساسيا في الترقيم ،كما نقل كثيرا من القواعد التي تقوم عليها بعض العمليات الحسابية. وعلى كل ،فعند انصرام القرن الثالث عشر حقق التجار مكسبين مهمين ،كانا حتى ذلك التاريخ يبدوان متقابلين ،وهما الرفاه المادي واالستقرار الروحي .فقبل ذلك، كانوا يجنون األموال ،ولكنهم كانوا يتعذبون .فالصرة التي كان يضع فيها كل واحد منهم تلك األموال ويربطها حول عنقه ،كانت تبدو كطوق يجذب منه نحو جهنم .وقد جسدت هذا المشهد كثير من الرسومات والجداريات .أما بعد القرن الثالث عشر،أصبح بمقدورالتاجراالحتفاظ بتلك األموال واالنتقال بها الى المطهر )،52)le purgatoire
- 52يعتقد المسيحيون الكاثوليك بأن المسيحي المؤمن التقي يذهب الى الجنة بعد الممات ،بينما يذهب الكافر وكثير الذنب الى جهنم .وهناك فئة من المؤمنين القليلي الذنوب يحتاجون بعد الممات ،وقبل مالقاة ربهم ،الى عملية تطهير تتم في مطهر عبر عذاب موقوت للتخلص من تلك الذنوب قبل دخول الجنة. وبما أن الكتاب المقدس ال يتضمن نصوصا صريحة تتحدث عن التطهير ،فقد اختلف المسيحيون القدامى والمحدثون حول المطهر بين قائل بأنه "فضاء" بين السماء وجهنم ،وقائل بأنه "حالة انتظار" قبل الحصول على الغفران. لمزيد من التفاصيل يمكن العودة الى الكتابين التاليين على سبيل المثال ال الحصر : - Jacques Le Goff, La naissance du purgatoire, Paris, Gallimard, 1981. - Guillaume Cuchet, Le purgatoire. Fortune historique et historiographie d’un dogme, Paris, Les Editions de l’Ecole des Hautes Etudes en Sciences Sociales, 2012.
127
ليمكث به فترة قصيرة أو طويلة ،قبل أن يستكمل طريقه نحو الجنة .وبذلك نجح التجار في إحداث المصالحة بين "الصرة والحياة". )4االيطاليون والهانسيون اقتسم شعبان السيطرة على تجارة القرن الثالث عشر وهما االيطاليون ،الذين سيطروا على تجارة البحر المتوسط ،واأللمانيون الذين سيطروا على تجارة المجال الممتد من الجزر البريطانية ومنطقة الفالندر حتى بحر البلطيق .وإذا كان التجار االيطاليون قد تمكنوا من التواجد بكثافة في العالم البيزنطي ،وعلى أطراف العالم اإلسالمي ،وسجلوا حضورا في منطقة الفالندر ،فإنهم لم يستطيعوا مع ذلك بلوغ مستوى التوسع الذي حققه التجار الهانسيون .وال غرو في ذلك ،فالتجار الهانسيون هم ورثة تجار العصر الوسيط األعلى ،وخاصة منهم ،الفريزيون والفالمانيون .لكنهم تميزوا عنهم بدينامية أكبر وباالتجار في بضائع أكثر كمية .ولذلك تراجعت تييل ) )Tielالواقعة على دلتا نهرالراين منذ القرن الثاني عشر لصالح أوتريخت. وأصبحت محج التجار الفالمانيين والفريزيين ،باإلضافة إلى التجار الرينانيين ( les ) Rhénansوالسكسونيين والدانيين والنرويجيين .بينما أضحت مدينة بروج أهم مركز تجاري في األراضي المنخفضة .وكان هؤالء التجار يقومون بعمليات استيراد وتصدير لمواد متنوعة مثل خمور مناطق الراين ،التي كانت تنافس الخمور الفرنسية، وبعض األدوات المعدنية ،واألحجار الكريمة ،واألقمشة الفارهة ،والدروع. ورغم ما قيل في حق هؤالء التجار ،فقد فاقهم تجار مدينة كلونيا ))Cologne الذين كانوا يعرضون بضائعهم في أسواق الجزر البريطانية غربا ،وفي أسواق الدانمارك شرقا .ويبدو أنهم حققوا نجاحا منقطع النظير في األسواق البريطانية بدليل أنهم منحوا حق المقام بمدينة لندن منذ سنة .1130ووضعت رهن إشارتهم إقامة على ضفاف نهر التاميز) )la Tamiseإلى األعلى بمحاذاة قنطرة لندن .وقد حولوا تلك اإلقامة إلى مركز أعمال .ولم تكد تمض بضع سنوات على استفادتهم من هذا االمتياز حتى منحهم الملك هنري الثاني حماية خاصة سنة .1157 وانضم البحارة-الفالحون المنحدرون من جزيرة ﯕوتالند ) )le Gotlandإلى هذه الحركة التجارية ،فسيطروا على تجارة بحر البلطيق ،وساهموا في إثراء مدينة نوڤﯕرود ) )Novgorodرغم وجود بعض التجار الروس في هذا المجرى المائي. ويبدو أن النمو المطرد الذي شهدته المدن خالل القرن الثالث عشر أفضى إلى تغير المشهد التجاري بشكل الفت ،حيث ظهر إقليم الهانس األلماني على الواجهة. وسرعان ما تنامى دوره التجاري في ارتباط وثيق مع تطور حركة التمدين .وقد خلص الباحث فليب دولنجر ) )Philippe Dollingerالذي تناول حيثيات هذه
128
التحوالت التي برزت تحت تأثير تجار المدن الهانسياتية وفق مخطط صاغه كما يلي : "لقد ساهمت هجرة عدد من الفالحين والحرفيين في تزايد عدد سكان المدن ،وخاصة منها تلك التي كانت تحتل موقعا متميزا .كما كان يقيم بها عدد من التجار .وكان يوجد في هذه المدن المحصنة حي خاص بالتجار ،وكذلك مركز إداري قديم يشرف عليه مجموعة من رجال الدين ،أو مجموعة من الالئكيين .وفي هذه المدن كانت كل المعامالت العقارية والتجارية تنظم وفق منظومة قانونية موحدة وخاصة بالمدينة. وفضال عن ذلك ،كانت تقيم في هذه المدن جالية مؤلفة من البورجوازيين تكونت وفق ميثاق .وكان التجار المنضوين أحيانا في جمعيات ( )des guildesيهيمنون على هذه الجالية .وقد استطاعت األسر الثرية االستحواذ على اإلدارة في هذه المدن التي تمكنت من تحقيق هامش كبير من االستقاللية عن السنيور المحلي .ونشأت فيها بالتدريج مؤسسات إدارية يتحكم في تسييرها البورجوازيون".53 يجب التأكيد في سياق هذا النسق الذي اقترحه دولنجر على أهمية مسألة تكوين منظومة قانونية حضرية (خاصة بالمدينة) التي شرع في صياغتها منذ مطلع القرن الثالث عشر .واعتبرت المنظومة القانونية الخاصة بمدينة دورتموند )(Dortmund نموذجية بالنظر لتأثيرها في القوانين المتبعة في كثير من مدن منطقة وستفاليا ،التي كان المتعاملون فيها يلجأون إلى محاكم ومؤسسات دورتموند للبث في القضايا التي يستعصي البث فيها من قبل محاكم ومؤسسات مدنهم .والجدير بالذكر في هذا المقام هو أن قوانين عدة مدن ألمانية مثل ﯕوسالر ( )Goslarوماﯕدبورﯕ ( )Magdebourgأضحت فيما بعد تؤلف "القانون األلماني". ولعل أهم حدث يجب التوقف عنده ،يتمثل في تشييد مدينة لوبيك ()Lñbeck سنة 1159من قبل أدولف الثاني قمط هولشتاين وفصل ( )vassalهنري األسد دوق سكسونيا .والحقيقة أن أهمية الحدث ال تكمن في تأسيس المدينة ،وإنما في كون القمط أسند عملية تشييدها وإدارتها إلتالف مكون من عدة مقاولين .فغدت عقب تشييدها على رأس إمبراطورية حضرية وتجارية تسمى الهانس ( .)la Hanseوإن عددا مهما من تجار هذه المدينة هم الذين أسهموا بشكل فعال حتى منتصف القرن الثالث عشر في ثراء جزيرة ﯕوتالند ،وفي ثراء تجارها ،ألنهم أقاموا بها مدة من الزمن .وبذلك قدر لمدينة لوبيك أن تتجاوز كثيرا مدينة ڤيسبي ( )Visbyالتي كانت تعد إحدى أهم مدن جزيرة ﯕوتالند .وأخذت مكانها كأهم مركز في تجارة شمال أوربا .وتجسد هذا الدور المتنامي في كون تجارها أصبحوا يستعملون مراكب بحرية ضاهت حمولتها حمولة - 53يمكن العودة فيما يتعلق بتفاصيل هذا المخطط لكتاب دولنجر : La Hanse (XIIe-XVIIe siècles), Paris, Aubier, 1964.
129
المراكب االيطالية .وسيطروا على شبكة تجارية وبحرية تربط بين مدن قوية مثل روستوك ( )Rostockوسترالسوند ) )Stralsundوستيتين) )Stettinودانتزيﯔ ) )Dantzigوإلبينك ) .)Elbingوعمل التجارالنشطون في هذه الشبكة على ضم جهودهم لجهود طا ئفة الفرسان التوتونيين األلمان في التوسع والتنصير في بروسيا وفي غيرها. ويبدو أن نشاط تجار لوبيك ،والتجار األلمان بشكل عام ،خلق ظروفا مالئمة ساعدت على إنشاء عدة مدن من بينها مدينتي ستوكهولم في السويد وبيرجن ( )Bergenفي النرويج .ولم يقتصر نشاطهم على مناطق الشمال ،بل قاموا بدور رائد في تجارة مناطق الغرب .فقد وصلت مراكبهم إلى مرافئ أنجلترا التي حظوا لدى ملوكها بمكانة خاصة .فقد منحهم الملك هنري الثالث حق تكوين جمعيات ،أوعصب "الهانس" على شاكلة العصب التي كونها تجار كلونيا ( .)les Colonaisوكانت عملية تشكيل هذه الجمعيات مناسبة ظهر فيها ألول مرة مصطلح "الهانس" الذي تأكد استعماله أكثر بعد تأسيس عصبة المدن. وبالموازاة مع النجاحات المتتالية التي حققتها المدن الهانسية ،كانت مدينة بروج تجتهد بدورها في إيجاد موقع لها في تجارة هذه الحقبة التاريخية .وقد تحقق لها ذلك فعال فغدت مركزا تجاريا مهما في الغرب يفد إليه التجار األنجليزيون وااليكوسيون وااليرلنديون يحملون كميات من األصواف كانت مصانع النسيج في حاجة إليها .كما كان يفد إليها التجار الهولنديون والفريزيون بواسطة مراكب محملة بالدواب .ولم يتردد في الوفادة إليها تجار جنوب فرنسا يحملون كميات من الخمور .وانضم إليهم التجار االسبانيون والبرتغاليون محملين بكميات من أصواف وفواكه مناطق جنوب أوربا. ونظرا لقرب المسافة بين ايطاليا ومدينة بروج ،آثر التجار االيطاليون االنضمام إلى التجار الذين كانوا يحطون الرحال بمدينة بروج بدل المتاجرة في أسواق منطقة شامبانيا .وهكذا ساهموا في تحويل بروج إلى مركز تجاري عالمي .فأخذت مراكب تجار جنوة والبندقية ،المحملة بالتوابل ،تحط الرحال بها إتباعا. وانطالقا من المعطيات التي يتضمنها هذا المبحث ،يتضح بأن تجارة القرن الثا لث عشر ،التي جعلت المراكب البحرية تجوب الموانئ الممتدة بين ايطاليا ومنطقة الفالندر وبحر البلطيق ،أفضت إلى تشكل اقتصاد عالمي أوربي ( une économie .)monde européenne ثالثا :النجاح المدرسي والجامعي
130
إذا كان القرن الثالث عشر في أوربا هو قرن المدن والتجارة ،فقد كان كذلك، قرن المدارس والجامعات .فقد خلق تنامي قوة البورجوازية في الحواضر المناخ المالئم لتأسيس مدارس "ابتدائية وثانوية" تضاعفت أعدادها منذ القرن الثاني عشر. أرست هذه المدارس قواعد التعليم في أوربا .ولكن الحدث المثير لالنتباه ،الذي دشن تقليدا تربويا حيويا ال زال مستمرا إلى اآلن ،يتمثل في إنشاء مدارس "للتعليم العالي" تسمى بالجامعات .لقد كانت تلك المدارس تحمل عند نهاية القرن الثاني عشر إسم " ستوديوم عام" ( )studium generaleأي مدرسة عامة .وتفيد هذه التسمية ،بأن األمر يتعلق بمؤسسة عليا تقدم تعليما موسوعيا. تم تشييد هذه المؤسسات في خضم العمليات الكبرى التي كانت تروم تنظيم الحرف في المدن .وقد انتظمت بدورها في طوائف كباقي الحرف واتخذت كل واحدة منها اسم الجامعة ،الذي يعني الطائفة أو الهيئة .وظهر هذا اإلسم ألول مرة سنة 1221في باريس للداللة على طائفة ،أو هيئة ،المعلمين والطلبة الباريسيين (.)universitas magistrorum et scolarium وال بد من تنبيه القارئ إلى مسألة ذات قيمة ،أغفل التاريخ التأكيد عليها ،وهي أن الهيئات الجامعية اتبعت في تطورها خالل العصر الوسيط مساران مختلفان يسمحان بالحديث عن نموذجين :النموذج الباريسي الذي كان فيه األساتذة والطلبة يؤلفون هيئة واحدة .والنموذج البولوني الذي كان فيه الطلبة لوحدهم يؤلفون الجامعة. وإن النموذج الباريسي هو الذي قدر له أن يستمر إلى يومنا هذا. وتكاد مسيرة األستاذ الجامعي في أوربا القرن الثالث عشر تشبه مسيرة التاجر. فقد كان التاجر متهما بكونه يبيع الوقت الذي يدخل في ملكية هللا وحده .بمعنى أنه يجني أرباحا وفوائد حتى وإن كان نائما .وتغير الموقف خالل القرن الثالث عشر. فأصبح ينظر إلى تلك األرباح بكونها مستحقات عن عمل مفيد يقوم به .وعلى غرار التاجر ،كان ينظر إلى األستاذ خالل القرن الثاني عشر بكونه يبيع المعرفة التي ال يمتلكها إال هللا ،ثم تغير الموقف في القرن الثالث عشر ،فأصبح ينظر إليه بكونه يقدم دروسا للطلبة ويتلقى مبلغا ماليا نظير تلك الدروس .ومن هذا المنطلق يمكن الحديث عن ميالد أوربا العمل الثقافي إلى جانب أوربا العمل التجاري. كان األستاذ الجامعي يلقن الدروس كما كان يقوم بعمل التفكير والكتابة ،أي يقوم بما ننعته اليوم بالبحث العلمي .كما أكتسب عدد من األساتذة شهرة بانخراطهم في النقاشات والحوارات التي كانت تدور آنذاك حول قضايا اجتماعية وسياسية من قبيل قضية تسول رجال الدين ،أو قضايا السلطة ،وقضية فرض ضرائب من قبل الكنيسة. فأضاف هؤالء األساتذة إلى مهامهم "كمحاضرين" وباحثين ،مهمة أخرى أضحت منذ
131
القرن التاسع عشر "من اختصاص" المثقفين عموما .وهذا األمر بالذات هو الذي يدعو إلى نعت األساتذة الجامعيين "بمثقفي العصر الوسيط". كان األساتذة الجامعيون يزاولون مهامهم تحت إشراف رؤساء الجامعات المنتخبين من قبل األساتذة أنفسهم .وكان أساتذة كل مؤسسة جامعية يعملون تحت رقابة مستشار يعينه ،في األغلب األعم ،أسقف المدينة الذي تقع بها الجامعة. وتراجع ،مع مرور الوقت ،دور األساقفة .،وأصبح األساتذة يعملون بشكل مستقل تقريبا عن سلطة األساقفة ،وعن السلطات الحاكمة في المدن ،وأيضا عن سلطات الممالك .وبالمقابل ظلوا يخضعون لسلطات الكنائس على اعتبار أن الجامعات كانت تابعة للكنائس .ولكن تلك السلطات كانت من وجهة نظر عملية ذات تأثير محدود بوجه عام ،أو ذات تأثير نظري في أحسن األحوال .كما تجلى ذلك مثال سنة 1270وسنة ،1277حين حاول أسقف باريس معارضة توما األكويني ()Thomas d’Aquin الذي تبنى بعض األفكار التي تتضمنها نظرية الحقيقة المزدوجة التي صاغها ابن رشد من خالل قرائته ألرسطو ،والتي تعني في سياق مسيحي بأن هناك حقيقة دوغمائية يمثلها الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ،وحقيقة منبثقة عن العقل يمكن أن تكون موضوع تدريس وبحث ،رغم كونها متعارضة مع حقيقة الكنيسة. ال بأس من االشارة على هامش هذه المسألة الى أن أرسطو "كان رجل" الجامعات خالل القرن الثالث عشر ،وخاصة في جامعة باريس .ورغم أن مؤلفاته في المنطق كانت مترجمة إلى الالتينية منذ فترة طويلة ،فإنها لم تحظ بأي اهتمام حتى القرن الثالث عشر .وقد تم حظر تدريسها في الجامعات في بداية األمر ،ولكن الطلبة أقبلوا ،مع ذلك ،على تداولها .وبعد منتصف القرن الثالث عشر غدت موضة .فأفضى ذلك إلى ظهور ما يعرف باألرسطية الالتينية التي انتشرت في مختلف الجامعات لفترة تزيد عن العشر سنوات بفضل الجهود التي بذلها توما األكويني .ثم تعرضت للحصار من قبل بعض األساتذة المتشبثين بالفكر التقليدي ،واألساتذة "الحداثيين" المتشبثين بفكر أقل عقالنية .وأخذ الفكر األرسطي في األخير في التراجع ألنه اعتبر عائقا أمام تطور العلم الذي أضحى تجريبيا أكثر ،وقابال ألن يكون موضوع نقاش منفتح. ومهما يكن من أمر ،فبالعودة للحديث عن الجامعات ،نقول بأنها كانت تتألف، تبعا للمواد المدرجة ضمن برامجها ،من أربع كليات في األغلب األعم .وقد يحدث أن تشتهر كلية بعينها من بين كليات الجامعة الواحدة .فقد اشتهرت كلية الحقوق في جامعة بلونيا ( )Bologneعلى حساب الكليات األخرى .كما اشتهرت كلية الالهوت في باريس على حساب الكليات األخرى .ونفس الشيء ينطبق على جامعة مونبوليي التي اشتهرت فيها كلية الطب دون غيرها من الكليات .وقد أفضت شهرة إحدى كليات الجامعة على حساب الكليات األخرى إلى حدوث نوع من التدرج بين الكليات ،زادت
132
من حدته طبيعة البرامج والمقررات المدرسة في كل كلية .فكليات الفنون التي كانت تدرس فيها فنون "نظرية" كالنحو ،بفروعه ،والبالغة وفنون "عقلية" كالهندسة والفلك والموسيقى كانت أكثر اكتظاظا .وكان يؤمها غالبا طلبة أقل ثراء وأكثر شغبا .وتأتي في مرتبة أعلى منها نسبيا كلية الحقوق التي كان يتم فيها تدريس القانون بفرعيه : القانون المدني والقانون الديني .وفي مرتبة أعلى منها كلية الطب التي كان طلبتها يتلقون دروسا في علوم الطب غلب عليها آنذاك التعاطي مع المؤلفات ،والطابع النظري أكثر من الطابع التطبيقي .وتقع في الهرم كلية الالهوت المتخصصة في العلوم الدينية. كانت جامعة بلونيا ) )Bologneهي أول جامعة فتحت أبوابها أمام الطلبة .وقد منح اإلمبراطور فردريك األول بربروسا أساتذتها وطلبتها امتيازات منذ سنة ،1154 رغم أنها لم تتلق نص نظامها األساسي من البابا لتشتغل رسميا إال سنة .1252وعلى غرار جامعة بلونيا ،لم تتوصل جامعة باريس بنص نظامها األساسي من البابوية إال سنة .1215وقد منح الملك فليب أغسطس ألساتذتها وطلبتها امتيازات سنة .1200ثم منحها البابا ﯕريﯕوار التاسع ( )Grégoire IXشهادة مختومة تشيد بها وبالمستوى الذي بلغته بها علوم الدين. أما جامعات أكسفورد وكامبريدج ومونبوليي ،فقد تم تشييدها في السنوات األولى من القرن الثالث عشر .بينما تم تشييد جامعة نابولي سنة ،1224وجامعة لشبونة سنة .1288وانخرطت البابوية بدورها في مسلسل تشييد الجامعات. فخصصت منشأة بحضيرة الفاتكان اتخذت كجامعة .وفي نفس السياق تم تأسيس جامعة سلمانكا ،ولكن ليس دفعة واحدة ،وإنما عبر مراحل .واستفاد أساتذتها وطلبتها بامتيازات من قبل الملك ألفونس العاشر .وخصصت بها عدة كراسي علمية لتدريس القانون الديني والمنطق والنحو والفيزياء والطب. وتعتبر جامعة تولوز المؤسسة الوحيدة التي شدت عن المؤسسات الجامعية األخرى فيما يتعلق بحيثيات نشأتها .فقد فرضت البابوية تشييدها في سياق حربها ضد الحركة النقطيرية التي سبق الحديث عنها .وواكبت عملية تشييدها حملة دعائية واسعة في سائر أنحاء العالم المسيحي تشيد بها وبالمدينة التي أقيمت بها .وقد أثارت تلك الحملة امتعاض سكان تولوز الذين رأوا بأن الجامعة ستتخذ كوسيلة لفرض هيمنة الشماليين على سكان جنوب فرنسا .والغريب في األمر أن علوم الدين لم تجد لها مكانا في هذه المؤسسة التي تطورت فيها علوم القانون. ومهما يكن من أمر ،فإن أهم المستجدات التي شهدتها جامعات القرن الثالث عشر ،والتي ورثتها جامعات أوربا خالل القرون الموالية ،تمثلت في حق األساتذة والطلبة في خوض إضرابات .ولعل أشهرتلك اإلضرابات ذلك الذي خاضه أساتذة
133
وطلبة جامعة باريس لمدة سنتين بين 1229و .1231ويتمثل المستجد الثاني في استفادة األساتذة والطلبة من عطلة لمدة شهر في فصل الصيف .ويمكن إدراج مستجد ثالث إلى هذه القائمة ويتمثل في حق األساتذة ،والطلبة أيضا ،في االنتقال من مؤسسة جامعية إلى مؤسسة أخرى قريبة أو بعيدة في سياق وحدة العالم المسيحي ووحدة المعرفة .ويفيدنا المؤلف في هذا السياق بالذات بأن عددا من األساتذة األلمان وااليطاليين كانوا يدرسون بجامعة باريس. ويبدو أن أهم مستجد يستدعي التوقف ،هو كون جامعات العصر الوسيط كانت تمنح طلبتها المتفوقين شواهد علمية موحدة شكلت قاعدة صلبة ألوربا المستقبل .كان الطلبة يحصلون على عدة شواهد نظرا لطول مدة الدراسة الجامعية ،التي كانت تنتهي مبدئيا بعد إحدى عشرة سنة من التحصيل بالحصول على شهادة المتريز في علوم الدين التي عدت وقتها أشهر الشهادات .وكان من الممكن أن يحصل عليها أبناء النبالء ،وأبناء الفقراء .فكم من طالب ينحدر من أسرة فالحين أصبح بعد التحصيل أستاذا جامعيا .ويسوق المؤلف في هذا الشأن نموذج روبيردوسوربون ( Robert de )Sorbonالذي كان ابن فالح اقتحم الجامعة وتخرج منها وغدا شهيرا في عصره. فكسب ود الملك سان لويس الذي أغدق عليه بسخاء ،فأنفق جانبا من تلك األموال في تشييد كوليج السوربون الشهير الذي كان في البدء مؤسسة متواضعة. وإذ أمكن لصاحبنا إتمام دراسته رغم وضعيته المادية الصعبة ،فكثير هم الطلبة الذين لم يستطيعوا القيام بذلك ،أو غادروا الجامعة بعد سنة أو سنتين .ألن مدة الدراسة كانت طويلة ،وألن الجامعات كانت تقع في المدن حيث يضطر الطالب إلى صرف مبلغ مالي نظير إيجار غرفة ،ونظير اقتناء ما يحتاج إليه من مأكل وغيره .وكان هذا المبلغ يتزايد كل سنة بسبب ارتفاع األسعار. وكان من حسن حظ بعض الطلبة النجباء ،المنحدرين من أوساط فقيرة ،أنهم كانوا يجدون بعض المحسنين الذين يقدمون لهم يد المساعدة .فكان هؤالء المحسنين يخصصون لهم إقامات ويقدمون لهم وجبات مجانا. وانخرطت بعض المؤسسات الجامعية في هذا العمل "الخيري" بشكل محدود. فكوليج السوربون ،على سبيل المثال ،كان يخصص إقامات للطلبة الفقراء الذين يتابعون دراستهم في علوم الدين .وعلى غراره كانت جامعة أكسفورد تخصص إقامات للطلبة الذين يتابعون دراستهم في حقل الرياضيات. )1حضارة الكتاب تمثل النهضة التي شهدها الكتاب خالل القرن الثالث عشر امتدادا لتلك التي شهدها خالل القرن السابق .والحقيقة أن األمر يتعلق فعال بنهضة ،أو انبعاث ،ألن
134
الكتاب كان قد شهد نهضة بين القرنين الرابع والسابع حينما أصبح عبارة عن كراس مؤلف من صفحات ( )le codexبدل كتاب العصر القديم الذي كان على شكل ورق ملفوف ( )rouleauتصعب قراءته .كان الكتاب المؤلف من صفحات ذو قطع صغير نسبيا ،سهل االستعمال ،ويمكن حمله من مكان آلخر .لكنه لم ينتشر على نطاق واسع لسببين :يتمثل السبب األول في قلة عدد القراء .إذ وحدهم الرهبان هم الذين كانوا يعرفون القراءة ويتداولون عددا من الكتب المحفوظة في خزانات الموناستيرات. ويتمثل السبب الثاني في كون الكتب كانت تصنع من "البرشمان" ()le parchemin المؤلف من جلود العجول وجلود الخرفان بشكل خاص .وكانت تتطلب عددا من جلود هذه الحيوانات .وبالتالي ،كانت تكلفة الكتاب الواحد مرتفعة ،فيتعذر على أي كان اقتناؤه. ويبدو أن سوق الكتب انتعش بعد ظهور المؤسسات التعليمية في الوسط الحضري ،ومنها الجامعات بشكل خاص .وهذا ما يعبر عنه الباحث إيڤان إليش ( )Ivan Illichبقوله " :تتميز حضارة الكتاب بكون سنة 1140طويت فيها الصفحة الرهبانية لتفتح الصفحة المدرسية" .54ويبدو غريبا ،إذا علمنا بأن عالم الالهوت هيوغ دو سان ڤيكتور ( 55)Hugues de Saint-Victorهو الذي أعطى بباريس انطالق الشرارة األولى لهذا "الفن الجديد"" ،فن قراءة الكتاب". ومه ما يكن من أمر ،فخالل القرن الثالث عشر اكتملت التعديالت المادية والتقنية التي أعطت للكتاب وجها جديدا وجعلته أكثر تداوال .وبالمثل ،تحسنت تقنيات وضع المتن وتوزيعه داخل الصفحة الواحدة وعبر صفحات الكتاب ككل .إذ تحسنت عملية الوقف ( ،)la ponctuationوعملية وضع العناوين ،وفهرس المحتويات. وشمل التطور أيضا طريقة القراءة .فقد انتهى زمن قراءة الكتاب بصوت مرتفع ،وحل زمن القراءة الصامتة .فانبثقت تبعا لذلك أوربا الفرد القارئ. ويستفاد مما سبق أن انتشار المدارس والجامعات لم يكن العامل الوحيد الذي أدى إلى اإلقبال على قراءة الكتاب ،وإنما هناك أيضا تزايد أعداد كتاب العقود (الذين ظهروا في سياق نشأة طوائف حرفية جديدة واالتجاه نحو التخصص) ،وانخفاض نسبة األمية في أوساط النبالء والتجار والحرفيين .فانعكس ذلك باإليجاب على صناعة الكتاب .وهذا ما يؤكده الباحث دانييل بالو ( )Daniel Baloupالذي يذكر "بأن
- 54أنظر كتابه : Du lisible au visible. L’art de lire de Hugues de Saint-Victor, Paris, Les Editions du Cerf, 1991. - 55أنظر ما ذكرناه عنه في الهامش رقم 1صفحة .87
135
الكتاب أضحى أداة للدراسة الدنيوية وللعمل ،ولقضاء أوقات الفراغ ،وأداة لتحقيق نوع من التفاني الشخصي". وبقدر ما استمرت الكتب في التطور شكال ،وفي التنوع مضمونا ،بقدر ما ازدادت انفتاحا على أذواق القراء واهتماماتهم .فالكتب الموجهة لطالب الجامعات على سبيل المثال ،كان يتم إخراجها وفق مواصفات خاصة .فكان واضعوها يحرصون على ترك هامش مهم نسبيا في كل صفحة يمأله الطالب بما عن له من مالحظات وتعقيبات .ولذلك بدت صناعة الكتاب وكأنها تطورت في صلة بالجامعات في المقام األول .ولهذا السبب ذاته ظهرت المكتبات .وتزايد الطلب على الكراسات وعلى الناسخين ،والمكلفين بعمليات التسفير .وتبعا لذلك ظلت تكلفة الكتاب مرتفعة. ولم ينخفض سعر الكراس (بكرا) أو الكتاب مخطوطا إال بعد أن بدأ استعمال الورق تدريجيا في صناعته .ولم يصبح هذا األمر حقيقة إال بعد مطلع القرن الخامس عشر، حيث انخفض سعر الكراس "البرشمان" بثالثة عشرة مرة عما كان عليه من قبل. ولعل أبرز تطور شهدته صناعة الكتاب خالل القرن الثالث عشر تمثل في استعمال تقنية " "la peciaالتي تقوم على نسخ صفحات الكتاب مستقلة الواحدة عن األخرى قبل شدها إلى بعضها .ألن عملية استنساخ المخطوط قبل طبعه ،كانت تطرح إشكاال عويصا حتى تم االهتداء في كل من بلونيا وباريس إلى التقنية السالف ذكرها. ويستفاد مما أورده الباحث لويس -جاك بطايون ( Louis-Jacques ،)Bataillonبأن تقنية الوحدة (" )la peciaكانت تقتضي ،بعد االنتهاء من تحرير المخطوط األصلي ،أن يقوم ناسخ ( )un copisteبوضع نسخة منه على شكل كراس مرقم مكون من أوراق مزدوجة يسمى .pecieويقوم الكاتب ( )le scribeبإعادة كتابة الوحدات ( )les piècesالواحدة تلو األخرى .ويترك وحدات الكراس األخرى لكتاب آخرين يقومون بنفس العمل .وعلى هذا المنوال يشتغل على نقل النص األصلي عدة كتاب في نفس الوقت ،فيتم الحصول تبعا لذلك على نسخ كثيرة من المخطوط األصلي" .وهكذا عرفت أوربا شيوع ظاهرة النساخ (النقالين) ( )les copistesسنتين قبل ظهور الطباعة .ولكن هذه التقنية التي انتشرت كثيرا في مدن ايطاليا وفرنسا لم يتم تبنيها في أنجلترا وفي المدن األلمانية والسالڤية .ولذلك ظلت العوائق التقنية تحول دون انتشار واسع للكتاب .وكان يجب االنتظار حتى أواسط القرن الخامس عشر لتتحقق النهضة الكبرى. ولكن العوائق المشار إليها ،لم تحل دون تداول الكتاب بين عدد كبير من قراء القرن الثالث عشر ،كما سبقت اإلشارة إلى ذلك .إذ فضال عن األساتذة والطلبة ،انضم إلى صفوف متداولي الكتاب عدد من القراء الالئكيين (نبالء ،تجار ،حرفيون) ،األمر
136
الذي يسمح بالقول بأن رياح العلمانية أصبحت تهب على المسيحية بفضل تطور صناعة الكتاب وتزايد أعداد القراء من مشارب مختلفة. والحقيقة أن الديانة ،وقضايا الدين ظلت حاضرة في معظم المؤلفات المتداولة، ولكن إلى جانبها بدأت تظهر مؤلفات موجهة للنساء .يمكن القول بأنها ساهمت ،إلى جانب المدارس ،في ترقية المرأة .وعموما فإن صناعة الكتاب أخذت منحى ينسجم مع االتجاه السائد وهو رواج الكتب ذات الطابع النفعي التي أفضت إلى تراجع الكتاب الذي يروم أن يجعل من الكتاب ذاته عمال فنيا. )2اإلنتاج الموسوعي تمثل الكتب ذات الطابع الموسوعي نموذجا جديدا من الكتب ظهر خالل القرن الثاني عشر ،وانتشر خالل القرن الموالي .وأتى هذا النموذج ليعزز االتجاه نحو العلمانية الذي بدأت تأخذه المعرفة .كما أتى لتلبية طلب شريحة من القراء ،وفي ذات الوقت لإلحاطة قدراالمكان بالمعرفة التي اتسعت مجاالتها. كانت هذه الموسوعات تتناول فعال علوما نقلية ،وعقلية ،كعلوم الدين والفلسفة والميتافيزيقا .فكانت بذلك تقدم للقراء معارف شاملة تهم الطبيعة والمجتمع .ويعتبر عالم الالهوت هيوغ ،الذي سبق ذكره،أول من وضع أسس وقواعد التأليف الموسوعي حين نشر حوالي سنة 1135كتابا يتضمن معارف دينية وأخرى دنيوية .فوضع الفنون والفلسفة في المقام األول .ووضع علم التفسير (الهرمنوطيقا) والتاريخ في المقام الثاني. وأنجز بعده غليوم دو كنش ( )Guillaume de Conchesموسوعة تناول فيها معارف شتى تتصل بالفلسفية وعلوم الطبيعية .وعلى غراره وضع االسكندر نيكام ( )Alexandre Neckamموسوعة مماثلة ،ولكن تغلب عليها النفحة األرسطية .ثم جاء دور العالم برطليمي األنجليزي ( )Barthèlemy l’Anglaisالذي ألف بين سنتي 1230و 1240موسوعة "طبائع األشياء" ()De propretatibus rerum التي انطلق فيها من طروحات ايزيدور االشبيلي وأرسطو .وقد حظيت بإقبال القراء، فغدت أكثر الموسوعات شعبية خالل النصف الثاني من القرن الثاني عشر .وتمت ترجمتها من الالتينية إلى اللغات األنجليزية والفرنسية واالسبانية والفالمانية والبروڤنسالية .وأمر ملك فرنسا شارل السادس بإعادة ترجمتها إلى الفرنسية سنة .1372وقام عالم الالهوت توما دو كنتمبري ( )Thomas de Cantimpréبدوره بإنجاز موسوعة "كتاب الطبيعة" ( )Liber de natura rerumخالل فترة تأليف موسوعة برطليمي األنجليزي .وحاول فيها اإلحاطة بمختلف معارف عصره في مجال علوم الطبيعة ،وجعلها مدخال لتناول علوم الدين .وقد تفطن بأن موسوعته غلبت
137
عليها العلوم الدنيوية ،فكرس ما تبقى من عمره في التأليف في أمور الدين .ومن ضمن ما كتبه في هذا الشأن كتاب " الخير الكلي للنحل" ( Bonum universale de ) opibusالذي ضمنه الكتاب التاسع من موسوعته السالفة الذكر بعد أن أعاد صياغتها في قالب جديد ،بحيث شبه فيها المجتمع بخلية نحل. ويعتبرالعالم ڤانسون دو بوڤي ( )Vincent de Beauvaisثالث الموسوعيين شهرة بعد برطليمي األنجليزي وتوما دو كنتمبري .وقد وضع هو اآلخر موسوعة، بإيعاز من طائفة "الفقراء" التي كان ينتمي إليها ،تتضمن مختلف المعارف والعلوم التي يحتاج إليها "اإلخوان" الذين لم تتح لهم إمكانية ولوج الجامعات .ويتميز هذا الموسوعي بكونه تبنى طريقة جديدة في انجاز الموسوعة تمثلت في تكوين فريق عمل من رجال الدين ،ساعدوه في جمع النصوص واستقراء المادة الضرورية قبل الشروع في التحرير .فقام هو بتوزيع تلك المادة على ثالثة أبواب كبرى ارتأى أن تتألف منها الموسوعة. وظهرت في حقل التأليف الموسوعي موسوعات من نمط آخر .تميزت عن "الجيل األول" من الموسوعات بكونها لم تكن عامة وجامعة مانعة لمختلف العلوم ،بل كانت عبارة عن موسوعات مجزءة ،كل واحدة (أو جزء منها) اقتصرت على علم بعينه .وقد برز من بين واضعي هذا الصنف كل من األلماني ألبير األكبر ( Albert le )Grandواألنجليزي روجي باكون ( .)Roger Baconوانضم إليهم القطالوني رايموند لول ( )Raymond Lulleالذي تميز بكونه كان مفكرا علمانيا جمع بين تدريس اللغات القديمة واللغات الحية والتأليف .وقد وضع عدة مؤلفات في مجال علم الالهوت والفلسفة والبيداغوجيا والقانون والسياسة والفيزياء .كما نظم الشعر ،وكتب الروايات. )3المدرسية لعل أهم إرث ثقافي ،جامعي بصفة خاصة ،ورثه القرن الثالث عشر ،هو مجموع المناهج والمؤلفات التي تندرج في خانة ما يسمى بالمدرسية ( la .)scolastiqueوتطلق هذه التسمية على اإلنتاج الثقافي المرتبط بالمدارس عموما وبالجامعات بشكل خاص .وقد انبثقت المدرسية عن تطور الجدل الذي كان يكون أحد العلوم الثالثة ( ،)le triviumوهي علم النحو والبالغة والجدل .والجدل هو فن التبرير واإلفناع باألسئلة واألجوبة في إطار وضعية حوار ثنائي. 56 ويعتبر أنسلم الكنتربيري ( ، )Anselme de Cantorbéryاألب الروحي للمدرسية .وهو القائل " :بأن الجدل هو المنهج القاعدي في التفكير اإليديولوجي .وإن - 56أنظر ما ذكرناه عنه في الهامش رقم ،1صفحة .86
138
الهدف األعلى الذي يروم تحقيقه هو ذكاء ،أو مهارة ،االعتقاد" .وقد ظلت هذه القولة خالدة منذ العصر الوسيط .ويمكن اعتبار المدرسية تصورا مبنيا على التوافق ما بين هللا واإلنسان .وقد كانت إسهامات أنسلم كبرى في هذا االتجاه ،حيث قدم الدالئل على وجود هللا باعتماد طريقة عقالنية. ومن المفيد التذكير في هذا المقام بأن اعتماد طريقة جديدة في التفكير وفي التدريس خالل القرن الثاني عشر مهد المجال أمام تبني االتجاه المدرسي .وكانت هذه تقوم على بناء إشكال في البدء ثم طرح سؤال للنقاش بين األستاذ وتالمذته .ويقدم األستاذ في نهاية المناقشة حال لإلشكال المطروح .وكان برنامج الجامعات يتضمن كل سنة تمرينين رئيسيين تتجلى فيهما كفاءة األساتذة في اإلجابة على األسئلة المختلفة التي يطرحها الطلبة .وكانت سمعة األساتذة تقوم على أساس مدى قدرتهم على اإلجابة عن تلك األسئلة. والجدير باإلشارة أن التدريس الجامعي كان مناسبة للتأليف في مختلف أصناف العلوم المدرسة ،وهذا ما يفسر أهمية الجامعات في مجال صناعة ونشر الكتاب .وإن أهم المؤلفات المدرسية (الجامعية) التي صدرت خالل القرن الثاني عشر كانت عبارة عن مجاميع تتضمن نصوصا ،أو أقواال ،منتقاة من الكتاب المقدس ،ومن مصنفات أباء الكنيسة ،ومذيلة بتعقيبات األساتذة واضعي هذه المؤلفات ،وتعكس الرؤى و التوجهات المدرسية .وظهر إلى جانب هذا النوع من المؤلفات نوع آخر ،تمثل في مجاميع تتضمن ،هذه المرة ،نصوص المناقشات التي دارت حول قضية ،أو قضايا، باإلضافة إلى األحكام ،أو األجوبة التي يقدمها األستاذ واضع المجموع عن مختلف األسئلة التي طرحت عليه .وكان من بين أبرز من اشتهروا في هذا النوع من التآليف أسقف باريس بطرس اللومباردي الذي وضع بين سنتي 1155و" 1157كتابا في األحكام" .أصبح من أهم المؤلفات المعتمدة في التدريس في كليات علوم الدين خالل القرن الثالث عشر .وظهرت إلى جانب هذه المؤلفات كتب الحواشي التي عني أصحابها بوضع شروح وتفاسير لبعض الكلمات الواردة في متون النصوص .ويمثل هذا النوع من التآليف تطورا لكتب التفاسير التي اهتمت بشرح الكلمات الواردة في الكتاب المقدس .والجدير بالذكر أن التفسير انتهى بدوره خالل القرن الثالث عشر بظهور كتاب جامعي جديد عرف "بكتاب التفسير العادي". وعلى كل ،تجلت اإلنتاجات المدرسية خالل القرن الثالث عشر في شكلين : تمثل الشكل األول في كتب التعاليق التي كانت تضاف للمناقشات .وقد ساهمت هذه المؤلفات كثيرا في تطور المعرفة خالل الفترة المذكورة ألنها اكتست طابع الجدة لكونها كانت تعكس اهتمامات اللحظة التي كتبت فيها ،وإن راعى واضعوها ،من األساتذة الجامعيين ،تقليدا سابقا في وضع هذه المؤلفات .ورغم ذلك ،ال بأس من
139
االقرار بأن هذا الشكل من المؤلفات أرسى دعائم تطور ثقافي في ربوع أوربا ،دون إحداث قطيعة مع ماضيها الثقافي والفكري .ويمكن االستدالل في هذا الصدد بما أورده الباحث أالن ليبيرا ( )Alain Liberaحين كتب يوما بأن "تاريخ التأليف في التعاليق هو تاريخ التحرر التدريجي للفكر الفلسفي من معطيات التقليد". وتمثل الشكل الثاني في كتب المجموعات ،أو الخالصات ،التي يعكس اسمها رغبة مثقفي القرن الثالث عشر في وضع ،رهن إشارة القراء ،مؤلفات في الفلسفة ذات طابع تركيبي ،موثقة ومعللة؛ في وقت كانت فيه الفلسفة ال زالت متصلة بالالهوت. وهذا ما يبرر بالذات ما ذهب إليه رجل الدين وعالم الالهوت األب شوني ( le Père )Chenuحين أكد بأن الالهوت ارتقى خالل القرن الثالث عشر إلى مصاف العلوم. ومن بين أهم العلماء المدرسيين الذين برزت أسماؤهم خالل القرن الثالث عشر ،يمكن ذكر األنجليزي اإلسكندر دي هاليس ()Alexandre de Halès واأللماني ألبير األكبر ( )Albert le Grandالذي حمل لقب األستاذ بجامعة باريس سنة .1248فقد كان واسع المعارف ،بحيث ألف في مجاالت علمية وفنية لم تكن تدرس في الجامعة .كما استفاد كثيرا من مؤلفات الفالسفة العرب كالفارابي وابن سينا وابن رشد .ويعزى اليه الفضل في محاولة إحداث نوع من التوازن بين الفلسفة والالهوت .وبرز كذلك توما األكويني ( )Thomas d’Aquinتلميذ ألبير السالف الذكر .اشتهر بكونه من أكثر علماء العصر الوسيط الذين بصموا الفكر األوربي وأثروا في العامة وفي الخاصة من رجال الدين ومن الالئكيين .ترك عدة مؤلفات من بينها كتاب "خالصة الرد على األمم" ( )la Somme contre les gentilsالذي وضعه بين سنتي 1259و ،1265وكتاب "الخالصة الالهوتية" الذي شرع في وضعه سنوات قبل وفاته سنة .1274وقد سعى توما األكويني في هذين المؤلفين، وفي غيرهما ،إلى تبيان سلطة العقل التي تمكن الفرد من معرفة هللا ،ومن معرفة كنه العالم والكشف عن الحقيقة .ولم يكن روجي باكون ) )Roger Baconأقل حظوة من العلماء المدرسيين اآلخرين .فقد ذاع صيته في جامعة أكسفورد .وألف كغيره في حقلي الالهوت والفلسفة .وزاد عن بعض أقرانه في كونه ألف في حقل الفلك ،فعد ليوناردو دافنتشي زمانه. ومهما يكن من أمر ،فإن المدرسية تعد مرحلة من مراحل النشاط الفكري في أوربا .وإن الحديث السالف عن المؤلفات المدرسية وعن واضعيها ال يكتسي أهمية إال بإبداء المالحظات التالية :أول هذه المالحظات ،هي أن أبيالر ،أحد أقطاب الفكر في القرن الثاني عشر ،أشاع ،قبل المدرسيين ،في أوساط المفكرين فكرة قال بها أرسطو وهي ضرورة الشك في كل شيء ،ألن اإلنسان الذي ينطلق من مبدإ الشك يصل إلى الحقيقة .وقد عبر أبيالر عن هذا المبدإ بقوله " :مهما كان موضوع الحوار بين
140
شخصين ،فإن التحليل العقالني تكون له سلطة على أي شيء آخر" .وقد انتقل مبدأ الشك من أبيالر الى أقطاب المدرسية وتبناه عموم المثقفين ،فكان هذا االنتقال بمثابة عودة إلى الفكر النقدي الذي أرسى دعائمه اإلغريق وال زال إلى يومنا هذا أساس الفكر األوربي .وثاني هذه المالحظات هي أن المدرسية حررت الفكر األوربي ،كما قال بذلك أالن ليبيرا ،وأرست تقليدا فكريا يقوم على فكرة مفادها أن المعرفة هي نوع من التحرر .وثالث هذه المالحظات هي أن أقطاب المدرسية سعوا إلى عرض أفكارهم بصيغة واضحة ومنظمة .وبذلك رسخوا في أوساط المثقفين ،وعموم الناس المتعلمين وغيرهم ،تقليدا يقضي بالتفكير بشكل واضح ومنظم .وقد سبقوا كثيرا في هذا األمر ما قال به روني ديكارت ،الذي يربط كثير من الباحثين ثورة الفكر األوربي بشخصه ،مع أنه يعتبر في واقع األمر تلميذا المعا لمدرسية ( )scolastiqueالعصر الوسيط. )4أوربا الﻠغة :الالتينية والﻠهجات المحﻠية كانت الالتينية هي لغة التعليم الجامعي .وقد ظلت لغة العلم والمعرفة خالل العصر الوسيط .وزاد من تفوقها كون الطقوس والشعائر الدينية كانت تقام بها .ولكنها لم تكن اللغة المستعملة من قبل جميع أفراد المجتمع .إذ منذ القرن الرابع أخذ بعض المتعلمين ،وجمهور عريض من الالئكيين ،يتحدثون لغة التينية رديئة كانت تبتعد يوما بعد يوم عن أصول الالتينية .وهو األمر الذي جعل المؤرخين يالقون صعوبة في تحديد تاريخ بداية استعمال هذه اللهجات المحلية ،خاصة وأن تلك البداية تزامنت مع انتشار لهجات الشعوب الغازية التي استقرت بربوع أوربا. وعموما ،فإن رجال الدين وحدهم هم الذين ظلوا يتحدثون الالتينية منذ مطلع القرن التاسع .أما عموم الالئكيين فأخذوا يستعملون لغة غير التينية .ويميل معظم الباحثين إلى ربط نشأة اللهجات المحلية بالنص الشهير" قسم ستراسبورغ" ( les ) Serments de Strasbourgالذي يتضمن صيغتي اليمين ،أو القسم ،الذي أداه، سنة ،842كل من شارل األصلع ولويس الجرماني إبنا اإلمبراطور لويس التقي .فقد أدى أحد اإلخوة القسم بلغة ستصبح فيما بعد هي اللغة الفرنسية ،بينما أدى اآلخر القسم باللغة التي ستتطور لتصبح اللغة األلمانية .وبذلك بدا وكأن النظام السياسي في أوربا تشكل تحت تأثير البنيات العشائرية التي كانت تتضمن في كنهها بنيات وطنية. ويفي د تصرف الملكين على هذا النحو بوجود إشكاالت لغوية كانت مطروحة بحدة على القادة العسكريين ،وكذلك على رجال الدين قبل هذا التاريخ بفترة طويلة. ولذلك كانوا مضطرين إلى اتخاذ إجراءات لحل هذه اإلشكاالت ،انطلقوا فيها من مبدأ أن التقرب من هللا ال يتم فقط باستعمال الالتينية واإلغريقية والعبرية ،بل يمكن أن يتم كذلك باستعمال أية لغة .وكانت سنة 813حاسمة في هذا االتجاه حين أقر المجمع
141
الديني المنعقد بمدينة تور بجواز استعمال اللهجات المحلية في التراتيل وغيرها لتقريب محتواها من عموم المسيحيين .ولذلك ذهب بعض الباحثين إلى اعتبار مقررات هذا المجمع بمثابة تاريخ حاسم في ميالد اللغات الوطنية. وقد تطورت اللهجات المحلية خالل القرن الثالث عشر .واستمرت في التطور في نهاية العصر الوسيط .ولم تعد مجرد لهجات منطوقة ،بل أضحت كذلك لغات تستعمل في التعبير الكتابي .فنشأ تبعا لذلك أدب مكتوب بهذه اللغات ،اشتهرت في إطاره أعمال خالدة من قبيل القصائد التي تتغنى ببطوالت الفرسان ( les chansons ،)de gesteوالنصوص التي تطفح بالحب والهيام (.)les romans courtois ولم تكن اللغة الشفوية والكتابية التي كان يستعملها مدرسيو القرن الثالث عشر، هي اللغة الالتينية الكالسيكية ،كما لم تكن أيضا لغة أخرى متكاملة البنية .لقد كانت لغة مصطنعة استعملت في تحرير جميع األعمال الجامعية سواء في حقل الالهوت أو في حقل الفلسفة. وعلى كل ،فقد تشكلت اللغات المحلية من مجموعات يمكن التمييز فيها بين مجموعة اللغات التي انبثقت عن الالتينية وظلت ،مع ذلك قريبة من اللغة األم .وتظم هذه المجموعة الفرنسية واللغات األيبيرية وااليطالية. سادت في غالة اللغة الفرنسية .وهي خليط من الالتينية ومن لغة جرمانية ،هي لغة الفرنجة .وحدث أن انصهرت اللهجات المنطوقة في غالة .فترتب عن هذا االنصهار ظهور لهجتين هما :األوك ( )la langue d’ocالتي كانت مستعملة في مناطق الجنوب .واألويل ( )la langue d’oïlالتي كانت مستعملة في مناطق الشمال. وقد كان يتحدث بها ملوك غالة بوصفهم قادة سياسيين ،ورعاة الثقافة والفكر .وقدر لهذه اللهجة أن تنتشر في جميع مناطق البالد تحت تأثير االنتصارات ،ونجاح الشماليين في السيطرة على مناطق الجنوب. وفي أنجلترا ،تميز الوضع اللغوي بهيمنة ثالث لغات حتى مطلع القرن الخامس عشر .تمثلت في اللغة الالتينية ،واللغة الفرنسية في صيغة لهجة أنجلو -نورمانية باإلضافة إلى اللغة األنجليزية القديمة التي كان يتحدثها األنجلو -سكسونيون .وقد قدر لهذه اللغة أن تهيمن على المشهد اللغوي ،فأصبحت لغة أنجلترا .وكان الملك إدوارد األول (الذي حكم بين سنتي 1272و )1307أول ملك أنجليزي تحدث بها .ورغم ذلك ،ظلت الفرنسية حتى مطلع القرن الخامس عشر لغة اإلدارة ،ولغة التخاطب في أوساط األسر النبيلة واألرستقراطية ،حتى أن بعض هذه األسر كانت تبعث أبناءها إلى نورمانديا ليتعلموا اللغة الفرنسية. أما في ألمانيا ،فظل المشهد اللغوي متجزئا كتجزئة البالد التي كانت تتكون من عدة وحدات أهمها ألمانيا السفلى وألمانيا الوسطى وألمانيا العليا.
142
وعلى غرار ألمانيا ،كان المشهد اللغوي في شبه جزية أيبيريا غير واضح المعالم بالنظر إلى الوضع السياسي المضطرب .ولكن بعد حروب االسترداد ،وبداية تراجع لغة المستعربين ،بدأت اللغة القشتالية تفرض نفسها على حساب االلغة الليونية، وكذلك على حساب اللغات الغاليسية والقطالنية والبرتغالية. وفي ايطاليا كان المشهد أكثر ضبابية وتعقيدا قبل القرن الثالث عشر .وهذا ربما ما يفسر احتراز علماء اللغة واللسانيات من الحديث عن لغة ايطالية خالل هذه الفترة. وقد وضع دانتي اليغيري حوالي سنة 1303مؤلفا باللغة الالتينية يعرف ب"البالغة العامية" ( )De vulgari eloquentiaوزع فيه اللغات المتداولة في ايطاليا إلى ثالث عشرة مجموعة .واقترح فيه استعمال لهجة مركبة من جميع اللهجات. ومن نافلة القول أن التجزئة اللغوية في ايطاليا كانت انعكاسا للتجزئة السياسية. ورغم ان ايطاليا بدأت تعانق الوحدة السياسية مع مطلع القرن التاسع عشر ،فإن الوحدة الثقافية ال زالت لم تكتمل فيها لحد اآلن. ويكاد المشهد اللغوي المتحدث عنه في هذه المجاالت الجغرافية ينسحب على مجموع أقاليم أوربا .فقد سادت فيها زدواجية لغوية تمثلت في الالتينية واللغات المحلية .وكان لهذه األخيرة ثقل ،ولذلك اضطرت النخبة االجتماعية والطبقة السياسية إلى تعلمها والتعامل بها أيضا. ومن المؤكد أن رجاالت السياسة في العصر الوسيط ،كانوا واعين بأن التعدد اللغوي كان يعيق عمليات التواصل في أوربا ،وخاصة في مجال المعامالت االقتصادية ،حيث بدت الالتينية غير قادرة على استمرار ضمان وحدة المعامالت .وقد اجتهدوا في تدليل العقبات اللغوية بموازاة اجتهادهم في إرساء دعائم الدول المركزية. ويبدو أن األمر لم يكن سهال ،ولذلك ظلت المسألة اللغوية في أوربا أحد أهم العوائق التي اعترضت طريق الوحدة .والزالت تمثل عائقا إلى يومنا هذا .وقد قدم العصر الوسيط درسا لهؤالء الساسة مفاده أن تعددا لغويا محدودا يمكن أن يكون وظيفيا في أوربا الموحدة ،بل يمكن أن يكون هذا التعدد أفضل من تبني لغة واحدة ليست نابعة من التقاليد الثقافية والسياسية .وكان من الممكن أن ينطبق هذا األمر على اللغة األنجليزية لو اختيرت كلغة لمجموع أوربا. وبما أن اللغة هي األداة التي كتبت بها المؤلفات األدبية التي وضعت خالل القرن الثالث عشر ،فقد كان لهذه المؤلفات دور كبير في ارتسام معالم مستقبل أوربا. ألن أوربا هي في نهاية المطاف عبارة عن باقة من اإلبداعات واألجناس األدبية التي دعمت وآزرت نجاح اللغات الوطنية. )5إبداعات أدبية كبرى وأعمال خالدة
143
فرضت اللغة الفرنسية نفسها منذ نهاية القرن الحادي عشر حين كتبت بها القصائد التي تمجد بطوالت الفرسان ،ومن ضمنها أنشودة روالن .وقد كان تأثير الفرنسية واضحا حتى على المؤلفات التي وضعت باللغة األلمانية ،أو التي ترجمت إلى األلمانية مثل قصص الحب ،والروايات التي تتحدث عن خوارق األبطال األسطوريين كأرثور ( )Arthurاألنجلو -سكسوني. وأهم ما في األمر ،هو أن هذه المؤلفات ألهمت أجياال الحقة من األدباء أبدعوا في تأليف جنس أدبي ،الزالت له مكانة مرموقة في حقل اآلداب ،وهو الرواية بشقيها : الرواية التاريخية ،و رواية الحب التي تروي قصة حب فرد ،أو قصة حب ثنائي تنتهي غالبا بوفاة بطليها أو بوفاة أحدهما. وسجلت اللغة القشتالية بدورها حضورا ملفتا تجسد بشكل خاص في "ملحمة السيد" التي تتغنى ببطوالت نبيل مسيحي مغامر جعل من المناطق الواقعة حوالي مدينة بلنسية ،أول مملكة مسيحية في مجال إسالمي .وكان بطل هذه الملحمة "مغامر ينشط في مجال حدودي" ،ويخدم الملوك المسيحيين والملوك المسلمين أيضا .ومن هنا أتاه لقب السيد (.)le Cid )6انتشار النثر شهد القرن الثالث عشر حدثا بارزا في حقل اآلداب كان له أبلغ األثر في الحياة الثقافية في أوربا بأكملها .يتمثل هذا الحدث في نشأة النثر األدبي. ومن المعروف أن األعمال التي كانت تتغنى ببطوالت الفرسان كان يحكمها النظم واإليقاع ،فحل محلها النثر الذي ال يحتكم لهذه القواعد ويعبر عن الحقيقة أكثر. ولذلك لجأ واضعو "شعر الغزل" ( ،)la poésie courtoiseمنذ القرن الثالث عشر، إلى الكتابة النثرية .وحدث أن قام خالل نفس الحقبة رجل السياسة ،واألديب اإلسالندي سنوري ستورلزون (( )Snoori Sturlusonالمتوفى سنة )1241بتحويل المجموع الذي يتضمن مجموعة قصائد قديمة العهد تحت إسم إيدا ( )Eddaإلى نص نثري. وشهد القرن الثالث عشر أيضا تطور نصوص نثرية ذات صبغة تاريخية، رغم أن التا ريخ لم يكن يندرج ضمن برامج التدريس خالل الفترة المذكورة ،كما لم يكن موضوع مؤلفات خاصة .ولكن سلطة الماضي كانت تفرض نفسها كقيمة إيديولوجية ،في انتظار أن يحتل التاريخ فيما بعد موقعا متميزا في حقل اآلداب وفي الذاكرة الجماعية. وال بد من االشارة إلى أن كتابات العصر الوسيط ،التي يدرجها الباحثون اليوم ضمن خانة المؤلفات التاريخية ،كانت تتمثل في كتب اإلخباريات العامة ،وكتب التراجم التي تعرض لسير القديسين والقديسات.
144
وتطورت بموازاة اإلخباريات العامة ،إخباريات يمكن نعتها بالخاصة ،كانت تعرض ألخباروأحداث الموناستيرات،أواألسقفيات .وظهرت إلى جانبها ،منذ منتصف القرن الثاني عشر إخباريات تعرض ألحداث وأخبار الممالك التي كانت آخذة في التطور في اتجاه أن تصبح دوال مركزية .ومن ثم ،فإن الماضي الذي كان يطغى عليه الطابع الميثولوجي سابقا ،أضحى من بين الدعامات التي تستند عليها السلطة السياسية. فكان ذلك إيذانا بميالد أوربا سياسية ،أوربا الذاكرة والتاريخ. ويبدو أن اإلخباريات الخاصة بالممالك لقيت حظوة في أنجلترا .فقد انتشرت بها عدة مؤلفات من هذا الصنف .وذاع صيت بعضها مثل كتاب "أعمال (أو أفعال) ملوك أنجلترا" ( )Gesta regum Anglorumللراهب البندكتي واألديب غليوم دي مالمسبوري (( )Guillaume de Malmesburyالمتوفى سنة ،)1143وكتاب "تاريخ ملوك بريطانيا" ( )Historia regum Britanniaeلألسقف واإلخباري جوفروا دي منموث (( )Geoffroy de Monmouthالمتوفى سنة .)1155 حاول المؤلفان في كتابيهما الترويج لمنظور تاريخي يقوم على فكرة االستمرارية بين الملوك السلتيين واألنجلو -سكسونيين والنورمان .ودعمت هذا النوع من التصانيف مؤلفات أخرى تمحورت حول شخص بروت ( )Brutأول ملوك بريطانيا العظمى ،الذي جعل اإلخباريون ،وعلى رأسهم جوفروا السالف الذكر، صورته تكاد تتطابق وصورة أرثور ( )Arthurلتمرير فكرة مفادها أن مملكة أنجلترا ذات أصول طروادية. والجدير بالذكر أن فكرة األصول الطروادية وجدت من ينتصر لها في فرنسا منذ وقت مبكر حين قال البعض باألصول الطروادية للفرنجة .ولقيت الفكرة رواجا كبيرا من قبل رهبان دير سان دوني في دعمهم للملوك المنحدرين من أسرة كابيت. وحدث سنة 1274أن انتهى الراهب بريما ( )Primatمن انجاز مؤلف ضخم حول تاريخ ملوك غالة أمر بوضعه الملك سان لويس .ولكن لم يقدر لهذا الملك أن يطلع عليه ،فقدمه الراهب للملك فليب الثالث ابن الملك الراحل .وتكمن أهمية الحدث في كون هذا المؤلف يمثل أصل المؤلفات اإلخبارية الكبرى التي أنجزت بعد هذا التاريخ. ومما ال شك فيه ،أن مسألة األصول تفصح عن رغبة هؤالء اإلخباريين في االلتفاف حول أصل موحد في مقابل اإلخباريين اإلغريقيين القدامى ،وعلى رأسهم ڤرجيل ( )Virgileالذي جعل الرومانيين من األبطال الذين نجوا من معركة طروادة ولجئوا في أوربا .ولذلك ظل االيطاليون يروجون لهذه الفكرة خالل العصر الوسيط. رابعا :نجاح اإلخوان الفقراء
145
ال بد من التذكير مجددا بأن القرن الثالث عشر ،الذي كان قرن المدن والتجار والجامعات واللغات المحلية والمؤلفات األدبية ،شهد أيضا حدثا دينيا كانت له تبعات على المدى البعيد يتمثل في نشأة طوائف الفقراء التي كانت مؤلفة من طائفة الدعاة (الوعاظ) الدومينيكان ،وطائفة المتواضعين ،أوالصغار (،)mineurs( )minorum من الفرانسيسكان. لم يكن أعضاء هاته الطوائف نساكا يعيشون حياة العزلة الجماعية والتعبد في موناستيرات منعزلة ،بل كانوا رجال دين منخرطين في تنظيمات ،ويعيشون في المدن وسط عموم الناس .كانوا يقومون بالوعظ واإلرشاد في سياق مسيحية متجددة كانت تقتضي " أقلمة" رجال الدين وعموم الالئكيين مع التحوالت الكبرى التي كان يشهدها العالم المسيحي. وتجدر االشارة الى أن الكنيسة كانت تتخبط في مشاكل مستعصية في سياق هذه التحوالت ،من بينها عدم اكتمال اإلصالح الﯕريﯕوري الذي كان قد انطلق منذ مدة، وانتشار حركات الهرطقة ،وظهور اختالالت بين الفئات االجتماعية بفعل شيوع استعمال النقد ،وتحول الغنى إلى قيمة ،وعدم قدرة الثقافة الدينية المرتبطة بالعالم الريفي عن اإلجابة على التساؤالت التي أصبح يطرحها المسيحيون في ضوء الواقع الجديد .ومن ثم ،فان تأسيس هذه التنظيمات الدينية الجديدة أتى كجواب من قبل بعض رجال الدين ،وبعض الالئكيين ،على التساؤالت المطروحة. وقد ارتأى مؤسسو هذه التنظيمات نعتها "بطوائف الفقراء" للسمو بالفقر الذي جعلوه شعارا لهم ونمطا لحياتهم .بل إن رواد وأتباع طائفة المتواضعين (مينوروم) التي أسسها فرانسيس األسيزي ( )François d’Assiseذهبوا بعيدا في هذا االتجاه. ومهما يكن من أمر ،فقد لقيت هذه الطوائف قبوال حسنا في أوساط العامة، ولذلك تضاعفت أعدادها .فارتأى رجال الدين المجتمعين في المجمع الديني الثاني الذي احتضنته مدينة ليون سنة 1274تقليص عددها إلى أربعة وهي :طائفة الدعاة، التي تعرف اختزاال بالدومينيكان ،وطائفة "المينوروم" التي تعرف بالفرانسيسكان، وطائفة النساك ( )ordo Eremitarum ou Ermitesالذين تبنوا مبادئ سبق أن سطرها القديس أوغسطين ،وطائفة الكرمليين )( )les Carmels ou Carmesنسبة إلى جبل الكرمل بفلسطين) .وقامت البابوية بعد ذلك بفترة وجيزة بإضافة تنظيم خامس للقائمة وهو طائفة خدام مريم العذراء ( Ordo Servorum Beatae )Virginis Mariaeالذي أنشأه مجموعة من التجار الفلورنسيين الذين رغبوا في التكفير عن ذنوبهم ،فانقطعوا عن مزاولة التجارة وشيدوا إقامة خارج أسوار المدينة تخليدا لروح مريم العذراء ،اعتكفوا فيها على العبادة.
146
ويبدو أن هذه الطائفة لم تستقطب كثيرا من األتباع .كما أن تأثيرها كان محدودا، بحيث انحصر في مناطق ايطاليا الشمالية .وهذا ما يفسر كون بعض الباحثين لم يدرجوها ضمن حديثهم عن تراتبات وتنظيمات اإلخوان الفقراء. وخالفا لهذا التنظيم الديني ،اكتسبت كل من طائفة الدومينيكان وطائفة الفرانسيسكان شهرة كاسحة تعزى في جانب منها إلى شخصية مؤسسيهما سان دومينيك دو ﯕوزمان ( )Saint Dominique de Guzmánوفرنسيس األسيزي (.)François d’Assise فقد ولد األول في مقاطعة كلرويغا ( )Caleruegaبقشتالة حوالي سنة 1170 في أحضان أسرة ثرية .وأصبح كاهنا سنة .1196وحدث أن سافر في مهمة إلى منطقة الالنﯕدوك بجنوب غالة ،فراعه النجاح الباهر الذي حققه الهراطقة في هذه الربوع ،فقرر خوض الحرب ضدهم في عقر ديارهم ،وبنفس أسلحتهم .فآثر العيش فقيرا .وهدر حياته للدعوة والوعظ في أوساط العامة من المسيحيين المقيمين بين قرقشونة ( )Carcassonneوطلوشة ( .)Toulouseفالتف حوله ثلة من رجال الدين. وسرعان ما تكاثر أتباعهم .فأقر البابا إنوسنت الثالث ( )Innocent IIIتنظيمه سنة .1215وحمل سنتين بعد ذلك إسم "طائفة الدعاة" .فتزايد أعداد "اإلخوان" المنضوين في الطائفة .وشرع "المتفقهون" منهم في التنقل بين كبريات المدن مثل باريس وبلوني ( )Bologneللدعوة واالستقطاب .وشاركهم سان دومينيك هذا الجهد الحثيث حتى وفاته في بلوني سنة .1221وتم تكريمه بعد ذلك بأن لقب قديسا سنة .1234 أما الثاني ،فكان ابن تاجر أقمشة .حاول في مقتبل العمر االنخراط في سلك الفرسان .ثم عدل عن ذلك فجأة ،وتخلى عن الدنيا وانبرى لخدمة المسيحية والسيد المسيح .وكون بمعية بعض رفقائه ،من رجال الدين ومن الالئكيين ،فريقا من الوعاظ المتج ولين حصل على ترخيص مبدئي من البابا إنوسنت الثالث بعد جهد جهيد .ثم حصل التنظيم على موافقة نهائية من قبل البابا هنوريوس الثالث سنة 1223بعد أن قام زعيمه بتعديل بعض البنود التي تتضمنها "ورقة عمل" التنظيم .وواصل "اإلخوان" حركة الوعظ واإلرشاد تحت اسم "طائفة الفرانسيسكان" .وخالفا لطائفة الدومينيكان ،التي كان أقطابها يتنقلون باستمرار بين كبريات المدن ،ويقيمون ردحا من الزمن في بعضها ،فإن زعماء طائفة الفرانسيسكان حبذوا التجوال في مجال محدود ،ومزاولة نشاطهم في المدن الصغرى والمتوسطة. وفي ضوء هذه المعطيات ،يتضح أن أهم ما ميز هذه التنظيمات الدينية الجديدة هو كونها اتخذت من الحواضر مجاال ألنشطتها الدعوية ،وان كان بعض أعضائها يقومونن ،بين الفينة واألخرى ،بالدعوة واإلرشاد على طرقات الحجاج والتجار ،وفي بعض المناطق النائية الوعرة .وباإلضافة إلى ذلك ،كانت مصادر عيشهم مختلفة تماما
147
عن مصادر عيش الرهبان ،ألنهم لم يكونوا يملكون ضياعا أو غالال أو دخال قارا ،بل كانوا يعيشون على الصدقات وعلى األعطيات التي كانت أحيانا طائلة تسمح لهم بتشييد بعض الكنائس البسيطة. وعموما ،فقد كانوا يحرصون على جعل المسيح والكتاب المقدس في قلب اهتمامات رجال الدين والالئكيين على السواء .ومن المفيد التأكيد في هذا المقام بأن أتباع فرنسيس األسيزي ذهبوا بعيدا في هذا االتجاه ،حيث أشاعوا في أوساط عامة الناس أن فرنسيس رأى في واضحة النهار ،وهو في خلوة بجبل ألبرن (،)Alverne واحدا من السيرافين (مالك طائر) على جسده آثار الجروح التي أصيب بها السيد المسيح وهو مربوط إلى الصليب .وال غرو في ذلك ،فقد اشتهر فرنسيس األسيزي بتفانيه في حب هللا .وله ابتهاالت يعبر فيها عن هذا التفاني ،لعل أبرزها ابتهال "."Laudes Creaturarum والحقيقة ،أن أتباع طائفتي الدومينيكان والفرانسيسكان ،لم يألوا جهدا في وعظ عامة الناس ،و"تفقيههم" في أمور دينهم ودنياهم من خالل التواصل المباشر والدائم. وعلى هذا المنوال ،أفضى نشاطهم إلى ميالد أوربا "الوعظ المنطوق" الذي مهد الطريق أمام الخطب الرنانة على المنابر والمنصات ،والخطب الملتزمة "المناضلة". والمالحظ أن هذه التنظيمات الدينية ،التي قامت منذ البدء على التجوال والقرب من العامة ،اضطرت مع مرور الزمن إلى تعديل مواقفها تحت ضغط البابوية التي نجحت في توجيه أنشطتها ،فأخذت تقوم بمهام أخرى ،من بينها "التفتيش" للكشف عن معتنقي الفكر الهرطقي .بل إن البابوية انتزعت هذه المهمة من محاكم التفتيش وأسندتها لطوائف اإلخوان الفقراء .ولذلك انقسم الناس بين مساندين لهم ومعارضين. وبلغت هذه المعارضة أحيانا درجات من الحدة ،تحولت فيها إلى كراهية واعتراض لسبيل بعض الدعاة كما حدث مثال سنة 1252حين انتهت مشادة بين "الداعية" الدومينيكاني بطرس الشهيد وبعض المعارضين باغتيال "الداعية" .ويجسد هذا الحدث عمق الفجوة التي أحدثتها مسألة التفتيش بين الكنيسة وطوائف الفقراء من جهة وبين عموم المسيحيين من جهة أخرى. وفضال عن هذا االصطدام مع عموم المسيحيين ،فإن زعماء طوائف الفقراء وجدوا أنفسهم في أكثر من مرة في مواجهة مع بعض "العلماء" من رجال الدين حول مسألة اإلرشاد والمعرفة الدينية وقضايا نظرية أخرى .وكانت الجامعات تشكل أحيانا ميدانا لبعض فصول تلك المواجهات ،ألن عددا من األساتذة الغير منضوين في تنظيمات دينية ( )les maîtres séculiersكانوا ينتقدون هذه الطوائف ،ويسائلون أقطابها حول دالالت مبدئي الفقر والتسول اللذين قامت على أساسهما ،وحول جواز أو عدم جواز أن يعيش المرء على الصدقة وعلى ما يجود به عليه المحسنون ،وحول
148
مدى سالمة مواقفهم من سبل تحصيل المعاش ومن العمل .وتكتسي التساؤالت بخصوص العمل أهمية قصوى في ضوء القيمة الكبرى التي أضحى يكتسيها في أوربا آنذاك. ومما زاد من حدة المواجهات في الجامعات ،وخاصة في جامعة باريس ،هو أن عددا من "العلماء" المنتمين لتلك الطوائف استغلوا فرصة خوض األساتذة الغير منتمين لتنظيمات دينية إلضراب مطول بين سنتي 1229وز ،1231فانشأوا كراسي علمية لحسابهم .فلم يرق األساتذة مثل هذا التصرف الذي رأوا فيه إجهاضا لإلضراب. واستمر شد الحبل بين الجانبين لعدة سنوات حتى اضطرت البابوية للتدخل منتصرة لألساتذة "الفقراء" طبعا ،مما أجج الصراع وزاد في أمده. ومهما يكن من أمر ،فإن هذه األحداث وغيرها تثري ملف الباحث في نشأة وتطور طوائف الفقراء التي تمثل محطة بالغة القيمة في تاريخ الفقر بأوربا؛ وهو تاريخ ال زالت لم تكتمل بعد جميع مراحله. )1أوربا العمل الخيري كانت طوائف الفقراء وراء شيوع العمل الخيري في أوربا .ومثل نشاطهم في هذا المجال لبنة نحو إنشاء ما يعرف بنظام الضمان االجتماعي .وقد بدأ هذا النظام يأخذ مكانه تحت مسمى "أعمال البر واإلحسان" التي تأخذ مرجعيتها من نص تتضمنه نسخة اإلنجيل التي وضعها القديس ماثيو ( )Saint Matthieuورد فيه "أن ابن اإلنسان سيقوم يوم القيامة بتقسيم الرجال إلى مجوعتين ،واحدة على يمينه واألخرى على يساره .وسيقول للواقفين على يمينه بأنهم سيدخلون مملكة هللا جزاء ألعمال البر واإلحسان التي قاموا بها في حقه خالل حياته الدنيوية .ألنه كان جائعا فأطعموه ،وألنه كان ظمئا فرووا عطشه ،وألنه كان غريبا فآووه ،وألنه كان عريانا فكسوه ،وألنه كان مريضا فعادوه ،وألنه كان حبيسا فزاروه". وانطالقا من هذه المعطيات ،يمكن القول بأن اإلخوان الفقراء كانوا أكثر التنظيمات الدينية والفئات االجتماعية نشاطا في مجال البر واإلحسان ،وكفالة المعوزين ،وعيادة المرضى ،والتكفل بأوضاعهم .وأقر أيضا في هذا السياق ،بأن كثيرا من المراكز الصحية رأت النور في الحواضر بفضل جهود اإلخوان الفقراء. ولذلك يحق القول ،في نظره ،بأن الفضل يعزى إليهم في ميالد أوربا المستشفيات. )2الطوائف "الثالثية" بين رجال الدين والالئكيين كانت أنشطة اإلخوان الفقراء متنوعة كما يتضح من خالل ما تقدم .ومن بين األنشطة التي قاموا بها إشرافهم على إنشاء تنظيمات ضمت أعدادا من عامة الناس
149
الالئكيين ،أي مسيحيين غير منتمين ألية مؤسسة أو تنظيم دينيين .وقد كانت تلك التنظيمات بدورها عبارة عن طوائف عرفت باسم "الطوائف الثالثية" ( les Tiers .)Ordresوكان المبدأ يقضي بإمكانية انخراط جميع الناس ،من مختلف الفئات ،في تلك الطوائف .ولكن البحث يفيد بأن األفراد الميسورين نسبيا هم الذين شكلوا أغلبية أعضائها .ويجب التذكير هنا بأن طوائف الفقراء كانت موزعة في حقيقة األمر ،تبعا لرغبات مؤسسيها التنظيمية ،إلى ثالث مجموعات هي :طائفة الرجال (رجال الدين "النظاميين") ،وطائفة النساء (نساء الدين "النظاميات") ،وطائفة المسيحيين والمسيحيات من سكان الحواضر الغير منتمين إلى تنظيمات دينية كما تمت اإلشارة إلى ذلك سلفا. ويسمح ما تقدم ،بالقول بأن جميع الفئات االجتماعية بدت وكأنها كانت مؤطرة في هذه التنظيمات ،رغم أن طوائف الرجال هي التي كانت تعد أكثر الطوائف ثقال. كما يسمح بالقول أيضا بأن انخراط الالئكيين بدورهم في إحدى تلك الطوائف ،لم يفض إلى انقالب موازين القوى لتنحو أوربا نحو الالئكية .وعليه ،فإن القرن الثالث عشر يمثل لحظة فشل في بناء أوربا الئكية. )3أوربا القوطية يمثل القرن الثالث عشر لحظة كبرى بالنسبة للفن الذي انتعش كثيرا ،وخاصة فن المعمار الذي ساهم في التحام جميع مناطق أوربا خالفا لآلداب ألنها كانت تكتب بلغات محلية .كانت لغة اآلداب متنوعة ،بينما كانت لغة الفن واحدة .فقد انتشر الفن الروماني القديم في معظم مناطق أوربا ،رغم بعض الخصوصيات التي اتخذها هنا وهناك .كما حمل تسمية واحدة هي "الفن الروماني" ( .)l’art romainوكذلك ظهر الفن القوطي في شمال غالة .وتبلور ثم غمر معظم مناطق أوربا المسيحية خالل القرن الثالث عشر. كان هذا الفن مختلفا عن الفن الروماني .وكان فنا مواكبا للنمو الديموغرافي الهائل الذي شهدته أوربا منذ مطلع القرن الحادي عشر ،والذي أصبح يقتضي بناء مؤسسات دينية فسيحة .وجاء الفن القوطي منسجما مع الكنائس الكبرى الفسيحة .كما كان يعكس ذوقا مختلفا عما كان عليه األمر فيما مضى .وبمقتضاه تغيرت اتجاهات األضواء واأللوان التي أصبحت تنساب بشكل عمودي ،ألنه فن حضري تجسد إبداع "مهندسيه" في الكاتدرائيات .ولذلك نعت جورج دوبي فترة سيادة الفن القوطي بكونها "فترة الكاتدرائيات" .57وقد كان محقا فيما ذهب إليه ،ألن الفن القوطي تجسد فعال - 57أنظر كتابه : Le temps des cathédrales. L’art et la société (980-1420), Paris, Gallimard, 1976.
150
خالل هذه الفترة في كاتدرائيات بناياتها فسيحة ،ضخمة وشاهقة مثل كاتدرائية "سيدتنا" ( )Notre Dameبباريس ،وكاتدرائية مدينة أميان ( )Amiensالتي استغرق تشييدها فترة طويلة امتدت بين سنتي 1220و .1270أي أن بناءها استغرق كل فترة حكم سان لويس .وقد انتهى البناءون من تشييد المكان المخصص "لجوقة" رجال الدين ( )le chœurبهذه الكاتدرائية سنة .1256وقدر للملك سان لويس أن يقف بذات المكان ويلقي منه "تصريح أميان" الشهير الذي تم بمقتضاه فض النزاع الدائر بين ملك أنجلترا هنري الثالث وبعض بارونات مملكته الثائرين. وقد شيدت هذه الكاتدرائية على بقعة مساحتها حوالي 200 000متر مربع. وبلغ طولها 145مترا ،بينما بلغ ارتفاعها 42مترا ونصف المتر .وإن أقصى ارتفاع بلغته كاتدرائيات القرن الثالث عشر تجسد في كاتدرائية مدينة بوڤي (،)Beauvais التي تم االنتهاء من تشييدها سنة .1272وبلغ علوها 47مترا .وقد انهارت سنة .1284 اكتنف عملية انسياب األضواء بعد روحي .وإن هذا البعد هو الذي كان وراء اختيار وضع نوافذ الكاتدرائيات القوطية في الجزء األعلى من الجدران .وكان وراء هذا االقتراح رجل الدولة وراهب كنيسة سان دوني سوجر ( .)Sugerوهو الذي أشرف شخصيا ،وفق هذا المنظور الالهوتي -الجمالي ،على عملية تشييد كنيسة الدير. وخالفا أيضا لزجاج نوافذ الكنائس المشيدة وفق المعمار الروماني الذي كان زجاجا أبيضا ،وأحيا نا ذي لون رمادي ،فإن زجاج نوافذ الكاتدرائيات القوطية كان متعدد األلوان .وأتى هذا التعدد انعكاسا لتطور الثقافة ،وتوفر النباتات التي تدخل في صناعة الصباغة ،وتقدم تقنيات الصباغة .وصاحبت الزجاج المتعدد األلوان ،نحوتات متعددة األلوان على الجدران وعلى الواجهات التي شكلت فضاء أبان فيه النحاتون عن إبداع قل نظيره .وقد جمعت تلك النحوت بين النقوش والزخارف والمجسمات. تجلى الزجاج المتعدد األلوان في كاتدرائية مدينة شارتر التي وضعت بها نوافذ كثيرة من الزجاج المختلف األلوان ،وإن غلب عليها اللون األزرق .وقد تم تقليد هذه الكاتدرائية ،وغيرها من كاتدرائيات فرنسا ،في سائر أنحاء أوربا .ولعل أجمل الكاتدرائيات التي حاكت كاتدرائيات فرنسا تلك التي شيدت في اسبانيا بكل من مدينتي برغس وطليطلة .أما في أنجلترا ،فاتخذ المعمار القوطي صبغة خاصة نسبيا .وانتشر في ربوعها انطالقا من منطقة نورمانديا ،وبلغ الذروة خالل القرنين الرابع عشر والخامس عشر من خالل بعض المنشآت التي تجسد فيها ما يعرف "بالمعمار القوطي البراق" .أما في ايطاليا ،فلم ينتشر المعمار القوطي إال في مناطق محدودة كانت خاضعة لتأثير تنظيمات الفقراء المنضوين في طائفة فرنسيس األسيزي .فبدا وكأنه
151
حوصر من قبل الفن الروماني الذي ظل قوي الحضور ،وفن عصر النهضة الذي الحت مقدماته في األفق .وفي جرمانيا كان األمر كذلك ،حيث انتشر في المجاالت الهنسية نوع من المعمار القوطي تمثل في بعض الكنائس ،ذات الردهات الفسيحة، شيدها مجموعة من التجار. يظهر بأن عالقة األوربيين بالفن القوطي ال زالت لم تنته بعد .ويؤكد صدق ما أذهب إليه درس افتتاحي ألقاه روالن ريخت ( )Roland Rechtبالكوليج دو فرانس ورد فيه ،أن نظرة إلى المنشآت الحديثة تفيد باستمرارية الفن القوطي ،إذ أن المهندسين المحدثين استلهموا الكثير من المنجزات التي تحققت بين سنتي 1140 و .1350فقاموا بمحاكاتها وإثرائها ،ألن المعمار القوطي بلغ القمة .وزادته روعة واكتماال األلوان الزاهية التي طليت بها الجدران والرسومات واألشكال المنحوتة التي زينت الواجهات .ولذلك يحق القول بأن المعمار القوطي أثرى بشكل فريد أوربا األشكال والصور. )4أوربا أدب المجامالت تميز القرن الثالث عشربكونه شكل الحيز الزمني الذي تأكدت فيه "أوربا السلوكات والطبائع الجميلة" التي يدرجها المؤرخون وعلماء االجتماع المحدثون والمعاصرون ضمن ما ينعتونه بمظاهر الحضارة .وقد كان مسيحيو الفترة المذكورة ينعتون هذه المظاهر"بالمجاملة" ( .)la courtoisieوبعد مضي فترة من الزمن شاعت في األوساط الحضرية كلمات مثل التحضر ،والتمدن ،وأدب المعاملة للداللة على تلك األحاسيس والسلوكات والطبائع التي شاعت في القرن الثالث عشر. وقد قدر لهذه المظاهر أن تحظى سنة 1939بعناية عالم االجتماع األلماني نوربرت إلياس ( )Norbert Eliasالذي خصها ببحث مستفيض تحت عنوان "حضارة الطبائع" أوضح فيه بأن األحاسيس والسلوكات التي تندرج تحت اسم المجاملة ذات أصلين اجتماعيين :القصور والمدن .وبناء عليه ،فهي تمثل حصيلة ا نصهار سلوكات النبالء وسلوكات أفراد البورجوازية التي شكلت موضوع مؤلفات كثيرة تم انجاز بعضها بالالتينية ،وبعضها اآلخر باللغات المحلية .منها ما كتب نثرا ومنها ما صيغ نظما .ومن بينها ما اتخذ طابع المؤلفات التربوية ،من قبيل مؤلف األديب والمربي االيطالي بيونڤشينو ( )Bonvesin( ou )Buonvicinoالذي استعرض في مؤلفه كثيرا من مظاهر أدب السلوك ،مثل آداب الجلوس إلى المائدة، وكيفية تناول الطعام ،وكيفية التعامل بين الناس ،وطرق تعامل الرجل مع المرأة، وكيفية تلطيف التعامل ،والتخفيف من حدة الطبع .ومن جملة ما أورده في هذا المؤلف قوله " :ال يجب أبدا الشرب (أو االحتساء) من القدر مباشرة .بل يجب استعمال ملعقة
152
للقيام بذلك ،فهذا أفضل" .وقوله " :إن من ينحني على القدر وهو متسخ ،يسيل لعابه، كأنه خنزير .فمن األفضل له أن ينضم إلى الحيوانات والبهائم". ورغم هذه التوصيات ،فيبدو أن اإلقبال على استعمال بعض أدوات األكل كان على مضض .فالشوكة ،مثال ،انتقلت من بيزنطة إلى ايطاليا في وقت مبكر ،ورغم ذلك لم يقيل أفراد المجتمع على استعمالها إال منذ مطلع القرن الرابع عشر. وال شك ،أن جميع ما كتب في هذا المضمار شكل تراكما استفاد منه ايراسموس ( )Erasmeفي تحرير مؤلفه الشهير"في كياسة طبائع األطفال" ( De civilitate ،)morum pueriliumالذي وضعه باللغة الالتينية سنة ،1530وتمت ترجمته بعد ذلك إلى اللغات المحلية. وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول بأن القرن الثالث عشر شكل الحيز الذي ولدت فيه أوربا "آداب الطبائع و قواعد العيش الجيد". )5االرتقاء المبهم لﻠعمل أعتقد بأن الذهنيات ومنظومة القيم ،شهدت تحوال خالل القرن الثالث عشر فيما يتعلق بالموقف من العمل .وتتجلى أهمية هذه التحوالت إذا علمنا بأن ذات الموقف ال زالت له امتدادات في أوربا المعاصرة. لقد اكتسى الموقف من العمل في العصر الوسيط األعلى طابعا مبهما ،وخاصة في أوساط رجال الدين المنتمين للمؤسسات الديرية؛ حيث إن قواعد القديس بينوا ( )Saint Benoîtالتي كانت تنظم أنشطتهم كانت تقتضي أن يزاولوا نشاطا مزدوجا يتمثل في استنساخ المخطوطات وعمارة األرض للحصول على ما يسد حاجياتهم. وكان الخضوع لهذا اإللزام بمثابة تكفير عن الذنب ،مصداقا لما ورد في كتاب "أصل الخليقة" الذي ينص على أن هللا عاقب آدم وحواء على ارتكابهما للخطيئة بأن حكم عليهما بمزاولة العمل. كان عمل رجال األديرة اذن سبيال للتكفير عن الذنب ،كما كان أيضا نوعا من المقابل يقدم لشراء المغفرة .وساهم هذا األمر في حد ذاته في تثمين العمل ،ولذلك اكتسب قيمة في األوساط االجتماعية ،خاصة وأن الرهبان كانوا يحظون بمكانة مرموقة. وتسارعت وتيرة تثمين العمل بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر. وساهمت في ذلك عدة معطيات ،من بينها التقدم التقني الذي واكب النشاط الزراعي في األرياف ،وتطور العمل الحرفي في الحواضر والبحث عن الغنى والرقي االجتماعي اللذان لم يكن من الممكن تحقيقهما إال عن طريق العمل.
153
ويجب التذكير في هذا المضمار بما قيل عن التجار وعن األساتذة الجامعيين الذين أضحت أنشطتهم مشروعة ،وأصبحت لهم حظوة ،بفعل العمل .وبالمقابل تعرض اإلخوان الفقراء النتقادات الذعة نظرا لموقفهم السلبي من العمل. ويبدو أن جميع الفئات االجتماعية التي كانت تتباهى بتفوقها ،من دون أن تسند ذلك التفوق إلى عمل معين ،كفئة النساك العباد وفئة الفرسان وفئة النبالء ،وجدت نفسها تفقد الكثير من الهيبة بفعل المكانة المرموقة التي أخذ يكتسبها العمل في األوساط االجتماعية وفي أذهان الناس .والمالحظ أن النشاط الحربي ،الذي كان فيما مضى من األولويات ،أضحى في أعين الناس مجرد عمل نافع تقوم به فئة معينة من أجل حماية الضعفاء .وفي هذا السياق بالذات ظهرت القولة المأثورة " :العمل أفضل من الشجاعة". ولكن رغم كل ما تحقق ،ظلت صورة العمل تشوبها نقائص كثيرة .منها مثال أن قاموس المصطلحات المتداولة لم يكن يتضمن مصطلح "العمل" .وإن كلمة ""labor المتداولة كانت تعني "الجهد" في المقام األول .ومنها تم اشتقاق الكلمة الفرنسية " ،"laboureurالتي تطلق على الحراث (القائم بعملية الحرث) .كما أن كلمة "( "operaأوبرا) كانت تعني الناتج الحاصل عن العمل ()le produit du travail الذي يمكن التعبير عنه أيضا في اللغة الفرنسية بكلمة " ،"œuvreومنها كلمة " ." ouvrierوفضال عن كل هذا وذاك ،ظل هناك تمييز ،بل تناقض ،بين العمل اليدوي ،الذي ظل ممقوتا ،وأشكال العمل األخرى ،التي كانت تحظى بالقبول واالحترام .وهذا ما عبر عنه أحد الشعراء بفخر واعتزاز قائال ":لست عامال باليدين". وفي ضوء ما تقدم ،سيتخلص بأن المعطيات السابق ذكرها كانت وراء ميالد مفهوم العمل الذي ظل مبهما ومحاصرا بين الكرامة ونقيضها .ومما الشك فيه أن الكنيسة ،وبمعيتها األغنياء واألقوياء ،ساهموا جميعا في تمجيد العمل لكي يظل العمال ع بيدا تحت رحمة مشغليهم .وهذا ما يفسر استمرارية النقاش إلى اليوم حول مفهوم العمل .وإن التحوالت الكبرى التي يشهدها سوق الشغل تمثل منعطفا مهما في أقطار أوربا ،وفي باقي األقطار التي تنعت بكونها متقدمة. )6أوربا والمغول والشرق شهد القرن الثالث عشر تطورا حاسما ذا صلة وثيقة بتكوين أوربا .وال بأس من التذكير ،قبل الحديث عن طبيعة هذا التطور ،وعن األسباب الكامنة وراءه ،بأن هوية أوربا تشكلت دوما خالل فترات مواجهة األعداء أو "اآلخرين" .وأعني باألعداء واآلخرين الفرس في العصر القديم ،ثم الشعوب المتبربرة ،والوثنيين ،والمسلمين
154
أخيرا .وأتى المغول في القرن الثالث عشر ليضيفوا بدورهم لمسة أخرى في عملية التكوين وهي في طور األجرأة. تمثلت هذه اللمسة في الغزو الذي قاموا به سنة ،1241والذي قادهم إلى بعض مناطق الغرب حتى مشارف سيليزيا ( .)la Silésieثم انكمش بعد ذلك وأصبح منحصرا في مناطق الشرق .وغني عن البيان ،أن هذا الغزو أثار الفزع والرعب في أوساط المسيحيين وأثر في أذهانهم .ولذلك قرر ملك فرنسا سان لويس تقديم روحه قربانا لحسم هذا الوضع ،وآثر أن يموت شهيدا .ولم يتوان فعال ،وهو يخوض حملة صليبية في المشرق ،عن القيام بكل ما من شأنه احتواء خطر هؤالء المغول ،ألنهم يمكن أن يكونوا أعداء شرسين ،كما يمكن أن يكونوا حلفاء في حربه ضد المسلمين. وحدث أن ساهم الخوف من المغول في إذكاء تطور المواقف الذهنية التي كانت آخذة أصال في التطور ،كما ساهم في التخلي عن الحمالت الصليبية .ذلك أن اهتمام المسيحيين المتزايد بأراضيهم وبممتلكاتهم وبقضايا الغرب األوربي ،حد من وتيرة االهتمام بالحمالت الصليبية .وأفضى الخوف من الغزو المغولي الى توحيد االتجاه لدى جميع الفعاليات بعدم جدوى مواصلة االهتمام باألرض المقدسة. وظهرت في سياق هذه األحداث حدود في المناطق الشرقية من المجال األوربي .وقد ارتسمت هذه الحدود في سياق عملية وضع الحدود التي كانت تتجسد آنذاك في مجاالت ترابية وليس في خطوط ثابتة من وضع الدول كما سيحدث الحقا. ويبدو أن هنغاريا ،وبعدها بولندا ،كانتا من بين أولى كيانات العالم المسيحي التي تبنت هذا التصور الجديد للحدود ،ألن القائمين على األمر فيهما كانوا يرون بأن كيانيهما يعتبران بمثابة ثغرين في مواجهة المتبربرين الوثنيين ممثلين في المغول في المقام األول. ويبدو أن أول تعبير جسدته الوضعية الجديدة ،والتصورات الجديدة للحدود، تمثل في رسالة بعث بها ملك هنغاريا بيال الرابع ( )Bella IVللبابا اينوسنت الرابع، أحاطه فيها علما بأن "التاتار" ،أي المغول ،يستعدون بشكل حثيث للهجوم في أقرب وقت على جميع مناطق أوربا .وأضاف قائال في ذات الرسالة " :وقد يحدث ال قدر هللا أن تسقط في حوزتهم إمبراطورية القسطنطينية ،والمناطق المسيحية الواقعة فيما وراء البحار .وستكون الخسارة كبيرة بالنسبة "لسكان أوربا" إذا ما احتل التاتار مملكتنا ". وشكل المجمع الديني الذي انعقد بمدينة ليون سنة 1274مناسبة أخرى أكد فيها أسقف موراڤيا أن الحروب الصليبية تصرف نظر المسيحيين عن االهتمام بالحدود الحقيقية للعالم المسيحي على نهر الدانوب الذي يقبع بالقرب منه الوثنيون .ومما الشك فيه أن هذا التصور الجديد السياسي -الجغرافي ألوربا كان عبارة عن تصور جديد
155
ترابي ألوربا .وإن الذين كانوا يتبنونه لم يكونوا يأخذون بعين االعتبار مناطق الكاربات أو جبال األورال كحدود ألوربا. والشك أن األمر يتعلق بأوربا "جديدة" أتت كمحصلة لالزدهار الكبير الذي شهده العالم المسيحي منذ منصف القرن الحادي عشر حتى أواسط القرن الثالث عشر. ورغم صعوبة ضبط تواريخ بداية ونهاية التحوالت الكبرى في التاريخ ،أعتقد بأن الحيز الزمني الممتد بين أواسط القرن الثاني عشر وأواسط القرن الموالي ،شهد تحوال عميقا شمل مجموعة كبيرة من القيم األساسية التي كان يتبناها المجتمع المسيحي في أوربا .وال شك ،أن األمر يتعلق بمنعطف حاسم حدث نتيجة وعي انتشر في أوساط فئات عر يضة من الرجال ومن النساء الذين عايشوا ذلك االزدهار الذي حدث هنا وهناك بأشكال مختلفة وفي فترات متفاوتة نسبيا .وقد شمل هذا االزدهار ،كما هو معروف ،جميع المجاالت التي تهم حياة الناس االقتصادية والتقنية واالجتماعية والفكرية والفنية والدينية والسياسية .وبما أن القيم التي كان يتبناها أفراد المجتمع، كانت ذات صلة وثيقة بجميع هذه المجاالت،كما كانت تتفاعل فيما بينها بشكل معقد، فإن أي مجال من المجاالت السالف ذكرها كان يقوم بدور في تسريع الوتيرة (أو اإليقاع) خالل مجريات ذلك المنعطف .ومن ثم ،فإن النمو المطرد لحركة التمدين ،هو الذي قام بدور تسريع الوتيرة .وأحيانا أخرى كانت الثورة الزراعية وراء هذا الدور، وأحيانا أخرى كان النمو الديموغرافي .وفي أحايين أخرى كان ظهور المناهج المدرسية ،وطوائف الفقراء ،أو ظهور الدول المركزية ،أو التحوالت في أوساط طبقة الفالحين ،أو ظهور فئات اجتماعية مدينية جديدة كفئة البورجوازية. )7نزول القيم من السماء عﻠى األرض أرى بأن الفترة الممتدة بين أواسط القرن الثاني عشر وأواسط القرن الموالي، التي استشاط فيها الوعي باإلقالع الكبير الذي تحقق في أوربا ،والتي شهدت أيضا تحوال في منظومة القيم ،تمثل فترة نزول القيم من السماء على األرض .وأعتقد فعال بأن اإلقالع الكبير فرض تحديا على منظومة القيم التقليدية الموروثة عن العصر الوسيط األعلى .ومن بين جميع الحلول الفكرية المتاحة التي كان من الممكن اللجوء إليها لرفع ذلك التحدي ،فإن المسيحية الالتينية ارتأت اختيار العودة إلى العالم األرضي (الواقعي) في حدود ما يتطابق مع ما تقره العقيدة المسيحية طبعا .وتجلت أولى عالمات تحول منظومة القيم في كون المستجدات التي كانت تحدث في سياق ذلك اإلقالع كان يتم لفها في ثوب التقليد الموروث عن العصر القديم الوثني والمسيحي .ويمكن التذكير في هذا الشأن بالعبارة اللغز التي فاه بها مرة األسقف
156
بيرنار دو شارتر (" : )Bernard de Chartresنحن أقزام محمولة على أكتاف عمالقة". وبناء عليه ،فإن أول تحول شهدته القيم تمثل في التخلي عن اإلدانة القديمة التي كان يتم اللجوء إليها عند ظهور كل جديد .وفي نفس السياق ،يندرج موقف كاتب سيرة القديس دومينيك ( )Saint Dominiqueالذي عاش في النصف األول من القرن الثالث عشر .فقد أثنى كثيرا في تلك السيرة على "دومينيك الرجل الجديد" وعلى طائفة الدعاة "الجديدة" التي أنشأها. ومما ال شك فيه ،أن أفراد مجتمع العصر الوسيط األعلى كانوا يعملون ويكابدون من أجل حياة أرضية (دنيوية) ،أي من أجل ممارسة السلطة الدنيوية ،ولكن القيم التي كانوا يحيون باسمها أو يتصارعون باسمها كانت قيما ما فوق طبيعية تلخصها جملة مصطلحات ،من قبيل هللا ،مدينة هللا ،الجنة ،الخلود ،كراهية العالم، الردة .وتجسدت أيضا تلك القيم (الما فوق طبيعية) في نموذج أيوب اإلنسان الذي ال وجود له أمام قدرة هللا .وخالصة القول هي أن السماء مثل األفق الثقافي واإليديولوجي والوجودي بالنسبة لجميع الناس. وقد ظل الناس مسيحيين منذ مطلع القرن الثالث عشر .كما ظلوا منشغلين ،أشد االنشغال ،بخالصهم ،ولكن الخالص أصبح يتحقق منذ هذه الفترة عن طريق استثمار مزدوج على األرض وفي السماء .فكان ذلك يعني انبثاق قيم أرضية (دنيوية) مشروعة ومفضية إلى الخالص .ويمكن تشبيه األمر بتحول عمل سلبي مفضي إلى الكفارة إلى عمل ذي قيمة ايجابية موهوب هلل .وفي ضوء هذا التحول لم تعد عمليات اإلبداع واالختراع ،وكذلك اإلسهامات في مجال التطور التقني والفكري ،تعتبر خطايا .كما أن التمتع بجمال وخيرات الجنة في الحياة األخرى ،كان يبدأ التحضير له من األرض .ويتطابق هذا التصور مع المبدإ القائل بأن اإلنسان خلق في صورة مماثلة هلل ليخلق على األرض الظروف االيجابية المفضية للخالص ،وليس فقط الظروف السلبية .ويمكن التأكيد في هذا الشأن بأن المسيح هو الذي أنقذ آدم وحواء من الجحيم. وبناء عليه ،فإن التاريخ ليس دائما انحدارا نحو نهاية العالم ،ولكنه أيضا صعود نحو األعلى ،نحو اكتمال العالم .وبالمثل ،فإن التيار الذي أشاع في أوساط فئة قليلة من الناس اإلحساس بنهاية العالم في حدود األلفية ،ضخ في نفوس فئات عريضة منهم معنى ايجابيا لمفهوم التاريخ. ومهما يكن من أمر ،فقد ظهرت إلى جانب ما يمكن نعته "بالسلطات" الفكرية األصيلة ( ،)les authenticaالتي كانت مصدر القيم ،سلطات فكرية جديدة تمثلت في أساتذة الجامعات ( .)les majistraliaأما في المجال االقتصادي ،فظهرت للوجود فكرة "النمو" ( )la croissanceالتي ستحل بدلها منذ نهاية القرن السابع عشر فكرة
157
التقدم ( .)le progrèsوفي مجال التقنيات شاع استعمال الطاحونة ،وتنوعت تطبيقاتها تبعا ألغراض مختلفة ،وتم استبدال طريقة النسج العمودية بأخرى أفقية ،وظهر نظام عمود الكامات ( )l’arbre à camesالذي أصبح يستعمل في الطاحونات، و"المحركات" ،فجعل دورتها ترددية بعد أن كانت متواصلة .وقد أفضت هذه التقنيات إلى ظهور قيمة جديدة هي اإلنتاجية ( .)la productivitéوفي المجال الزراعي، يبدو أن هللا أرسل منة إلى عباده .فقد نزلت الوفرة من السماء على األرض ،حيث تم الشروع في استعمال نظام الدورات الثالث بدل نظام الدورتين في المناطق التي تسمح فيها التربة والمناخ والنظام الزراعي بذلك ،فانضاف سدس إلى مساحة األراضي التي كانت مستثمرة مما ساعد على تنوع المنتوجات وفق الفصول .فظهرت تبعا لذلك قيم النمو والمردود .وغدا علم الفالحة جديرا بأن يتم التأليف فيه ،كما كان األمر في المراحل المتأخرة من العصر القديم .فوضع األنجليزي وولتير دو هنلي ( Walter de )Henleyحوالي سنة 1280مؤلفه " ."Hosebonderieثم وضع االيطالي بيتروس دو كرسنتيوس ( )Petrus de Crescentiusبين سنتي 1304و1306 مؤلفه "( "Ruralium commodorum opusفوائد العمل في الوسط الريفي) الذي أمر ملك فرنسا شارل الخامس بترجمته إلى الفرنسية في أواسط القرن الرابع عشر. ورغم وجوب عدم المبالغة عند الحديث عن هذه التحوالت ،فأقر بأنها كانت مؤشرا على العودة إلى األرض .فقد انتهى زمن كان فيه العار يلف بمصطلح الكسب ويعيق سعي المتعاملين لتحقيق الربح أو جني فوائد .وقد تغيرت المواقف من الربح والكسب المشروع تحت تأثير بعض الفعاليات ،وأبرزها طوائف اإلخوان الفقراء، الذين أصدروا ما يشبه مجموعة "فتاوى" ذات صلة بالحياة االقتصادية ،بعضها يهم التجارالذين رأوا بأنهم يمارسون نشاطا مشروعا ينتفع منه عدد كبير من الناس ،طالما أنهم يضعون رهن إشارة هؤالء الناس خيرات وهبها هللا لهم. وكان انتشار القيم الجديدة يتم في إطار لجوء متزايد للعقل وللحساب .وهذا بالذات ما يفيد به المصطلح الالتيني المتداول "( "ratioنسبة) .وقد تجلت العقالنية في طريقة استثمار االستغالليات الزراعية ،وكذلك في عملية جمع المحاصيل التي كانت تجود بها .وال شك أن العقالنية هي التي أملت على ملك أنجلترا وليام الفاتح ( )Guillaume le Conquérantالقيام بتلك العملية التي كانت سابقة في التاريخ وتمثلت في القيام بجرد كامل لمختلف االستغالليات الزراعية التي تقع في حوزة األسرة المالكة ،وجرد لمختلف منتوجاتها .وحصل ذلك الجرد سنة .1085وتضمنه الكتاب الشهير باسم "."Domesday Book ويمكن تأكيد صحة وجهة نظري القائلة بحدوث عملية تحويل ()un transfert من السماء إلى األرض بالتذكير بالعملية التي قام بها قمط الفالندر ( )la Flandreسنة
158
.1187وتمثل امتدادا إلى حد ما لما قام به ملك أنجلترا ،حيث أنجز هو اآلخر جردا مدعما باألرقام لمختلف مداخيله .وعلى غراره كان يقوم فليب أغسطس في فرنسا بنفس العملية بصورة منتظمة .وال زالت الخزائن تحتفظ بنسخة جرد يغطي الفترة بين سنتي 1202و .1203ورغم أن الحقيقة التي تفصح عنها مثل هذه العمليات حقيقة بسيطة في حد ذاتها ،فإنها تسمح بالحديث عن ميالد أوربا الميزانية .وكأن "هوس الحساب" أخذ يستبد بمجتمع غرب أوربا ابتداء من حوالي سنة .1200فأصبح الناس يحصون كل شيء ،حتى السنوات التي سيقضونها في المطهر .وهذا ما عبر عنه جاك شيفولو ( )Jacques Chiffoleauبصيغة جميلة " :المحاسبة في العالم اآلخر" ( la .)comptabilité de l’au delàفقد بدا فعال وكأن رجال ونساء ما بعد القرن الثالث عشر ،من منتمين للمؤسسات الدينية ،ومن الئكيين ،تجاوزوا حدودهم وتعدوا على مجال من مجاالت هللا تحذوهم الرغبة في التحكم أكثر في الزمن الذي يحيونه في يومهم .ومن هنا ظهرت في سائر أنحاء أوربا الساعة الميكانيكية .وحتى الجامعيون أنزلوا على كراسيهم العلمية جزءا من المعرفة التي كان هللا وحده يقوم بتوزيعها. فمعرفة هللا غدت بدورها معرفة إنسانية .فقد استعمل عالم الالهوت والفيلسوف أبيالر مفهوم "الثيولوجيا" ألول مرة في مطلع القرن الثاني عشر .ووضح األب شوني ( le )Père Chenuكيف تحولت تلك "الثيولوجيا" إلى علم خالل القرن الثالث عشر. وفي نفس السياق ،يندرج الحديث عن "البورﯕتوريوم" (المطهر) الذي ابتدعته الكنيسة عند نهاية القرن الثاني عشر .فقد كان استحداثه نوعا من التعدي على حق هللا على األموات .ألن الكنيسة أرست من خالله نظاما جديدا لتسليم أرواح اآلدميين .إذ في المطهر كان يتم فرز (أو انتخاب) أرواح األموات قبل تسليمهم هلل. وال شك أن هذا األمر ،وغيره من األمور ،يفيد بأن المنظومة الفكرية والذهنية شهدت تطورا .وقد سمح تطورها للناس بالتحكم في أدوات المعرفة بصورة أفضل. وفي هذا السياق ،لم يعد الكتاب تحفة فنية يقتنى للزينة كما كان األمر سابقا ،وإنما أصبح يقرأ لصقل المعرفة .وعلى غرار القراءة انتشرت الكتابة في أوساط التجار ورجال القانون .كما غدت أداة للتعليم في الدارس .وهكذا انتفى الطابع القدسي الذي كان يلف هذه األداة ،أو باألحرى أضحت قوتها تفتعل على األرض بعد أن كانت تفتعل في السماء .وغدا جسد اإلنسان موضوع عالج وتطبيب بدل أن يكون شيئا يدفع إلى النفور .ويتضح ذلك ،إذا علمنا بأن البابا بنديتو كايتاني ()Benedetto Caetani بونيفاس الثامن ،أصدر سنة 1299أمرا بمنع عملية تقطيع جثة الميت إلى أجزاء ( le .)dépeçageولم تعد ظاهرة النهم تندرج ضمن الخطايا المرتبطة بالبذخ ،بل ظاهرة مقبولة بالنظر للتطور الحاصل في مجال التغذية وفن الطبيخ .ويندرج ،في هذا السياق بالذات ،ظهور أول مصنف في فن الطبيخ أمر األسقف ورجل الدولة الدانمركي
159
أبسلون ( )Absalonبوضعه حوالي سنة .1200فكان ذلك إيذانا بميالد أوربا الطبيخ واألكل .وعلى غرار النهم ،كان الضحك ظاهرة غير محمودة وفق تعاليم بعض التنظيمات الديرية المتشددة ،فغدا بعد القرن الثالث عشر من مظاهر نقاوة الروح، وصفاء السريرة ،كما أخذ يقول بذلك أعضاء طائفة فرنسيس األسيزي .وقد يفهم من هذه اإلباحة ،بأن الضحك يطيل العمر .ولذلك أخذ يسود شيئا فشيئا في أوساط الناس اتجاه نحو الرغبة في العيش لمدة أطول .فكأنهم لم يعودوا في عجلة من أمرهم .وهذا ما أكده أحد الباحثين االيطاليين حين أوضح بأن رجل الدين والعالم والفيلسوف روجي باكون ( )Roger Baconلم يكن يخفي رغبته في أن يعمر اإلنسان طويال على وجه األرض. وكما اشتهر باكون بالبحث في مجال الفلسفة والعلم ،فقد اشتهر غيره بالبحث في مجاالت أخرى كالبحث الخرائطي الذي ارتقى إلى مصاف العلوم وقطع مع الفكر اإليديولوجي الذي كان يلفه خالل العصر الوسيط األعلى .فأضحت معرفة العالم تبعا لذلك قائمة على أسس علمية. تجدر اإلشارة في األخير إلى أن القرنين الثاني عشر والثالث عشر شهدا تكون نموذجين من المثل اإلنسانية ( )deux types d’idéal humainالتي كانت تهدف إلى تحقيق نجاح دنيوي في المقام األول ،وان كانت تروم أيضا االستعداد للخالص. يتمثل النموذج األول في ظاهرة المجاملة التي غدت في القرن الثالث عشر تعني أدب السلوك والخلق الحميد ،وتختزل الحضارة ككل .ويتمثل النموذج الثاني في السلوك المتزن القائم على الروية ( .)la prud’homieويتضمن هذا النموذج معنى الحكمة، واالعتدال .أي يفيد بنوع من التوافق بين الشجاعة والتواضع ،بين اإلقدام والعقل ،أو النظرة الثاقبة .وغني عن البيان أن هذا المثل ( )un idéalذو مسحة الئكية بالدرجة األولى. وعلى العموم ،فإن معاني النموذجين تجسدت بصورة جلية في شخصين تدور حولهما أحداث الكتاب الموسوم "أنشودة روالن" .الشخص األول هو الفارس روالن الذي يبدو في الكتاب رجال باسال ،وفي نفس الوقت حكيما .والشخص الثاني هو ملك غالة لويس التاسع ،الذي يبدو رجال حكيما متزنا أكثر من كونه قديسا .ومعنى ذلك ،أن الخالص غدا يتحقق ،ابتداء من القرن الثالث عشر ،على األرض كما في السماء. ولكن يجب التنبيه بأن الحديث عن هذين النموذجين ،ال يعني البتة ،انتفاء المثل ذات الصبغة الجماعية من قبيل االنتماء "للعصبية" ،أو االنتماء لطائفة معينة .ولكن الم الحظ أن فئة قليلة من رجال ونساء القرن الثالث عشر كانوا يجتهدون قدر اإلمكان إلبراز ذواتهم .وكانت "باحة التطهير والفرز" (البورﯕتوار) تستقبلهم عند نهاية حياتهم الدنيوية .والجدير بالذكر أن هذه "الباحة" كانت عالما أخرويا فرديا في الطريق
160
نحو العالم األخروي الجماعي الذي ينتظم بعد يوم القيامة .ولعل ظاهرة الفردانية المشار إليها هي التي تحدث عنها الباحث ميشال زانك ( 58)Michel Zinkمن خالل مالحظته لالستعمال المتكرر لضمير المتكلم "أنا" ( ) jeفي كثير من المصنفات األدبية .ومعنى ذلك أن الذاتية أخذت تحتل موقعا متميزا في أوربا القرن الثالث عشر.
- 58أستاذ باحث فرنسي ،ولد سنة .1945وهو متخصص في فقه اللغة .حاضر في جامعتي تولوز والسوربون ،وفي الكوليج دو فرانس .أصدر عددا من الدراسات واألبحاث تهم األدب الفرنسي في العصر الوسيط .من بينها : - Littérature française du Moyen Age, Paris, P.U.F., 1992. - Les troubadours. Une histoire poétique, Paris, Perrin, 2013.
161
الفصل السادس خريف العصر الوسيط أم ربيع األزمنة الجديدة
أستهل هذا الفصل بتنبيه القارئ الى أن عبارة "خريف العصر الوسيط" الواردة أعاله ،هي عنوان كتاب أصدره فليب ڤولف سنة .1980ويعتبر في األصل عنوان كتاب مشهور ألفه المؤرخ الهولندي يوهان هويزينكا ( )Johan Huizingaسنة .1919وعبارة "خريف العصر الوسيط" تتضمن توصيفا درج الباحثون في تاريخ هذه الحقبة على إطالقه على القرنين الرابع عشر والخامس عشر اللذين جرت العادة على اعتبارهما يمثالن نهاية العصر الوسيط .وخاللهما شهدت أوربا أزمة بعد االستقرار واالزدهار النسبيين اللذين عرفتهما في القرن الثالث عشر. وقد اقترح الباحث ﯕي بوا ( )Guy Boisمؤخرا إعادة النظر في هذا التوجه. وذهب إلى اعتبار ما حدث من مصاعب خالل القرنين الرابع عشر والخامس عشر مجرد أزمة عابرة شهدها النظام الفيودالي .وقد سعى إلى تبيان صحة وجهة نظره باختيار منطقة نورمانديا ( )la Normandieكمجال جغرافي لبحثه .59وأرى من ج انبي أن هذا االختيار قلل نسبيا من قيمة وجهة نظرالباحث .وأعتقد على غرار كثير من الباحثين ،بأن تلك المصاعب تفيد بأن األمر يتعلق بأزمة بنيات ،وبأزمة نمو عام للمجتمع األوربي وظهور كارثي لمآسي جديدة .فرجال ونساء القرن الرابع عشر، الذين كانت تطغى على رؤاهم فكرة نهاية العالم وقيام القيامة ،التي نزلت هي األخرى - 59يمثل هذا البحث في األصل أطروحة جامعية أنجزها لنيل دكتوراه الدولة .وكان موضوعها : Recherches sur l’économie rurale et la démographie en Normandie orientale du début du XIVe siècle au milieu du XVIe siècle. ونشرها بباريس سنة 1976تحت عنوان Crise du féodalisme :ضمن منشورات la Fondation Nationale des Sciences Politiques.
162
من السماء على األرض ،لخصوا الكوارث التي واجهوها في صورة الفرسان الثالثة أبطال يوم القيامة :المجاعة ،والحرب ،والوباء ،مع العلم أن هذه الكوارث كانت معروفة خالل القرون السابقة ،ولكن حدتها هي التي أذهلتهم أكثر. )1المجاعة والحرب يبدو أن المجاعة كانت ظاهرة مرعبة ،ألن المؤرخين الذين اهتموا بدراسة المتغيرات المناخية ،أمثال إيمانويل لو روا الدوري 60وبيير اإلسكندر ( Pierre 61)Alexandreخلصوا من خالل بعض المؤشرات إلى القول بأن مناخ أوربا شهد تحوال ،وخاصة في المناطق الشمالية ،ترتب عن انخفاض درجة الحرارة وزيادة في التساقطات المطرية على شكل موجات متتالية .وقد أفضت البرودة واألمطار إلى حدوث مجاعة كبرى بين سنتي 1315و.1322 وكانت الحرب في العصر الوسيط ،كما هو معروف ،ظاهرة تكاد تكون مزمنة، رغم أن الكنيسة ،وبعض الملوك ،اجتهدوا من أجل إقرار السلم وخلق الظروف المالئمة للعيش الكريم .كما بذل حكام الممالك الناشئة بدورهم جهودا للحد من الحروب الفيودالية التي كانت تستعر بين األسر األرستقراطية .وقد أدت جميع هذه المساعي إلى تراجع نسبي للعمليات الحربية. ويتفق المؤرخون على أن الحرب عادت أدراجها خالل القرن الرابع عشر بشكل قوي .وإن ما شد انتباه المعاصرين لمختلف فصولها ،هو كون الظاهرة الحربية اتخذت أشكاال مختلفة عما كان عليه األمر من قبل .ذلك أن الدول المركزية ،التي كانت آخذة في النمو شيئا فشيئا نجحت في الحد نسبيا من الحروب الفيودالية الخاصة ،ولكنها دخلت فيما بينها في حروب ذات صبغة "وطنية" .ومن أبرزها حرب المائة سنة بين فرنسا وأنجلترا التي أعادت للواجهة الصراع الذي كان محتدما بينهما خالل القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وال شك أن ما أضفى شكال جديدا على الحرب هو التطور التكنولوجي ،الذي كان بطيئا ،ولكنه كان خارقا .وتجسد في ظهور المدفع ( ،)le canonوالبارود، - 60مؤرخ فرنسي شهير سبق أن أحالنا على أحد مؤلفاته في الهامش رقم ،1ص .86.أما دراسته حول المتغيرات المناخية ،والتي يشير اليها لو ﯕوف دون االحالة عليها ،فصدرت بباريس سنة ،1967ضمن منشورات "فالماريون" تحت عنوان : Histoire du climat depuis l’an mil. - 61باحث بلجيكي متخصص في تاريخ أوربا الوسيط .ناقش بجامعة لييج اطروحة جامعية لنيل الدكتوراه في موضوع المتغيرات المناخية في العصر الوسيط .ونشرها سنة 1987تحت عنوان : Le climat en Europe au Moyen Age, contribution à l’histoire des variations climatiques de 1000 à 1420, d’après les sources narratives de l’Europe occidentale, Paris, les Editions de l’Ecole des Hautes Etudes en Sciences Sociales.
163
باإلضافة إلى تطور تقنيات الحصار .وقد أدت هذه المستجدات إلى تراجع تدريجي لدور القصور المحصنة ( )les châteaux fortsلصالح نوعين من اإلقامات (أو المنشآت) وهما القصور األرستقراطية المخصصة للقامة واالستجمام ،والقالع الواقعة في ملكية الملوك أو األمراء .وتميزت هاته المنشآت بقدرتها على الصمود أمام قصف المدافع. ويظهر أن الحروب أصبحت مهنية أكثر .كما أن األزمة االقتصادية واالجتماعية ساهمت بدورها في تزايد عدد المشردين ،الذين كلما وجدت مجموعة منهم من يقودها ،تحولت إلى فرقة مسلحة ،أو تنظيم عسكري ،يقوم بعمليات سلب ونهب أكثر حدة من العمليات التي كان يقوم بها المحاربون النظاميون .ففي ايطاليا، على سبيل المثال ،كان "رؤساء" الحرب كثيري العدد وأقوياء إلى درجة أنهم كانوا "يمنحون" خدماتهم العسكرية للمدن وللحكام .وأحيانا كانوا يتحولون الى قادة سياسيين. وفي هذا السياق المشحون بالصراع ،لجأت بعض الدول ،مثل فرنسا ،إلى إنشاء فرق من المحاربين النظاميين كانوا يخوضون الحروب مقابل أجر .بينما استعانت المدن -الدول في ايطاليا بخدمات فرق المرتزقة الذين أضحوا أكثر تنظيما وأكثر جاهزية .وكان السويسريون على رأس األوربيين الذين اشتهروا بانتمائهم لفرق المرتزقة. ومن المفيد التذكير بأن الباحث ويليام شيستر جوردان ( William Chester )Jordanخص المجاعة الكبرى التي شهدتها أوربا في مطلع القرن الرابع عشر ببحث ممتا ز 62أوضح فيه كيف أن األوربيين الذين عاينوا تلك المجاعة عن كثب ،ولم يذهبوا ضحيتها ،اعتبروها فريدة من نوعها .كما نقل بعض شهاداتهم التي تسلط الضوء على األسباب الطبيعية والبشرية و"اإللهية" التي كانت وراءها .فقد رأوا بأن المناخ ،والتساقطات المطرية ،والحرب ،وغضب هللا كانت وراء حدوثها .والظاهر أن عواقبها كانت جد وخيمة .فقد أدت إلى تراجع مهول لمحاصيل الحبوب ،وأودت بحياة عدد كبير من الحيوانات والدواب .فارتفعت األسعار التي زادت بدورها في مضاعفة عدد الفقراء والمعوزين .ولم ترتفع األجور قط لمواكبة ارتفاع األسعار .ويبدو أن ضعف أنظمة ومؤسسات الممالك الناشئة ،وضعف إمكانيات تخزين المؤن ،ونقص وسائل النقل ،عوامل زادت من صعوبة الوضع وحدت أيضا من إمكانية التخفيف من - 62مؤرخ أمريكي ولد سنة .1948يحاضر منذ سنوات بجامعة برنستون ( .)Princetonأصدر مجموعة دراسات وأبحاث حول الحرب الصليبية ،وحول نظم الحكم في أنجلترا وفرنسا العصر الوسيط .كما أنجز بحثا حول المجاعة الكبرى بعنوان : The Great Famine: Northern Europe in the Early Fourteenth Century, Princeton, Princeton University Press, 1996.
164
النتائج المترتبة عن المجاعة .ولم تكن ثمة وسيلة بديلة للتخفيف من حدة معاناة الناس ألن أوربا التضامن ،في الوسط الريفي ،كانت ال زالت لم تنشأ بعد. وكما خص ويليام شيستر جوردان المجاعة الكبرى ببحث ممتاز ،خص الباحث فليب كونتمين ( )Philippe Contamineبدوره الظاهرة الحربية خالل القرنين الرابع عشر والخامس عشر ببحث ممتاز 63تطرق فيه إلى عدة جوانب من بينها تطور التأليف في علوم الحرب .وهكذا ظهرت ،على غرار كتب الفالحة التي تم الحديث عنها فيما مضى ،كتب اهتمت بكل ما له صلة بالحرب وفنون القتال .وقد تم نقل بعض من تلك المؤلفات إلى اللغة الالتينية من لغات أخرى أجنبية .كما أن نماذج منها تم نقلها إلى اللغات المحلية المتداولة .كما هو الشأن مثال بالنسبة لكتاب ثيودور باليولوﯕ ( ،)Théodore Paléologueأحد أبناء اإلمبراطور البيزنطي أندرونيكوس الثاني ( ،)Andronic IIالذي أمر فليب الجريء ( )Philippe le Hardiدوق بورغونديا ( )la Bourgogneبنقله إلى اللغة الفرنسية .وقام رجل الدين البندكتي هنوري بوڤي ( )Honoré Bovetبوضع مؤلف يتناول الجوانب القانونية واألخالقية في الحرب. اختزله من كتاب أحد رجال القانون االيطاليين وأهداه لملك فرنسا شارل السادس. وعلى غراره وضعت االيطالية المدعوة كريستين دي بيزا (،)Christine de Pisan التي كانت تعيش في البالط الفرنسي ،مؤلفا حول الحرب والفروسية ،أهدته للملك شارل السالف الذكر .ثم وضع االيطالي ماريانو دي جاكوبو طاكوال ( Mariano di )Jacopo Taccolaكتابا خصه لألدوات واآلليات المستعملة في المعارك .وتناسلت المؤلفات بعد ذلك في مختلف أنحاء أوربا .وقام عدد من الباحثين المحدثين والمعاصرين بتحقيق معظم تلك المؤلفات وترجمتها ونشرها. وانضم المختصون في البحث األثري الى هذه الجهود .فقاموا بالكشف عن عدد من اللقى والمخلفات التي أثرت المصادر الخطية ،من قبيل سلسلة حفر منتظمة في هيئة لوحة شطرنج تم الكشف عنها في البرتغال .يحتمل أن يكون األنجليز قد قاموا بحفرها حوالي سنة 1358لصد هجمات الفرسان القشتاليين .كذلك تم الكشف عن حفر مماثلة لها في جزيرة جوتالند .وقد أفادت هذه الحفريات ،ودراسات أخرى همت عددا من القصور والحصون ،في التعرف على نماذج من التنظيمات الدفاعية التي كان يتم اللجوء إليها لصد الغرات .وباإلضافة إلى ذلك ،تحتفظ مجموعة متاحف ،في فرنسا وبلجيكا وايطاليا واسبانيا ،بعدد من األسلحة واألدوات التي كانت تستعمل في الوقائع. ويمكن أيضا من خالل معاينتها تكوين فكرة عن عالم الحروب في أوربا القرنين الرابع عشر والخامس عشر. - 63يتعلق األمر ببحثه الموسوم ب : La guerre au Moyen Age, Paris, P.U.F., 1980.
165
وقد توقف فليب كونتمين في مؤلفه عند نماذج كثيرة من الحمالت والوقائع التي دارت رحاها في فرنسا وايطاليا واسبانيا وأنجلترا ،كحرب المائة سنة ،وحرب الوراثة المتصلة بها ،وحرب الوردتين في أنجلترا ،والحرب البحرية بين جنوة والبندقية، وغيرها من الوقائع التي دارت في أنحاء أوربا. وقد سمحت دراسة الرسومات واألشكال والصور ،فضال عن اللقى األثرية، بالقول بأن القرنين الرابع عشر والخامس عشر يمثالن فترة "ارتقاء" فصيل من الدواب ،ونعني هنا الخيول المخصصة للقتال .وبالمثل ،تميزت الفترة ذاتها بتراجع دور المشاة .وكان من الممكن أن يستمر دورهم في التراجع ،لوال أن أعددا غفيرة من المقاتلين الجرمان والسويسريين انخرطوا في سلك المشاة كمرتزقة ،ابتداء من منتصف القرن الخامس عشر ،فأعادوا للمشاة بعض الهيبة. ولعل أهم تحول سجلته الفترة المذكورة ،هو ظهور المدفعية والبارود اللذين سبقت اإلشارة إليهما .وقد انتقال من الصين والعالم اإلسالمي إلى أوربا عبر ايطاليا بين سنتي 1325و .1345ولكن استعمالهما لم يفض إلى حدوث ثورة في مجال تقنيات الحرب إال في نطاق محدود ،ألن فعاليتهما تجلت في تدمير الحصون واألسوار بشكل خاص .ومن ثم ،فإن إقبال الممالك على استعمال وحدات من المدفعية كان من باب إظهار الهيبة وإفزاع الخصم ،وليس من باب الفعالية .ورغم ذلك ،تواصل اإلقبال على استعمال المدفعية بعد منتصف القرن الخامس عشر ،األمر الذي يسمح بالحديث عن ميالد أوربا القصف .وكان من جراء ذلك أن ارتفعت تكاليف الحروب ألنه أضحى لزاما على الملوك ،وعلى حكام المدن -الدول ،تخصيص مبالغ إضافية ضمن الميزانية العامة القتناء المدافع والبارود .فتطورت الصناعة المعدنية -العسكرية لتلبية الحاجيات .ونشأت عدة ورشات مختصة في هذا النوع من الصناعة في ايطاليا وفرنسا. وتأكد االتجاه نحو العسكرة في أوربا من خالل التحول العميق الذي طرا على الخدمة العسكرية .فقد اختفت الخدمة الفيودالية في أنجلترا في بحر القرن الرابع عشر. وحل محلها نظام المليشيات الوطنية ،التي كان يتم تعزيز المنخرطين فيها ببعض المحاربين المتطوعين .أما في مملكة فرنسا ،فتم اعتماد عقد االلتزام خالل نفس الفترة. وبعد مضي فترة قصيرة غدت كل كومينوطة ( ،)communautéوكل أبرشية ،تقع ضمن دائرة نفوذ المملكة ،ملزمة باستنفار عدد من الرماة وعدد من قاذفي األسهم بواسطة "األركوبالستا" ،أي القوس المستعرض ( ،)l’arbalèteعند كل نداء لخوض حرب من الحروب .أما في ايطاليا ،التي صرف حكام المدن -الدول فيها أنظارهم عن الحرب ،فكان يتم االعتماد على المرتزقة بصورة خاصة .ورغم ذلك ،ظل دور النبالء
166
حاسما في الحروب .فهم الذين كانوا يستنفرون العدد األكبر من الفرسان .ومعنى ذلك أن أوربا النبالء ظلت متشبثة بتقاليدها الحربية. ومهما يكن من أمر ،فإن االتجاه الذي أضحى سائدا في أوربا هو أن القائمين على األمر في كل كيان سياسي أصبحوا حريصين خالل القرن الخامس عشر على التوفر على قوات قارة دائمة .عكس ما كان يجري به العمل من قبل ،حيث كان المحاربون يستنفرون عند كل وقعة .وغالبا ما كان ذلك يتم في فصل الربيع ولمدة محددة تنتهي بانتهاء الوقعة .بمعنى أن السنة الحربية في أوربا الفيودالية كانت تعتريها ثغرة .أما في أوربا الحديثة ،فقد غدا النظام العسكري عبارة عن نسيج متصل .وحتى حكام المدن -الدول في ايطاليا اضطروا لالنخراط بدورهم في هذا النظام نظرا لحاجتهم لمحاربين نظاميين .وهذا ما يوضحه بيان صدر عن مجلس شيوخ البندقية سنة 1421ورد فيه " :تقضي سياستنا دوما بأن يكون رهن اشارتنا رجال ذوو قيمة أيام السلم ،كما في أيام الحرب". ولكن الملفت لالنتباه هو أن اتجاه أوربا نحو إضفاء الطابع المؤسساتي على عنف المحاربين ،لم ينس القائمين على األمر فيها هاجس الجنوح نحو السلم الذي كان يجسد أحد المثل العليا بالنسبة للمجتمع وللكنيسة. وهذا ما عبر عنه رجل الدين البندكتي هنوري بوڤي ( )Honoré Bovetبنوع من الحرقة حين كتب في مؤلفه "شجرة الوقائع" (" : 64)l’arbre des bataillesإني أرى جميع أنحاء المسيحية المقدسة تئن تحت وطأة الحروب ،والكراهية ،والسلب والخالفات ،إلى درجة أنه يصعب ذكر اسم بلد صغير واحد ،أو دوقية واحدة ،أو قمطية واحدة تنعم بالسلم" .ويتجلى هاجس إقرار السلم أيضا فيما قام به جورج بوديبراد ( )Georges Podiebradملك بوهيميا حين وضع سنة 1464مشروعا إلقرار األمن والسلم في ربوع أوربا ،صاغه باللغة الالتينية والتمس من جميع حكام الممالك االلتزام به" .وعبر فيه عن أمله في أن يستتب األمن وينتهي العنف الذي أباد العباد وأفسد البالد .وتغدو أوربا موطن الرأفة ،والتكافل واألخوة عن طريق االتحاد".65 ومما ال شك فيه أن الملك بوديبراد (الذي حكم في القرن الخامس عشر) منح لألوربيين أجمل مشروع ،وأحسن مبرر من أجل قيام وحدة اعترضت سبيل تحقيقها صعوبات جمة طيلة ستة قرون بعد ذلك.
- 64وضع هنوري بوڤي هذا الكتاب بين سنتي 1382و .1387وتمت ترجمته الى الفرنسية سنة .1493ثم أعاد تحقيقه الباحث البلجيكي ارنست نيس ( )Ernest Nysونشره سنة .1883كما تمت ترجمته الى األنجليزية. - 65يعتبر عدد من الباحثين نص مشروع جورج بوديبراد أول وثيقة تتضمن أسس الوحدة األوربية.
167
)2الطاعون األسود عرفت أوربا حدثا كارثيا بامتياز في أواسط القرن الرابع عشر تمثل في الطاعون األسود .وقد نعت بهذا االسم بالنظر إلى مضاعفاته التي اتخذت مظهرين : واحد تنفسي -رئوي ،والثاني عضوي تجلى في عدة غدد كانت تظهر في أعلى الفخذ (عند التقاء أسفل البطن بالفخذ) ،وتأخذ لونا أسود بفعل الدم المحتقن فيها .وكان لون هذا الدم يحدد لوحده طبيعة الداء الوباء. والجدير بالذكر أن الطاعون ذي المضاعفات الرئوية سبق أن اجتاح مناطق الشرق والغرب منذ القرن السادس على عهد اإلمبراطور جوستنيان .ثم اختفى من مناطق الغرب ،ولكنه ظل يستوطن مناطق آسيا الوسطى ،وربما أيضا في منطقة القرن اإلفريقي .ويبدو أنه "استجمع قواه" وعاد ليبيد ساكنة أوربا سنتي -1347 .1348 أصبح باإلمكان اليوم تحديد أصل الوباء وتاريخ بداية انتشاره .فقد حدث أن حاصر محاربون أسيويون حامية جنوية في كافا ( )Caffaبشبه جزيرة القرم .وكان المهاجمون يلقون من على األسوار جثث قتلى أودى بهم الطاعون .فانتقلت جرثومة الوباء عن طريق البراغيث والفئران ،وربما عن طريق االحتكاك بين الناس كما يعتقد ذلك اليوم بعض الباحثين المعاصرين ،إلى أوربا على متن المراكب القادمة من كافا. وانتشر الوباء بسرعة بعد سنة 1348في مختلف مناطق أوربا .وأضحى الطاعون األسود ظاهرة كارثية تواصل تأثيرها في أوربا حتى حوالي سنة ،1720حيث حدث آخر طاعون في مرسيليا ،قدم بدوره من الشرق. وال شك أن الطابع المرعب الذي ميز المرض هو الذي جعل الوباء يكتسي صبغة كارثية .فقد كان المصابون يلقون حتفهم بعد مرور وقت وجيز ال يتجاوز في أحسن األحوال 36ساعة .وفضال عن ذلك ،شاعت بين الناس حقيقة االنتقال السريع للعدوى مما ساهم في انتشار الرعب والفزع .والواقع أن األوربيين ساد بينهم اعتقاد بأن مرض الجذري ،مرض ينتقل من شخص آلخر ،وهو ما اتضح في نهاية المطاف بأنه اعتقاد خاطئ ،ولكنهم تقاسموا حقيقة ال يرقى اليها الشك ،وهي أن الطاعون معد جدا ومهما يكن من أمر ،فقد رافقت الطاعون أعراض فيزيولوجية وظواهر اجتماعية مرعبة ،حيث كانت تنتاب المصابين تشنجات عصبية قوية .ومما زاد الوضع استفحاال عجزاألسر والمؤسسات العمومية عن مجابهة الوضع الذي ترتبت عنه خسائر بشرية فادحة .ألن أفراد مجتمع أوربا كانوا يعيشون في إطار كومينوطات ،وأبرشيات ،وتنظيمات ،وطوائف ،وغيرها ،مما سهل انتشار العدوى وسقوط عدد كبير من الضحايا ،حتى أن عددا منهم لم يحضوا بالمراسيم الدينية
168
الواجب القيام بها قبل عمليات الدفن .بل األدهى من ذلك ،أن عددا من الجثامين تمت مواراتها في مقابر جماعية .والحصيلة هي أن الخسائر المترتبة عن الطاعون األسود كانت فادحة .ومن الصعب تحديد عدد الضحايا ،ألن المصادر الخطية المعتمدة ال تتضمن معطيات رقمية تتيح هذه اإلمكانية .ورغم أن نسبة الوفيات اختلفت بين منطقة وأخرى ،فاألكيد أن الخسائر لم تنزل عن مستوى ثلث عدد السكان في أي مكان .وال يختلف الباحثون في القول بأن أوربا فقدت ما يناهز النصف ،أو الثلثين ،من ساكنتها بسبب هذه الكارثة .وبناء عليه ،فإن نسبة التراجع الديموغرافي بلغت في أنجلترا ،%70بحيث لم يعد سكانها يتجاوزون حوالي المليونين سنة 1400بعد أن كانوا حوالي 7ماليين .ولم تكن الساكنة تستطيع استرجاع أنفاسها ألن سلسلة طواعين كانت تأتي كل مرة ،بصورة تكاد تكون منتظمة ،لحصد عدد من الضحايا كما حدث بين سنتي 1360و ،1362وبين سنتي 1366و ،1369وبين سنتي 1374و ،1375وسنة ،1400وسنة ،1407وبين سنتي 1414و ،1417وسنة ،1424وسنة ،1427وبين سنتي 1432و ،1435وبين سنتي 1438و ،1439وسنة ،1445ثم سنة .1464 والجدير بالذكر أن الطواعين لم تكن وحدها وراء الوفيات ،بل كانت تتظافر معها في معظم الحاالت آفات أخرى من بينها األمراض ،كالدفتريا (الخناق)، والحصبة ،والتيفويد ،والحمى ،والجذري ،والسعال الديكي وغيرها من األمراض. وكانت تنضاف أحيانا إلى الطاعون ،الحروب والمجاعة .وكان مجرد ذكر هذا الثالوث يثير الرعب في نفوس الناس. وقد وقف األطباء الذين عاينوا الطاعون األسود ،وغيره من اآلفات ،مكتوفي األيدي ،حيث عجزوا عن إيجاد األسباب الطبيعية المسببة لتلك اآلفات ،رغم قناعتهم بضرورة التصدي للعدوى .وكانت محاوالتهم في هذا الصدد ردا على وجهة النظر السائدة بأن تلك اآلفات تعني غضب هللا على خلقه. ورغم عدم وجود معرفة طبية مالئمة ،انتهى األطباء إلى مالحظات وخالصات قيمة وفعالة من قبيل حظر التجمهر ،وتحذير األسر من التجمع حول الفرد المصاب منهم ،ومنع الحضور الجماعي لمراسيم دفن من لقي حتفه ،ومنع ارتداء مالبس المصاب بالداء من قبل شخص آخر .ورغم كل هذه اإلجراءات ،فيبدو أن الفرار بعيدا كان الحل األمثل في أعين كثير من الناس .ولذلك كان يلجأعدد من الناس إلى البوادي. وتتضمن مقدمة كتاب "ديكاميرون" ( ،)Décaméronالذي وضعه جيوڤاني بوكاشيو ( ،)Giovanni Boccaccioفقرات تتحدث عن فرار أغنياء فلورنسا إلى البوادي الم جاورة لالحتماء بقصورهم .وغني عن البيان أن هذا النوع من التصدي للوباء لم يكن متاحا سوى للنخب .ولذلك ،زاد الطاعون من مصاعب وبؤس المعوزين .كما زاد
169
من حدة الصراع االجتماعي .فعد واحدا من بين األسباب التي أذكت العنف االجتماعي كما سيأتي الحديث عن ذلك في الصفحات الموالية. وال بأس من اإلشارة إلى أن المؤسسات العمومية حاولت القيام بما يمكن القيام به للحد من العدوى أو لتخفيف الجلل .وبرزت في هذا المضمار المدن -الدول االيطالية التي اتخذ حكامها عدة إجراءات من قبيل الحرص على نظافة الفضاءات العمومية ،والدعوة للوقاية ،وردع األغنياء عن التباهي بالثراء الذي كان يستفز الفقراء. وفي هذا السياق ،ظهرت بعض األشكال الجديدة من التفاني والتقديس في أوساط المسيحيين .فعادوا إلى تقديس سان سبستيان ( )Saint Sébastienالذي استشهد في مطلع القرن الرابع في سياق حمالت اإلمبراطور دقلديانوس ضد معتنقي المسيحية. كما قدس مسيحيو الجنوب القديس روك ( ،)Saint Rochالراهب ،الجراح والمختص في مداواة المصابين بأمراض جلدية. )3الموت والجثة ورقصة الموت ساهم الطاعون في تغذية حساسية ذهنية ودينية جديدة .فقد كان الرجال والنساء حتى ب داية تفشي الطاعون األسود ال يخشون الموت بقدر ما كانوا يخشون جهنم .وبعد تفشي هذا الوباء وتراكم الجثث هنا وهناك ،عاين الناس الموت عن كثب .فرأوا أنه جحيم من نوع آخر ال يمكن ،في اعتقادهم ،مقارنته بأي جحيم آخر. والحقيقة أن الكثير من رسومات ما بعد سنة ،1348والخالصات التي توصل إليها بعض الذين بحثوا في ظاهرة الموت ،تفيد بأن الخوف من جهنم ظل حاضرا في أذهان الناس ،حين يستحضرون جحيمها في مقابل نعيم الجنة ،ولكن تفشي الموت أرسى دعائم تلك الحساسية الجديدة .وكان المستفيد األكبر من هذا التوجه هو الجثة. فقد أفضت معاينة األحياء للجثث صباح مساء إلى ظهور موضوع ايكونوغرافي جديد حقق نجاحا كبيرا هو التقاء األحياء الثالثة باألموات الثالثة. ويجسد هذا الرسم ثالثة شبان ،خلقتهم جميلة ،تبدو على محياهم عالمات االبتهاج وعدم االكتراث ،مقابل ثالث جثث (تظهر الجثث في نماذج من تلك الرسومات مسجات في توابيت) .وانتشرت بموازاة هذا الرسم المقولة المأثورة " :تذكر بأنك ستموت" ( )memento moriالتي أدت بكثير من الناس إلى مراجعة نمط حياتهم وأسلوب تفكيرهم .ووجدت المقولة أيضا من أسالوا حولها المداد .فظهرت مؤلفات مزدانة بالصور حول "فن الموت" ( )les artes moriendiانكب على دراستها عدد من الباحثين المحدثين والمعاصرين ،من بينهم الفرنسي -االيطالي ألبيرتو تنينتي ( .)Alberto Tenentiوتطور التفكير في الموت ،واالحتضار ،ليغدو فيما بعد
170
إحساسا وفلسفة .كما اتخذ هذا التفكير تجليات أخرى من بينها الرسومات الكثيرة المختلفة التي تم انجازها هنا وهناك .فكانت ،إما عبارة عن هياكل كاملة مرسومة على جدران بعض األضرحة والكنائس ،وإما عبارة عن جمجمة لوحدها ،وإما مشهدا يمثل مجموعة أفراد يراقصون هياكل فيما يعرف "برقصة الموت" ( la danse .)macabre تعتبر هذه الرقصة تعبيرا عجيبا لمجموعة أفراد في حركة جماعية انسيابية. ويحمل مشهد الراقصين عدة دالالت .فكل راقص يمثل أحد أفراد المجتمع .وتختزل المجموعة كلها سائر فئات المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم االجتماعية أو العمرية. يبدو البابا واإلمبراطور قائدان للمجموعة الراقصة .ومعنى ذلك أن الموت "يراقص" جميع الناس دون تمييز بين حاكم أو محكوم ،أو بين نبيل وفالح ،أو بين غني وفقير. والغريب في األمر ،أن الرقص الذي كانت الكنيسة تحضر تعاطيه ألنه تعبير ماجن ينتمي لعهود الوثنية ،أضحت تجسده هذه اللوحات .وسيغدو بعد القرن السادس عشر من التعابير الجسدية المباحة في البالطات .وتعد رقصة الموت ،من هذه الوجهة ،تعبيرا "انتقاليا" جمع بين الثقافة الالئكية (العلمانية) والنظرة الدينية ،ألنها كانت تعني نوعا من المرح البريء .كما كانت تعني بأن المجتمع ذاهب لمالقاة مصيره في رقصة ال حاجة له فيها إلى الشيطان ليقوده. وخالصة القول هي أن المجموعة المشاركة في رقصة الموت تمثل أوربا التي فقدت عقلها .وبذلك أخذ يتموضع في تاريخ أوربا الطويل الخط األحمر الذي يجسد سنوات "الحماقة" وفقدان العقل. ومن المفيد التذكير بأن اللوحات التي اتخذت من رقصة الموت موضوعا لها اكتسحت جدران أوربا المسيحية خالل القرن الخامس عشر .وكانت أول لوحة مثلتها قد رسمت سنة 1425على أحد جدران مقبرة "القديسين األبرياء (les Saints- )Innocentsبباريس .وبعد سنة 1440بقليل ،تم رسم لوحة مماثلة للوحة مقبرة القديسين األبرياء على أحد جدران مقبرة القديس بولس بلندن .ثم توالت اللوحات هنا وهناك في عدة مدن أوربية. وكان الملفت لالنتباه ،هو أن نماذج من هذه اللوحات أصبحت ترسم على جدران بعض الكنائس الصغرى الموجودة في المدن الصغرى ،أو في بعض القرى كما هو الشأن في كنيسة كرنسكليدن ( )Kernescledenبمنطقة بروطاني ( la )Bretagneبفرنسا ،وكنيسة القديس نيكوال ببلدة تلين ( )Tallinnاإلستونية.
171
)4أوربا العنف شهدت أوربا خالل القرنين الرابع عشر والخامس عشر أعمال عنف ترافقت مع الطاعون والمجاعة والحرب .وبغض النظر عن تلك األعمال ،فقد شهدت اصطدامات وحاالت عنف أخرى أسهمت بدورها في إضفاء شيء من القتامة على صورة أوربا عند نهاية العصر الوسيط .كما كانت تهدد أيضا مسيرة القارة نحو الوحدة. وقد ذهب المؤرخون مذاهب شتى في تأويلهم لتلك األحداث .ومن بين هؤالء المؤرخين ،التشيكي فرانتيسك ﯕروس ( 66)Frantisek Grausالذي توقف في أحد أبحاثه عند أعمال العنف والشغب ،المعروفة باسم "البوﯕروم" (،)les pogroms والتي انطلقت منذ سنة ،1320واشتد أجيجها بعد سنة .1348وقد استهدفت بعض فصولها اليهود الذين اتهموا بتسميم اآلبار. واألهم ،هو أن الباحث المذكور اقترح تفسيران للظاهرة .يتمثل التفسير األول، الذي سبق أن اقترحه باحثون آخرون ،في كون العنف الذي استهدف اليهود يعكس كراهية فئات عريضة من المجتمع المسيحي لليهود .أما التفسير الثاني ،فيفيد بأن أعمال العنف اندلعت في سياق األزمة البنيوية التي كان يتخبط فيها االقتصاد األوربي ،والتي أثرت سلبا في أوضاع فئات اجتماعية عريضة .فأججت الصراع بين الفالحين واألرستقراطية ،وبين الحرفيين والتجار .وفضال عن ذلك اندلعت تلك األعمال في ظرفية تميزت فيها الممالك بضعف في التدبير وانغماس في صراعات عقيمة. 67 وتناولت الفرنسية كلود ﯕوڤار( )Claude Gauvardبدورها بعض فصول هذه األحداث في فرنسا .فاقترحت بأن أعمال العنف والشغب تلك تعكس ظهور نوع جديد من السلوك ،هو "سلوك إجرامي" مختلف تماما عما ألفته أوربا الفيودالية .تزامن ظهوره مع تطور أجهزة الشرطة التابعة للممالك .ويمكن تفسير هذا السلوك عموما بكونه يمثل ردة فعل إزاء تشكل الدول المركزية الحديثة .وكان من الطبيعي أن تتصدى الدول لهذا اإلجرام ،فتضاعفت تبعا لذلك الوثائق التي يمكن اعتمادها اليوم لتكوين فكرة عن الجريمة واإلجرام ،وعن أعمال العنف عموما .وتترك عملية تصفح - 66ولد سنة 1921وتوفي سنة .1989اختص بالبحث في الظواهر االجتماعية في العصر الوسيط ،وفي أوضاع األقليات .وقد خصص لألحداث التي يشير اليها جاك لو ﯕوف صفحات مطولة في كتاب أصدره سنة قبل وفاته هو : Pest-Geissler-Judenmorde, das 14 Jahrhundert als Krisenzeit. - 67ولدت سنة .1942تشتغل حاليا أستاذة باحثة بجامعة السوربون .أنجزت عددا من األبحاث تتناول قضايا مختلفة تهم العصر األوربي الوسيط .من بينها كتابين خصصتهما لظاهرتي العنف والجريمة هما : - " De grace especial" . Crime, Etat et société en France à la fin du Moyen Age, Paris, Publications de la Sorbonne, 1991. - Violence et ordre public au Moyen Age, Paris, Picard, 2005.
172
تلك الوثائق لدى الباحث انطباعا بأن أعمال العنف تضاعفت ،وبأن عمليات قمعها، والوثائق التي تعنيها ،حققت تقدما ملحوظا .ومن ثم ،يمكن التساؤل عما اذا كانت تتوفر في هذا الرصيد عناصر يمكن اعتمادها لتفسير أعمال العنف التي تشهدها أوربا اليوم. وعلى كل ،فقد توقفت كلود ﯕوفار مطوال في بحثها عند بعض القيم التي ظل مجتمع العصر الوسيط متشبثا بها مثل الشرف .كما توقفت عند مجموعة ظواهر ذات صلة بالسلطة ،من بينها ظاهرة سايرت التاريخ في مداه الطويل ،وهي وظيفة العقاب التي تلجا إليها السلطات السياسية اليوم ،كما لجأت إليها باألمس القريب والبعيد .ولكن ال بد من اإلشارة ،بأن ظاهرة العقاب قابلتها دوما ظاهرة العفو .ففي فرنسا القرنين الرابع عشر والخامس عشر تصدى القائمون باألمر بقسوة لظاهرة العنف ،ولكنهم كانوا يمنحون العفو أيضا في بعض الحاالت لبعض المتهمين .وكانوا يجسدون ذلك بمنح المعفى عنهم "رسائل عفو" ( .)des lettres de rémissionوالظاهر أن ذلك العفو السياسي كان يحمل بعض دالالت الغفران اإللهي. وال شك أن الحديث عن هاتين الظاهرتين ،في هذا الوقت المبكر ،يفيد بأن أوربا العقاب والعفو كانت ترتسم في األفق. وبالعودة الى وجهات نظر بعض الباحثين في تفسيرهم لظاهرة العنف في أوربا ،ال بأس من االشارة هذه المرة بأن األمريكي داڤيد نيرنبرﯕ ( David )Nirenbergشكك مؤخرا فيما ذهب إليه المؤرخ التشيكي السالف الذكر بخصوص البوﯕروم .إذ أوضح ،وهو يبحث في أشكال العنف الذي طال األقليات المسلمة واليهودية في مملكة أرغون في نهاية القرن الرابع عشر" ،بأن العنف ظاهرة مركزية ذات صلة بكنه التواجد في [مجال واحد] بين أغلبية وأقلية" .68ومعنى ذلك اذن ،أن تواجد أغلبية وأقلية في شبه جزيرة أيبيريا ،وفي مناطق عدة من أوربا قد يكون وراء تصاعد أعمال العنف هنا وهناك .وكان من الممكن أن يفضي ذلك العنف إلى نهاية تماسك أوربا .وعلى كل ،فهذا األمر يستدعي إبداء مالحظتين :األولى هي أن الحديث عن التسامح والالتسامح في أوربا ،القرنين الرابع عشر والخامس عشر ،حديث ال معنى له .وحتى إذا جاز هذا الحديث ،فيمكن القول بأن التسامح حقق تطورا مهما، ولك نه يحتاج اليوم إلى أن يولد من جديد .والمالحظة الثانية ،هي أن اليهود طردوا من جهات كثيرة في أوربا .فقد طردوا من أنجلترا منذ نهاية القرن الثالث عشر .وطردوا من فرنسا في نهاية القرن الموالي .ثم طردوا من اسبانيا بعد سنة .1492ومن ثم ،فال - 68عبر نيرنبرﯕ عن وجهة نظره هاته في كتاب أصدره سنة 1996تحت عنوان : Communities of Violence: Persecution of Minorities in the Middle Ages, Princeton University Press.
173
يتعلق األمر ،بأي حال من األحوال ،بمبرر ديني .فمعاداة اليهودية ،التي يضعها البعض في الواجهة ،هي تبرير عنصري .وخالفا لما تم القيام به تجاه اليهود في غرب أوربا ،ففي جهاتها الوسطى والشرقية تم تبني حلين :إما التسامح تجاههم كما حدث في بولندا ،وهذا ما لم يتم التعبيرعنه بصريح العبارة ،وإما "الزج" بهم في "ﯕيتوهات" تحت الحماية كما حدث في ايطاليا وألمانيا .ولكن ما يمكن تأكيده هو أن أوربا نهاية العصر الوسيط ،هي "قارة" قامت بطرد اليهود. أ) اضطهاد الساحرة ظهر شكل من العنف خالل القرن الرابع عشر وتأكد خالل القرن الموالي. تمثل هذا العنف في محاربة الشعوذة والسحر. والجدير بالذكر أن الكنيسة حاربت دوما جميع أشكال المعتقدات والممارسات السحرية ،والقائمين بها .ولكن حربها هاته ،غدت ثانوية حين تفرغت لمحاربة الهرطقة .وقد استهدفت عمليات التفتيش في القرن الثالث عشر الهرطقة في المقام األول كما تم توضيح ذلك في صفحات سابقة .ولكن بعد ذلك أضحت الشعوذة والسحر ضمن أهداف الكنيسة .وهذا ما تفصح عنه نماذج من المؤلفات الموجهة "للمحققين"، كما هو الشأن مثال بالنسبة لمصنفي كل من رجل الدين الالنﯕدوكي بيرنار ﯕي ( ،)Bernard Guiورجل الدين الكطالني نيكوال أيمريك (.)Nicolas Eymeric وقد أكد بعض الباحثين المعاصرين ،أمثال نورمان كوهن (،)Norman Cohn بدورهم اتجاه الكنيسة خالل القرن الخامس عشر نحو تشديد قبضتها في مواجهة السحرة والمشعوذين. ويعد جول ميشلي ( )Jules Micheletواحدا من بين الباحثين الذين تناولوا ظاهرة الشعودة التي شهدها القرن الرابع عشر .وأعتقد أنه كان مفرط الذكاء والحس حين تنبه ،إلى غلبة التأنيث على تلك الظاهرة ،رغم أنه استند فيما ذهب إليه على نص اتضح فيما بعد أنه نص ملفق .وبغض النظر عن طبيعة النص ،فإن الداللة المستخلصة منه ،والتي أكدتها األحداث ،هي أن المشعوذة (أو الساحرة) احتلت واجهة األحداث في أوربا منذ هذه الفترة ،وظلت كذلك حتى القرن السابع عشر .ومن المفيد القول أيضا بأنها ستغدو ضحية عدة محارق .وقد تضمن كتاب (ملوس ملفيكاروم) "( "Malleus Maleficarumمطرقة الساحرات) الذي وضعه الراهبان الدومنيكيان هنريخ كرامر ) )Heinrich Kramerوجاك سبرينجر ( )Jacques Sprengerسنة 1486عدة مشاهد من مسلسل مطاردة المشعوذات .ومن المفيد التذكير بأن واضعي الكتاب نقال تلك المشاهد في أجواء دراماتيكية قل نظيرها ،تنوعت فيها ضروب العسف التي طالت المشعوذات .وهذا ما دعا جون ديليمو ) (Jean Delumeauإلى
174
وسم المسيحية التي اتخذتها الكنيسة شعارا لمالحقة المشعوذات بكونها "مسيحية التخويف" .وكان هذا الترهيب الذي رام اسئصال اعتقاد تبناه نفر من األشخاص موضوع كثير من الرسومات واللوحات .وإن أقل ما يمكن أن يقال في الموضوع ،هو أن ظاهرة مالحقة المشعوذات أعطيت لها إشارة االنطالقة في أوربا. ب) حركات الفالحين شكلت انتفاضات الشغيلة ،من فالحين وعمال وحرفيين ،مظهرا آخر من مظاهر العنف التي ميزت نهاية العصر الوسيط .وقد نعت الفرنسي روبير فوصيي ( )Robert Fossierهذه االنتفاضات بكونها تمثل "طفرة جديدة في الصراع بين الطبقات" .وكان البريطاني رودني هلتون ( )Rodney Hiltonجريئا أكثر حين تبنى رؤية ماركسية في تناول هذه االنتفاضات .وأعتقد أنه ال سبيل لإلنكار بأن هذه الرؤية تجد ما يبررها ،ألن التطور االقتصادي أفضى فعال إلى إفقار عدد كبيرمن الفالحين، ولكنه أغنى في الوقت ذاته آخرين. والمالحظ ،أن ثورات الفالحين في فرنسا ،لم يكن يتصدرها دوما فالحون فقراء .بل على العكس من ذلك ،كان يقوم بها في كثير من األحيان فالحون أثرياء يخشون ضياع ما يحظون به من امتيازات .والدليل على ذلك هو أن كثيرا من الثورات التي شهدتها فرنسا ،اندلعت في مناطق خصبة مثل بوڤيزي ( )le Beauvaisisوڤالوا ( .)le Valoisوكما اندلعت في جهات أوربية أخرى ،في مناطق كانت تحتضن تجمعات كبيرة .كما حدث مثال في قطلونيا والفالندر .وقامت نماذج منها في المناطق المحاذية لطرق التجارة المهمة على طول نهري الراين واإللب مثال. وعموما ،فإن أهم ثورة قام بها فالحو فرنسا ،تمثلت في ثورة ماي 1358التي اندلعت في منطقة بوفيزي السالفة الذكر .واتسع نطاقها بسرعة ليشمل مناطق السواسوني ( )le Soissonnaisوبري ( )la Brieو ڤالوا. تميزت هاته الحركة بلجوء الذين قاموا بها إلى السلب والنهب ،وإضرام النيران في القصور دون أن يلقوا من يتعاطف معهم في المدينة .كما لم يجدوا من بينهم قائدا محنكا يتزعم حركتهم .كما لم يعبروا عن أي مذهب واضح .وكان مآلها الفشل بعد أن تصدى السنايير للمنتفضين بعنف وشراسة. وشهدت منطقة الالنﯕدوك حركة مماثلة اندلعت سنة 1378على اثر موجة كساد وفقرعمت المنطقة وتزامنت مع نشاط غير مسبوق لفرق من اللصوص وقطاع الطرق ( .)des brigandsونظرا لكثرة أعداد هؤالء ،فقد نعت الفالحون الذين قاموا بالثورة باسم (التوشان) " ،"les Tuchinsوهو االسم الذي كان يطلق وقتها على
175
اللصوص الذين يتخذون الغابات مالذا لهم .وانتهت هذه الحركة بدورها إلى الفشل بعد أن تصدى لها السنايير. والجدير بالذكر ،أن االنتفاضات من هذا القبيل ،كانت قليلة وضعيفة في ايطاليا نظرا لثقل الحواضر. وانطال قا مما تقدم ،يمكن القول بأنه ال مجال للحديث عن "مسألة فالحية" في أوربا القرنين الرابع عشر والخامس عشر .وإن أكبر وأهم حركة قام بها فالحو أوربا هي تلك التي حدثت في ألمانيا عند مطلع القرن السادس عشر .وهي الحركة المشهورة باسم "حرب الفالحين". ج) االنتفاضات في الحواضر خالفا لعالم األرياف ،يمكن ،عند التطرق لالنتفاضات التي شهدتها الحواضر، الحديث عن "مسألة حضرية" .ذلك أن الحواضر التي شهدت تطورا متواصال منذ مطلع القرن الحادي عشر ،دخلت مرحلة تدهور بعد حوالي سنة .1260تجلت مظاهره في البطالة ،وتدني األجور ،وتزايد أعداد الفقراء والمهمشين .فترتب عن ذلك ظهور حركات احتجاج وانتفاضات تصدرتها الفئات الدنيا التي كانت تعيش أوضاعا صعبة .فكانت هذه الفئات توجه غضبها أحيانا ضد اليهود .ولكن كانت في معظم األحيان تنتفض ضد ممثلي السلطات الحاكمة نظرا لالشتطاط الذي كانت عرضة له من قبل الجباة ،والتعنيف الذي كان يطالها من قبل أجهزة الشرطة. وانخرط عدد من الحرفيين في تلك الحركات ،ألنهم كانوا هم اآلخرين يئنون تحت سلطة رؤساء الطوائف الحرفية .ونظرا الشتراك هؤالء وأولئك في نفس المصير ،فقد حاولوا تنظيم صفوفهم منذ وقت مبكر .وقد أورد رجل القانون الفرنسي بومانوار ( )Beaumanoirفي مؤلف أصدره سنة 1285بأنه "كان يحدث تحالف ضد االستغالل ،حين كان مجموعة من الناس يتعهدون ،أو يتوافقون ،على عدم االستمرار في العمل بأجور متدنية عن السابق". والجدير بالذكر أنه حدث قبل ذلك بسنوات ،وبالضبط سنة 1255أن كون حرفيو مدينة فيجاك ( )Figeacما يشبه تنظيما نقابيا ( )colligatioلتحديد مطالبهم ومشاريعهم .وكانوا يطالبون ،عموما ،بتخفيض ساعات العمل .كما اتضح ذلك جليا في انتفاضة مدينة ﯕاند ( )Gandسنة ،1337التي نادى فيها العمال بضرورة تحسين ظروف العمل ،وبمزيد من الحرية. وإذا كان الفالحون قد القوا صعوبات في إيجاد من يتزعم حركاتهم ،فإن المنتفضين في الحواضر لم يفتقدوا للزعامات .وقد أورد روبير فوصيي أسماء عدد منهم من أمثال برنﯕير أولير ( )Berenguer Ollerفي مدينة برشلونة ،وجون كبوس
176
( )Jean Cabosفي مدينة كان ،وبيير ديكونانك ( )Pierre Deconinckفي مدينة بروج ،وميشيل دو الندو ( )Michel de Landoفي مدينة فلورنسا ،وسيمون كبوش ( )Simon Cabocheفي مدينة باريس ،وهنري دو دينان ()Henri de Dinant في مدينة لييج ،الذي تفرد عن غيره ،في نظر المؤلف ،بكونه كان زعيما محنكا، ناضل من أجل مجتمع بدون طبقات .واستطاع قيادة عمال المدينة المذكورة لمدة أربع سنوات بين سنتي 1352و.1356 وباإلضافة إلى مدينة لييج ،شهدت ثالث مدن أخرى ،هي باريس ولندن وفلورنسا ،حركات "حضرية" في النصف الثاني من القرن الرابع عشر .كانت عنيفة وذات طابع ثوري ففي باريس اندلعت حركة اجتماعية قوية سنة ،1358شارك فيها عدد كبير من سكان المدينة ،على اثر هزيمة تلقتها الجيوش الفرنسية على يد األنجليز في وقعة بضواحي بواتيي سنة .1356ووجد المنتفضون في شخص إيتيان مارسيل ( Etienne )Marcelمن قاد حركتهم .وكان هذا األخير "عميد" التجار ،وأحد أكبر بورجوازيي المدينة .ولم يكن قط ثوريا ،ولكنه كان يسعى للحد من سلطة الملكية ،التي كان يرى بأنها كانت تنحو في اتجاه أن تصبح مطلقة .وبعد كر وفر ومحاوالت إلقحام فالحي الضواحي في الحركة ،انتهت انتفاضة الباريسيين باغتيال زعيمها في يوليوز ،1358 واستئصال شأفة المشاركين فيها. واندلعت حركة أخرى قصيرة المدى ،ولكنها عنيفة جدا ،سنة 1382بعد أن أعادت السلطة الحاكمة إقرار مجموعة ضرائب كان قد أسقطها الملك شارل الخامس وهو يحتضر في شبنبر .1380فعمد المنتفضون إلى تسليح أنفسهم بأعداد من المطارق الكبيرة الحجم ( )des mailletsسطوا عليها من "قصر البلدية" ( l’Hôtel ،) de villeحيث كانت مودعة استعدادا لرد هجوم كان يحتمل أن يقوم به األنجليز. ولذلك نعتت هذه الحركة باسم انتفاضة "المطرقيين" (.)les Maillotins واندلعت شرارة حركة ثالثة في سياق صراع مسلح نشب بين األرمنياكيين ( )les Armagnacsوالبورﯕينيين ( )les Bourguignonsوتزامن مع مجريات حرب المائة سنة .وكسب المنتفضون ،بقيادة جزار يدعى كبوش ( ،)Cabocheتأييد ومساندة البورﯕينيين .وتمكنوا من الضغط على أعضاء البرلمان الستصدار قانون إصالح سنة .1413ولكن استعادة األرمنياكيين لزمام المبادرة حال دون نجاح الحركة فيما كانت تروم تحقيقه. ومهما يكن من أمر ،فإن أهم ما يجب استخالصه من خالل استعراض بعض االنتفاضات التي شهدتها باريس ،هو أن هذه الحركات تفيد ،من جهة ،بظهور محاوالت إصالح في فرنسا ،وفي جميع أنحاء أوربا ،تم إجهاضها .وتفيد ،من جهة
177
أخرى ،بانطالق زمن الحركات االجتماعية في الحواضر ،وهو الزمن الذي تواصل حتى اندالع الثورة الفرنسية. وعلى غرار باريس ،انطلق مسلسل االنتفاضات االجتماعية في لندن بحركة عمالية اندلعت سنة 1381احتجاجا على طبيعة قانون الشغل الضاغط على العمال، واحتجاجا على إقرار ضريبة جديدة تدعى "البول -طاكس" (الضريبة على الرأس). وخالفا لمنتفضي باريس،الذين لم تلق حركتهم صدى في األرياف ،فإن حرفيي وعمال لندن وجدوا من يتآزر معهم في األرياف مما أكسب انتفاضتهم زخما قويا .كما وجدت االنتفاضة في شخص وات تايلر ( )Wat Tylerزعيما محنكا آزره رجل الدين جون بال ( ،)John Ballالشهير بقولته " :حين كان آدم يقلب التربة ،وكانت حواء تنسج، أين كان الجنتلمان ؟ ". وقد كانت االنتفاضة عارمة ،حيث تمكن القائمون بها من السيطرة على لندن لفترة وجيزة .ولكنهم فشلوا في مواصلة السيطرة على المدينة نظرا للقمع العنيف الذي جوبهوا به ،ونظرا الغتيال زعيمهم. أما في فلورنسا ،فقد اتخذت االنتفاضات منحى آخر ألن المدينة كانت مركزا انتشرت فيه وحدات صناعة النسيج .كما كان األغنياء وكبار التجار هم المسيطرين على طوائف العمال في هذه الوحدات .ولذلك شكل العمال غالبية متصدري حركة .1378وتمكنوا من السيطرة على المدينة لفترة تزيد عن الثالث سنوات .بل استطاعوا أن يجعلوا لهيب حركتهم يمتد خارج فلورنسا .ورغم ذلك ،آلت االنتفاضة إلى الفشل. وتمكن أغنياء المدينة من السيطرة على الوضع ،ومن تثبيت نفوذهم .فأضحت فلورنسا خالل القرن الخامس عشر تحت سيطرة أسرة الميدتشي (.)les Médicis وال بأس من االشارة بمناسبة استعراض أبرز االنتفاضات ،الى أن مدن أوربا شهدت أيضا حركات اجتماعية أخرى قام بها عاطلون عن العمل ومهمشون .كانوا يتجمعون في بعض الضواحي التي غدت مناطق خطيرة .وقد حدث أن اندلعت في وقت مبكرحركات مماثلة لها في مدن أوربا ،من قبيل تلك التي قام بها العاطلون والمهمشون بين سنتي 1280و 1310في كل من دواي ( ،)Douaiوإيبر ()Ypres وبروج ،ولييج ،وبيزيي ،وتولوز ،وريمس ،وباريس ،وفلورنسا .ثم اندلعت انتفاضات مماثلة لها بين سنتي 1360و .1410انخرط فيها العمال كذلك .ووقعت أعنفها في مدن شمال غرب أوربا .ثم اندلعت موجة ثالثة من هذه االنتفاضات بين سنتي 1440 و 1460في بعض مدن ألمانيا ،ومدن منطقة الفالندر ،وفي باريس أيضا .ولكنها كانت انتفاضات قصيرة المدى وأقل حدة من سابقاتها .وال بأس من اإلشارة في هذا الصدد بأن الباحث بيير موني ( )Pierre Monnetخص هذا الموضوع ببحث .وأحصى ما
178
يناهز 250حركة اندلعت في حوالي 100مركز حضري بألمانيا بين سنتي 1300 و.1350 وعلى العموم ،لم تفض هذه االنتفاضات إلى إرساء أنظمة طاغية كما حدث في ايطاليا .كما لم تترتب عنها "دمقرطة" الحرف .وإن العودة إلى السلم ظلت دوما من اهتمامات النخب التي نجحت في الحفاظ على سلطاتها. د) الصراعات في أوربا الشمالية اكتست الحركات االجتماعية في مناطق أوربا اإلسكندناڤية طابع التعقيد بسبب تعدد أطراف الصراع بين حرفيين وفالحين ،واختالطه بالنزاع المحتدم بين التجار الهانسيين ،وبالتجاذبات بين ممالك الشمال الدنمركية والنرويجية والسويدية. فقد سبق لهذه الممالك أن انخرطت تحت قيادة سياسية موحدة سنة .1397 ولكن النبالء والفالحين انتفضوا في السويد سنة .1434ثم اندلعت انتفاضة في مدينة بيرجن ( )Bergenالنرويجية سنة 1455بإيعاز من بعض األطراف الهانسية. وانتهت بإعدام أسقف المدينة وستين شخصا من بين متزعميها والمشاركين فيها وظل سكان العالم اإلسكندناڤي منقسمين على أنفسهم ،ولكنهم مشتركين في كراهية التجار األلمان والهولنديين .وبذلك بدا هذا العالم متفردا بعدم استقراره مقارنة مع باقي مناطق أوربا .وحدث سنة 1478أن سيطر أمير موسكوڤيا على نوڤﯕرود، فاختفت التجارة الهانسية .وظهرت بموازاة ذلك روسيا التي كانت قوتها في تنامي متواصل .فأخذت تنتفي تبعا لذلك العناصر التي كانت تربط روسيا بأوربا. )5انفراط وحدة الكنيسة وظهور الشقاق ساهم حدث آخر ،ال يقل أهمية عن الطاعون وعن االنتفاضات ،في خلق البلبلة واالضطراب في أوربا المسيحية .يتمثل هذا الحدث في التطورات التي شهدتها البابوية .وقد تجسدت مقدماتها في اضطرابات هزت سكان مدينة روما بعد الحفل الديني الذي نظمته البابوية سنة .1300وتفاديا الندالع موجة جديدة من هذه االضطرابات ،تقرر اجراء عملية انتخاب البابا سنة 1305بمدينة ليون .كما وضع التاج البابوي على رأس البابا المنتخب الفرنسي كليمون الخامس ()Clément V بنفس المدينة .ومكث بها حتى سنة ،1309ثم انتقل إلى مدينة أڤنيون (.)Avignon وظل الباباوات ،الذين تعاقبوا على كرسي البابوية بعد كليمون الخامس ،مستقرين بالمدينة ذاتها التي شيد بها قصر فخم ،ومرافق دينية ،وإدارية أنفقت فيها أموال طائلة، من حصيلة الضرائب المستخلصة ،حتى أضحت المدينة مقرا ألكثر الحكومات نجاحا خالل القرن الرابع عشر .وال شك أن موقع المدينة في قلب العالم المسيحي ساعد
179
كثيرا على تحقيق هذا النجاح .ورغم ذلك ،لم تنس هذه النجاحات المسيحيين في مدينة روما نظرا لقدسيتها ومكانتها في القلوب ،ولذلك ظل كثير من رجال الدين ،ومن الالئكيين أيضا ،يطالبون بعودة البابوية إلى مدينة روما. وقد استجاب البابا أوربان الخامس ( )Urbain Vلهذه النداءات ،فغادر أفنيون إلى روما سنة .1367ولكنه سرعان ما عاد إلى أڤنيون ،بعد أقل من ثالث سنوات، نظرا لعدم استتباب الوضع في روما .وفي سنة 1378قرر ﯕريﯕوار الحادي عشر، الذي كان يعتلي كرسي البابوية آنذاك ،العودة نهائيا إلى روما. ومن المفيد التذكير بأن الصراع كان على أشده بين األسر األرستقراطية في روما خالل فترة وجود مقر البابوية بمدينة أڤنيون .وكان سكان المدينة منقسمين بدورهم بين فريق مؤيد لهذه األسرة وفريق مؤيد لتلك األسرة .مما خلق المناخ المالئم لظهور بعض الزعامات .فحالف الحظ المدعو كوال دي ريينزو ( Colla di ،)Rienzoالذي استطاع بفضل حنكته وفصاحته وكراهيته لألسر األرستقراطية وللبابوية استقطاب جمهور غفير من سكان المدينة .فقادهم سنة 1347للسيطرة على مقر البلدية ،وإعالن نفسه حاكما للمدينة .ورد عليه البابا إينوسنت السابع بأن أرسل إليه فيلقا من المحاربين تحت إمرة الكاردينال ألبرنز ( ،)Albornozفاضطر كوال إلى اختيار المنفى .ثم سرعان ما عاد إلى المدينة التي ثار فيها ضده بعض أنصار األمس ،فانقضوا عليه وأردوه قتيال. هز هذا الحدث مشاعر كثير من مسيحيي روما ومسيحيي أوربا ،وخاصة منهم أوالئك الذين ظلوا يحنون أليام مجد روما زمن األباطرة الرومان.ولم تفض عودة البابا ﯕريﯕوار الحادي عشر إلى روما في تهدئة الخواطر ،بل زادت من تفاقم الوضع. وحدث أن توفي هذا البابا فجأة فعقد كبار الكرادلة مجمعا تحول إلى فوضى عارمة. فاعتلى عرش البابوية في هذه الظروف أوربان السادس ( )Urbain VIالذي عارض عملية انتخابه عدد من رجال الدين آثروا عليه كليمون السابع (.)Clément VII ولكن أوربان ظل متمسكا بأحقيته في تولي المنصب .فأضحى على رأس البابوية رجالن :االيطالي أوربان في روما والسويسري كليمون في أڤنيون .فانقسم المسيحيون بين مؤيد لاليطالي ومؤيد للسويسري .فكان في صف االيطالي مسيحيو ايطاليا ،وأنجلترا ،واإلمبراطورية الجرمانية ،وممالك أوربا الشرقية والشمالية .وكان في صف السويسري مسيحيو فرنسا ،وقشتالة ،وأرغونة ،وإيكوسيا. وأحاط كل بابا نفسه بنفر من الكارديناالت ورجال الدين والمساعدين .وعند وفاة البابا أوربان السادس سنة 1389عقد كارديناالت روما مجمعا انتخبوا فيه بونيفاس التاسع الذي شغل منصب البابوية حتى سنة .1404وكذلك عند وفاة كليمون سنة 1394خلفه بينوا الثالث عشر على كرسي البابوية في أڤنيون.
180
والجدير بالمالحظة ،أن أمرا حدث خالل هاته الفترة وسيتأكد خالل القرن السادس عشر في سياق اإلصالح الديني ،وهو أن الكنائس الوطنية أصبحت تأتمر بأمر الملوك والساسة المحليين (الوطنيين) .وقد أثارت هذه المسألة حفيظة كثير من المسيحيين المنتمين لتلك الكنائس والمسيحيين من عامة المجتمع .فحاول ساسة فرنسا رأب الصدع ،واقترحوا سنة 1395انسحاب الباباوين بينوا الثالث عشر وﯕريﯕوار الثاني عشر .غير أن البابا بينوا رفض المقترح وظل الوضع يراوح مكانه حتى سنة 1409حيث انعقد مجمع ديني ضم كرادلة المعسكرين ،وانتهى بعزل الباباوين وتعيين بابا آخرمكانهما ،هواإلسكندر الخامس ( )Alexandre Vالذي اعتلى كرسي البابوية بين يونيو 1409ومارس .1410وبما أن البابا بينوا والبابا ﯕريﯕوار لم يمتثال لقرار العزل ،فقد أضحى على رأس البابوية ثالثة باباوات .وظل المنصب موضوع تجاذبات حتى شهر نونبر 1417تاريخ انعقاد مجمع ديني انتهى بتعيين بابا واحد حصل حوله التوافق هو مارتان الخامس (.)Martin V ورغم حصول هذا التوافق ،ظل االنقسام بين المسيحيين الكاثوليك ساري المفعول ،ولكن بدرجة أقل حدة عما كان عليه األمر في الماضي .وفي سنة 1449 انعقد مجمع ديني آخر بمدينة فلورنسا تم خالله تعيين أوجين الرابع ()Eugène IV بابا جديدا .فعمل هذا الخير بشكل دؤوب على تحقيق المصالحة بين المسيحيين الكاثوليك .بل سعى إلى تحقيق الوئام بين الكنائس الكاثوليكية والكنائس األرثوذوكسية. ومهما يكن من أمر ،فإن الخالصة التي يمكن استخالصها هي أن الشقاق الكبير كان امتحانا عسيرا بالنسبة للمسيحيين .وكان من الممكن أن يستشري وتترتب عنه نتائج وخيمة بالنسبة لوحدة المسيحية والمسيحيين ،ألن الكنائس الوطنية بدأت فعال ،في ضوء ذلك االنقسام تبتعد عن روما .كما شرع ملوك الممالك في إبرام اتفاقيات ثنائية مع البابوية. )6الهراطقة الجدد :الوايكﻠيفيون والهوسيون تميزالقرنان لرابع عشر والخامس عشر ،باختفاء حركات الهرطقة التي شهدتها أوربا خالل القرون السابقة باستثناء بعض بقاياها التي انحصرت في مناطق جبلية وعرة .وبالمقابل ،ظهرت حركات "حداثية" تبشر بانبثاق حركة اإلصالح البروتستانتي التي ستشهدها أوربا في القرن السادس عشر .تمثلت هذه الحركات بشكل خاص في حركة جون وايكليف ( )John Wyclifواللوالرديين ()les Lollards بأنجلترا ،وحركة جون هوس ( )Jean Husوالهوسيين ( )les Hussitesفي بوهيميا.
181
كان جون وايكليف ،المتوفى سنة ،1384أستاذا لعلم الالهوت بجامعة أكسفورد .انطلق في موقفه من المسألة الدينية من فكرة قديمة وهي أن صالحية األسرار المقدسة ) (les sacrementsليست متصلة بوظيفة أوالئك الذين يقدمونها، ولكنها متصلة بمسألة كونهم في حالة خالص .ومن ثم ،تبطل ،في نطره ،صالحية األسرار التي يقدمها الرهبان الغير جديرين بمناصبهم .وفي هذا السياق ،رأى بأن الطقوس والشعائر ،وعموم مكونات الدين ،الموثوق بها هي تلك التي يتضمنها الكتاب المقدس وحده .وبذلك أنكر ضمنيا صحة القرارات التي تتخذها الكنيسة ،والتي ال يتم فيها االنطالق من النص المقدس .كما انتقد إباحة الكنيسة استعمال الصور وتشجيع الحج ،ومنح الغفران لألموات .وتطورت مواقفه ،قبيل وفاته ،لتنحو منحى راديكاليا. فقد انتقد ما يعرف بالقربان المقدس ،وانتقد كذلك الطوائف الدينية ،التي اعتبرها شكال من أشكال "خوصصة الدين" ،ألنها تنشر في أوساط المسيحيين "ديانات خاصة". وكان من المنتظر أن تدين الكنيسة مواقف وايكليف .وذلك ما حدث في أكسفورد سنة ،1380وفي لندن سنة .1382وبدأت مقدمات اإلجراءات التي ستتخذ ضده بنشر شائعات تفيد بمساندته للعمال المشاركين في انتفاضة .1381وانتهى األمر فعال بأن صدرت في حقه اإلدانة. ولعل أهم تأثير مارسه وايكليف على المدى البعيد تجلى في كونه حاول تعميم الكتاب المقدس حين قام بترجمته إلى اللغة األنجليزية .وسيقدر لهاته النسخة المترجمة أن تنتشر فيما بعد .ولكن هذا ال يمنع من القول بأن أفكاره كان لها صدى على المديين القريب والمتوسط .فقد وجدت من ينتصر لها في أكسفورد بعد وفاته .بل استمرت مؤثرة بعد ذلك حتى قيام حركة اإلصالح الديني التي تبنى أقطابها بعض وجهات نظره. وقبل أن ينتقل إرث وايكليف إلى مصلحي القرن السادس عشر ،فقد ألهم بعض "مصلحي" نهاية القرن الرابع عشر ،ومن ضمنهم "اللوالرديين" الذين يمكن اعتبارهم من أتباعه .كان هؤالء عبارة عن تنظيم شبيه بطوائف الفقراء .ينتمي معظم أعض اءه لمدينة أكسفورد ،وانضم إليهم عدد من "الرهبان الفقراء' .وتكاد التسمية التي أطلقت عليهم ترادف كلمة "فقراء" .كما أنها تعني من منظور قدحي "رجال الدين المهمشين". عمل اللوالرديون على نشر نسخة اإلنجيل األنجليزية التي أنجزها وايكليف. واستطاعوا كسب تأييد عدد من رجال السياسة ومن علية القوم .كما كسبوا عطف جمهور من عامة البسطاء .وأشاعوا في أوساطهم رغبتهم في إسقاط الطابع الديني عن ثروات المؤسسات الدينية وثروات رجال الدين .وقد وجدت رغبتهم هاته صدى لدى
182
عدد من البرلمانيين الذين فكروا سنة 1410في تقديم مقترح لمصادرة ثروات األسقفيات واألديرة. ورغم هذا النجاح ،لم يكن القائمون على األمر في أنجلترا ينظرون بعين الرضا إلى هاته الحركة .فالحقوا أعضاءها ونكلوا بهم ،خاصة بعد حركة احتجاج قاموا بها سنة .1414فاضطر اللوالردييون للجوء للعمل السري .واستمرت كثير من أفكارهم خالل القرن السادس عشر ،حيث تبناها متزعمو حركة اإلصالح البروتستانتي. وعلى غرار حركة وايكليف ،اكتست حركة جون هوس زخما قويا منذ شبابه. فقد انخرط في الجدل الدائر حول القضايا الدينية والسياسية حين كان طالبا بجامعة براغ ،التي كانت حديثة النشأة .ثم اشتغل أستاذا بنفس المؤسسة ،فعميدا لكلية الفلسفة، فرئيسا للجامعة سنة .1410وشرع في نشر أفكاره التي اتسمت بكونها كانت ذات صبغة راديكالية وواقعية في ذات الوقت .وتقوم على أساس وجود كليات في الذكاء اإللهي ،ألن األفكار هي عبارة عن وقائع تتميز بالسمو. وتجاوزت أفكاره حدود الحرم الجامعي لتنتشر في مدينة براغ حين شرع، ابتداء من سنة 1402في الوعظ باللغة التشيكية في كنيسة المدينة .ولم يتردد في المطالبة بإصالح الجوانب األخالقية للقائمين بأمور الكنيسة المسيحية ،وبضرورة طاعتهم لكالم هللا .فكان ذلك يعني دخوله في مواجهة مباشرة مع رجال الدين الذين نجحوا في استصدار قرار من البابوية ،في دجنبر ،1410قضى بحرمانه وبإحراق كتبه أمام المإل .فاضطر جون هوس إلى مغادرة براغ واللجوء إلى أحد القصور بجنوب بوهيميا ،حيث عكف على التأمل وتحرير مؤلفات أثارت الجدل بين متداوليها. ومن بينها كتاب "( "De ecclesiaالكنيسة) الذي رأى فيه بأن هذه المؤسسة الدينية شبيهة بالجمعية زمن اإلغريق ،ينتمي إليها قدريون ،وعلى رأسها شخص (أي البابا) ال يجب اإلقرار بسموه. وكان على جون هوس أن يخرج من عزلته في نونبر 1414ليمثل أمام المحققين في المجمع الذي التأم بمدينة كونستانس ( )Constanceاأللمانية .ورغم دفاعه عن وجهة نظره ،فقد اتهم بكونه هرطيق .وصدر في حقه حكم باإلعدام ،وألقي به في السجن حتى يوم 6يوليوز من السنة الموالية ،حيث تم اعدامه حرقا. رفض معظم التشيكيين الحكم الصادر في حق جون هوس ،فانتفضوا وعملوا على نشر أفكاره .فنشأ تبعا لذلك أول انقسام مذهبي بين المسيحيين .ثم أعلن الهوسيون الثورة على اإلمبراطور ،وأحكموا قبضتهم على مدينة براغ .وتأجج لهيب الثورة عندما سيطر عليها الطابوريون ،المشهورين بكونهم كانوا أكثر الهوسيين تطرفا. والجدير بالمالحظة أن هذه الثورة كانت تحمل عدة دالالت .فهي تعني ،من وجهة نظر دينية ،انفصال التشيكيين عن الكنيسة الرومانية .بينما كانت تعني ،من
183
وجهة نظر وطنية ،اعتزاز التشيكيين بهويتهم اللغوية وبقيمهم وثقافتهم ،ورفضهم لما هو دخيل ،خاصة من جهة األلمان .وكانت تعني ،من وجهة نظر اجتماعية ،إعادة االعتبار للفالحين ،ورفض البنيات والمؤسسات الفيودالية. وأخذت الثورة منحى دراماتيكيا حين تحولت إلى حرب مفتوحة بين الهوسيين من جهة ،والكنيسة واأللمان من جهة ثانية .وبما أن موضوعها كان الخالف الديني، فقد أخذت طابع الحرب الصليبية .وشنت خاللها الكنيسة واأللمان أربع حمالت على الهوسيين بين سنتي 1421و .1432ورغم أن معظم المحاربين الهوسيين كانوا في األصل فالحين يحاربون "على األقدام" ،فقد زرعوا الرعب في صفوف الفرسان األعداء .ونقلوا الحرب إلى عدة مناطق ألمانية خربوها وأفنوا أهلها .وبذلك يمكن اعتبار حركة الهوسيين أول حركة ثورية أوربية عظيمة أذهلت األوربيين .فاضطر اإلمبراطور سجيسموند ( ،)Sigismondتحت وقع األحداث ،إلى إعالن الهدنة وإبرام اتفاق مع الهوسيين المعتدلين .فوافق هؤالء على المقترح ،وعينوا على رأسهم جورج بوديبراد ( )Georges Podiebradالذي كان زعيم حرب ،ثم ملكا لبوهيميا بين سنتي 1458و .1471وقد اشتهر بكونه أثار الرعب في أمراء اللوكسمبورغ، ودمر مواقع األلمان في بوهيميا. )7التفاني العصري ال يمكن أن يكتمل الحديث عن الحركات الدينية السالف ذكرها ،وعن المشاكل الد ينية التي أثارتها في أوربا بدون الحديث عن ذلك التيار الروحي الذي تطور في هدوء .والمقصود هنا ما يسمى بالتفاني العصري (.)la devotio moderna تعود نشأة هذا التيار للمسيحي (الغير نظامي) الى جيرارد ﯕروت ( Gérard )Groteأحد أبناء تاجر أقمشة هولندي .ترك الدنيا سنة 1374وآثر التفرغ للدين. واعتكف في إحدى المؤسسات الدينية ،ثم تحول للدعوة .فكون تنظيما دينيا ضم رجال دين و"إخوانا" الئكيين .كما كون بموازاته تنظيما آخر نسويا .اجتهد ﯕروت وأتباعه في دعوة عموم المسيحيين إلى مراجعة سلوكهم ،واجتناب الغنى الفاحش واكتناز الثروات ،واالمتناع عن شراء المناصب الكهنوتية .وحث رجال الدين على السلوك القويم والتخلي عن معاشرة النساء. والمالحظ أن تيار التفاني العصري لم يكن قائما على ذلك العمق الروحي أو "الصوفي" الذي قامت عليه بعض التيارات الدينية التي ظهرت في القرن الثالث عشر ،أو تلك التي ظهرت في النصف األول من القرن الرابع عشر .فقد أراد متزعمه وأتباعه التركيز على جوانب من واقع المسيحيين في حياتهم اليومية .ومعنى ذلك أن حركته كانت تقترح إصالحا بسيطا وسهل التحقيق مستمدا من الجانب اإلنساني
184
والسلوكي في حياة السيد المسيح .وهذا ما أوضحه توما كامبيس ( Thomas a ،)Kampisأحد أقطاب التيار ،في مؤلفه "االقتداء بيسوع المسيح" الذي اتخذه كثير من مسيحيي ومسيحيات أوربا نبراسا لهم في حياتهم. وعلى كل ،فإذا كان تيار ﯕروت ضعيف الحضور في حركات اإلصالح البروتستانتي التي ظهرت في القرن السادس عشر ،فقد شكل مصدر الهام بالنسبة لحركة اإلصالح اليسوعي التي سيتزعمها اينياس دي ليوال ()Ignace de Loyola في اسبانيا. )8ميالد المشاعر الوطنية نشأت ظاهرة بسيكولوجية في أوربا ،وقد تكون ،في اعتقاد بعض المؤرخين، السبب الذي غذى الصراعات الدامية التي شهدتها القارة خالل القرنين الرابع عشر والخامس عشر .ويتعلق األمر بالشعور الوطني ،رغم أن مؤرخين آخرين شككوا في وجود مثل هذا الشعور في هذه الفترة .ويعتقد الفرنسي بيرنار ﯕني ( Bernard 69)Guenéeأن السؤال حول وجود ،أو عدم وجود ،شعور وطني طرح بشكل خاطئ .وعليه ،فيجب التساؤل على لسان أحد أوربيي ،نهاية العصر الوسيط ماذا كانت تعني بالنسبة إليه "األمة" في دولة معينة؟ وهل كان ُينظر إلى السكان آنذاك كأمة؟ وما هو مكون الشعور الوطني ،وما هي حدته؟ وما هي القوة ،وما هو التجانس، الذي كانت تجنيه تلك الدولة من الشعور الوطني؟ يجيب بيرنار ﯕني على هذه األسئلة المتصلة بأن كلمة "أمة" لم تأخذ معناها الحديث إال في القرن الثامن عشر .أما في نهاية العصر الوسيط ،فكانت كل من كلمات "جنس" (أو عرق) ،و"دولة" ،و"مملكة" كلمات مرادفة لكلمة "أمة" .وبناء عليه ،فإن حديث البعض عن األمة في نهاية العصرالوسيط كان مرتبطا بالوعي الوطني الحديث ،وتم إسقاط هذا الحديث على حقائق لم تكن لها صالت بكلمة أمة .كما حدث مثال في ألمانيا حين تم تبني فكرة اإلمبراطورية التي لم تكن متطابقة قط مع فكرة ألمانيا ،كما لم تكن متطابقة أيضا مع فكرة جرمانيا .وقد حدث في فرنسا أن ربط بعض الباحثين بين نشأة الشعور الوطني وحرب المائة سنة. ويؤكد بيرنار ﯕني في نهاية المطاف بأن للشعور الوطني أصول قديمة تعود للقرن الثالث عشر .ويبدو أن هذا الشعور تأكد في انجلترا في وقت مبكر نسبيا .وهذا - 69مؤرخ باحث في التاريخ األوربي الوسيط .كان يحاضر قبل وفاته سنة 2010بجامعة السوربون .انصب اهتمامه على القرنين الرابع عشر والخامس عشر الذين خص قضاياهما بعدة مؤلفات من بينها كتاب : L'Occident aux XIVe et XVe siècles : Les États, Paris, P.U.F., 1971. الذي يتضمن المعلومات التي أوردها جاك لو ﯕوف.
185
ما يميل إليه أيضا الباحث اوليڤيي دو البردري ( )Olivier de Laborderieالذي أوضح في أحد أبحاثه بأن بعض تراجم الملوك األنجليز ،التي تعود لنهاية القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر ،ال يمكن فهم مضامينها إال بالنظر إليها من منظور الشعور الوطني .70وتأكد هذا الشعور في انجلترا بمناسبة حرب المائة سنة .وحتى إن افترضنا بأن تلك الحرب لم تكن أصل شعور وطني حقيقي ،فقد كان ال بد أن تفضي في انجلترا إلى تحول عميق ينشأ عنه شعور وطني .وربما كان من تجليات هذا الشعور الوطني أن األنجليز تخلوا عن الفرنسية ،ألنها أضحت لغة العدو ،واستبدلوها باإلنجليزية ل غة الشعب .وهكذا ،فرغم أن االنسجام اللغوي ليس دائما مرتبطا بالشعور الوطني ،ففي أنجلترا عمل على تقوية هذا الشعور .ونجد كذلك تعبيرا صريحا عن هذا الشعور الوطني األنجليزي في المسرحية التاريخية "ريتشارد الثاني" التي وضعها ويليام شكسبير سنة .1595ويمكن كذلك النظرفي ذات السياق إلى مسألة اتخاذ كلمة فرنسا كمرجعية في المؤلفات التي أنجزت في دير سان دوني ،ابتداء من سنة ،1274 تحت عنوان " :اإلخباريات الكبرى لفرنسا" ( les Grandes Chroniques de .)France ومهما يكن من أمر ،فإن الخالصة التي يمكن استخالصها من وراء استعراض وجهتي نظر الباحثين السالفي الذكر هي وجود روابط متينة بين "الشعورالوطني" والممالك .وتتأكد هذه الروابط عند الحديث عن جان دارك ) .(Jeanne d’Arcورغم أن هذا الحديث يحيل إلى موقف "شعبي" ،فهو يفيد بأن االتجاه نحو تبلور شعور وطني ارتبط بما قامت به نخبة محدودة العدد .كما أن هذا الشعور لم يكن قد اتخذ بعد ذلك المحتوى الغني الذي سيأخذه فيما بعد .فهل يجب في هاته الحالة الحديث عن "روح وطنية"؟ يبدو هذا ممكنا بالعودة إلى ما أورده المؤرخ األلماني -األمريكي إرنست كانتوروفيتش ( )Ernst Kantoroviczفي الموضوع .فقد أوضح كيف انتشرت في نهاية العصر الوسيط القولة المأثورة " :الموت من أجل الوطن" (.71)Propatria mori وبالرغم مما قيل ،فيجب مع ذلك االحتراس عند الحديث عن الشعور الوطني في أوربا القرنين الرابع عشر والخامس عشر .كما أن البحث عن بدايات تكون األمة يجب أن يتم في نطاق أوسع يتجاوز الشعور والبسيكولوجيا. - 70ال بأس من االشارة الى أن البردري ( )Laborderieعاد للتعبير عن هذا الموقف بشكل مستفيض في كتابه : Histoire, mémoire et pouvoir. Les généalogies à rouleau des rois d’Angleterre (1250-1422), Paris, Garnier, 2013. - 71نشير الى أن الصيغة الفرنسية لهذه العبارة وهي " "mourir pour la patrieتمثل عنوان كتاب أصدره بباريس سنة 1984ضمن منشورات المطابع الجامعية الفرنسية (.)P.U.F.
186
ويجب التذكير في هذا المضمار بأن مجاالت استعمال كلمات مثل أمة ووطن، خالل القرن الخامس عشر ،كانت مجاالت خاصة .فقد كانت هذه الكلمات تستعمل في الجامعات وفي المجامع الدينية على وجه الخصوص. ففي الجامعات كانت "األمم" ( )les nationsتضم طلبة من مختلف "الجنسيات" بهدف تحقيق سير جيد للمؤسسة .وقد ظهرت نماذج من هذه "األمم" في وقت مبكر بجامعة بلوني ( .)Bologneوبمقتضاها تم توزيع الطلبة على مجموعتين حسب انتماءاتهم الجغرافية .وظهر هذا "التنظيم األممي" في باريس سنة ،1222 وانحصر العمل به في كلية الفنون التي توزع طلبتها على أربع "أمم" هي : نورمانديا ،وبيكارديا ،وفرنسا ،وأنجلترا -ألمانيا .ويوضح هذا المثل ،كيف أنه ال يمكن إطالقا إيجاد أي تطابق بين "األمة الجامعية" واألصل المشترك ألعضائها .ويتضح هذا األمر جليا في "أمة فرنسا" التي كانت تضم طلبة وأساتذة ينتمون لدول متوسطية. أما "أمة أنجلترا -ألمانيا" فكانت خليطا هجينا يتنافى في حقيقة األمر مع التقاليد الجامعية المعمول بها آنذاك. وخالفا لما قيل عن "أمم" كلية الفنون الباريسية ،نجد أن األمة التشيكية ،وكذلك األمة األلمانية ،اللتين تم الحديث عنهما بمناسبة أحداث براغ ،كانتا تقومان على أسس إثنية خالصة .وهذا ما أفضى إلى اندالع ذلك الصراع العنيف الذي انتهى بإقصاء األمة األلمانية. أما في المجامع الدينية الكبرى التي انعقدت في بداية القرن الخامس عشر، وأهمها مجمع كونستانس ،فقد جرى العمل بنظام األمم .وبمقتضاه ،كانت كل "أمة" مشاركة في أشغال المجمع تضم مجموعة دول متجانسة ،كثيرا أو قليال ،من الناحية الجغرافية والتاريخية واللغوية. وخالصة القول ،هي أن األمة بالمعنى القديم كانت شكال أصيال من أشكال تنظيم المجال والمجتمع األوربيين .ومن هذا المنطلق نجد أن التجار األوربيين المقيمين في مرافئ ومراكز تجارية خارج أوربا ،بعد عمليات التوسع ،كانوا ينتظمون في "أمم" .وكل واحدة من تلك األمم كانت تضم التجار المنحدرين من نفس المدينة ،أو المنحدرين من نفس الجهة .وكانت هذه األمم بمثابة تمثيليات ،أو مؤسسات مساعدة. )9النبوءة السياسية نشأت خالل القرنين الرابع عشر والخامس عشرظاهرة جديدة عبرت عن نفسها بقوة :إنها ظاهرة النبوءة السياسية .فقد جعلت قراءة كتاب العهد القديم ،والتدبر في معانيه ،رجال االكليروس يولون أهمية كبرى لألنبياء ،وللمظاهر السياسية التي تجلت
187
فيها نبوءاتهم .وتعد الباحثة كوليت بون ( 72)Colette Beauneأبرز من توقف عند هذه المسألة .فقد أوضحت بأن معظم ممالك أوربا ،والمدن الدول االيطالية كانت تصنع خالل القرن الرابع عشر نبوءات خاصة بها. ففي فرنسا مثال ،تم الترويج آنذاك لنبوءة جعلت الملك شارل يعتلي سدة الحكم وهو في سن الثالثة عشرة ،ويتفوق على المنتفضين ،ثم على األنجليز ،ويوضع فوق رأسه تاج امبراطوري في روما وآخر في بيت المقدس ،ثم يقوم بغزو األرض المقدسة ويتوفى في القدس. وفي اسبانيا ارتأى مروجو النبوءة أن يكون فردناند ملك أرغونة البطل الذي بشر المسيحيين بالنصر النهائي على المسلمين ،ويقيادتهم إلقامة عالم جديد. والمحصلة كما توضح ذلك الباحثة كوليت بون هي أن "النبوءة أضحت عند نهاية القرن الخامس عشر عملة متداولة في جميع أنحاء أوربا .وقد استعملت لتبرير الحروب االيطالية .وهذه النبوءة بالذات هي التي كانت وراء خوض كريستوف كولومبس لغمار المحيطات .وبما أن األفراد والمجتمع كانوا يالقون صعوبات في تمثل فكرة التقدم ،فإن النبوءة كانت من الوسائل القليلة التي لجأوا إليها لتمثل مستقبل كان مسطرا من قبل". ومهما يكن من أمر ،فإن أوربا النبوءة ،تحيل ،في نهاية المطاف ،إلى أوربا المنتصرة والمهيمنة ،أوربا األزمنة الحديثة. )10الطباعة في الوقت الذي كانت فيه أوربا القرن الخامس عشر تحلم بغد مجيد ،كانت تنفتح على حضارة جد سعيدة .فقد اتسع نطاق القراءة ،كما حققت الكتابة والكتاب نجاحا بفضل اكتشاف الطباعة. ظهرت أولى أشكال الطباعة في الغرب حوالي سنة 1400فيما يبدو .وكانت عبارة عن لوحات من خشب تحمل نقوشا بارزة ،استعملت إلعادة إنتاج نصوص على الورق تسمى كسيلوغرافيا ( .)xylographiesولم تكن هذه التقنية فعالة بالمقارنة مع تقنية النسخ اليدوي للمخطوطات والوثائق التي كانت تتم في ورشات متخصصة .كان عشرات الخطاطين في هذه الورشات يقومون بنسخ ما يمليه عليهم أحد األساتذة.
- 72مؤرخة فرنسية من مواليد .1943تحاضر في التاريخ األوربي الوسيط بجامعة نانتير .ناقشت سنة 1984أطروحة جامعية لنيل دكتوراه الدولة في موضوع "نشأة أمة فرنسا" نشرتها خالل السنة الموالية .وأنجزت بحثان تناولت فيهما ظاهرة النبوءة السياسية في أوربا.
188
وقد سهل استعمال الورق إمكانية الطبع ،قبل أن يتم الشروع في استعمال تقنية الحروف المعدنية المتحركة حوالي سنة .1450وكان لأللماني يوهان ﯕتنبرﯕ ( )Johannes Gutenbergالفضل في اختراع هذه التقنية ،أو باألحرى الفضل في ضبط استعمالها وإشاعتها .ولذلك اشتهر بكونه كان وراء ظهور الطباعة. ومهما يكن من أمر ،فقد تم الشروع في استعمال تقنية الحروف في صناعة الكتب بمدينة مايونس ( )Mayenceاأللمانية منذ سنة 1457في ورشات كان الساهرون عليها يصنعون الحروف المعدنية المتحركة بواسطة قوالب مجوفة تحتوي على قطع نحاسية داعمة لشكل الحرف. ويبدو أن تقنيات الطبع تطورت بإيقاع سريع ،إذ أن تلك الورشات أصدرت خالل نفس السنة أول سفر باللونين األحمر واألزرق باإلضافة إلى اللون األسود .وما كاد القرن الخامس عشر يشرف على النهاية حتى كانت الطباعة منتشرة في معظم أنحاء أوربا .كما أدرجت الطباعة ضمن برامج المؤسسات الجامعية ،حيث تم تخصيص كرسي علمي لتدريسها بجامعة باريس سنة .1466وبعد مضي أربع سنوات ظهرت أول مطبعة بباريس .ثم ظهرت مطابع في كل من أنڤير (،)Anvers والبندقية ،فاقت مطبعة باريس ،فغدت المدينتان منارتين في مجال صناعة ونشر الكتاب. ورغم ذلك ،فإن هذه التطورات المتالحقة ال تعني بأن ثورة تحققت في مجال الطباعة .فقد كان يجب العمل بشكل حثيث لتجاوز كثير من النقائص .وفي انتظار تحقيق هذا المسعى ،ظلت الكتب التي أمكن للمطابع وضعها رهن إشارة عموم القراء متدنية الجودة ،ومرتفعة الثمن .وتمثلت هذه الكتب في الكتاب المقدس ،الذي اهتمت المطابع بتوفير عدة نسخ منه ،وفي كتب دينية أخرى .وكان يجب انتظار حلول القرن السادس عشر ليتغير مضمون الكتب المطبوعة .ومع ذلك ،فقد أثر الكتاب في طبيعة المعرفة وفي عملية القراءة ،مما مهد الطريق أمام ظهور أجيال جديدة من القراء في أوربا. )11اقتصاد –عالم مثل القرن الخامس عشر فترة انفتاح كبير بالنسبة القتصاد أوربا .وقد وجد هذا االنفتاح االقتصادي في شخص فرنان بروديل مؤرخا كبيرا رسم خطوطه وشرح تفاصيله من خالل مفهوم " :اقتصاد-عالم" ( )l’économie-mondeالذي استحدثه. ويفيد هذا المفهوم بأن مجاال اقتصاديا تشكل .وكانت تتم فيه مبادالت اقتصادية منتظمة موجهة من طرف مدينة أو جهة مركزية .وفي ضوء هذا التعريف ،يمكن القول بأن عالقات اقتصادية منتظمة قامت خالل القرن الرابع عشر بين أوربا
189
الشمالية ،ومنطقة الفالندر ،والعالم األسيوي ،والمرافئ االيطالية الكبرى كجنوة والبندقية .فتشكل تبعا لذلك اقتصاد-عالم أوربي أضحت مدينة أنفير تمثل مركزه خالل القرن الخامس عشر.73 ويتضح جليا بأن هذا التنظيم االقتصادي ،الذي أعقب العولمة الرومانية التي انحصرت في العالم المتوسطي ،مثل أول عولمة كبرى حديثة .وكان واضحا أن تعمل هذه العولمة على اغتناء المدن ،والجهات ،والفئات االجتماعية ،والعائالت التي ساهمت فيها .وبالمقابل ،كان واضحا أيضا أن يكون هذا الغنى على حساب ضحايا لم تنصفهم تلك المبادالت .ولذلك ،فإن مدنا كثيرة تزايد عدد فقرائها ،وأضحت فيها فئات عديدة تعيش على الهامش. وقد وضح فرنان بروديل بأن عولمة من هذا القبيل ال تنحصر فقط في الميدان االقتصادي ،ولكنها تتجلى أيضا على مستوى النظام السياسي والحياة الثقافية .وهكذا فإن اقتصاد-العالم أدى على المستوى السياسي إلى حدوث ،ما يمكن تسميته "بالتوازن األوربي" .وباختصار ،فإذا كانت المبادالت االقتصادية قد اتجهت في أوربا نحو العولمة ،فإن هذا االتجاه أفضى إلى تفاقم الالمساواة االجتماعية واالختالالت السياسية. )12أوربا تنفتح وتتفتح وجد هذا التطور الذي حدث في أوربا ،والذي غلب عليه النمو واالنفتاح، مجاال لإلخصاب تجلى فيما يصطلح على تسميته بالنهضة التي ظهرت معالمها بجالء منذ القرنين الرابع عشر والخامس عشر .وأذكر القارئ هنا بأنني توقفت مليا في كتاب "عصر وسيط بالصور" ( 74)Un Moyen Age en imagesعند التعابير االيكونوغرافية لهذا االنفتاح .وأعود للتأكيد مرة أخرى بدون تردد بأن معظم الرسوم واللوحات تركز أوال ،وقبل كل شيئ ،على الطفل المقدم كقربان ،أي المضحى به، ليس في الحياة اليومية حيث كان يحظى بحب والديه ،ولكن بوصفه قيمة كما وضح ذلك فليب آرييس ) )Philippe Arièsبدوره. - 73لمزيد من التفاصيل بخصوص دالالت مفهوم "اقتصاد-عالم" يمكن العودة لمؤلفي فرنان بروديل : - Civilisation matérielle, économie et capitalisme (XVe - XVIIIe siècle) Paris, Armand Colin, 1967, 3 tomes. تتوفر نسخة عربية من الكتاب وضعها مصطفى ماهر ،وصدرت عن دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع بالقاهرة بين سنتي 1992و 1995في ثالثة أجزاء .وأعاد المركز القومي للترجمة بالقاهرة نشر األجزاء الثالثة سنة .2013 - La dynamique du capitalisme, Paris, Arthaud, 1985. يمكن االطالع على ترجمة عربية للكتاب أنجزها شفيق محسن ،وصدرت عن دار الكتاب الجديد المتحدة ببيروت سنة .2008 - 74صدر هذا الكتاب بباريس سنة . 2000
190
ومن نافلة القول ،أن هذه القيمة ارتقت إلى هذا المستوى ألنها ارتبطت بمسألة المسيح الطفل التي شكلت موضوع بحث في نصوص األناجيل الغير األصيلة التي تزايدت أعداد نسخها المتداولة تحت تأثير عملية تقديس عيسى الطفل .وقد غدا عيسى الطفل ،في سياق هذا التقديس ،طفال جميال يعرض لعبه ،وهو في ذات الوقت طفل يهيمن على عالم األطفال المالئكة. وال بأس من التذكير بأن عملية تقديس عيسى الطفل تأكدت بموازاتها أهمية المرأة من خالل عملية تقديس مريم العذراء ،التي غدت صورها،هي األخرى، منتشرة في كل مكان .فكانت بعض الصور تظهرها امرأة باكية مثيرة للشفقة تضع ابنها على ركبتيها ( .)la Vierge de pitié ou pietàبينما كانت صور أخرى تظهرها في هيأة أنثى عذراء راعية للمستضعفين (.)la Vierge de miséricorde والمالحظ أن تلك الصور أزاحت من المشهد حواء المرأة الخطيرة ،ووضعت في الواجهة حواء المثيرة للرغبة ،أي حواء األرض التي يضاهي جمال وجهها (محياها) جمال وجه العذراء. وقد ظهر شكل فني جديد في مطلع القرن الرابع عشرسيحقق نجاحا خارقا فيما بعد .تمثل هذا الشكل الفني فيما يعرف بالبورتري ( )le portraitالذي هو عبارة عن منتوج يؤكد حضور الشخص ويجسد االتجاه نحو الواقعية ،سواء كان الشخص موضوع الصورة حيا أو ميتا .كما أن صور وجوه األشخاص ،الذين كانت ترسم لهم صور أو توضع لهم تماثيل وهم ممتدون ( ،)des gisantsأضحت حقيقية أكثر من أي وقت مضى .والمالحظ أن أقوياء زمانهم ،من باباوات ،وملوك ،وسنايير، وأغنياء ،هم الذين كانوا موضوع "البورترهات" القديمة األولى .ثم بعد ذلك بدأت "تهب رياح الديمقراطية" على هذه المنتوجات الفنية. واستفاد واضعو البورترهات ،في انجاز أعمالهم ،من اكتشاف الصباغة الزيتية في القرن الخامس عشر .كما استفادوا من تطور فن الرسم على الدعامات. ولذلك ظلت للبورترهات حظوة طيلة فترة من الزمن ،يحق معها القول بأن "أوربا البورترهات" قد ولدت .وستستمر هذه األشكال الفنية في التطور والتوهج حتى القرن التاسع عشر لتتسلم منها الصورة ( )la photographieالمشعل. وأعتقد بأن تفتح أوربا تأكد أيضا بتطور فن الطبيخ .فقد تحسن كثيرا .وتزايدت أعداد الوالئم والمآدب الفاخرة التي أقبل األكابر على تنظيمها مثل مأدبة 1445 الشهيرة التي أقامها دوق بورﯕونيا. وقدمت األلعاب بدورها إضافة نوعية في عملية التفتح .وقد أقبل عليها األفراد من مختلف الفئات االجتماعية ،وتنوعت بين ألعاب الورق ،وألعاب الرهان ،التي انتشرت في أنجلترا بشكل خاص .وكأن الناس الذين أقبلوا على تلك األلعاب حاولوا
191
العودة إلى عالم الفرسان والفروسية لمداراة مضاعفات الطاعون .وهذا ما تحدث عنه المؤرخ الهولندي يوهان هويزينﯕا باستعماله لمجموعة عبارات من قبيل "نكهة الحياة الصعبة" ،و"تطلع األفراد نحو حياة أفضل" ،و"الحلم بالبطولة والحب" ،و"الحلم بحياة شاعرية" .ويمكن االضافة في ذات السياق بأن األوربيين لم يعودوا يرقصون فقط "رقصة الموت" التي سبق الحديث عنها ،بل انخرطوا كذلك في رقصات جماعية بمناسبة الحفالت والمناسبات ،كانت تتم على إيقاع موسيقى آخذة في التجدد منذ القرن الرابع عشر في سياق النمط الموسيقي المعروف باآلرس نوڤا ( l’ars )novaالذي كان يسمح آنذاك باستغالل كل الطاقات الصوتية ،واستعمال جميع اآلالت الموسيقية المتوفرة. ومما ال شك فيه ،أن اللحظة كانت غنية بالدالالت .فخاللها أكدت أوربا ذاتها عن طريق الرقص ،والغناء ،واللعب ،والموسيقى. )13فﻠورنسا زهرة أوربا ؟ اجتمعت جميع تعابير التفتح ،الذي سبق الحديث عنه ،في فلورنسا القرن الخامس عشر .فمظاهر ما يسمى بالنهضة تجلت في هذه المدينة التي غدت في القرن الخامس عشر أفضل نموذج يجسد تطور المدينة -الدولة نحو نظام االستبداد المستنير. وحصل هذا التطور نتيجة جهود عائالت كبرى جمع أفرادها بين التجارة واألعمال البنكية ،وعلى رأسهم عائلة المديتشي .والمالحظ أن التطور في هذه المدينة ،لم يكن يسير في نفس االتجاه الذي كان يسير فيه مستقبل أوربا السياسي ،ألن ذلك المستقبل كانت موعودة به دول مثل فرنسا ،وأنجلترا ،أو قشتالة .ولكن األنظمة الحضرية المستبدة كانت خادمة للفن .ومن هذا المنطلق ،فإن العائالت التي حكمت المدن، والمدن-الدول في ايطاليا كانت راعية للفن. ويعد لورينزو الرائع ( ،)Lorenzo il Magnificoأحد أفراد عائلة المديتشي ،واحدا من بين أبرز رعاة الفن المشار إليهم .وكان هو نفسه شاعرا رقيق اإلحساس .ورث السلطة عن أبيه كوزيمو (كوسم) ( (Cosmeالذي حكم فلورنسا بين سنتي 1434و .1464واشتهر هذا األخير بكونه كان مولعا باقتناء وجمع التماثيل الرومانية ،واألحجار الكريمة ،وقطع النقود القديمة ،والميداليات .كما اشتهر تيشجيعه ،لعموم الناس عامة وللمثقفين بوجه خاص ،على إقامة خزانات الكتب .وكان يتوفرعلى خزانة شخصية تضم ما ينيف عن 400مجلد ،بعضها ال يتوفر في ايطاليا، اشتراها من أوربا ومن الشرق ،أو أمر باستنساخ ما لم يتمكن من شرائه منها .وكان جناح من إحدى إقاماته بمثابة صالون أدبي .تحول بعد ذلك إلى أكاديمية أفالطونية يديرها مارسيليو فشينو ( )Marsilio Ficinoأحد أبناء طبيب كوزيمو الذي درس
192
وتكون على نفقة هذا األخير .ولم يكن فشينو العالم الوحيد الذي "احتضنه" كوزيمو، فقد احتضن ورعى عددا آخر من أهل العلم والفن .وباإلضافة إلى ذلك اشتهر كوزيمو بتشييد عدة منشآت دينية ودنيوية .تراوحت بين قصور ،ومؤسسات تعليمية ،ومراكز صحية ،وكنائس ،وأديرة ،وموناستيرات وغيرها. وعلى كل ،اشتهرت فلورنسا باحتضانها ألروع المنشآت التي تجلى فيها إبداع أكبر الفنانين من رسامين ونحاتين .وبها تقع أبواب البابتستير ( les portes du )Baptistèreالتي تجسد أفضل ما تم إبداعه في مجال النحت ،وأحدث ما تم التوصل إليه في مجال الرسم عند مطلع القرن الخامس عشر .ولم يتجل االبداع في هذه البواب فقط ،بل تجلى أيضا في منشآت أخرى ،من بينها قبة كاتدرائية المدينة. وأكتفي بما استعرضته من نمادج تجلى فيها ابداع فن مطلع القرن الخامس عشر ألنني ال أنوي هنا الحديث عن تاريخ الفن بفلورنسا .أضيف فقط بأن الفنانين والعلماء وجدوا في عائلة المديتشي من رعاهم وشجعهم على االبداع كما سبق القول. وال شك أن هذه الرعاية وهذا التشجيع ،كانا وراء مقدم العديد من علماء وفناني بيزنطة إلى فلورنسا بعد سقوط القسطنطينية في حوزة األتراك العثمانيين .فأسهموا بقسط في نهضة المدينة. ولعل أبرز مظاهر التجديد في تلك النهضة تجلت في انبثاق تيار األفالطونية الجديدة حول مارسيليو فشينو ورواد األكاديمية التي كان يشرف عليها .والحقيقة أن هذا التجديد في حد ذاته ،كان يمثل امتدادا لذلك الموقف الفكري الذي ميز العصر الوسيط ،وهو وضع ثياب قديمة على األفكار الجديدة ،حتى غدا هذا الموقف تقليدا أوربيا ميز جميع النهضات منذ الفترة الكارولنجية حتى نهاية القرن الثامن عشر. )14من أقطاب الفكر المنفتح في القرن الخامس عشر برز جمهور كبير من العلماء والفنانين في القرن الخامس عشر .وقد قام عدد من الباحثين بالتعريف بهم وبتسليط الضوء على أعمالهم .ولكن ثلة منهم ظلت مغمورة ،ومن بينهم األلماني نيكوال دي كوزا ( ،)Nicolas de Cuesaوالبولندي باويل ڤلودكوڤيتش (( )Pawel Wlodkowicأو باولوس فالديميري).
أ) األلماني نيكوال دي كوزا ولد سنة 1401في قرية صغيرة تدعى كوزا ( )Cusaتقع على ضفاف نهر الموزيل .ثم تنقل بين عدة مدن أوربية درس بها الفنون والقانون والالهوت .وشارك
193
في أشغال المجمع الديني الذي انعقد ببال سنة .1432ثم ارتقى إلى مصاف الكارديناالت ،واشتغل لحساب عدد من الباباوات ،أمثال البابا أوجين الرابع ( )Eugène IVواينيا سلڤيو (( )Enia Silvioأو بيوس الثاني) ،الذين أناطوه بمهام إدارية وسياسية أبان فيها عن مقدرة عالية .ولكن تلك المهام لم تصرفه عن البحث والتأليف في مجال األدب والالهوت .فوضع سنة 1440كتاب "العالم الجاهل" (De ) docta ignoranciaالمؤلف من ثالثة أجزاء :جزء أول عرف فيه باهلل ،وجزء ثان خصصه للكون ،وجزء ثالث للمسيح .انطلق في هذا الكتاب من فكرة مفادها أن المرء غير قادر على بلوغ الكمال في معرفة هللا مهما اتسعت معارفه .ولكن هاته المعرفة، الضرورية كأداة في التعرف على هللا ،تسمح للمتسلح بها من التعرف على الكون بصورة أفضل .وأنكر بالمناسبة على أرسطو وبطوليمي قولهما بثبات األرض وسط العالم ،رغم أن وجهة نظره هاته ال تفيد بكونه مهد الطريق لما سيقول به كوبيرنيكوس في هذا الشأن .وكان يرى بأن الكون ال متناهي ،ويقع مركزه في كل مكان ،كما يقع محيطه في كل مكان .وبما أن تأكيد مثل هذه القضايا يحتاج إلى شروح ،فقد وجد نفسه يخوض في علوم الرياضيات ،عامة وفيما له صلة بمسألة التربيع بوجه خاص ،قصد التمكن من حل اإلشكاالت الرياضية .ولكن استمراره في البحث أوصله إلى قناعة وهي أن الرياضيات العقالنية غير كافية لبلوغ المراد ،وال بد من إيجاد فرع مكمل لها يتمثل في "رياضيات عليا" أو "رياضيات فكرية" .فوجد نفسه يضع لبنات ما سيعرف على يد ليبنيز ونيوتن بحساب التفاضل. وبما أن صلة نيكوال دي كوزا بالباباوات ظلت قائمة ،وخاصة مع البابا اينيا سلڤيو الذي كان من مقربيه ،فقد شاركهم انشغاالتهم بأمور العقيدة وبضغط األتراك العثمانيين على العالم المسيحي ،ففكر في إقرار نوع من "هدنة العقيدة" بين المسيحيين .وكان يرى في هذا المجال بأن القائمين على الديانات في العالم مطالبين بتجاوز حدود كل عقيدة على حدة واإلقرار بأن جميع الديانات تقوم في األساس على نفس الثوابت ،وأن االختالفات المذهبية (بين األديان) ليست اختالفات حول الثوابت بقدر ما هي اختالفات في الشعائر .ورغم أنه كان يرى بأن العقيدة واحدة مشتركة بين األديان ،فقد كان يميل في قرارة نفسه إلى تفضيل المسيحية. وعلى كل ،رغم أن نيكوالس لم يذهب بعيدا في هذا االتجاه فقد نال شرف السبق إلى طرح مسالة التعدد الديني بكل وضوح وشفافية .وهو بذلك لم يكن أول من وضع أسس ما يعرف بالحوار المسكوني ،وإنما كان أول من حاول وضع أسس التسامح الذي كان العصر الوسيط يفتقد إليه كثيرا. ب) البولندي باويل ﭬلودكوﭬيتش
194
ولد سنة 1350وتوفي سنة .1435درس في مدينة بادو ( .)Padoueوشغل منصب رئيس جامعة كراكوڤيا .كما قام بدور بارز في أشغال المجمع الديني المنعقد بكونستانس ،ورغم ذلك ظل شخصا مغمورا ،ولكنه أنجز مؤلفا بالغ األهمية أغفل الحديث عنه المؤرخون .وتكمن أهميته في كونه قدم إضافة في حقل الفكر السياسي األوربي. أصدر فلودكوفيتش هذا المؤلف سنة ،1410أربع سنوات بعد وقعة ﯕرونڤلد ( ) Grunwaldالتي دارت رحاها بين البولنديين والفرسان التوتونيين .وقد توقف مليا عند الصراع بين الطرفين ،الذي توج بتلك الوقعة ،وارتأى معالجته من زاوية قانونية آخذا بعين االعتبار دور الكنيسة في حياة المجتمع المسيحي في العصر الوسيط .فرأى أن هذا الصراع كان يمكن تجنبه لو كان غير المسيحيين يتمتعون بحقوق مدنية وسياسية ،على غرار األقليات ،كاليهود .واقترح أن يطبق في حقهم القانون إذا كانوا يجنحون للسلم ويرغبون في العيش بين المسيحيين .وسيرتكب أي ملك خطيئة إذا ما حاربهم دون مبرر أو صادر ممتلكاتهم .ويمكن التعامل بذات الطريقة مع الطوائف المسيحية التي تتبنى أفكارا مناوئة للكنيسة .وكأنه أراد أن يذكر الكنيسة بمقولة الدين هلل والوطن للجميع .أما الوثنيون وغير المسيحيين الذين يعيشون في أوطانهم ،فمن حقهم الوجود ،وإتباع الدين الذي ارتضوه لهم ،ألن وجودهم هو بأمر هللا ،كأمره للشمس التي تشرق بأنوارها على الجيد والسيئ ،على الخير وعلى الشر. ويبدو في ضوء ما تقدم أن فلودكوفيتش وضع ،من خالل وجهة نظره ،أسس القانون الدولي ،وأن أوربا التي اقترحها ال تتطابق مع الحدود التي كانت تسود فيها المسيحية. )15انمحاء اإلمبراطورية ؟ رغم التحوالت التي شهدتها أوربا خالل القرنين الرابع عشر والخامس عشر، كان من الصعب أن يتخيل أحدهم اختفاء اإلمبراطورية كحقيقة ترابية وسياسية، وكمعطى يؤثث المخيال األوربي .وكل ما تواترته النصوص في هذا الشأن هو تدهور اإلمبراطورية ،أو تجزئة اإلمبراطورية ،ألن هذا الكيان السياسي ،ظل تعبيرا رمزيا عن الوحدة األوربية رغم تبلور ممالك وطنية ،كفرنسا وأنجلترا ،وظهور مجموعة دول -مدن في ألمانيا وايطاليا. وتجلت بعض جوانب هذه الحقيقة في الخامس والعشرين من شهر دجنبر 1356حين أصدر شارل الرابع ،الذي حكم اإلمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة بين سنتي 1347و ،1378مرسوما نص على إصالح بنية وطريقة عمل هيئة الناخبين لإلمبراطور .فقد أصبح عددهم سبعة بموجب هذا المرسوم .يتمثلون في
195
أساقفة كل من مدن مايونس ( )Mayenceوكلوني ( )Cologneوتريڤ (،)Trêves وملك بوهيميا ،وماركيز براندبورﯕ ( ،)Brandebourgودوق دوقية ساكس -ويتنبرﯕ ( ،)Saxe-Wittenbergوالقمط البالطي ( )Comte palatinحاكم قمطية الراين. كما أضحى اإلمبراطور يحكم بمساعدة جمعية تشريعية (رايشتاغ) ،كانت تتشكل منذ هذا التاريخ من "الدول" ،يعني األمراء الالئكيين والدينيين ،ومن مدن اإلمبراطورية. وبموازاة هذه اإلجراءات ،حاول االمبراطور نشر ما يعرف بالسلم اإلمبراطوري ( )Reichslandfriedeفي ربوع اإلمبراطورية .ولكن تأثيره بدا محدودا مقارنة مع تأثير سلم أمراء الجهات ( .)Landfriedenوكان هؤالء األمراء هم المشرفون أيضا على سير المؤسسات الدينية ،ولذلك انتفى وجود كنيسة مركزية في اإلمبراطورية. ويبدو ،أن انقسام اإلمبراطورية إلى جهات أمر أثر على الطابع األوربي أللمانيا منذ القرن الخامس عشر ،ألن هذه األخيرة كانت مقسمة فعال إلى 350جهة (Land- )schaftenكان رؤساؤها هم المشرفين الفعليين على سير المؤسسات الدينية، والمؤسسات القضائية ،وعلى جباية الضرائب ،وتدبير الشؤون العسكرية. وال بأس من اإلشارة إلى أن قوة الجهات كانت متفاوتة .وفي سياق هذا الجنوح نحو الجهوية ظهرت في ألمانيا ،منذ القرن الخامس عشر ،ثالث قوى اقتسمت النفوذ في المناطق الشرقية هي :البراندبورﯕ ( ،)le Brandebourgوالساكس ( la ،)Saxeوالنمسا ( .)l’Autricheوقد تمكن الهوهنزولرن ()les Hohenzollern ماركيزات الجهة األولى (أي البراندبورﯕ) منذ سنة 1442من بسط نفوذهم على كبريات المدن ،وأهمها برلين ،ومن استعادة ثغر كان تحت سيادة التوتونيين .وتمكنوا أيضا من توسيع دائرة نفوذهم على حساب القوى المجاورة .وأعادوا تنظيم المؤسسات القضائية والجبائية .ونجحوا بذلك في إرساء دعائم ما يشبه مملكة وراثية ،أصبح يعتلي عرشها الذكور البكر بمقتضى قانون منظم للحكم صدر سنة .1473 وخالفا لماركيزة البراندبورﯕ ،،ظلت جهة الساكس دوقية متواضعة .أما جهة النمسا ،فقدر لها ،بعد فترة مخاض وتجاذبات سياسية ،أن تغدو كيانا قويا على يد مكسمليان النمساوي ( )Maximilienبعد اقترانه سنة 1477بماريا ( )Marieابنة شارل الجريء ) (Charles le Téméraireدوق بورغونديا .وبما أنها كانت الوريثة الوحيدة ألبيها ،فقد آلت لمكسمليان دوقية بورغونديا ،واألراضي المنخفضة التي كان يشملها حكم شارل. وابتداء من سنة ،1486تم انتخاب مكسمليان ملكا على الرومان .ولم يؤل جهدا في توسيع مجال نفوذه .فضم إلى سلطته فيينا ،وتيرول ،وبوهيميا ،وهنغاريا .وعند وفاة والده االمبراطور فردريك الثالث سنة 1493أصبح يحكم كيانا شاسع المساحة يمتد من ترييستي ( )Triesteبشمال شرق ايطاليا حتى أمستردام باألراضي
196
المنخفضة .وقد احتلت النمسا موقعا متميزا في هذا الكيان ،واستمرت قوتها في التنامي حتى غدت عشية انبثاق األزمنة الحديثة من أقوى الكيانات السياسية األوربية. )16خارطة أوربية بسيطة تميزت خارطة أوربا السياسية خالل القرن الخامس عشر بكونها أخذت تتجه نحو البساطة باستثناء اإلمبراطورية ،وما سيحدث في ألمانيا. ويجب التأكيد على أن هذا االتجاه نحو البساطة حدث دون "علم الناس" ألن الصراع بين فرنسا وأنجلترا كان يشغل العقول .وانتهت فصول هذا الصراع بانتصار فرنسا .حيث تمكن شارل السابع ،المعروف بشارل المنتصر ،من استعادة كثير من األراضي التي سبق أن فقدتها فرنسا .إذ استعاد باريس سنة ،1436ثم نورمانديا سنة ،1449وبعدها بايون سنة .1451وتأكد انتصار فرنسا في موقعة فورميني ( )Formignyفي أبريل ،1450وفي موقعة كاستيون ( )Castillonفي يوليوز .1453ولم تتمكن أنجلترا من استعادة زمام المبادرة بعد فشل هنري السابع في حملة على منطقة بولوني ( .)la Boulogneفتخلت على اثر ذلك على جميع ممتلكاتها القارية باستثناء مدينة كالي ( .)Calaisوبذلك انتهت فصول حرب المائة سنة. وحققت فرنسا نصرا آخر حين نجح ملوكها في إحباط محاولة قيام كيان سياسي في مناطقها الشرقية .ورغم خسارتها لألراضي المنخفضة التي آل حكمها لمكسمليان بعد اقترانه بابنة شارل الجريء المتوفى سنة ،1477فقد عوضت تلك الخسارة باسترجاع كل من بيكارديا ( ،)la Picardieومنطقة بولوني ،ودوقية بورغونديا، ومنطقتا أرتوا ( )l’Artoisوفرانش -كونتي ( )la Franche-Comtéبموجب معاهدة صلح آراس التي ابرمها لويس الحادي عشر ( )Louis XIمع مكسمليان في دجنبر .1482وعادت أيضا قمطية أنجو ( )Anjouلحظيرة المملكة سنة 1475بعد أن تعذر على ملكها روني ( ،)Renéسليل اآلسرة األنجولية ،إيجاد خلف يرث عرشه. وقام بهذا التنازل نظير أن يظل أحد أصهاره محتفظا بحكم قمطيتي المين ( le )Maineوبروڤونس ( .)la Provenceوظل هذا االتفاق ساري المفعول حتى سنة ،1481حيث أضحت القمطيتان جزءا من المملكة الفرنسية .فشكل هذا األمر مقدمة نحو تسوية وضعية ممتلكات التاج الفرنسي في الجنوب" ،ورسم الحدود" مع كل من ناڤار وأرغونة. ولم تبق خارج نفوذ التاج الفرنسي في أواخر القرن الخامس عشر سوى دوقية بروطاني ) )la Bretagneالتي أصبحت بدورها تحت السيادة الفرنسية بعد زواج آن ( ،)Anneابنة فرانسيس الثاني ( ،)François IIووريثة عرش الدوقية ،من الملك
197
شارل السابع سنة .1491ثم تأكدت هذه العودة بصفة نهائية سنة 1499حين تزوجت آن للمرة الثانية بلويس الثاني عشر خليفة شارل. وعلى غرار خارطة فرنسا ،اتجهت الخارطة السياسية في شبه جزيرة ايبيريا نحو البساطة .فبعد فترة صراع وتجاذبات بين ملوك البرتغال وملوك كل من قشتالة وأرغونة هدأت األوضاع في شبه جزيرة ايبيريا .وتخلى ملوك البرتغال عن رغبتهم في ضم قشتالة .وقد حدثت التسوية بين مختلف قوى الصراع بمقتضى معاهدة ألكشوفا ( )Alcaçovasالتي أبرمها ألفونسو الخامس ملك البرتغال مع الملوك الكاثوليك (إيزابيال األولى ملكة قشتالة وفرديناند الثاني ملك أرغونة) في شتنبر .1479وقد حدث قبل إبرام هذه المعاهدة أن انضمت قمطية قطلونيا إلى حضيرة مملكة أرغونة، بينما كان فرديناند ملك أرغونة قد تزوج إيزابيال ملكة قشتالة .فسرعت هذه األحداث من وتيرة االتجاه نحو الوحدة في اسبانيا. ويبدو أن هذه األجواء ألهبت حماس الملوك الكاثوليك ،فشنوا حربا صليبية جديدة على آخر مملكة إسالمية في شبه جزيرة ايبيريا وقاعدتها غرناطة .ونجحوا في استرداد مالقة سنة ،1487ثم باجة ،وألمرية سنة .1489وتمكنوا أخيرا من استرداد غرناطة يوم ثاني يناير 1492بعد أن شددوا عليها الحصار فترة طويلة. وشهدت السنة ذاتها طرد اليهود من قشتالة ،واكتشاف كريستوف كلومبوس، العامل لحساب ملوك اسبانيا ،ألرض جديدة ستحمل اسم أمريكا. )17التهديد التركي تواصلت تهديدات األتراك العثمانيين لمناطق أوربا البلقانية منذ أواسط القرن الرابع عشر .وقد أفضت الى سيطرتهم على مدينة كاليبولي )(Gallipoli ) .)Kallipolisثم تقدموا نحو منطقة تراقيا بين سنتي 1353و .1356وتمكنوا من ضم سلونيك سنة .1387وألحقوا بعدها بسنتين هزيمة نكراء بالصربيين في كسوڤو. وحاول األوربيون التصدي لهم في حرب صليبية ،ولكنهم هزموا في وقعة نيكوبوليس سنة .1396فواصل األتراك العثمانيون ،على اثر ذلك ،زحفهم الذي توجوه بالسيطرة على القسطنطينية سنة .1453وخلف هذا الحادث صدى كبيرا في أوربا ،ولكن الرد عليه كان ضعيفا .ولذلك واصل األتراك العثمانيون إحكام سيطرتهم على مدن ومناطق أوربية مثل البوسنة .وشرعوا في التوغل في مناطق أوربا الغربية ،حيث نجحوا سنة 1480في بسط سيادتهم على أوترانتي ( )Otranteبجنوب ايطاليا .وهددوا ممتلكات إمبراطورية جنوة بسيطرتهم على كافا سنة .1475 خلف سقوط القسطنطينية صدى قويا في أنحاء أوربا حسبما يتضح من رسالة بعث بها البابا بيوس الثاني ( )Pius IIإلى المفكر األلماني نيكوال دي كوزا
198
( )Nicolas de Cuesيوم 21يوليوز 1453نبهه فيها بأن زحف األتراك العثمانيين على سواحل ايطاليا المشرفة على بحر األدرياتيكي ،يشكل تهديدا حقيقيا للعالم المسيحي .وعبر له بصريح العبارة بأن "السيف التركي يوجد اليوم معلقا فوق رؤوسنا ،ونحن منشغلين في حروب عقيمة .ونقوم بمطاردة إخواننا ،ونترك أعداء الصليب ينقضون علينا" .وعاد البابا ليذكر بانقسام العالم المسيحي ،وعدم قدرته على التصدي للمد العثماني في رسالة بعث بها يوم 25شتنبر 1453للمدعو ليوناردو بنفكلينتي ( )Leonardo Benvoglientiسفير سيينا ( )Sienaفي البندقية .وأهم ما يالحظ في الرسالة هو أن البابا استعمل فيها كلمة "أوربا" في قوله " :وهذا هو وجه أوربا ،وهذه هي وضعية الديانة المسيحية". )18المشروع األوربي لجورج بوديبراد تزامنت رسائل البابا ،واألحداث العسكرية السالف ذكرها ،مع محاوالت كان يقوم بها ملك بوهيميا ،معتنق الهوسية المعتدلة ،جورج بوديبراد ( Georges )Podiebradالحتواء المد العثماني .ولتحقيق هذا المسعى ،اقترح إنشاء جمعية (لم ينعتها باألوربية) قوامها المسيحية الكاثوليكية .وقد مثلت محاولة بوديبراد أول مشروع يروم قيام جامعة تلتئم فيها أوربا موحدة. وردت تفاصيل المشروع الجامع ( )l’Universitasفي نص التيني يعود لسنة .1464ارتأى قسطنطين جلينيك ( ،)Konstantin Gelinekالذي قام بترجمته ،أن يختار له كعنوان " :معاهدة من أجل أوربا" ( .)Tractatus pour l’Europeوقام جون -بيير فاي ( )Jean-Pierre Fayeبإصدار كتاب سنة 1992تحت عنوان : "أوربا واحدة" تضمن هذا النص.75 أقر ملك بوهيميا في مشروعه صراحة بأن تحقيق الوحدة يقتضي ،قبل كل شيء ،وضع حد للحروب بين الدول األوربية .وبناء عليه ،فإن السلم بين األوربيين يمثل المقصد واألداة ،او بعبارة أخرى ،السلم هو هدف الوحدة ووسيلة تحقيقها في ذات الوقت .هكذا حصل منذ خمسة قرون أن رفع نداء من أجل أوربا مسالمة .وشكل السلم مطلبا رئيسا من أجل وحدة أوربية. وتضمن المشروع جملة من المقترحات يمكن إجمالها في العناصر التالية : -75صدر هذا الكتاب تحت عنوان ،"L’Europe une. Les philosophes et l’Europe ":ضمن منشورات دار ﯕاليمار .وقام بالتصدير له جاك دولور. كما أعادت الباحثة كوليت بون ( )Colette Beauneنشر نص مشروع جورج بوديبراد كملحق لمقال مطول تحت عنوان : " Chrétienté et Europe : le projet de Georges Podiebrad au XVe siècle", Chrétiens et sociétés, 1994. (article en ligne) sur http://chrétenssociétés.revue.org/68
199
تشكيل قوة أوربية مشتركة تتدخل كحكم ووسيط في حالة اندالع نزاع مسلحبين دولتين. إقامة مؤسسات الجامعة في مكان "طاهر" محايد .واتاحة الفرصة اللتحاقأعضاء مسيحيين جدد بالجامعة. إقرار ضرائب جديدة ،وإيجاد مصادر لتمويل نفقات الجامعة. عقد لقاءات دورية (مؤتمرات قمة) كل خمس سنوات في إحدى مدن أوربا.واقترح بوديبراد أن ينعقد أول لقاء في مدينة بال ( ،)Bâleعلى أن ينعقد اللقاء الثاني في مدينة فرنسية ،والثالث في مدينة ايطالية. االتفاق على اتخاذ شعار ورموز موحدة للجامعة ،وخاتم ،ومصلحة لحفظالوثائق والمستندات ،وأمين مال ،وأطقم من الموظفين الساهرين على سير مختلف المؤسسات والمصالح. تمتيع كل دولة من دول أوربا (فرنسا ،ألمانيا ،ايطاليا ،اسبانيا) بصوت فيالجامعة. المصادقة على القرارات باألغلبية ،وفي حالة تعادل األصوات يتم الفصلباللجوء إلى أصوات المنتدبين الممثلين لكبار السنايير الممثلين في الجامعة .أما الدول األخرى الموقعة على ميثاق الجامعة ،فعلى كل واحدة منها االنضمام ،عند اتخاذ القرارات ،إلى طرف من األطراف. يتضح بجالء أن العناصر السالف ذكرها تمثل خالصة مشروع مدهش لم يتم تطبيقه أبدا مع األسف. .ويحق القول في ضوئه بأن أوربا الموحدة ولدت في وقت سابق ألوانه ،أي منذ أواسط القرن الخامس عشر .ومن المدهش أيضا أن أميرا تفرد عن نظرائه ،فكان صاحب هذه الفكرة الخارقة بطابعها الحداثي. )19ايطاليا منارة وفريسة أوربا تميزت ايطاليا ،دون غيرها من دول أوربا ،بكونها أثارت انتباه المعاصرين. ورغم عجزها عن تشكيل أمة ،فقد ظلت مصدر إلهام العديد من المفكرين اإلنسيين. كما أيقظت الشعور الوطني عند بعضهم كماكياڤلي على سبيل المثال .ولكن الواقع يفيد بأن ايطاليا كانت كيانا ممزقا ومتناقضا خالل القرن الخامس عشر .وشكلت في ذات الوقت موطن حركة إنسية ،كانت متوهجة منذ هذا الوقت المبكر ،وموطن النهضة الكبرى التي ستأتي فيما بعد .ولذلك كانت تستقطب أعدادا من األوربيين الذين كانوا يزورونها لدواعي دينية وللسياحة أيضا .وكان عدد من الحجاج المتوافدين على مدينة البندقية في اتجاه مدينة القدس والبقاع المقدسة يقضون بهذه المدينة زهاء شهر قبل
200
اإلبحار إلى وجهتهم .فكانوا يزورون خالل مقامهم بها ما تزخر به من مآثر عمرانية، ومراقد كبار القديسين. ويبدو أن ظاهرة التجزئة أخذت تخف تدريجيا .فحكام فلورنسا ،مثال، استطاعوا توحيد إقليم توسكانيا بضمهم لمدينتي بيزا وليڤورنو ،فاستطاعوا بذلك أن يرتقوا بمدينتهم -دولتهم إلى مصاف القوى البحرية الكبرى .وبالمثل استطاع حكام البندقية تمتين سيطرتهم على معظم مناطق شمال شرق شبه الجزيرة االيطالية بضمهم لكل من بيرﯕامو ( ،)Bergameوبريشيا ( .)Bresciaوعلى غرارهم استطاع حكام ميالنو ضم جنوة. كانت عمليات الضم تتم عبر حروب بين العائالت الحاكمة لهذه المدن -الدول. وكثيرا ما استقوت بعض تلك العائالت بفرنسا ،أو بأرغونة التي كانت لها ممتلكات بالجزر االيطالية .واستمرت تلك الحروب حتى سنة ،1454تاريخ توقيع معاهدة بين الع ائالت تحت إشراف البابا .وقد أحدثت تلك المعاهدة نوعا من التوازن بين مختلف القوى االيطالية ،وجعلت السلم يسود بينها زهاء ربع قرن. كانت ايطاليا منقسمة على نفسها وبراقة في ذات الوقت كما سبق القول ،ولذلك أثارت معظم األوربيين .ولكن هذه اإلثارة ولدت في نفوس المعجبين نوعا من الشهوة جعلت ايطاليا المنارة تتحول إلى ايطاليا الفريسة كما وضح ذلك الباحث جيروالمو أرنلدي ( )Girolamo Arnaldiفي بحثه "ايطاليا وغزاتها" .76وقد تشكلت القوى الغازية من أرغونة واالمبراطورية المقدسة وفرنسا. ويظهر أن فرنسا كانت أبرز المفترسين .وقد كشر ساستها عن أنيابهم منذ سنة ،1489حين طلب البابا اينوسنت الثامن من شارل الثامن التدخل في جمهورية نابولي .ثم أتى دور ليدوفتش حاكم ميالنو الذي إلتمس ،سنة ،1494من شارل السالف الذكر التدخل في ميالنو .وانطلقت الجيوش الفرنسية من مدينة ليون ،يوم 22غشت ، 1494بدعوى القيام بحرب صليبية ضد األتراك العثمانيين ،لتتجه صوب نابولي التي حطت بها وطالبت حاكمها بالحقوق التي كان يستخلصها ملك فرنسا من عائلة أنجو ،فكان هذا التحرك بداية اندالع الحروب االيطالية. )20األوروبي فﻠيب دو كومين إن أوربا التي كانت تتشكل آنذاك في إطار منظومة إيديولوجية دينية واحدة تستند إلى حقائق وطنية واضحة ،بدت وكأنها تفرض نفسها كهوية .ومن ثم ،كان على - 76صدر كتاب " "L’Italia e suoi invasoriسنة .2004وصاحبه أستاذ باحث في التاريخ األوربي الوسيط. حاضر بجامعتي بولوني وروما.
201
المفكرين والمؤرخين ورجال السياسة ،إعادة النظر في تمثالنهم .فقد أخذوا ينظرون ألوربا كهوية .وهذا ما تفصح عنه مؤلفات فليب دو كومين )Philippe de )Commynesأحد أكبر مؤرخي القرن الخامس عشر .77فقد قام في أحد تلك المؤلفات باستعراض ألوضاع العالم المسيحي في عصره .وختم هذا االستعراض بقوله " :لم أتحدث سوى عن أوربا ألنني ال أتوفر على معلومات تهم القسمين اآلخرين ،أي آسيا وإفريقيا" .واكتفى بخصوصهما بالقول " :يبدو من خالل ما بلغني من معلومات ،أنهما يشتركان مع أوربا في خاصيات سلبية هي الحروب واالنقسامات" .وأضاف في موضع آخر" وفضال عن ذلك ،فإن إفريقيا تشكو من بؤس آخر وهو أن أهلها يبيع بعضهم بعضا للمسيحيين ،وإن البرتغاليين بدأوا من هنا تجارة يومية للسود" .ويمكن القول في ضوء ما أورده دو كومين بأن مرحلة جديدة انبثقت في أوربا ،مرحلة اكتشفت فيها أوربا إفريقيا ،وستكتشف بعدها أمريكا .ولكن بداية هذه المرحلة طبعها الخزي والعار بسبب قيام أوربا بتزويد العالم الجديد بعبيد كانوا يؤخذون من إفريقيا. )21أوربا في مالقاة العالم الخارجي لعل أهم ما يثير االنتباه عند رصد تطور أوربا في نهاية القرن الخامس عشر، هو ظاهرة التوسع خارج أوربا .ورغم أن أحد الباحثين خص المكتشفين في العصر الوسيط بدراسة قيمة ،فالواقع أن مصطلح "مكتشف" ،وكذلك الدور المنوط بهذا الشخص ،لم يكونا معروفين خالل هذه الحقبة التاريخية .وباإلضافة إلى ذلك فإن الرحالت القليلة التي قام بها مسيحيون خارج أوربا ،كانت إما رحالت تبشيرية ،أو رحالت تجارية. فقد رحل بعض المسيحيين من أجل التبشير ،ومن بينهم ،على سبيل المثال، الفرانسسكاني جون دي بالن كاربان ( )Jean de Plan Carpinالذي رحل خالل القرن الثالث عشر إلى المناطق التي كان أهاليها قد اعتنقوا المسيحية قبيل بداية رحلته ،مثل العالم اإلسكندناڤي ،وبوهيميا ،وبولندا ،وهنغاريا .وقد حمل ،زمن قيامه - 77اخباري ورجل سياسة فرنسي ينحدر من أسرة نبيلة .ولد سنة 1447وتوفي سنة .1511عاش طفولته يتيما في وضعية مادية مزرية بعد أن كان أبوه قد بدد ثروته قبيل وفاته .قدر له أن يعود الى حياة النبالء منذ سنة 1464حين عينه الملك فليب الطيب ( )Philippe le Bonمرافقا عسكريا ( )écuyerالبنه شارل ،الذي سيعتلي العرش باسم شارل الجريئ. جمع فليب دو كومي ن بين العمل السياسي والفكري ،حيث وضع بعض المؤلفات ،أهمها الكتاب الضخم الذي يشير اليه جاك لو ﯕوف .أنجز هذا الكتاب بين سنتي 1489و .1498وقام بننشره المؤرخ والمترجم دوني سوڤاج (Denis ) Sauvageسنة .1552وأعيد تحقيق الكتاب ونشره تحت عنوان Mémoires de Philippe de Commynes كما تمت ترجمته الى مختلف لغات أوربا والى الروسية أيضا.
202
بهذه الرحالت ،رسائل من البابا اينوسنت الرابع إلى األمراء الروس والخانات المغول ،يدعوهم فيها إلى إحداث نوع من التقارب بين دياناتهم والمسيحية الكاثوليكية. كما رحل بعض التجار من أجل التصدير واالستيراد .وأبرزهم في هذا المجال أفراد عائلة بولو ( ،)Poloوصهرهم ماركو( )Marcoالذين اشتغلوا في التجارة بسيالن .ودخلوا أيضا في خدمة المغول .ويحتمل أن يكونوا قد وصلوا إلى الصين. وبغض النظر عن الكيانات المسيحية المؤقتة التي أقامها األوربيون بفلسطين، فإن أهم الحمالت الجماعية التي قاموا بها في العصر الوسيط ،أفضت إلى تأسيس إمبراطورية تجارية ،كانت أحيانا ترابية ،وأخذت شكل استيطان ،في بعض مناطق اإلمبراطورية البيزنطية والشرق األدنى .وساهم التجار االيطاليون عامة ،وتجار البندقية وجنوة بشكل خاص ،بدور قيادي في هذا المجال .ويبدو أن ما أثار اهتمام األوربيين بمناطق شرق البحر المتوسط هو غناها بالمنتجات ،وأهمها العقاقير والتوابل ،التي أقترح بعضهم أن عددها كان يقارب سنة 286 ،1340نوعا .واألهم من الرقم ،هو أن هذه األنواع كان بعضها يدخل في صناعة مواد الصيدلة ،وبعضها في الصباغة ،وبعضها في صناعة المواد العطرية ،وبعضها اآلخر في تحضير الوجبات واألكالت ،ألن الكثير من نساء ورجال العصر الوسيط لم يكونوا يخفون رغبتهم في تناول وجبات تتضمن كميات من التوابل .وكان ربع كمية التوابل المتداولة في مدن أوربا يجلب من الهند ،والصين ،والشرق األقصى .وقد كان سعرها مرتفعا ألن مسيحيي أوربا كانوا يقتنونها من التجار العرب المتواجدين بالشرق األوسط. وكانت هذه المواد تنتقل من موانئ عكا ،وبيروت ،واإلسكندرية في اتجاه موانئ أوربا. والجدير بالتذكير في هذا الصدد أن تجار البندقية كانوا يمثلون أكبر نسبة من بين التجار الذين تعاطوا لتجارة التوابل عند نهاية العصر الوسيط .وتفيد بعض المعطيات بأنهم كانوا يستثمرون 400ألف دوقة سنويا في هذه التجارة .وكانوا يبعثون من المرافئ السالف ذكرها إلى أوربا ما بين ثالثة وخمسة مراكب كل سنة .ويعد هذا األمر مهما جدا بالنظر الرتفاع سعر التوابل ،ولصغر حجمها. وانضم تجار جنوة ،وقطالونيا ،وأنكونا لهذه التجارة .ولكن نصيبهم منها كان محدودا ،بحيث لم يتجاوز مركبا أو مركبين في السنة. ومهما يكن من أمر ،فالراجح أن رجال األعمال والمستهلكين األوربيين األغنياء انشغلوا كثيرا عند نهاية القرن الخامس عشر بإيجاد مصادر جديدة للتزود بالتوابل، والسكر ،فضال عن الذهب والمعادن النفيسة التي تزايد عليها الطلب. )22التوجه نحو المحيط األطﻠسي وإفريقيا
203
حاول األوربيون صرف أنظارهم قليال عن البحر المتوسط حين أخذت تعكر صفو مياهه قطع أسطول األتراك العثمانيين .فأخذت أعناقهم تشرئب ،منذ نهاية القرن الخامس عشر ،نحو مياه المحيط األطلسي .وبدأ هذا االهتمام باالتجاه أوال نحو إفريقيا الغربية. وال بد من االشارة في هذا المقام بأن نظرة األوربيين إلفريقيا كانت سيئة منذ العصر القديم .ويبدو أنها ازدادت سوءا خالل العصر الوسيط .فقد كان األوربيون ينعتون األفارقة "باإلثيوبيين" ،كما كانوا يشمئزون منهم بسبب لون بشرتهم الداكن. أما إفريقيا ،فكانوا يعتبرونها موطنا يعج بالثعابين والدواب الضخمة .وعلى غرارها كان الشرق موطن الوحوش ،ولكنه كان يحتوي ،مقابل ذلك ،على كثير من الغرائب والعجائب. ويمكن الوقوف على مثل هذه الصورة عند غوتيي أو غوسوان دو ميتز ( )Gautier ou Gossuin de Metzالذي نظم سنة 1245قصيدة مطولة باللغة اللورينية عرف فيها "إثيوب" ( ،)Ethyopeأي إفريقيا ،بكونها "موطن يقطن به أناس أكثر سودا من القطران .تسود فيه حرارة مفرطة تبدو معها األرض وكأنها تحترق .وباستثناء الشريط الشمالي ،تبدو [إثيوب] عبارة عن صحاري مليئة بالحشرات والحيوانات المفترسة" .78وبناء على هذه الصورة ،يبدو أن التواصل الوحيد المثمر بين أوربا وإفريقيا كانت تقوم به مجموعة محدودة من التجار المختصين ،كانوا يقتنون ،عن طريق المقايضة ،كميات من ذهب السودان من سجلماسة لعرضها على تجار الحلي والمجوهرات بأوربا. والراجح أن صورة األوربيين عن إفريقيا تغيرت بشكل ملحوظ منذ مطلع القرن الرابع عشر .فغدت هذه القارة موضوع إثارة .ولذلك توالت عليها الحمالت التي بدأت في أول األمر بمحاولة اقتحام فاشلة قام بها بعض التجار االيطاليين سنة .1291 ثم تلتها محاولة ثانية فاشلة قام بها البحار المايوركي خاييم فرير سنة .1346وتوالت المحاوالت الجادة منذ حملة غشت 1415التي تمكن البرتغاليون على إثرها من السيطرة على سبتة ،المحطة الرابطة بين أوربا وذهب السودان .فكانت تلك الحملة إيذانا ببداية التوسع البرتغالي .كما كانت أيضا مقدمة في مسلسل الصراع بين البرتغاليين ،الراغبين في السيطرة على المغرب ،وقوى أوربية أخرى كانت تطمح في االتجاه بعيدا نحو مناطق غرب إفريقيا.
- 78ترجم هذه القصيدة الى اللغة األنجليزية التاجر والمترجم "ورجل األعمال" األنجليزي وليام كاكستون ( William )Caxtonسنة .1481كما اهتم بنشرها الباحثون الجامعيون ،ومن بينهم أوليڤيي هربير بريور ( Olivier Herbert ) Priorالذي حققها في اطار أطروحة جامعية لنيل دكتوراه الدولة ،ناقشها بجامعة لوزان ونشرها سنة .1913
204
وال بأس من التذكير بأن تحركات البرتغاليين كان وراءها هنري المالح ابن الملك جواو األول ( ،)João Iأحد أقطاب الكشوفات الجغرافية ،وعمليات التوسع البرتغالي فيما وراء البحار. وقد بدأ البرتغاليون تلك العمليات باحتالل جزر ماديرا ،وجزر اآلسور بين سنتي 1418و .1433ثم واصلوا تحركاتهم في اتجاه الجنوب ،حيث وصلوا إلى رأس بوجدورسنة .1435وبعده حطوا الرحال بجزر الرأس األخضر سنة .1444ووصلوا إلى مصب نهر السينغال سنة .1461ثم عبروا رأس الرجاء الصالح ووصلوا إلى الهند. ولكن البرتغاليين عادوا في عهد الملك ألفونسو الخامس إلى االتجاه القائل بالسيطرة على المغرب ،فاحتلوا مدينة طنجة سنة .1471 ودون المضي قدما في تتبع مراحل التوسع البرتغالي ،أميل لالعتقاد بوجوب اعتبار هذا التوسع أجرأة لعملية تحول أنظار األوربيين من البحر المتوسط إلى المحيط األطلسي .وقد اختلطت في هذا التحول الرغبة في التوسع االقتصادي بالرغبة في نشر المسيحية ،فضال عن حب المغامرة والرغبة في اكتشاف آفاق جديدة .وفي إطار هذا التحول بالذات قدر للبرتغال والسبانيا أن تظهرا على واجهة األحداث ،فأضحت كل من لشبونة واشبيلية مركزين قويين للتجارة واألعمال؛ اتجهت أنشطتهما نحو المحيط األطلسي وأوربا في ذات الوقت. )23مظاهر العتاقة والتقدم في المراكب البحرية والمالحة لم يكن من الممكن أن يتم اهتمام األوربيين بالواجهة األطلسية لوال التقدم الذي حصل في مجال المالحة بشكل عام ،وفي مجال صناعة المراكب البحرية بشكل خاص. ويمثل القرن الثالث عشر الحيز الزمني الذي تحقق فيه ذلك التقدم من خالل إقبال أهل البحر على استعمال دفة إيطومبو ( )le gouvernail d’étambotفي مؤخرة المراكب بدل الدفة الجانبية .فغدت المراكب أكثر استقرارا على سطح الماء، ومن السهل تحريكها في االتجاه المراد االبحار صوبه .وكذلك من خالل إقبالهم على استعمال الشراع المربع ،الذي أضحى من الممكن التحكم في مساحته بواسطة الحبال. وال بأس من التنبيه بأن األوربيين لم يقبلوا على استعمال هذه التقنيات بشكل مكثف إال في أواخر القرن الرابع عشر .وكان ذلك يعكس رغبتهم األكيدة في تحسين إنتاجية النقل البحري كما وضح ذلك الباحث جون -كلود هوكي ( Jean-Claude
205
.79)Hocquetوكانت عمليات تحسين اإلنتاجية تحدث كل ثالثين ،أو أربعين سنة، وتشمل تقنيات المالحة ،وأنواع المراكب ،وحمولتها وما إلى ذلك .ويكفي التذكير في هذا المقام بأن تحسين تقنية المزاوجة بين الشراع المربع ،والشراع الالتيني القديم سمح للمالحين باإلبحار بمراكبهم كيفما كان اتجاه هبوب الرياح دون االضطرار إلى التوقف عن اإلبحار خالل فترات من فصل الشتاء .وقد اجتمعت آخر التقنيات المستحدثة في المركب المعروف بالكرڤيال ( )la caravelleالذي طبقت شهرته اآلفاق ،وترك بصمة في ذاكرة األوربيين .كانت الكرڤيال مزودة بثالثة حصائر ( des ) mâtsبدل حصير واحد .كما كانت أخشابها الجانبية ملساء وغير متقابلة مما سهل عملية انسيابها في الماء .وفضال عن ذلك ،كانت تسع لما بين أربعين وستين برميال. كما تميزت بخاصية السرعة ،فال غرو اذا وجدنا أن كريستوف كلومبوس اعتمد في الرحلة التي قادته الكتشاف أمريكا على مركبين من نوع الكرڤيال كانا من بين الثالث قطع التي تشكل منها أسطوله. قادت البرتغال واسبانيا األوربيين لالقتحام غمار مياه المحيط األطلسي .وقد باركت البابوية تحركاتهما في هذا االتجاه .بل إن البابا اإلسكندر السادس أصدر سنة 1493مرسوما يقضي بأن األراضي التي وصلت إليها مراكب أوربية ،وال يحكمها ملوك أو أمراء أوربيون تؤول ملكيتها للبرتغاليين واالسبانيين .ووضع خط يمر غرب جزر اآلسور كحد فاصل بين ممتلكات الدولتين .وفي السنة الموالية أبرمت اسبانيا والبرتغال معاهدة تورديسيسالس الشهيرة التي تم بموجبها تعديل هذا الخط ،الذي أصبح يمر بالجزء الغربي من المحيط األطلسي .فكانت تلك المعاهدة إيذانا ببداية اقتسام العالم بين األوربيين .ويمكن بالمناسبة اعتبارها إيذانا ببداية األزمنة الحديثة. ولكن ال يجب أن يغرب عن بالنا أن األحداث السالف ذكرها كانت تتسارع في وقت ظلت فيه أفكار األوربيين عن العالم فضفاضة ،وتشوبها نقائص كثيرة .فقد كانوا يعتقدون ،على سبيل المثال ،أن األراضي الواقعة وراء رأس الرجاء الصالح هي أراضي الراهب خوان ،الرجل المدهش مالك عالم الغرائب .كما كانوا يعتقدون بأن الصين تقع ما وراء المحيط األطلسي. ولم تكن هذه التصورات الخاطئة حكرا على عامة المسيحيين ،بل حتى المتعلمين ،وكثير من علماء العصر كانت معرفتهم عن العالم قاصرة .فالخرائط المتداولة كانت مليئة باألخطاء ،رغم التقدم الملحوظ الذي حصل .كما أن رواد حركة الكشوفات الجغرافية لم يكونوا بدورهم يعرفون جيدا مواقع المناطق التي كانوا يتجهون إليها .فهذا كريستوف كلومبوس ،أبرزهم ،كان يعتقد أن المسافة الفاصلة بين - 79أستاذ باحث فرنسي من مواليد . 1936حاضر في التاريخ األوربي الوسيط بجامعتي البندقية وليل الثالثة .ركز معظم األبحاث التي نشرها حول قضايا المالحة البحرية والملح وتجارته.
206
نهاية اليابس االسباني واليابس الهندي قصيرة جدا يمكن قطعها في بضعة أيام إذا كانت الرياح مساعدة .كما كان يعتقد أن المسافة الفاصلة بين جزر الكناري والصين ال تتجاوز 5000ميل بحري ،والواقع أنها تبلغ 11766ميل بحري. ومما ال شك فيه أن كريستوف كولومبوس يمثل نموذجا صارخا لتلك العقليات التي ظلت تنخرها تمثالت وتهيؤات العصر الوسيط ؛ وهاته األخيرة هي التي وجهت إلى حد بعيد حركة الكشوفات. وبناء عليه ،فإن أوربا التي غامرت في مياه المحيط األطلسي ،هي أوربا قروسطوية بكل تأكيد.
207
خاتمة
تبدو أوربا نهاية القرن الخامس عشر ،إذا نظرنا إليها من "شرفة" مطلع القرن الواحد والعشرين ،وكأنها مفصولة بصراع جديد يتموضع بين التمزقات الداخلية التي كانت القارة تستعد لها (الحروب االيطالية ،حرب الفالحين في ألمانيا ،وإصالحات كل من مارتن لوثر وجون كالڤن) من جهة وسراب اآلفاق البعيدة التي كانت تفتح إمكانات واعدة في كل من إفريقيا ،والمحيط الهندي والعالم الجديد من جهة أخرى .فهل كانت تلك اللحظة تتضمن بعض المستجدات ،وبعض مظاهر القطيعة ،التي تسمح بالحديث المشروع عن انتقال من حقبة تاريخية طويلة مرت بها اإلنسانية في أوربا إلى حقبة أخرى تفيد بأن العصر الوسيط قد انتهى؟ يمكن اعتبار القرن الخامس عشر ،من وجهة نظر تاريخية ،بمثابة منطلق فعلي لحقبة تاريخية أخرى طويلة تسمى عادة "بالعصور الحديثة" .ولكن يجب التساؤل قبل إنهاء التفكير حول السؤال العريض الذي يمثل عنوان هذا الكتاب هل يتعلق األمر حقا بنهاية العصر الوسيط ؟ وهل يمكن تقييم العالقات بين هذا العصر ومسألة تكوين أوربا؟ جوابا على هذا السؤال ،أذكر بأنه سبق لي أن اقترحت بأن مسألة "عصر وسيط طويل األمد" هي األقرب إلى الحقيقة التاريخية .ولمزيد من التوضيح ،ال بأس من االضافة بأنه "من المؤكد ،حسب وجهة المؤرخ البولندي ويتولد كوال ( Witold ،80)Kulaأن كل حقبة تاريخية تتضمن بعض خاصيات الالتزامن ،أو التطور وفق - 80مؤرخ بولندي ولد سنة 1916وتوفي سنة .1988اختص بالبحث في تاريخ بولندا االقتصادي ،وفي مناهج البحث في التاريخ االقتصادي. أنجز عدة مؤلفات ،أشهرها ذلك الذي حاول فيه شرح ميكانيزمات النظام الفيودالي في بولندا من خالل البحث في أوضاعها االقتصادية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر .وصدرت نسخة فرنسية من الكتاب بتصدير فرنان بروديل تحت عنوان : Théorie économique du système féodal. Pour un modèle de l’économie polonaise (XVIeXVIIIe siècles), Paris Mouton, 1970.
208
إيقاعات مختلفة .ولهذا السبب فإنني ال أستعمل كثيرا عبارة األزمة التي تخفي غياب مجهود في تحليل التغيرات التي تحدث في مجتمع ما .وأعتقد بالمقابل بوجود تحوالت ( )des mutationsومنعطفات" .فهل حدث تحول أو منعطف عند نهاية القرن الخامس عشر؟ وفي سياق هذا السؤال بالذات يفرض مفهوم "النهضة" (االنبعاث) وجوده .وهو مفهوم اقترحه ،كما نعلم ،المؤرخ السويسري بوركهارد ) )Burckhardtفي نهاية القرن التاسع عشر .ويجب التذكير في هذا المقام بإمكانية تطبيق هذا المفهوم على فترات أخرى من العصر الوسيط .وقد طبقه فعال عدد من المؤرخين على الفترة الكارولنجية وعلى القرن الثاني عشركذلك. فلنر جميعا ما الذي يميز نهضة ما بعد نهاية القرن الخامس عشر .لقد قام عدد من المؤرخين باستعراض مظاهر هذه النهضة ،وإن ركزوا بشكل خاص على جانبيها الفني والفكري .مما يستدعي طرح السؤال التالي :هل لم يكن الفن "ناهضا" في ايطاليا منذ القرن الثالث عشر؟ وهل لم تكن الحركة اإلنسية ،بوصفها إحدى خاصيات النهضة ،قد ابتدأت في البزوغ منذ القرن الرابع عشر؟ وأكثر من ذلك ،يمكن التساؤل هل لم تكن الظواهر الكبرى ذات الصلة بمجتمع وحضارة أوربا "تمسك بفخذ" العقود األخيرة من القرن الخامس عشر؟ وعلى سبيل المثال ،فقد ظهر الطاعون األسود في أوربا بين سنتي 1347و 1348واستمر في تخريب مجتمعها حتى حدود سنة .1720 وفي نفس السياق ،ال بأس من التذكير بأن المؤرخ مارك بلوك تناول بالبحث واحدا من الطقوس ( )un riteذي صلة بالسلطة الملكية في العصر الوسيط ،وهو قيام بعض الملوك ،الموسومين بالملوك المتوفرين على كرامة المداواة ( les rois ،)thaumaturgesبمالمسة المرضى وإشفائهم .وقد ظهر هذا الطقس منذ القرن الحادي عشر .واستمر في أنجلترا بعد القرن الثالث عشر حتى مطلع القرن الثامن عشر .في حين استمر في فرنسا حتى حوالي سنة 1825رغم أنه كان يختفي من حين آلخر ليعاود الظهور. وبغض النظر عن هذا المثال ،يمكن االستشهاد بأمثلة أخرى أكثر أهمية هذه المرة من بينها ازدهار حركة التمدين التي سبق التوقف عند مظاهرها وعند دالالتها األوربية .فقد تناول الظاهرة بإسهاب الباحث برنار شوڤاليي (Bernard )Chevalierواستعرض الئحة المدن الفرنسية التي ظلت تدين بالوالء للملوك .وبين بأنها شكلت شبكة حضرية خالل القرن الثالث عشر .ولم تعد لها أية داللة ابتداء من مطلع القرن السابع عشر. ويبدو أن أهم عملية تحقيب للتاريخ األوربي هي تلك التي اقترحها كارل ماركس .وفيها جعل تطابقا بين العصر الوسيط والنظام الفيودالي .فجعل فترة سيادته
209
تمتد من نهاية العصر القديم ،الذي ساد فيه النظام العبودي ،حتى بداية الثورة الصناعية. وبالمثل يمثل هذا العصر الوسيط الحقبة التاريخية التي ظهر فيها مخطط التراتبات الثالث ذي األصول الهندو-أوربية كما حدد معالمه جورج دوميزيل ( .)Georges Dumézilفقد ظهرت بوادره بأنجلترا في القرن التاسع ،ثم أصبح المجتمع منظما وفق أسسه خالل القرن الحادي عشر فيما يعرف بالتراتبات الثالث الشهيرة :رجال الدين ،المحاربون والفالحون .وظل ساري المفعول في فرنسا إلى ما بعد الثورة .وبموازاته ظهر عقب الثورة الصناعية مخطط الوظائف الثالث المختلف تماما ،والذي ينص على تقسيم األنشطة االقتصادية إلى ثالثة قطاعات :قطاع أول، وقطاع ثان ،وقطاع ثالث. وفي مجال التعليم ،ال بأس من التذكير بظهور الجامعات منذ القرن الثاني عشر. وقد ظلت هذه المؤسسات على حالها في فرنسا منذ هذا التاريخ حتى الثورة .أما على المستويين االبتدائي واالعدادي ،فقد سمحت المؤسسات التربوية بظهور حركة تعليمية بطيئة االيقاع استمرت على نفس المنوال حتى بداية تعميم التمدرس في القرن التاسع عشر. هذا العصر الوسيط الطويل هو أيضا العصر الذي ظهرت فيه الثقافة الشعبية والفلكلور في سياق أوربي .واستمرا حتى بداية هبوب رياح التجديد على الفلكلور في القرن التاسع عشر .فال غرابة إذا رأينا بعض الحكايات ،من قبيل تلك التي تهم موضوع المالك والناسك ،تنتقل من خرافة تعود للقرن الثاني عشر إلى رواية (زاديﯕ) " 81"Zadigالتي وضعها ڤولتير ،وتنتقل الى حكاة بروتانيا القرن التاسع عشر .وكان العصر الوسيط أيضا عصر هيمنة المسيحية والكنيسة ،كما رأينا .وحدث منعطف أول خالل القرن السادس عشر تمثل في انقسام المسيحية بين كاثوليكية وبروتستانتية .ولم تعد للديانة ،منذ ذلك الوقت ،والى يومنا هذا ،نفس المكانة ونفس الدور في سائر دول أوربا .ويمكن القول عموما ،بأن هذه المواقف من الدين في سائر أنحاء أوربا تمثل تطورا له جذور في العصر الوسيط .وفي ذات السياق حدت انفصال بين الكنيسة والدولة .فرد المسيحي لقيصر ما له الحق في امتالكه .وعلى خالف الوضع في بالد اإلسالم أو في بيزنطة ،تم التخلي في أوربا عن الثيوقراطية ،كما تمت ترقية األطفال والمرأة واألفراد الالئكيين .وحدث نوع من التوازن بين العقيدة والعقل .ولكن جميع
" - 81زاديﯕ أو المصير"،عنوان رواية ذات طابع فلسفي ألفها األديب الفرنسي فولتير سنة .1747 تدور أحداث هذه الرواية في المشرق (في بالد بابل بالتحديد) .وبطلها رجل شاب يدعى زاديﯕ.
210
هذه الخاصيات ظلت محتجبة نوعا ما تحت تأثير السلطات الحاكمة والكنيسة حتى قيام الثورة الفرنسية. وانطالقا مما تقدم يمكن القول بأن أهم ما يجب استخالصه هو أن قطيعة ما يسمى بالنهضة ال وجود لها .وأدعو قراء هذا الكتاب إلى اعتبار نهاية القرن الخامس عشر مجرد عملية توقف ( )une halteمهمة في مسيرة تاريخ أوربا العصر الوسيط. ومثل هذا االعتبار ال يسلب عنوان الكتاب أية مشروعية في نظري. إن المعطيات التي تم تناولها في الفصول السابقة تتعلق بمسألتي بناء وانفتاح عصر وسيط أوربي .ومن ثم ،كان من المشروع التوقف عند نهاية القرن الخامس عشر للقيام بعملية تقييم وللتساؤل عما إذا كان من الممكن تقديم جواب عن السؤال الذي يمثل عنوان هذا الكتاب. ويستدعي الحديث عن مظاهر العالقة بين أوربا والتاريخ التوقف عند مظهر أساسي هو المجال ،بالنظر إلى كون مجريات أحداث التاريخ تتم دائما في مجال معين. كما أن الحضارة ،بدورها ،تتبلور في حدود رقعة ترابية معينة ثم تنتشر بعد ذلك. وتأسيسا على ذلك ،فإن القرن الخامس عشر يمثل في حقيقة األمر منتهى النشأة القروسطوية لمجال أوربي كان قد بدأ في التكون منذ الغزوات الكبرى التي شهدها العصر الوسيط األعلى .ففي القرن الخامس عشر لم يكن هناك وجود لوثنيين ،كما كان من الممكن أال يكون هناك وجود لمسلمين لو لم تنطلق الحمالت التركية العثمانية .لقد أفضت تلك الحمالت إلى نتيجتين متناقضتين .فقد شكلت تهديدا ألوربا من جهة، وأدت ،من جهة أخرى ،إلى نشأة هوية جماعية على حساب التناقضات الداخلية رغم أن مقاومة األوربيين لألتراك لم تكن بالشراسة التي كان يتمناها البابا بيوس الثاني. وبذلك ساهمت تلك الحمالت في رأب الصدع وتالحم األوربيين. بجدر الذكر أيضا بأن الجامعات كانت تقوم بنشر معرفة موحدة على طول المجال الممتد من البحر المتوسط حتى بحر البلطيق .كما أن الحركة اإلنسية اخترقت بدورها الثقافة األوربية من السويد حتى جزيرة صقلية رغم التخلي عن الالتينية وتبني اللغات المحلية .أما على صعيد الحياة االقتصادية فقد غدت مدينة أنڤير ()Anvers مركز اقتصاد -عالم ظل لفترة طويلة اقتصادا أوربيا قبل أن يمسي اقتصادا عالميا وقعت في شركه جميع القوى العالمية كما أوضح ذلك فرنان بروديل. تبقت مسألة واحدة اكتنفها نوع من الغموض ،رغم أن التساؤل حولها عند نهاية القرن الخامس عشر كان واضحا .تتعلق هذه المسألة بحدود أوربا القارية في الجهة الشرقية خالل تلك الفترة التاريخية .ويجب التنبيه في هذا المقام أن حدث سقوط القسطنطينية في حوزة األتراك العثمانيين سنة 1453كان له صدى قوي في أوساط األوربيين عامة وفي أوساط النخبة المثقفة بشكل خاص .لم يكن ذلك الحدث يعني فقط
211
سقوط اإلمبراطورية البيزنطية بصورة كارثية كما تؤكد على ذلك اإلسطريوغرافيا التقليدية ،وإنما كان ،على المدى البعيد ،يعني ارتفاع حاجز أمام وحدة أوربا ،ألن الديانة األرثوذكسية التي استمرت حتى اليوم في شرق أوربا ،لم تعد مرتبطة بذلك المركز السياسي والديني الذي كانت تمثله اإلمبراطورية البيزنطية .ومعنى ذلك ،مرة أخرى ،أن حاجزا ارتفع منذ سنة 1453أمام وحدة أوربا المستقبلية. وقد قامت الدول السالڤية بتحديد سياساتها في مجال اإلدارة الترابية بشكل غير طبيعة مشاكل حدود أوربا في جهة الشرق .فبولندا ،الدولة األوربية بامتياز ،والتي غدت موحدة في نهاية القرن الرابع عشر مع ليتوانيا بواسطة أسرة "الججوليين" ( les )Jagellonsالبولونية الليتوانية ،نهجت سياسة توسعية في الشمال على حساب بروسيا ،وكذلك في الشرق وفي الجنوب الشرقي .فغدت حدودها تمتد في نهاية القرن الخامس عشر من بحر البلطيق حتى البحر األسود .أما روسيا ،التي تحررت من قبضة المغول ،فقد تطورت في اتجاه أن تصبح دولة مركزية .وقام ايڤان الثالث ( )Ivan IIIالذي حكمها بين سنتي 1462و 1505بخوض سلسلة حروب مكنته من ضم مزيد من األراضي لحوزة الدولة من قبيل أراضي نوڤﯕرود ()Novgorod وتڤير ( .)Tverفوطد دعائمها وأصبح يحكم دولة مركزية متماسكة تتوفر على جهاز إداري قوي ومؤسسات قضائية أمدتها مدونة 1497بنفس جديد. وفي ضوء ما تقدم ،يمكن التساؤل :هل يحق للمؤرخ أن يعتقد بأن كفة التهديدات كان بإمكانها أن تميل ،عند نهاية القرن الخامس عشر ،على حساب كفة المكتسبات التي تحققت خالل العصر الوسيط ؟ أو على حساب وعود "العصر الوسيط الطويل األمد" ألوربا؟ رغم بعض المتغيرات التاريخية ،ورغم أهمية الصدفة ،فإنه باإلمكان استعراض حظوظ أوربا عند نهاية القرن الخامس عشر ،ألنه لم يكن باديا بأن التهديدات ستأتي من جانب األمم الناشئة ،وال من جانب الخالفات الدينية التي كان من الممكن أن تتحول إلى شقاق ال رجعة فيه. تكون أوربا قد بدأت تتبلور آمل أن يكون هذا الكتاب قد وضح للقارئ بأن عملية ّ في العصر الوسيط انطالقا من مصطلحات وحقائق الوحدة و"األمة" ،رغم أن تطور مفهوم السيادة وتبلور تطبيقاته ابتداء من القرن الثالث عشر أفرزا مشكال بالنسبة لمستقبل هذا المفهوم. والجدير بالذكر ،أن نهاية دور االحتكار الذي كانت تقوم به الكنيسة الكاثوليكية ال يعني نهاية الثقافة المسيحية المشتركة .كما ال يعني نهاية حضارة وقيم كانت تتضمن جانبا من الالئكية سيغدو هو الوريث والمتمم للقيم المسيحية وليس خصما كما تجلى ذلك في الصراعات التي احتدمت في نهاية القرن الخامس عشر .يبدو أن التهديد كان يأتي من الصراعات المسلحة بين األمم ومن الخصال الحربية التي تميز
212
األوربيين ،والتي تحدث عنها أبقراط منذ العصر القديم .وال شك أن التهديد كان مرتبطا أيضا باالتجاه الذي كانت ستأخذه حركة التوسع واالستعمار التي انطلقت منذ القرن الخامس عشر .كما كان مرتبطا بالعالقة التي أضحت قائمة بين أوربا ومستعمراتها في مختلف أنحاء العالم. أعتقد أنه من المفيد التذكير بأن عالقة العصر الوسيط بالتقدم طبعها التشنج، حتى أن الصورة التي يمكن رسمها في هذا المجال ،تبدو متناقضة المعالم. فا إليديولوجية المهيمنة ،والمواقف الذهنية السائدة ،كانت تدين كل جديد وتنعته بالخطيئة .ورغم ذلك ،كان العصر الوسيط عصر الخلق واإلبداع واالختراع في الميدان المادي وفي الميدانين الفكري والروحي .وباختصار ،كان عصر تقدم هائل نحو األمام .ومن ثم ،فإن ما يجب التأكيد عليه واعتباره مكسبا لمجموع أوربا في اتجاهها نحو الوحدة ،هو أن القدرات على التقدم تأكدت خالل العصر الوسيط ،وتقوت أكثر خالل القرن الخامس عشر. ومما ال شك فيه ،أن استعمال مفهوم التقدم بالنسبة لهذه الحقبة التاريخية قد يثير حفيظة البعض بالنظر إلى كون مسألة الوعي بالتقدم ،والى كون مسألة السمو بالتقدم كمثل ( ) un idéalقضيتين حديثتي العهد .إذ يعود تاريخهما إلى نهاية القرن السابع عشر ،أو باألحرى إلى القرن الموالي .هما من زهرات عصر األنوار .ورغم ذلك، تحقق التقدم في العصر الوسيط .ومن هذه الزاوية ،فإن ما حققته أوربا خالل هذه الحقبة التاريخية ،وشرعت في إظهاره للعالم يتناقض كثيرا مع ما سيحدث في العالم اإلسالمي عموما ،وفي الصين بوجه خاص. ومن غريب الصدف أن الصين كانت خالل القرن الخامس عشر من أقوى الدول وأغناها وأكثرها تقدما في مختلف الميادين ،ولكن ساستها ارتأوا جعلها منغلقة على نفسها .وتركوا لألوربيين مسألة السيطرة على العالم ،بما في ذلك بعض المناطق الواقعة في الشرق .أما المسلمون ،فقد فقدوا الدينامية التي كانت تميزهم في العصر الوسيط رغم نجاح األتراك العثمانيين في تكوين إمبراطورية ،ورغم دخول اإلسالم إلى بعض مناطق إفريقيا وآسيا .يبدو اذن ،أنه مقابل إخفاقات الصينيين والمسلمين، امتلكت أوربا المسيحية األفكار والممارسات التي ستضمن لها توسعا ال نظير له ابتداء من القرن الخامس عشر .وقد جعل األوربيون من هذا التوسع أهم أداة في تحقيق الوعي وتأكيد االتجاه نحو الوحدة .وقد أوضح الباحث بيتر بيلر ()Peter Biller مؤخرا في أحد أبحاثه كيف أن ساسة أوربا القرن الرابع عشر أدرجوا في الحسبان العنصر البشري ،وأدركوا أهمية دور السكان لقيادة قضايا العالم ،بالرغم من كون هذا الحيز الزمني شهد أزمة زراعية وتفشي األوبئة التي أدت إلى تراجع ديموغرافي مهول.
213
وبناء عليه ،فإن أوربا نهاية العصر الوسيط أصبحت تعير االهتمام لعدد السكان ،وتهتم بطرق عيشهم ،وبطرق توالدهم ،ألن هذه العناصر تمثل عوامل قوة. وفي السياق ذاته ،انكب مجموعة من الباحثين على دراسة دالالت ومظاهر "التقدم ورد الفعل والتراجع" في أوربا العصر الوسيط رغم كونه عصرا لم تكن فيه الذهنيات السائدة تستوعب "فكرة التقدم" .وقد خلص هؤالء الباحثون إلى كون المسيحية كانت تعطي معنى للتاريخ .وقد سبق أن أوضح األب شوني في هذا السياق بالذات كيف أن فكر العصر الوسيط أعاد إقالع التاريخ في القرن الثاني عشر .فالبحث عن الخالص، على سبيل المثال ،أصبح ينظر إليه كتقدم أخالقي طبعا ،ولكنه تقدم مفيد على كل حال. ووجد خالل العصر الوسيط أيضا أناس روجوا "لفكرة كراهية العالم الدنيوي" وانتصروا لها وكتبوا عنها ،ورغم ذلك لم يفض ما قاموا به إلى التخلي عن التقدم المادي. وخالصة األمر ،هي أن دينامية العصر الوسط تأتت من تفاعل المتناقضات والتشنجات التي أسفرت عن تقدم على عدة مستويات دون أن تسمي ما حدث تقدما. وقد نجح الباحثون ،المشار إليهم ،في تسليط الضوء على المصطلحات والمفاهيم الثنائية التي كانت وراء دينامية العصر الوسيط من قبيل التقدم -رد الفعل ،التقدم- التراجع ،الماضي -الحاضر ،القديم -الحديث .وقد سبق لي أن أوضحت كيف أن طوائف الفقراء أكدت وجودها بطريقة مستفزة كتنظيمات جديدة .يعني كتنظيمات أحسن .فرأى المعارضون في هذه التنظيمات "بدعة" وخطيئة. وعموما ،فإن حضارة العصر الوسيط ،وكذلك الذهنيات التي سادت خالل هذا العصر ،لم تناوئ التقنيات المستحدثة التي أفضت إلى النمو في المجال االقتصادي. وما يؤكد ذلك هو أن مالكي الدومينات الكبرى ،في بداية العصر الوسيط األعلى ،كانوا يوقعون عقودا مع عدد من الفالحين األحرار الستثمار استغالليات يعهدون بها إليهم. وكان المستفيدون من تلك االستغالليات ملزمين بمقتضى تلك العقود بتحسين مردودها. ويمكن تذكير القارئ ،في ذات السياق ،بما قيل عن كتب الفالحة التي عادت للظهور مجددا في القرن الرابع عشر كدليل على تزايد االهتمام بمسألة التقدم في المجال الزراعي .ونفس االهتمام يحيل عليه انتشار استعمال الطاحونة ،وتنوع تطبيقاتها ،باإلضافة إلى ظهور نظام عمود الكامات ،وتحسن طرائق النسج ،وغير ذلك من التطبيقات ومن االختراعات التي خصها مارك بلوك ببحث مستفيض وال مجال لالنكار بأن العصر الوسيط كان عصر سيادة الفكر الديني ،كما سبق القول ،إلى درجة أن كل شيء كان يبدو سابحا في الدين ،بما في ذلك مظاهر الحضارة المادية .غير أن هيمنة الدين أخذت في التراجع شيئا فشيئا .كما كانت العوائق الفكرية المنتصبة أمام التقدم تنزاح هي األخرى شيئا فشيئا بموازاة عملية نزول القيم من
214
السماء على األرض .كما أن العالقة بين العناية اإللهية والثروة أضحى فيها دور للفرد وللجماعة ،بعد أن كان هذا الدور منتفيا إلى حد بعيد .وتتضح أهمية هذا الدور بشكل خاص في مسألة الزمن التي تجلى فيها إبداع األوربيين كما تجلى فيها التقدم. ورغم أن الماضي لم يحظ بنظرة عقالنية ،ولم يشكل موضوع علم تاريخ قائم بذاته إال في القرن الثامن عشر ،فقد كان يستعمل في إطار ذاكرة أخذت أبعاد الثقافة السائدة .ومعنى ذلك أن أوربيي العصر الوسيط استندوا على التاريخ ليتجهوا نحو األمام بشكل أفضل .كما أن تحكمهم في قياس الزمن مكنهم من أدوات التقدم .ورغم أن التقويم اليولياني (تقويم يوليوس قيصر) ظل هو التقويم المعمول به ،فقد استحدثوا تقويما آخر مستمدا من العهد القديم ،ومن الديانة اليهودية ،وال زال معموال به إلى اليوم ،وهو ما يعرف باألسبوع الذي أرسى العمل به عالقة جديدة بين وقت العمل ووقت الراحة .وكان من تبعات ذلك أن حدث تغير في الزمن الديني بحدوث تغير في برنامج يوم األحد .كما حدث تغير نحو األفضل فيما يتعلق باستغالل قوة اإلنسان وقدراته .وباإلضافة إلى ذلك أدى تبني هذا التقويم إلى ظهور مناسبتين عظيمتين يحتفل بهما األوربيون ،هما عيد بداية رأس السنة (الذي يخلد الميالد .وقد حل محل عيد الهلوين الوثني الذي يرمز للموت) ،وعيد الفصح (الذي يرمز لالنبعاث)، باإلضافة إلى أعياد أخرى ذات صبغة فيودالية. ومما ال شك فيه أن انتقال اإلنسان من القدرة على التحكم في حواسه ،وفي جسده وفي ثروته ،إلى القدرة على التحكم في الوقت أمر عظيم .وهذا ما نجد تعبيرا عنه في حوار بين شخصين يتضمنه نص كوميدي وضعه المهندس والفيلسوف واألديب "اإلنسي" االيطالي الشهير ليون باتستا ألبيرتي ()Leon Battista Alberti (المتوفى سنة )1472جاء فيه : جيانوزو :هناك ثالثة أشياء يستطيع اإلنسان أن يقول بأنه يملكها لنفسه :الثروة والجسد و... ليوناردو :وما سيكون الشيء الثالث ؟ جيانوزو :آه ،إنه شيء ثمين جدا .هاتان اليدان وهاتان العينان ليستا لي تماما. ليوناردو :عجيب ! ما هو ؟ جيانوزو :الوقت يا عزيزي ليوناردو ،الوقت يا أبنائي.يبدو أن قيمة الوقت التي يمجدها الحوار هي قيمة اقتصادية ،ألن الوقت هو النقود .ولكنها أيضا قيمة ثقافية ووجودية .ألن أوربا نهاية القرن الخامس عشر كانت أوربا الوقت الثمين ،أي الوقت الذي امتلكه األفراد وامتلكته الجماعات المنشأة ألوربا اآلتية.
215
خرائط خريطة رقم 1 مراحل تكون االتحاد األوربي
مصدر الخريطة :رشيد احمايمي موقع الخيمة ""www.khayma.com
216
خريطة رقم 2
االتحاد األوربي سنة 2007
مصدر الخريطة :موقع األستاذ حمادي ""www.imadhg.com
217
كرونولوجيا أبرز األحداث
أوال :أبرز األحداث في أوربا بداية الموجة األولى من غزوات القبائل الجرمانية 276 الرومانية. لإلمبراطورية صدور مرسوم ميالن الذي أتاح للمسيحيين حرية التعبد. 313 انعقاد مجمع نيقية الذي خرج فيه اإلمبراطور قسطنطين منتصرا 325 ضد اآلريوسية. اإلمبراطور قسطنطين يتخذ من القسطنطينية عاصمة 330 لالمبراطورية. اإلمبراطور ثيودوز األول يعترف بالمسيحية كديانة 379-395 ويقسم اإلمبراطورية قبيل وفاته إلى لإلمبراطورية، إمبراطوريتين غربية وشرقية. انطالق موجة أخرى من غزوات القبائل الجرمانية. 407-429 القوط الغربيون بزعامة ألريك يسيطرون على روما ويخربونها. 410 القوط الغربيون يستقرون باسبانيا. 415 القديس باتريك ينشر المسيحية بايرلندا. 432-461 استقرار األنجلز والجوت والسكسون ببريطانيا العظمى ،وانطالق حوالي 440 حملة البروطانيين في اتجاه القارة. نجاح القائد الروماني أكتيوس في وقف تقدم الهون بزعامة أتيال في ميادين كتالونيك. أدواكرالجرماني يطيح باإلمبراطوررومولوس أغوستول 476 ويبعث بشارات اإلمبراطورية الغربية إلى القسطنطينية.
218
فترة حكم ثيودوريك زعيم القوط الشرقيين براڤين. 488-526 بين 496و 511تعميد كلوڤيس زعيم الفرنجة. اإلمبراطور البيزنطي جستنيان يقوم بحملة محدودة ومؤقتة في 525-565 مناطق الغرب (ايطاليا الجنوبية وإقليم األندلس) .اجتياح الطاعون،المعروف بطاعون جستنيان ،للمناطق الواقعة جبال األلب ونهر اللوار. جنوبي األسقف بينوا يشيد ديرا بجبل كاسان ،ويقترح على الرهبان حوالي 529 التابعين له طريقة أصبحوا بموجبها يشكلون طائفة البندكتيين. القوط الغربيون يتخذون من طليطلة عاصمة لهم بعد استعادتهم حوالي 555 إلقليم األندلس. حوالي 636-570فترة حياة ايزيدوراالشبيلي (الذي يحتمل أن يكون قد ولد بين ( 560و.)570 فترة اعتالء ﯕريﯕوار األكبرعرش البابوية. 590-604 حوالي 615-590الراهب االيرلندي سان كلومبان يؤسس مجموعة موناسترات بغاليا ،وبجنوب جرمانيا ،وبشمال ايطاليا. اللومبارديون يغزون شمال ايطاليا ،وأجزاء من وسطها، ويؤسسون بها مملكةعاصمتها باڤيا. البربر المسلمون يقومون بغزو اسبانيا من الجنوب حتى مناطق 711-719 نهر ايبرو. شارل مارتل محافظ قصر أوسترازيا ينجح في وقف المد 732 اإلسالمي قرب بواتيي. بيبن القصير محافظ قصر أوسترازيا يتوج ملكا على الفرنجة 757 قبل البابا إتيان الثاني بعد أن دعمه في ايطاليا ،وسانده في من كيان بابوي. إنشاء المسلمون يفقدون مدينة أربونة ،آخر معاقلهم بغالة. 759 شارلمان الملك الوحيد على رأس فرنجة غاليا. 771 شارلمان ينادى به ملكا على اللومبارديين. 774 الباسكيون يباغتون بممر الروسنسفال مؤخرة جيش الفرنجة التي 778 كان على رأسها روالن صهر شارلمان. انعقاد المجمع الثاني بمدينة نيقية ،وخالله أباح شارلمان التعاطي 787 للصور في الفن المسيحي. شارلمان ينجح في ضم بڤاريا لحضيرة مملكته. 788
219
793-810 796 796-803 800 827 حوالي 830 842 843 النصف الثاني من القرن التاسع 881 885-886 895 910 929 948 حوالي 950 955 960 962 967 972 985 987 989 1000 يسيطران الكنائس" كمركز
انطالق أولى الغارات النورمانية على بريطانيا العظمى وغالة. شارلمان ينتصر على المحاربين اآلڤار. شارلمان يشيد قصرا وكنيسة الشابيل بمدينة ايكس-الشابيل. شارلمان يتوج إمبراطورا في روما. بداية غزو المسلمين لجزيرة صقلية. "استحداث" جثمان القديس يقوب ،واتخاذ ضريحه مزارا. تحرير يمين ستراسبورغ باللهجتين الفرنسية والجرمانية. معاهدة ڤردان وميالد ألمانيا وفرنسا. كلمة "مليش" (( )milesجندي وفارس) بدأت تعني الفصل. ظهور كلمة فيف "فيودوم" (.)feodum محاصرة النورمانديين لمدينة باريس. استقرار الهنغاريين بسهل الدانوب. تأسيس دير كلوني. قيام دولة الخالفة بقرطبة. تأسيس "أرشفكية" هامبورغ ،واتخاذها مركزا دينيا لتنصير سكان العالم اإلسكندنافي. بداية عمليات االستصالح الكبرى .وبداية استعمال المحراث بمناطق شمال نهراللوار. انتصار أتون األول على الهنغاريين في وقعة ليشفيلد. تشييد مسجد قرطبة. تتويج أتون األكبر إمبراطورا ،وتأسيس اإلمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة. تعميد ميزكو دوق بولندا. تأسيس "ايفيكية" براغ. تعميد الزعيم الهنغاري ڤايك. صعود األسرة الكابيتية إلى الحكم في غاليا. تعميد فالديمير أمير كييف من قبل أرثوذوكسيين بيزنطيين. الثنائي سيلفستر الثاني (جيربير اآلورياكي) وأتون الثالث على المسيحية الالتينية .وبداية تشييد "معطف أبيض من حسب تعبير راوول كالبير.تأسيس "أرشفيكية" كنيزنو ديني باليابان.
220
1001 1005-1006 1015-1028 1019-1035 1023 1028 1029 حوالي 1030 1031 1032-1033 حوالي 1035 1037 1054 1060-1091 1066 1071 1073-1085 1085 الحادي عشر 1095 1098 1099 حوالي 1100 1108 1112
تتويج سان ايتيان ملكا على هنغاريا. حدوث مجاعة كبرى بأوربا الغربية. القديس أوالڤ الثاني يحاول فرض المسيحية بقوة في النرويج. كنوت األكبر يصبح ملكا على الدانمارك وأنجلترا. روبير التقي يقوم بطلب من الكنيسة بإحراق نفر من الهراطقة بأورليان. كنوت ملك الدانمارك يغزو النرويج وينتهي من غزو أنجلترا. تأسيس أول مملكة نورماندية بايطاليا الجنوبية. بداية حركة الكمونات في ايطاليا. نهاية عصر الخالفة في قرطبة. حدوث مجاعة بالغرب. تشييد قنطرة من الحجر ببلدة ألبي. اإلمبراطور كونراد يقر مبدأ وراثة األفياف في ايطاليا الشمالية. حدوث االنشقاق النهائي بين الكنيسة الرومانية الالتينية والكنيسة اإلغريقية األرثوذكسية. النورمانيون يقومون بغزو صقلية. غزو أنجلترا من قبل النورمان بزعامة غليوم الفاتح. نقل رفات القديس نيكوال من المشرق إلى مدينة باري. اعتالء غريغوري السابع كرسي البابوية ،وبداية اإلصالح الغريغوري. استيالء ألفونسو السابع ملك قشتالة على طليطلة. نهاية القرن بداية استعمال الخيول في جر المحراث بدل الثيران في مناطق شمال غالية. البابا أوربان الثاني يحث المسيحيين في بلدة كليرمون على القيام بحرب صليبية. إنشاء طائفة السيرستيين من قبل روبير دي موليسم. تجار جنوة ينشؤون ما يشبه الشركة التجارية. بداية تجفيف مستنقعات منطقة الفالندر. تشييد دير سان فيكتور ،أول مركز للفكر المدرسي بباريس. اندالع الثورة "الكمونية" بمدينة الوون .مقتل القمط-األسقف.
221
1120-1150 1126-1198 ويتوفى 1127 1132-1144 1135-1204 1140 1141 1143 1154 1154-1224 1176 1180 1183 1204 .)1260 1207 إطار 1209 1209-1229 1212 1214 1215 الرابع
ظهور أول مجموعة من القوانين المنظمة للحرف في الغرب. ابن رشد الفيلسوف العربي يناقش آراء أرسطو بقرطبة، بمراكش. مدن منطقة الفالندر تحصل على مواثيق التحرر. رجل الدين سوجر يعيد بناء سان دوني .بداية عصر الفن القوطي. رجل الدين والفيلسوف ابن ميمون ينشر مؤلفاته باللغة العربية بقرطبة ،ويتوفى بالقاهرة. نشأة مملكة البرتغال. بطرس المحترم يقوم بترجمة القرآن إلى اللغة الالتينية. تشييد مدينة لوبيك. فردريك بربروسا يمنح امتيازات ألساتذة وطلبة جامعة بلوني. فترة سيادة اإلمبراطورية األنجليزية -الفرنسية التي شيدتها أسرة البالنطجونيين. تشييد منارة الخيرالدا بمدينة إشبيلية. وفاة األسقف خوانيس سرانسبيري سيد مدرسة المواثيق ( les .)chartes هدنة كوستانس .فردريك بربروسا يقر حرية المدن اللومباردية. المشاركون في الحملة الصليبية الرابعة يستولون على مدينة القسطنطينية ويقومون بنهبها .تأسيس اإلمبراطورية الالتينية بالقسطنطينية (-1204 سان دومينيك يتصل بمتزعمي حركة الهرطقة ببلدة ألبي في مهمة كلف بها. ظهور أول طائفة فرانسيسكانية. فصول الحرب الصليبية األلبيجية. انتصار مسيحيي شبه جزيرة أيبيريا على المسلمين في وقعة العقاب (الس نفاس دي طلوسا). منح المجموعة األولى من االمتيازات لجامعة أكسفورد. إقرار النظام األساسي لجامعة باريس .انعقاد المجمع الديني بمدينة التران:
222
1216 1229-1231 1231 بعد 1232 1238 1241 1248 1258 1252-1259 1253 1261 1270 1276 1280 1283 1284 1290 1298 مطلع القرن الرابع عشر 1306 1309 1315-1317 1321
تسوية مسألة الزواج ومسألة االعتراف ،واتخاذ جملة إجراءات ضد العنصرية والهرطقة. تأسيس طائفة اإلخوان الدومينيكان. إعالن اإلضراب قي جامعة باريس. غريغوري التاسع ينظم حملة التفتيش. مسلمو األندلس يشيدون قصر الحمراء. مسيحيو أرغونة يستولون على مدينة بلنسية. المغول يغيرون على سليزيا وبولندا وهنغاريا. مسيحيو قشتالة يستولون على مدينة اشبيلية. بداية سك عملة ذهبية في جنوة وفلورنسا. توماس األكويني يلقي محاضراته بجامعة باريس. روبير دو سوربون يشيد "كوليجا" لتدريس الالهوت للطلبة الفقراء. سقوط اإلمبراطورية الالتينية بالقسطنطينية. ظهور أول إشارة تتعلق بخريطة بحرية خاصة بالبحر المتوسط. رايموند لول يشيد "كوليجا" لتدريس اللغة العربية ألعضاء البعثات التبشيرية. اندالع موجة إضرابات ،وحركات احتجاج في مدن بروج ودواي وتورناي وروان وأورليان وبيزيي. الفرسان التوتونيون ينتهون من غزو بروسيا. بداية سك الدوقة الذهبية في البندقية. طرد اليهود من أنجلترا. بداية عملية الربط البحري بين جنوة وأنجلترا والفالندر. بداية انتشار سندات التبادل في ايطاليا. طرد اليهود من فرنسا. بداية فترة اتخاذ مدينة أفنيون مقرا للبابوية. حدوث مجاعة كبرى بأوربا وبداية ظهور مؤشرات أزمة القرن الرابع عشر. مقتل مجموعة من المصابين بداء الجذام .مقتل عدد من اليهود المتهمين بتسميم اآلبار.
223
1337 1347-1348 سنة .1720 1348 1353 1358 1378 1381 1382 1389 1397 1414-1418 1439-1443 1450 1453 1458-1464 1458-1471 1469 1475 1476 1492 1494
بداية فصول حرب المائة سنة بين فرنسا وأنجلترا. بداية انتشار وباء الطاعون األسود الذي استمرت تداعياته حتى اندالع حركة "البروغوم" تحت تأثير الطاعون األسود. إقامة أول مركز تركي يغاليبولي االيطالية. انتفاضة سكان باريس ضد ممثل الملك .مقتل اتيان مارسيل. اندالع انتفاضة الفالحين في مناطق شمال شرق غاليا. بداية الشقاق الديني الكبير .اندالع انتفاضة "الشيامبي" في فلورنسا .البابا أوربان السادس يعود إلى روما. انتفاضة وات تايلور وأتباعه بأنجلترا. إدانة جون وايكليف بتهمة الهرطقة. األتراك العثمانيون ينتصرون على الصربيين بكوسوڤو. الممالك اإلسكندناڤية تنجح في إقامة اتحاد الكلمار. انعقاد المجمع الديني بكونستانس .إدانة يوهان هوس بتهمة الهرطقة وصدور حكم اإلعدام في حقه. نجاح المجمعين الدينيين المنعقدين بكل من روما وفلورنسا في وضع حد للشقاق الديني. ﯕوتنبرﯕ ينجح في اختراع الطباعة. استيالء األتراك العثمانيين على القسطنطينية. بيوس الثاني المتحمس "لوحدة" أوربا يعتلي كرسي البابوية. فترة حكم جورج بوديبراد لمملكة بوهيميا ،وإعالنه عن مشروع وحدة أوربا. زواج ملوك اسبانيا الكاثوليك. توقيع معاهدة بكيني ونهاية حرب المائة سنة. زواج مكسمليان ملك النمسا بماري حاكمة بورغونديا. استيالء الملوك الكاثوليك على غرناطة ،ونهابة الوجود اإلسالمي بشبه جزيرة أيبيريا. االسبانيون والبرتغاليون يقتسمون العالم بموجب معاهدة تورديسيالس.
224
1495
شارل الثامن ملك فرنسا يغزو مملكة نابولي ،واندالع الحروب االيطالية.
ثانيا :أبرز األحداث خارج أوربا أ) األحداث في أمريكا 700-800 800-925 1000-1200 1370 القرن الخامس عشر 1492
فترة أوج حضارة المايا في أمريكا الوسطى. انهيار حضارة المايا. فترة أوج ثقافة التولتيك بالمكسيك. األزتيك يشيدون مدينة تيوتيهواكان بالمكسيك. تعاقب الكنفدراليات األزتيكية بالمكسيك. كريستوف كلومبوس يكتشف أمريكا.
ب) األحداث في إفريقيا بين القرنين السادس والثامن
فترة أوج مملكة الزولو في زمبابوي .العرب يقومون بفتح مصر ويشيدون مدينة الفسطاط (القاهرة) التي اتخذها الفاطميون فيما بعد عاصمة لهم. العرب ينتهون من فتح مناطق إفريقيا الشمالية. 709 حوالي سنة 800قيام مملكة كانيم في منطقة بحيرة التشاد. عرب بني هالل يقومون بغزو وتخريب القيروان عاصمة 1057 األغالبة. المرابطون يشيدون مدينة مراكش ويقومون بالجواز نحو 1062 األندلس. السلطان صالح الدين يعيد إقرار المذهب السني بمصر ،ويؤسس 1171 مملكة األيوبيين. مطلع القرن الملك الليبيال حاكم إثيوبيا يضطر تحت ضغط المسلمين إلى نقل الثالث عشر عاصمة مملكته من أكسوم إلى مدينة روحا.
225
1250 القرن الرابع عشر 1312-1337 1415 1418 1477 1488
نجاح المماليك في االنفراد بحكم مصر. قيام مملكة بورنو في المناطق الواقعة غربي بحيرة تشاد. فترة أوج مملكة مالي المسلمة. غزو البرتغاليين لمدينة سبتة. استقرار البرتغاليين بجزر ماديرا. االسبانيون ينجحون في االستيالء على جزر الكناري. برطلومي دياز يكتشف رأس الرجاء الصالح.
ج) األحداث في الشرق األقصى 320-480 581-618
618-907 710 777 794 858 907 بسط 960-1279 1024 1181-1218 1192 1206-1526 1206-1279
فترة سيادة أسرة الﯕوبطا في مناطق شمال الهند. يانغ كين ينجح في تحقيق وحدة الصين ،ويتخذ عاصمة جديدة، ويشرع في مد القنوات وبناء األسوار. فترة حكم أسرة تانك .تقوية اإلدارة المركزية .انتصارات في كوريا .االعتراف باستقالل إقليم التيبت .انتشار الديانة البوذية. مدينة نارا تتخذ عاصمة جديدة في اليابان. اتخاذ البوذية كديانة رسمية في اليابان. مدينة هيان (كيوطو) تتخذ كعاصمة جديدة في اإلمبراطورية اليابانية. بداية هيمنة الفوجيوارا في اليابان. أسرة الكوال تحل محل أسرة البالفا في حكم الهند ،وتنجح في سيطرتها على سيالن وماليزيا. فترة الفوضى في عهد حكم "األسر الخمس" في الصين. سك المجموعة األولى من النقود الورقية في الصين. فترة أوج إمبراطورية الخمير تحت حكم جيافارمان السابع. المسلمون يبسطون سيطرتهم على مناطق شمال الهند. فترة سيادة السلطنات اإلسالمية بدلهي. نشأة إمبراطورية المغول.
226
1245-1254 بعض 1279-1368 1314-1330 1371 1400-1700 1470-1480
سفر أفراد تجار من أسرتي بولو وماركو إلى الصين ،والى مناطق جنوب شرق آسيا. فترة سيادة أسرة إيوان المغولية في الصين .اتخاذ بكين عاصمة منذ سنة .1264 سفر رجل الدين الفرنسسكاني أدوريك إلى بعض مناطق الهند والصين. حكام الصين يصدرون قرارا يمنع الصينيين من السفر خارج الصين. فترة حكم أسرة المينج للصين. فترة تشييد أسوار شاهقة وطويلة في مناطق شمال الصين.
د) األحداث في الشرق األدنى اإلسالمي 622 630 632 634 636-724 638 661 680 762 1055 1071 1099 1148 1187
هجرة الرسول (ص) من مكة إلى المدينة. اإلمبراطور البيزنطي هركليوس ينتصر على الفرس ،ويعيد "الصليب الحقيقي" إلى القدس. وفاة الرسول محمد( .ص). المسلمون يخرجون من الجزيرة العربية في سياق عمليات الفتح. بداية عمليات فتح مناطق شمال إفريقيا. عصر الخالفة األموية. سيطرة المسلمين على القدس. مقتل على بن أبي طالب. مقتل الحسين بن علي في كربالء ،وظهور التشيع. بداية عصر الخالفة العباسية ببغداد. السالجقة األتراك يستولون على بغداد ويعيدون إقرار المذهب السني. انتصار السالجقة األتراك على البيزنطيين في وقعة مالذ كرد. استيالء الصليبيين على القدس. فشل الحملة الصليبية الثانية. انتصار صالح الدين األيوبي على المسيحيين في وقعة حطين واستعادته للقدس.
227
1191 1250-1254 1291 1354-1403
فشل الحملة الصليبية الثالثة ،ونجاح الصليبيين في االستقرار بقبرص لفترة محدودة. فترة إقامة الملك سان لويس باألرض المقدسة .فشل حمالت سان لويس على مصر سنة ،1250وعلى تونس سنة .1270 نجاح الماليك في استعادة عكا آخر معقل مسيحي بفلسطين. السلطان العثماني بايزيد األول يغزو اإلمارات التركية بمنطقة األناضول ويقوم بتوحيدها.
228
ببﻠيوغرافيا موضوعاتية )(منتقاة من قبل مؤلف الكتاب
ورغم طابعها.يتضمن كتاب جاك لو ﯕوف ببليوغرافيا موضوعاتية منتقاة ، ونظرا لطولها. فإنها تتجاوز األلف عنوان و"تحتل" خمسا وأربعين صفحة،االنتقائي تتضمن أهم العناوين التي لها،وجدنا أنفسنا مضطرين إلى اختزالها في بضع صفحات .صلة بموضوع الكتاب مباشرة دراسات حول أوربا (وحول فكرة أوربا) في العصر الوسيط:أوال - Bloch, Marc,"Projet d’un enseignement d’histoire comparée des sociétés européennes", 16p., in Dernières nouvelles de Strasbourg (1934), repris in Etienne Bloch et Marc Bloch (éd.), Histoire et historiens, Paris, Armand Colin, 1995. - Bloch, Marc, "Problèmes d’Europe",Annales HES, VII, 1935, pp. 471479. - Braudel, Fernand, L’Europe. L’espace, le temps, les hommes. Paris, Arts et métiers graphiques, 1987. - Carpentier, Jean et Lebrun, François (éd.), Histoire de l’Europe. Paris, Seuil, 1990. - Chabod, Federico, Storia dell’idea d’Europa. Bari, Laterza, 1961. Elias, Norbert, La dynamique de l'Occident, Paris, Calmin-Lévy, 1975. Febvre, Lucien, L’Europe. Genèse d’une civilisation (Cours professé au Collège de France en 1944-1945), préface de Marc Ferro. Paris, Perrin, 1999. - Le Goff, Jacques, La Vieille Europe et la nôtre. Paris, Seuil, 1994. - Pagden, Anthony (éd.), The Idea of Europe. From Antiquity to the European Union, The Johns Hopkins University, Woodrow Wilson Center Press, 2002. - Villain-Gandossi, Christiane (éd.), L’Europe à la recherche de son identité,
229 Paris, Editions du Comité des travaux historiques et scientifiques, 2002 (notamment Robert Fossier, "L'Europe au Moyen Age", pp. 35-40).
أوربا والعصر الوسيط:ثانيا - Barraclough, Geoffrey (éd.), Eastern and Western Europe in the Middle Age, Londres,Thames and Hudson, 1970. - Bartlett, Robert, The Making of Europe: Conquest, Colonization and Cultural Change, 950-1350. Londres, Allen Lane, 1993. - Bosl, Karl, Europa im Mittelalter. Vienna-Heidelberg: Carl Uebersenter, 1970. - Compagnon, Antoine et Seebacher, Jacques, L’Esprit de l’Europe, Paris, Flammarion, 1993. 3 vols. - Duroselle, Jean-Baptiste, L’Idée d’Europe dans l’histoire, Paris, Denoël, 1965. - Edson, Evelyn, Mapping Time and Space: How Medieval Mapmakers Viewed their World, The British Library Studies in Map History, 1998, vol. I. - Geremek, Bronislaw, The Common Roots of Europe. Cambridge, Polity Press, 1991. - Hay, Denys, The Emergence of an Idea: Europa. Edinburgh University Press, 1957. - Hersant, Yves et Durand-Bogaert, Fabienne, Europes. De l’Antiquité au XXe siècle. Anthologie critique et commentée, Paris, Robert Laffont, 2000. - Le Goff, Jacques, L’Europe racontée aux jeunes. Paris, Seuil, 1996. - Mackay, Angus et Ditchburn, David, Atlas of Medieval Europe. Londres, Routledge, 1996. - Menestò, Enrico (éd.), Le radici medievali della civilta europea (Congrès d'Ascoli Piceno, 2000). Spolète, Centro italiano di studi sull’alto medioevo, 2002. - Mitterauer, Michael, Warum Europa? Mittelalterliche Grundlagen eines Sonderwegs. Munich, Beck, 2003. - Past and Present, numéro spécial, nov. 1992 (en particulier Karl Leyser,"Concept of Europe in the Early and High Middle Ages", pp. 2547).
230 - Pastoureau, Michel et Schmitt, Jean-Claude, L’Europe. Mémoire et Emblèmes, Paris, les Editions de l’Epargne, 1990. - Storia d’Europa. 3. Il Medioevo, secoli V-XV,Turin, Einaudi, 1994.
دراسات عامة. العصر الوسيط:ثالثا - Borst, Arno, Lebensformen im Mittelalter. Frankfurt-Berlin, Ullstein, 1973. - Dalarun, Robert (éd.), Le Moyen Age en lumière. Paris, Fayard, 2002. - Delort, Robert, Le Moyen Age. Histoire illustrée de la vie quotidienne. Lausanne, Edita, 1972. nelle. éd. La Vie au Moyen Age, Paris, Seuil, 1981. - Gatto, Ludovico, Viaggio intorno al concetto di Medioevo, Rome, Bulzoni, 1992. - Gourevitch, Aaron J., Les Catégories de la culture médiévale [1972] Trad.fr., Paris, Gallimard, 1983. - Heer, Friedrich, L’Univers du Moyen Age, [1961] Trad. Fr., Paris, Fayard, 1970 - Kahl, Hubert D.,"Was bedeutet "Mittelalter" ?", Seculum, 40, 1989, pp. 15-38. - Le Goff, Jacques, La Civilisation de l’Occident médiéval, Paris, Arthaud, 1964. - Le Goff, Jacques, "Pour un long Moyen Age", in L’Imaginaire médiéval, Paris, Gallimard, 1985, pp. 7-13. - Le Goff, Jacques (éd.), L’Homme médiéval, éd. Italienne, Bari, Laterza, 1987, version française, Paris, Seuil, 1989. - Linehan, Peter et Nelson Janet L. (éd.), The Medieval World. LondresNew York, Routledge, 2001. - Lopez, Robert, Naissance de l’Europe. Paris, Armand Colin, 1962. - Mehu, Didier, Gratia Dei, les chemins du Moyen Age, Quebec, Fides, 2003. - Pirenne, Henri, L’Histoire de l’Europe des invasions au XVe siècle, ParisBruxelles, 1936. - Sergi, Giuseppe, L’Idée de Moyen Age. Entre sens commun et pratique historique, [1998]. Paris, Flammarion, 2000. - Southern Richard W., The Making of the Middle Ages, Londres, 1953. - Tabacco Giovanni, et Merlo Grado Giovanni, La civilità'europea nella storia mondiale, Medievo, V-XV, secolo, Bologne, II, Mulino, 1981.
231
العصر الوسيط بعد العصر الوسيط:رابعا - Amalvi, Christian, Le Goût du Moyen Age, Paris, Plon, 1996. - Amalvi, Christian, "Moyen Age", in Jacques Le Goff et Jean-Claude Schmitt, Dictionnaire raisonné de l'Occident médiéval, Paris, Fayard, 1999, pp. 790-805.. - Apprendre le Moyen Age aujourd’hui, numéro spécial de Médiévales, no.13 automne, 1987. - Boureau, Alain, "Moyen Age", in Gauvard Claude, de Libera Alain, Zink Michel, Dictionnaire du Moyen Age, Paris, P.U.F.,2002. - Branca, Vittore (éd.), Concetto. Storia. Miti e immagini del medioevo, Florence, Sansoni, 1973. - Capitani, Ovidio, Medioevo passato prossimo. Appunti storiografici, tra due guerre e molte crisi, Bologne, Il Mulino, 1979. - Eco, Umberto, "Dieci modi di sognare il medioevo", in Sugli sprechi e altri saggi, Milan, Bompiani, 1985, pp. 78-89. - Eco, Umberto, "Le Nouveau Moyen Age", in La Guerre du faux, Paris, Grasset, 1985, pp. 87-116. - Europe, numéro spécial, Le Moyen Age maintenant, octobre, 1983. - Fuhrmann, Horst, Uberall ist mittelalter. Von der Gegenwart einer vergangenen Zeit. Munich, Beck, 1996. Goetz, Hans-Werner (éd.), Die Aktualitat des Mittelalters. Bochum, D. Winckler, 2000. - Guerreau, Alain, L’Avenir d’un passé incertain. Quelle histoire du Moyen Age au XXIe siècle?, Paris, Seuil, 2001. - Heinzle, Joachim, Modernes Mittelalter. Neue Bilder einer popularen Epoche, Frankfurt-Leipzig, Insel, 1994. - Le Goff, Jacques et Lobrichon, Guy (éd.), Le Moyen Age aujourd’hui. Trois regards contemporains sur le Moyen Age: histoire, théologie, cinéma (Actes du colloque de Cerisy-la-Salle,juillet, 1991), Paris, Cahiers du Léopard d’Or, 1998. - Lire le Moyen Age, (éd.) Alain Corbellari et Christopher Lucken, numéro spécial de la revue, Equinoxe, no. 16, automne 1996.
232 - Moyen Age, mode d’emploi, numéro spécial de Médiévales, no. 7, automne 1984.
العصر الوسيط األعﻠى:خامسا - Banniard, Michel, Genèse culturelle de l’Europe, Ve-VIIIe siècle, Paris, Seuil, 1989. - Brown, Peter, L'essor du christianisme occidentale. Triomphe et diversité, [1996], Trad. Fr., Paris, Seuil, 1989. - Herrin, Judith, The Formation of Christendom, Princeton, Princeton University Press, 1987. - Hillgarth, J. N. (éd.), The Conversion of Western Europe, 350-750. Englewood Cliffs, Prentice Hall, 1969. - Leguay, Jean-Pierre, L’Europe des Etats barbares (Ve-VIIIe siècle), Paris, Belin, 2003. - Pohl, Walter, Die Volkerwanderung. Eroberung und Integration, StuttgartBerlin, Cologne, Kohlhammer, 2002. - Pohl, Walter et Diesenberger, Maximilien (éd.), Integration und Herrschaft. Ethnische Identitaten und soziale Organisation im Frumittelalter, Vienne, Verlag der Wissenschaften, 2002.
شارلمان والحضارة الكارولنجية:سادسا - Barbero, Alessandro, Carlo Magno. Un padre dell’Europa. Rome-Bari, Laterza, 2000 - Braunfels, Wolfgang (éd.), Karl der Grosse. Lebenswerk und Nachleben, Dusseldorf, 1965-1968, 5 vols. - Ehlers, Joachim, Charlemagne l’Européen entre la France et l’Allemagne, Stuttgart, Thorbecke, 2001. - Favier, Jean, Charlemagne. Paris, Fayard, 1999. - Fichtenau, Heinrich, L’Empire carolingien. Paris, 1958. - Intellectuels et Artistes dans l’Europe carolingienne, IXe-XIe siècle, Auxerre, Abbaye Saint-Germain, 1990. - McKitterick, Rosamund, The Carolingians and the Written Word, Cambridge, Cambridge University Press, 1989.
233 - Morissey, Robert, L’Empereur a la barbe fleurie. Charlemagne dans la mythologie et l’histoire, Paris, Gallimard, 1997. - Nelson, Janet L., "Charlemagne: Father of Europe?", Quaestiones Medii aevi novae, vol. 7, 2002, pp. 3-20. - Pirenne, Henri, Mahomet et Charlemagne, Paris-Bruxelles, 1937. - Riche, Pierre, Les Carolingiens. Une famille qui fit l’Europe, Paris, Hachette, 1983. - Werner, Karl-Ferdinand, Karl der Grosse oder Charlemagne? Von der Aktualitat einer uberholten Fragestellung, Munich, Verlag der bayerischen Akademie der Wissenschaften, 1995.
سنة ألف:سابعا - Bourin, Monique et Parisse, Michel, L’Europe de l’an Mil, Paris, Livre de Poche, 1999. - Duby, Georges et Frugoni, Chiara, Mille e non piu Mille. Viaggio tra le paure di fine millennio, Milan, Rizzoli, 1999. - Gerbert l’Européen (Actes du colloque d'Aurillac), Aurillac, Editions Gerbert, 1997. - Gieysztor, Aleksander, L’Europe nouvelle autour de l’an Mil. La papauté, L’Empire et les "nouveaux venus", Rome, Unione internazionale degli Istituti di archeologia storia, e storia dell’arte, 1997. - Guyotjeannin, Olivier et Poulle, Emmanuel (éd.), Autour de Gerbert d’Aurillac, le pape de l’An Mil, Paris, Ecole des Chartes, 1996. - Riche, Pierre (éd.), L’Europe de l’An Mil. Saint-Leger-Vauban, Zodiaque, 2001.
نهضة القرن الثاني عشر:ثامنا - Benson, R. L. et Constable, Giles (éd.), Renaissance and Renewal in the Twelfth Century, Oxford, Clarendon Press, 1982. - Haskins, C. H., The Renaissance of the Twelfth Century, Cambridge Harvard University Press, 1927. - Le Goff, Jacques, "What Does the Twelfth Century Renaissance Mean?", in Linehan-Nelson, pp. 635–47. - Moore, Robert Ian., The First European Revolution (c. 970–1215), Oxford, Blackwell, 2000.
234 - Ribemont, Bernard, La Renaissance du XIIe siècle et l’Encyclopédisme, Paris, Honoré Champion, 2002.
القرن الثالث عشر:تاسعا - Genicot, Léopold, Le XIIIe siècle européen. Paris, P.U.F., 1968. - Le Goff, Jacques, L’Apogée de la chrétienté vers 1180-vres 1330, Paris, Bordas, 1982. - Le Goff, Jacques, "Du ciel sur la terre: la mutation des valeurs du XIIe au XIIIe dans l'Occident médiéval", in Odysseus 1990 (en Russe), repris in "Quarto", Le Roi, le Saint, Paris, Gallimard, 2003.
القرنان الرابع عشر والخامس عشر:عاشرا - Abel, Wilhelm, Die Wustungen des ausgehenden Mittelalters, Stuttgart, 1955. - Gauvard, Claude, "De grace especial" Crime, Etat et société en France à la fin du Moyen Age, Paris,Publications de la Sorbonne, 1991, 2 vol. - Graus, Frantisek, Pest, Geiszler, Juenmorde. Das 14. Jahrhundert als Krisenzeit, Gottingen, Vandenhoeck & Ruprecht, 1988. - Hilton, Rodney H., Bond Men Made Free: Medieval Peasant Movements and the English Rising of 1381,Londres, Methuen, 1973. - Hilton, Rodney H. et Aston, T. H., The English Rising of 1381. Cambridge, Past and Present, 1984. - Jordan, William Chester, The Great Famine: Northern Europe in the Early Fourteenth Century, Princeton, Princeton University Press, 1996. - Leff, Gordon, The Dissolution of the Medieval Outloo, An Essay on Intellectual and Spiritual Change in the Fourteenth Century; New York, Harper and Row, 1976. - Malowist, Marian, Croissance et répression en Europe, XIVe-XVIIe siècle, Paris, Armand Colin, 1972. - Martines, Lauro (éd.), Violence and Civil Disorder in Italian Cities, 12001500. Berkeley–Los Angeles, University of California Press, 1972. - Mollat, Michel et Wolff, Philippe, Ongles bleus, Jacques et Ciompi. Les révolutions populaires en Europe aux XIVe et XVe siècles, Paris, CalmannLévy, 1970.
235 - Stella, Alessandro, La Révolte des Ciompi. Les hommes, les lieux, le travail, Paris, HESS, 1993. - Valdeon Baruque, Julio, Los conflictos sociales en el reino de Castilla en los siglos XIV y XV, Madrid, Siglo veintiuno, 1975. - Villages désertés et Histoire économique, XIe-XVIIIe siècle, Paris, SEVPEN, 1965. - Wolff, Philippe, Automne du Moyen Age ou Printemps des temps nouveaux? L’économie européenne aux XIVe et XVe siècles. Paris, Aubier, 1986.
نشأة الدولة الحديثة:حادي عشر - Coulet, Noël et Genet, Jean-Pierre (éd.), L’Etat moderne: Territoire, droit, système poli- tique, Editions du CNRS, 1990. - Culture et Ideologie dans la genèse de l’Etat moderne (Table ronde tenue à Rome en 1984), Ecole française de Rome, 1985. - Genet, Jean-Pierre (éd.), L’Etat moderne. Genèse. Bilans et perspectives. Paris, Editions du CNRS, 1990. - Guenee, Bernard, L’Occident aux XIVe et XVe siècles. Les Etats. Paris, PUF, 1971. - Strayer, Joseph R., On the Medieval Origins of the Modern State, Princeton, Princeton University Press, 1970. - Wilks, M. J., The Problem of Sovereignty in the Later Middle Ages, Cambridge,Cambridge University Press, 1963.
اإلمبراطورية:ثاني عشر - Ehlers, Joachim, DieEntstehungdes deutschen Reiches, Munich, Oldenbourg, 1994. - Folz, Robert, L’Idée d’Empire en Occident du Ve au XIVe siècle, Paris, Aubier, 1972. - Parisse, Michel, Allemagne et Empire au Moyen Age. Paris, Hachette, 2002. - Rapp, Francis, Le Saint Empire romain germanique, d’Otton le Grand à Charles Quint, Paris,Tallendier, 2000.
236
الكنيسة والبابوية:ثالث عشر - Congar, Yves, L’Ecclésiologie du Haut Moyen Age,Paris, 1968. - Guerreau, Alain, Le Féodalisme, un horizon théorique, Paris, Le Sycomore, 1980, - Le Bras, Gabriel, Institutions ecclésiastiques de la chrétienté médiévale (section 12 de "Histoire générale de l’Eglise", Paris, Fliche et Martin. - Lubac, Henri de, Corpus mysticum. L’Eucharistie et l’Eglise au Moyen Age, étude historique. Paris, 1944. - Southern, Richard W., Western Society and the Church in the Middle Ages, Har- Mondsworth,Penguin, 1970. - Barraclough, Geoffrey, The Medieval Papacy, Londres, Thames et Hudson, 1968. - De Rosa, Gabriele et Cracco, Giorgio, Il Papato e l’Europa. Suveria Mannelli, Rubbetino Editore, 2001. - Guillemain, Bernard, Les Papes d’Avignon, 1309-1376, Paris, Cerf, 1998. - Miccoli, Giovanni, Chiesa gregoriana, Rome, Herder, 1999. - Pacaut, Marcel, Histoire de la Papauté, Paris, Fayard, 1976. - Paravicini Bagliani, Agostino, La Cour des papes au XIIIe siècle, Paris,Hachette, 1995. - Paravicini Bagliani, Agostino, Il trono di Pietro. L’universalita del papato da Alessandro III a Bonifazio VIII, Rome, La Nuova Italia Scientifica, 1996.
القصور والحصون:رابع عشر - Brown, A. R., English Castles, Londres, Batsford, 1976. - Chateaux et peuplements en Europe occidentale du Xe au XVIIIe siècle, Auch, Centre culturel de l’abbaye de Flaran, 1980. - Comba, Rinaldo and Settia, Aldo, Castelli, storia e archeologia, Turin, Turingraf, 1984. - Debord, Andre, Aristocratie et pouvoir. Le rôle du chateau dans la France médiévale, Paris, Picard, 2000. - Fournier, Gabriel, Le Chateau dans la France médiévale, Paris, AubierMontaigne, 1978.
237 - Gardelles, Jacques, Le Château féodal dans l’histoire médiévale, Strasbourg, Publitotal, 1988. - Mesqui, Jean, Chateaux et enceintes de la France médiévale. de la défense à la residence, Paris, Picard, 1991-1993., 2 vol.
الحرب والحروب الصﻠيبية:خامس عشر - Contamine, Philippe, La Guerre au Moyen Age. Paris, P.U.F., 1980. - Duby, Georges, Le Dimanche de Bouvines,Paris, Gallimard, 1973. - Flori, Jean, La Guerre sainte. La formation de l’idée de croisade dans l’Occident chrétien. Paris, Aubier, 2001. - Russell, F. H., The Just War in the Middle Ages, Cambridge, Cambridge University Press, 1975. . - Alphandery, Pierre et Dupront, Alphonse, La Chrétienté et l’idée de croisade, Paris, Albin Michel, 1954, 2 vol. - Dupront, Alphonse, Du sacre, croisades et pèlerinages, images et langages. Paris, Gallimard, 1987. - Flori, Jean, Les Croisades. Origines, réalisation, institutions, déviations. Paris, Jean-Paul Gisserot, 2001. - Flori, Jean, Guerre sainte, Jihad, Croisade. Violence et religion dans le christianisme et l’islam. Paris, Seuil, 2002. - Hillenbrand, Carole, The Crusades: Islamic Perspectives, Edinburgh, Edinburgh Univer sity Press, 1999. - Kedar, Benjamin Z., Crusade and Mission, European Approaches toward the Muslims. Princeton, Princeton University Press, 1984. - Lobrichon, Guy, 1099, Jérusalem conquise. Paris, Cerf, 1998. - Riley-Smith, Jonathan, The Crusades. Londres, Athlone Press, 2001. - Siberry, Elizabeth, Criticism of Crusading, 1095-1274, Oxford, Clarendon Press, 1985.
238
فهرس المحتويات
اعتراف وتقدير 3.............................................................................. تقديم 4 ........................................................................................ مقدمة 10 ... ................................................................................... المقدمات الممهدات (ما قبل العصر الوسيط) 14 .. ...................................... )1إرث حقبة ما قبل التاريخ :الجغرافيا قبل كل شيء 15 ............................. )2إرث العصر القديم 16 . .................................................................. )3سيناريو النشأة القروسطوية ألوربا 19 ............................................... الفصل األول تصور أوربا (بين القرنين الرابع والثامن) 21 .. ............ .......................... )1القديس أوغسطين وعملية التمسيح 22 ............................................. )2رواد ثقافة العصر الوسيط 23 ........ ................................................. )3ﯕريﯕواراألكبر 24 ....................................................................... )4الغزوات والتثاقف 26 ................................................................... )5حكومة األساقفة 28 ........... .......................................................... )6أبطال جدد 28 ........................................................................... )7قياس جديد للزمن 29 ..................................................................... )8إعادة تشكيل المجال 30 .................................................................. )9قطبان طاردان :بيزنطة واإلسالم واالختيار بين الصور 31 .. .. .. ............. )10أريفة أوربا 32 ............ .. .......................................................... )11الممالك والقوانين البربرية 33 .......................................................
239
الفصل الثاني أوربا مجهضة :العالم الكارولنجي (بين القرنين الثامن والعاشر) 34 ............. )1صعود الكارولنجيين 34 ................................................................. )2شارلمان األوربي األول؟ 36 .............. ............................................ )3التحالف بين الفرنجة والبابوية :شارلمان إمبراطورا 37 .............. ........... )4اإلرث األوربي لشارلمان 39 .......... ................................................. )5أوربا المحاربين 40................. ................................................. ... ... )6والفالحين 42 ... ....................................................................... )7الحضارة الكارولنجية شريحة أوربية 43 ............................................ )8فرنسا وألمانيا وايطاليا قلب أوربا النابض 44 . ....................................... الفصل الثالث أوربا المحﻠوم بها وأوربا الممكنة في سنة ألف 46 ... ..... ......................... )1أوربا اإلمبراطورية األتونية 46 ................. ...................................... )2أوربا "الجديدة" في سنة ألف 47 ............. ........................................ " )3الوافدون الجدد" األسكندناڤيون والهنغاريون والسالڤيون 49 .................... )4حركة "سلم" ذات بعد أوربي 52 .............. ...................................... )5مزار جديد في اسبانيا :شانت يقوب 54 ............................................ )6أوربا تتأكد 54 ............................................................................ الفصل الرابع أوربا الفيودالية )بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر) 56 ...................... )1تطورات في مجال الزراعة 56............... ......................................... )2انتظام األفراد في خاليا 58 ............... ............................................. )3القرية والمقبرة 59. .......... .. ...................................................... )4األبرشية 60 ................................................................................ )5شريحة عليا :األرستقراطية 61 ............... ........................................ )6الفرسان والمجاملة 62 ........... ........................................................ )7تطور الزواج 64. .......... .............................................................. )8الحب الرقيق (أو الحب العذري) 64 ........ ........................................ )9أبيالر وهيلواز وصيغ الحب العصري 66 ........................................... )10القبلة على الفم 67 ......................................................................
240
)11الطوائف العسكرية وروح النضال 67 ............ ................................ )12اإلصالح الﯕريﯕوري :التمييز بين رجال الدين والالئكيين 68 ......... ....... )13صراع الفضائل والرذائل :الشيطان يستشيط 69 .......... .................... )14الثقافة الشعبية 70 .......... .......................................................... )15العمالت والوثائق العقدية 72 .... ................................................... )16الحج 73 ................................................................................. )17التجزئة الفيودالية والتمركز الملكي 76 ............. ............................... )18هيبة وضعف اإلمبراطور 76 ........................................................ )19الملك خالل العصر الوسيط 77 ..................................................... )20الممالك الفيودالية 79 ................................................................... أ) أنجلترا 79 ............................................................................ ب) فرنسا 79 ............. ............................................................ ج) قشتالة 80 ............................................................................ د) النورمان 81. ..... .. ............................................................... )21حضارة أوربا خالل القرن الثاني عشر 82 ....................................... )22ازدهار ظاهرة تقديس مريم العذراء 83 .......................................... )23تغليب األلم في التفاني في حب المسيح 85 ....... ................................. )24اإلنسان في صورة اله 86 ............................................................ )25ميالد أوربا االضطهاد 89 ....... ................................................... )26الهراطقة 89 ........................................................................... )27اضطهاد اليهود 93 .......... ......................................................... )28المثلية الجنسية 95 ...................................................................... )29غموض بخصوص داء الجذام 96 .......... ...................................... )30الشيطان في فورة 97 .............. .................................................... )31أطراف أوربا الفيودالية 97 ............. ............................................. )32أوربا والحرب الصليبية 100 .......... .... ........................................... )33هل كانت الحرب الصليبية أول تجليات االستعمار األوربي؟ 104 .......... .... الفصل الخامس أوربا "الجميﻠة" :أوربا المدن والجامعات (القرن الثالث عشر) 106 ............. )1نجاحات أوربا القرن الثالث عشر 106. . ......... .....................................
241
أوال :النجاح الحضري :أوربا الحضر 107 . ................... ........................ أ) المدن األسقفية 109 ................... ................................................ ب) المدن "الكبرى" 109 ................. ................................................. ج) أدب ذو صبغة حضرية 110 ........................................................ د) العواصم 110 ........................................................................... و) المدن -الدول 111 .... .................................................................. ه) المدن والفيودالية 112 ................................................................. )1شخصية المدينة األوربية 112 ... ...................................................... )2تراتبية الحرف داخل المدينة 116 .... ................................................ )3المدينة األوربية بالبل أم القدس؟ 116 ...... .......................................... )4المدينة والديمقراطية 117 ............ ................................................... )5تعريف المدينة والحضري (ساكن المدينة) 118 ...... .............................. ثانيا :النجاح التجاري ،أوربا التجار 120 ........ .... ................................... أ) التاجر االيطالي والتاجر الهنسياتي 120 .... ..................................... ب) التاجر األوربي المتجول 120 ... . ................................................. ج) معارض منطقة شامبانيا 121 ... ................................................... )1مشاكل نقدية 122 ..... .................................................................. )2أوربا التجار 122 ....... ................................................................. )3مبرر وجود النقد 124 .... ............................................................... )4االيطاليون والهانسيون 126 ........ ................................................... ثالثا :النجاح المدرسي والجامعي 129 ...... ............................................ )1حضارة الكتاب 133 ....... ............................................................... )2اإلنتاج الموسوعي 135 ......... ......................................................... )3المدرسية 137 ..... ...................................................................... )4أوربا اللغة :الالتينية واللهجات المحلية 140 ........ ................................ )5إبداعات أدبية كبرى وأعمال خالدة 142 ......... .................................... )6انتشار النثر 143 .............. ............................................................ رابعا :نجاح اإلخوان الفقراء 144 ............ ............................................ )1أوربا العمل الخيري 148 ............ .................................................. )2الطوائف "الثالثية" بين رجال الدين والالئكيين 148 ............. ................. )3أوربا القوطية 149 .............. ......................................................... )4أوربا أدب المجامالت 151 ................... ...........................................
242
)5االرتقاء المبهم للعمل 152 ........ ...................................................... )6أوربا والمغول والشرق 153 ................. .......................................... )7نزول القيم من السماء على األرض 155 ........ .... ................................ الفصل السادس خريف العصر الوسيط أم ربيع األزمنة الجديدة؟ 161 ......... ....................... )1المجاعة والحرب 162 .................................................................... )2الطاعون األسود 167 .................................................................... )3الموت والجثة ورقصة الموت 169 .................................................... )4أوربا العنف 171 ................ ......................................................... أ) اضطهاد الساحرة 173 ................................................................ ب) حركات الفالحين 174 ................................................................. ج)االنتفاضات في الحواضر 175 ....................................................... د) الصراعات في أوربا الشمالية 178 .................................................. )5انفراط وحدة الكنيسة وظهور الشقاق 178 ............................................ )6الهراطقة الجدد :الوايكليفيون والهوسيون 180 ....................................... )7التفاني العصري 181 ..................................................................... )8ميالد المشاعر الوطنية 184 .............................................................. )9النبوءة السياسية 186 ..................................................................... )10الطباعة 187 . ............................................................................. )11اقتصاد -عالم 188 .. ..................................................................... )12أوربا تنفتح وتتفتح 189 ................................................................. )13فلورنسا زهرة أوربا؟ 191 ............................................................. )14من أقطاب الفكر المنفتح في القرن الخامس عشر 192 ............................ أ) األلماني نيكوالس دي كوزا 193 ................................................... ب) البولندي باويل فلودكوفيتش 194 ................................................... )15انمحاء اإلمبراطورية 194 . ......................................................... )16خارطة أوربية بسيطة 196 ............................................................. )17التهديد التركي 197 ....................................................................... )18المشروع األوربي لجورج بوديبراد 198 ............................................. )19ايطاليا منارة وفريسة أوربا 199 ....................................................... )20األوربي فليب دو كومين 201 ..........................................................
243
)21أوربا في مالقاة العالم الخارجي 201 .................................................. )22التوجه نحو المحيط األطلسي وإفريقيا 203............. .............................. )23مظاهر العتاقة والتقدم في المراكب البحرية والمالحة 204............ ............ خاتمة 207 ..... .... ........................................................................... خرائط 215 ....... ............................................................................. )1مراحل تكون أوربا 215.. ....... ......................................................... )2االتحاد األوربي سنة 216 ........ .... ........................................... 2007 كرونولوجيا أبرز األحداث 217 ............................................................... ببﻠيوغرافيا موضوعاتية (منتقاة من قبل مؤلف الكتاب) 228 ........................